المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4876 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

مقاومة الشباب للنصيحة
19-1-2016
المــركـــز القانــونــي للــوكـيـل الأول فـي الـفـقــه الإسـلامـي
2023-09-23
الدفاع الموفق أو النصر المجدّد
23-5-2017
طرق اضافة الاسمدة
20-11-2017
فضل صلاة الجماعة
8-2-2017
استحباب المباكرة إلى الجامع في الجمعة.
18-1-2016


في اثبات إرادته ـ سبحانه  
  
1244   12:01 مساءاً   التاريخ: 5-08-2015
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص374.ج2
القسم : العقائد الاسلامية / التوحيد / صفات الله تعالى / الصفات الثبوتية / الارادة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-10-2014 1514
التاريخ: 4-08-2015 958
التاريخ: 25-10-2014 653
التاريخ: 25-10-2014 639

اعلم! أنّه اتّفق أهل الملّة وأرباب الحكمة على أنّه ـ سبحانه ـ مريد. وقد استدلّ الأشاعرة على وجوب كونه مريدا بأنّ تخصيص بعض الممكنات بالوقوع دون البعض في بعض الاوقات دون البعض مع استواء نسبة الذات إلى الكلّ لا بدّ أن يكون لصفة شانها التخصيص ـ لامتناع التخصيص بلا مخصّص وامتناع احتياج الواجب في فاعليته إلى امرّ منفصل ـ ؛ وتلك الصفة هي المسمّاة بالإرادة.

وحاصل هذا الاستدلال أنّ ذات الواجب باعتبار القدرة لا يكفي في الايجاد والتأثير ، لأنّ الذات باعتبار القدرة يكون نسبته إلى الفعل والترك وكذا إلى الضدّين متساوية ـ لأنّ القدرة هى صحّة الفعل والترك ـ. وكذا مطلق العلم يتعلّق بالطرفين وبالضدين ، فنسبته إلى الطرفين والضدّين على السواء ، فالعلم المطلق أيضا لا يمكن أن يكون مخصّصا ، فلا بدّ من أمر آخر لتخصيص أحد الطرفين وأحد الضدّين ، وذلك الامر الآخر المخصّص لأحد الطرفين هو الإرادة.

ويرد على هذا الاستدلال : إنّ الصفة الّتي هي الإرادة كما يمكن تعلّقها بأحد الضدين يمكن تعلقها بالضدّ الآخر أيضا ، فالتعلّق بأحدهما دون الآخر إمّا أن لا يحتاج إلى مخصّص ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح مع لزوم عدم الاحتياج إلى الإرادة حينئذ رأسا لكفاية القدرة حينئذ في الايجاد والتأثير نظرا إلى مساواة الإرادة لها في استواء نسبتها إلى

الطرفين والضدّين ـ. فلمّا جوّز تعلّق الإرادة بأحد الطرفين والضدّين دون الآخر فليجوّز ذلك في القدرة أيضا بلا تفاوت ؛أو يحتاج إلى مخصّص آخر ، فننقل الكلام إليه ؛ فيلزم التسلسل.

فإن قيل : ذات الإرادة كافية للترجيح ؛

قلنا : قد علم بطلان ذلك فيما سبق. مع أنّه لو صحّ أن يقال ذلك لصح أن يقال : ذات القدرة أيضا كافية للترجيح.

وإن قيل : لا نسلّم أنّ نسبة الإرادة إلى الطرفين أو الضدّين على السواء ، لجواز أن يكون أحدهما ممتنعا فلا يتعلق به الإرادة ؛

قلنا : هذا جار في القدرة بعينه من دون تفاوت.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ مسلك الأشاعرة في اثبات الإرادة باطل ، فالمسلك الصحيح في اثباتها ـ بعد اجماع المليين والفلاسفة واطباق شرائع الأنبياء ـ كونها صفة كمال ، فيكون الفاعل بالإرادة اشرف من الفاعل لا بالإرادة. وكونه ـ سبحانه ـ خالقا لصاحب الإرادة فيجب أن يكون مريدا ، كما أنّ خالق العلماء يجب أن يكون عالما. قال المحقّق الطوسي في شرح الرسالة : « الإرادة في الحيوان هو شوق إلى حصول المراد أو داع يدعوا إلى تحصيله لما يتخيّل أو يتعقّل من ملائمته. ولمّا كان من دأب العقلاء أن يصفوا بارئهم بما هو أشرف طرفي النقيض وحسبوا أنّ كلّ ما يوجد بإرادة أشرف ممّا يصدر الفعل عنه من غير إرادة وصفوه بالإرادة. وهي اخصّ من العلم ومرتبة فوقه ، لأنّ كلّ ما لا يعلم لا يمكن أن يراد وقد يعلم ما لا يراد » (1).

وإذا علمت ذلك فاعلم : أنّ الإرادة فينا شوق متأكّد يحصل عقيب داع هو تصوّر الشيء الملائم تصورا علميا أو ظنيا أو تخييليا موجبا لتحريك الاعضاء الآلية لأجل تحصيل ذلك الشيء.

وأمّا في الواجب ـ سبحانه ـ فالأشاعرة على أنّها صفة قديمة زائدة على الذات قائمة متغايرة للعلم والقدرة وسائر الصفات ؛ والجبائية على أنّها صفة زائدة قائمة بغير محلّ ؛والكرامية على أنّها صفة حادثة قائمة بالذات ؛ وبعضهم على أنّها صفة سلبية بمعنى كون الفاعل غير مكره وغير ساء ؛ والكعبي على أنّ إرادته لفعله ـ تعالى ـ هو علمه به ، ولفعل غيره هو الأمر ؛ والمحقّق الطوسي وجمع من رؤساء المعتزلة على أنّها هي العلم الخاصّ بما في وجود المخلوقات من المصالح الراجعة إليهم ـ أي : العلم بالنفع ، وهو الداعي ـ ؛ والفلاسفة علي انها هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الاتمّ الاكمل.

ثمّ بطلان مذهب الأشاعرة ومن يقربهم من الجبائية والكرامية في غاية الظهور ؛

أمّا أوّلا : فلبطلان كون صفاته ـ سبحانه ـ زائدة على ذاته قائمة بها ـ للزوم التركّب والتكثر والنقص والافتقار ـ ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة وإن كانت قديمة عند الأشاعرة إلاّ أنّ تعلّقها حادث ، ففي تعلّقها بأحد الطرفين أو الضدّين لا بدّ له من مرجّح سوى الإرادة ـ كما عرفته مرارا ـ. والأشاعرة قالوا : لا حاجة إلى مرجّح في هذا التعلّق ـ لأنّ ترجيح الفاعل المختار بلا مرجّح جائز ، انّما المحال الترجّح بلا مرجّح ـ. وأنت قد عرفت فساد هذا القول ، فانّ الإرادة وإن كانت كافية لترجيح نفس الفعل لكن تعلّقها به لا مرجّح له ؛ ولذا إن سئل : لم اردت هذا الطرف دون الطرف الآخر لم يحر جوابا ولم يستطع أن يقول : لأني أردته!. على أنّ الترجّح بلا مرجّح مستلزم للترجيح بلا مرجّح ، لأنّ الترجيح لا ينفكّ عن الترجّح ـ يقال : رجّحته فترجّح ، فانّ التفعّل مطاوع فعل ـ ؛ فاذا كان الأصل ـ أعني : الترجيح ـ بلا مرجّح كان المطاوع ـ أعني : الترجّح ـ أيضا كذلك. على أنّ معنى الترجّح بلا مرجّح هو اختيار الفعل لأحد الطرفين مع تساوي نسبته إليهما ، ونحن نقول مع تساوي نسبة الطرفين إلى إرادة الفاعل إذا تعلّق إرادته بأحدهما من غير سبق إرادة اخرى بكون مرجّح لحدوث الإرادة الأولى يكون حدوث هذه الإرادة ترجّحا بلا مرجّح لا ترجيحا بلا مرجّح لأنّ الإرادة شيء من الأشياء موجود من الموجودات والفرض أنّ حدوثها وعدم حدوثها بالنسبة إلى أحد الطرفين على السواء ولا رجحان على عدم حدوثها ، ومع ذلك إنّها وجدت وحدثت من دون مرجّح من الارادات المتسلسلة إلى غير النهاية. والفاعل من حيث هو فاعل من دون انضمام مرجّح آخر لا يصحّ لأن يكون مرجّحا لحدوث هذه الإرادة ؛ فاذا حدثت مع ذلك لترجّحت وجودها على عدمها من دون رجحان ـ وهو الترجّح بلا مرجّح ـ. فالمتحقّق في هذه الصورة ليس إلاّ الترجّح بلا مرجّح حتّى يتحقّق الاستلزام ، لأنّ رجحان وجود الإرادة على عدمها ناش من قبل نفسها لا من قبل الفاعل ، فيكون ترجّحا لا ترجيحا.

وقال بعض تابعي الأشعري : إنّ هذا الاستلزام مندفع بالتخصيص.

وهذا القول يحتمل وجهين :

أحدهما : إنّه وإن لزم الترجّح بلا مرجّح في تعلّق الإرادة بأحد طرفي المقدور ـ لاستواء نسبتهما إليه ـ ، لكن هذا القسم من الترجّح ـ أي : الّذي في صورة الإرادة ـ جائز ، فانّ الترجيح المحال انّما هو الترجيح الّذي لا يكون في ضمن الترجيح بلا مرجّح بالإرادة ؛ وأمّا إذا كان في ضمنه ـ كما فيما نحن فيه ـ فهو جائز. والحاصل : إنّ قولنا : إنّ الترجيح بلا مرجّح انّما يتحقّق إذا لم يكن هناك فاعل مرجّح بإرادته ، وإذا كان فاعل مرجّح بإرادته فلا يلزم ترجّح بلا مرجّح أصلا.

وأنت خبير بانّ كلا الوجهين في غاية السقوط ؛

امّا الأوّل : فلأنّ الترجيح بلا مرجّح باطل مطلقا ـ سواء كان في ضمن الترجيح بلا مرجّح أو لا والتخصيص فيه تخصيص في القواعد العقلية .

وامّا الثاني : فلما عرفت من أنّ الترجيح لا ينفكّ عن الترجّح ، فاذا فرض تساوي نسبة تعلّق إرادة الفاعل إلى الفعل أو الترك حتّى كان ترجيحه بلا مرجّح لكان الترجيح المترتّب عليه أيضا بلا مرجّح وإن كان الفاعل مختارا ، لأنّ تساوي اختياره في التعلّق بالطرفين من غير تعلّق الإرادة متسلسلة لا إلى نهاية يوجب لزوم الترجّح بلا مرجّح من غير آخرية لأحدهما.

وقد ظهر بما ذكر أنّه لا ريب في بطلان مذهب الأشاعرة وما يقربه من المذاهب

المذكورة ما عدا المذهبين الاخيرين ـ أعني : مذهب المحقّق الطوسي ورؤساء المعتزلة ومذهب الفلاسفة ـ ، فلنتكلّم في هذين المذهبين.

فنقول : أمّا مذهب المحقّق ـ أعني : القول بكون الإرادة عين الذات ، أعني : العلم بالمصلحة والنفع ـ فاستدلّوا عليه بأنّه لا يمكن أن يكون الإرادة أمرا آخر سوى الداعي ، إذ لو كانت أمرا آخر سواه لزم التسلسل ، وإلى هذا اشار المحقّق الطوسي في التجريد بقوله : « وليست زائدة على الداعي وإلاّ لزم التسلسل أو تعدّد القدماء » (2).

ثمّ قيل : ان المحقّق الطوسي ومن تبعه في كون الإرادة هو الداعي لمّا ذهبوا إلى أنّ الداعي هو عين الذات فحاصل الدليل : أنّ الإرادة ـ الّتي هي أمر لا يترجّح أحد متعلقي القدرة على الآخر إلاّ به ـ ليست زائدة على الذات ، وإلاّ لزم التسلسل في الإرادة ـ كما التزمه بعض مشايخ المعتزلة ـ ، أو تعدّد القدماء ـ كما التزمه بعض المتكلّمين ـ ، وكلاهما محالان. وحينئذ يندفع ما أورد على هذا الدليل المذكور : بأنّ لزوم التسلسل أو تعدّد القدماء لازم على أيّ حال إذا كانت الإرادة زائدة على الذات ـ سواء كانت نفس الداعي أو أمرا آخر زائدا عليه ـ. والحاصل : إنّ الإرادة لو كانت زائدة على الذات يلزم أحد الامرين من تعدّد القدماء أو التسلسل ـ سواء كانت الإرادة زائدة على الداعي أو لا ـ ، فلا يثبت بهذا المدّعى ـ وهو عينية الإرادة للداعى ـ ، إذ لنا أن نسلّم عينية الإرادة للذات وعدم عينيتها للداعى. وحينئذ لا يلزم شيء من المحذورين المذكورين ، إذ بعد عينيتها للذات لا مجال ليتصوّر لزوم التسلسل أو تعدّد القدماء وإن كانت غير الداعي.

ووجه الاندفاع : إنّ الداعي هو عين الذات عند من استدلّ بهذا الدليل ـ أعني :

المحقّق وامثاله ـ ، فمقصودهم من قولهم : إنّ الإرادة غير زائدة على الداعي أنّها غير زائدة على الذات أيضا ، بل هي عين الذات وإلاّ لزم أحد الامرين المذكورين من التسلسل أو تعدّد القدماء.

وردّ الدفع المذكور بأنّه على هذا لا يكون القدرة أيضا زائدة على الداعي ، فانّ الصفات كلّها عين الذات عند المحقّق وامثاله ، فلا وجه لحكمهم بانّ الإرادة

ليست زائدة على الداعي دون القدرة وباقي الصفات المذكورة. والحاصل : إنّ الكلام في الصفات المتغائرة بالاعتبار ، وهو لا ينافي عينية الكلّ للذات ـ تعالى شأنه ـ. ولا يلزم أن يكون البحث عن الصفات واثباتها ونفيها على مذهب العينية لغوا محضا ، فلا بدّ للمستدلّ من اثبات أنّ الإرادة ليست مغايرة للداعي بالاعتبار أيضا وليست اعتبارا آخر للذات سوى الداعي.

فحاصل الايراد المذكور على الدليل المذكور : إنّ ما ذكر من التسلسل أو تعدّد القدماء يلزم على زيادة الإرادة على الذات ، فيدلّ على عينيتها للذات دفعا للمفسدة ، ولا يلزم منه أن يكون عين الداعي كما لا يلزم من عينية الصفات للذات أن يكون بعضها عين بعض حتّى لا يتعدّد الصفات بالاعتبار أيضا. والحاصل إنّ عينية الداعي للذات بحسب الواقع والخارج لو كان منشئا للحكم بأنّ الإرادة عين الداعي كذلك يوجب الحكم بانّها عين القدرة والتكلّم والحياة وغيرها كذلك ، لأنّ جميعها عين الذات في الخارج وإن كانت متغايرة ومغايرة للذات بالاعتبار ، فالتخصيص تحكّم!.

وإن قيل : المراد إنّ الداعي عين الذات بحسب الاعتبار أيضا بمعنى أنّه لا تغاير بينهما ولو بحسب الاعتبار ، والإرادة أيضا عين الداعي كذلك ـ أي : لا تغاير بينهما ، لا في الخارج ولا في الاعتبار ـ.

قلنا : هذا بديهي البطلان! ، لأنّ التغاير الاعتباري بين الذات والداعي وبين الإرادة والداعي ممّا لا يمكن أن ينكره عاقل. على أنّه لو صحّ هذا القول لصحّ اجرائه في باقي الصفات بالنسبة إلى الذات وبنسبة بعضها إلى بعض أيضا ، فالتخصيص تحكّم باطل!.

وأجيب عن هذا الردّ : بأنّ الداعي كالإرادة عين الذات عند المحقّق ، فمراده من قوله : إنّ الإرادة عين الداعي : أنّها عين الذات وحينئذ يتمّ الدليل ، لأنّ المورد معترف بانّ الدليل تمام على تقدير اجرائه على عينية الإرادة للذات. للداعي ايماء إلى أنّ علمه ـ تعالى ـ بصلاح نظام العالم وبمنافع الغير وترتيب الخير ـ المسمّى بالداعي ـ هو نفس الإرادة المرجّحة لأحد طرفي المقدور ، وهذا ممّا لا يحتاج إلى دليل. وما ذكر ليس دليلا لذلك ، بل هو دليل لعينية الإرادة للذات. وحينئذ لا يرد على المحقّق ومن تابعه إنّ عينية الداعي للذات لو كان موجبا لعينية الإرادة له يلزم عينية جميع الصفات الحقيقية بعضها للبعض ـ كعينية القدرة للإرادة وعينية السمع للكلام بمعنى التكلّم ، الّذي هو أيضا عين ذاته وإن كان الكلام بمعنى المؤلّف من الحروف والاصوات زائدا على ذاته تعالى ـ.

وخلاصة هذا الجواب : إنّ مراد المحقّق وغيره ممّن استدلّ بهذا الدليل على بيان عينية الإرادة للذات لا للداعي حتّى يرد أنّ الفساد اللازم من (2)هذا الدليل ـ أعني : التسلسل وتعدّد القدماء ـ يلزم على تقدير كون الإرادة زائدة على الذات وإن كانت عينا للداعي ، وإن وقع ذلك بأنّ الداعي عند المحقّقين عين الذات ، فالمقصود إنّ الإرادة عين الذات أيضا.

وردّ عليه حينئذ أنّ جميع الصفات كذلك ، فتخصيص هذا الحكم بالإرادة تحكّم!. وأمّا إذا كان المراد بيان مجرّد عينية الإرادة للذات دون الداعي فلا يرد شيء ممّا ذكر ، غاية ما في الباب إنّه عبّر عن الذات بالداعي للنكتة المذكورة.

وأنت تعلم أنّ هذا الجواب ليس بشيء ، لأنّ لبيان عينية الصفات للذات ـ سواء كانت إرادة أو غيرها ـ مبحثا على حدة ؛ وقد اشار المحقّق أيضا بعد ذلك إلى عينية جميع الصفات ، فتخصيص عينية الإرادة حينئذ هنا بالذكر لا وجه له. على أنّ المحقّق وغيره ممّن استدلّ بهذا الدليل مذهبهم أنّ الإرادة عين الداعي ، فلا بدّ لهم من اقامة برهان على ذلك ، فلو لم يجعل هذا الاستدلال برهانا على ذلك لنفي مذهبهم هذا يكون مجرّد دعوى من دون حجّة لإثباته.

وما اشار إليه المجيب المذكور من : « أنّ عينية الإرادة لعلمه ـ تعالى ـ بصلاح نظام الخير لا يحتاج إلى دليل لظهوره » في غاية الوهن والضعف! ، لانّه إن كان مراده من العينية هو العينية الشاملة للعينية بحسب الاعتبار والمفهوم أيضا فبطلانه لا يحتاج إلى بيان ، لأنّا نعلم بديهة أنّ الإرادة مغايرة بحسب الاعتبار للعلم بالأصلح ؛ وإن كان مراده من العينية هو العينية بحسب الخارج دون الاعتبار فجميع صفات الواجب عين ذاته بهذا المعنى وبعضها عين البعض الآخر كذلك ، فاذا لم يحتج عينية الإرادة منها للداعي لم يحتجّ عينية الإرادة وغيرها من الصفات للذات أيضا إلى دليل. وممّا يدلّ على أنّ حكم المحقّق

الطوسي بعينية الإرادة للداعي ليس منشأه هو كون الداعي عين ذاته حتّى يكون أصل غرضه اثبات عينية الإرادة للذات إنّه ـ ; ـ قد حكم بعدم زيادة الإرادة على الداعي في الممكنات أيضا ، حيث قال في مبحث الاعراض من التجريد : « ومنها ـ أي : ومن الكيفيات النفسانية ـ الإرادة والكراهة ، وهما نوعان من العلم » (3).

وغير خفيّ بأنّ التأويل المذكور لا يجري في إرادة الممكنات ، لأنّ عينية الصفات للذات عند المحقّق لا يكون إلاّ في الواجب دون الممكنات. وقد ظهر ممّا ذكر أنّ الاستدلال المذكور على كون إرادته ـ سبحانه ـ عين علمه بالأصلح غير تامّ. وبذلك يظهر عدم تمامية ما ذهبوا إليه من كون الإرادة في الواجب ـ تعالى ـ نفس العلم بالأصلح مع أنّ الظاهر مغايرة الإرادة للعلم بالأصلح ، لأنّ الإرادة مقابل الكراهة ويعبّر عنها بالفارسية ب : « خواستن » ، ومعلوم بالضرورة أنّ هذا المعنى غير العلم بالأصلح بمعنى الظهور والانكشاف وإن كان مبدأهما ومنشأهما ذاتا واحدة هو الواجب ـ سبحانه ـ ؛ هذا.

وقيل : يمكن أن يوجّه كلام المحقّق الطوسي ـ أعني : الاستدلال المذكور ـ بحيث يكون تماما بأن يقال : إنّ مراده أنّ الإرادة الّتي قلنا أنّها مخصّصة للإيجاد لو كان غير الداعي الّذي هو العلم بالنفع لكان غير الذات باعتبار أنّه علم بالنفع ، ولو كان غير الذات باعتبار أنّه علم بالنفع لكان غير الذات مطلقا ، لأنّ الذات من غير اعتبار كونه علما بالنفع لوجود حادث في وقت معيّن بدون ملاحظة أنّ بعض الأوقات اصلح للصدور نسبته ـ سبحانه ـ إلى جميع الأوقات والممكنات على السواء ـ كما ذكر في أدلّة عموم قدرته تعالى ـ ، والإرادة لا يكون نسبتها إلى الجميع على السواء ، فلا يكون عين الذات بدون الاعتبار المذكور ـ أي : اعتبار كونه علما بالنفع ـ ، بل يكون مغايرا له ؛ فاذا لم يكن عين الذات مع الاعتبار المذكور أيضا ـ أعني : اعتبار كونه علما بالنفع الّذي يسمّى بالداعي ـ كان مغايرا للذات مطلقا. وحينئذ نقول : إن كانت هذه الإرادة المغايرة للذات قديمة يلزم تعدّد القدماء ؛ وإن كانت حادثة يلزم التسلسل. والحاصل: إنّ المحقّق و المعتزلة قالوا : لا بدّ لترجيح الفاعل المختار سوى ذاته من أمر مرجّح لوجود الفعل على عدمه في نظره ، فهذا المرجّح ليس من طرف الفاعل بل لا بدّ من حصول اختلاف خارجي قطعا حتّى يختلف نسبة الفاعل إلى الأشياء باختلافه وملاحظته والتعلّق به من طرف الفاعل ، فاذا لم يكن كذلك لم يمكن اقدام المختار على الفعل عندهم ؛ ويسمون العلم بهذا المرجّح وملاحظته داعيا. وقالوا : هذا العلم هو مخصّص لتعلّق الايجاد بشيء دون شيء وفي وقت دون وقت باعتبار معلومه المختلف بحسب اختلاف نفسه ، ويسمون هذا المخصّص الكذائي بالإرادة أيضا.

واستدلّ المحقّق على أنّ هذا العلم هو المخصّص الكذائي دون شيء آخر بانّا لو قطعنا النظر عن هذا العلم بالمعلومات المختلفة الّذي هو في الواجب ـ تعالى ـ عين الذات وكان المخصّص غيره وقد ذكرنا أنّه لا بدّ في المخصّص من اختلاف النسبة حتّى يصلح للتخصيص والذات الأحدي من غير اعتبار علمه المختلف نسبته باعتبار اختلاف المعلومات لا يختلف نسبته بشيء من الاشياء قطعا ، فيلزم كونه أمرا خارجا مغايرا للذات ؛ فان كان قديما يلزم تعدّد القدماء ؛ وإن كان حادثا يلزم التسلسل. وعلى هذا لا يرد عليه ما أورد عليه من : أنّه لا دخل لكون الإرادة عين الذات أو غيره في التزام الفسادين ، بل انّما يلزمان من زيادة الإرادة ، فان كانت زائدة يلزم الفسادان وإلاّ فلا ؛ فمن لم يقل بزيادتها فلا فساد عليه سواء قال بانّها عين الداعي أو لا. ووجه عدم الورود انّك قد عرفت أنّ كونها غير الداعي حتّى بالاعتبار يستلزم كونها غير الذات مطلقا ، فيلزم الفسادان. وعلى ما ذكر فما ذكره المحقّق في التجريد بقوله : « وتخصيص بعض الممكنات بالإيجاد في وقت يدلّ على إرادته » (4) لا يثبت منه سوى وجود مخصّص يقتضي تخصيص الايجاد بشيء دون شيء ووقت دون وقت ، وسمّاه بالإرادة. واستدلّ على أنّها نفس العلم بالنفع ، ولم يثبت عنده شيء سوى المخصّص المذكور كميل وعزم حتّى يقال : إنّه غير الداعي أو عينه. والحاصل : إنّ ما ثبت عند المحقّق الطوسي أنّه لا بدّ من وجود أمر للتخصيص وسمّاه بالإرادة ، واثبت أنّه هو الداعي بالدليل المذكور ، ولم يثبت عنده أزيد من ذلك حتّى ينظر أنّه أيّ شيء هو ، ومن اثبت شيئا آخر زائدا على المخصّص المذكور ـ كميل وعزم وامثالهما وسمّاه بالإرادة وقال : انّها زائدة على الداعي ـ فلا يضرّ المحقّق وامثاله ، لأنّ مدّعاه انّ المخصّص هو الداعي ـ لأنّ كلّ ما اثبته أحد هو الداعي ـ ، وقد ثبت بالدليل المذكور أنّ مناط التخصيص ومنشأه لا يمكن أن يكون سوى العلم المذكور ولم يقصد بالمخصّص سوى ما هو مناطه. ولو قال أحد : إنّه يحصل من هذا المناط شيء آخر سمّاه بالإرادة ، فلا مضايقة معه ؛ إلاّ أنّه لم يثبت ذلك عند المحقّق ، بل ما ثبت عنده هو أنّه لا بدّ من وجود مخصّص والمخصّص ليس إلاّ العلم بالنفع ، ومعلوم أنّ الإرادة أيضا مخصّصة ، فسمّى العلم بالنفع إرادة» ؛ انتهى.

اقول : غير خفيّ بانّ الإرادة مغايرة بالمفهوم للعلم بالأصلح ، فانّ ما يفهم من الإرادة هو ما يعبر عنه بالفارسية ب : « خواستن » ، وما يفهم من العلم هو الانكشاف ، وتغاير هذين المعنيين بالاعتبار ممّا لا ريب فيه ، فانّه يمكن أن يتحقّق العلم بصلاح شيء من دون أن تحقّق إرادته ، فالعلم بالأصلح مقدّم على إرادته ؛ ولهذا يصحّ أن يقال : علم صلاحية وجود الأمر الفلاني ثمّ اراده. فكما أنّ جميع الصفات ـ من العلم والقدرة والحياة والبقاء ـ إذا اخذت بمعانيها الاضافية الاعتبارية متغايرة بالمفهوم ومغايرة للذات أيضا وليست متغايرة بحسب الحقيقة والمصداق وجميعها عين الذات بمعنى أنّه ليس لكلّ منها مبدأ عرضي خارجي قائم بالذات بل منشأ الجميع ومصحّحه ومناطه هو الذات فقط من دون افتقار إلى شيء آخر ، فكذلك الإرادة والعلم بالأصلح متغايران بالمفهوم متحدان بحسب الحقيقة والمصداق بمعنى أنّ منشأهما مجرّد الذات بذاته ؛ فالحكم باتحادهما إن كان المراد منه الاتحاد بحسب المفهوم والاعتبار فهو باطل ـ لما عرفت من أنّ مفهوم الإرادة غير مفهوم العلم بالأصلح ـ.

وأمّا ما استدلّ به القائل المذكور لاتحادهما من : أنّه لو كان غير الداعي ـ الّذي هو العلم بالنفع ـ لكان غير الذات باعتبار أنّه علم بالنفع ـ ... إلى آخره ـ ؛

ففيه : إنّه لا ريب في أنّ الإرادة بمعنى الصفة الاضافية مغايرة للذات باعتبار أنّه علم بالنفع ومغايرة للذات مطلقا أيضا ـ كباقي الصفات ـ ؛ وأمّا الإرادة الحقيقية ـ أي :

ما هو المبدأ والمنشأ للإرادة الاضافية ـ فلا ريب في كونها عين الذات ـ كباقي الصفات أيضا بمعانيها الحقيقية ـ. فما ذكره من أنّ الإرادة لو كانت زائدة على الذات مطلقا لزم قدمها أو التسلسل ؛

ففيه : إنّ الإرادة الحقيقية ـ أي : ما هو المبدأ والمنشأ ـ فهو عين العلم بالأصلح بمعناه الحقيقي وعين الذات مطلقا أيضا ، إلاّ أنّ جميع الصفات بمعانيها الحقيقية بعضها عين بعض وجميعها عين الذات أيضا. والإرادة بالمعنى الاضافية لا يوجب قدمها فسادا ، لأنّ قدم الأمر الاعتباري الاضافي لا يوجب قدم أمر خارجي كقدم سائر الصفات الاضافية في الذات باعتبار كونه منشئا لانكشاف علم حقيقي ، وباعتبار كونه منشئا للصدور واللاصدور قدرة حقيقية وباعتبار كونه مرجّحا لوجود العالم على عدمه إرادة حقيقية. ومن قال الإرادة نفس العلم بالأصلح يقول الذات باعتبار الذات بدون اعتبار كونه علما بالنفع وبالنظام الأعلى هو القدرة ، وباعتبار أنّه علم بالنظام الأعلى هو الإرادة المرجّحة. وبذلك يندفع ما يقال : إنّه إذا كانت الإرادة المرجّحة لأحد طرفي المقدور عين الذات لم تكن القدرة عين الذات ، إذ المعتبر فيها تعلّقها بالطرفين على السواء.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ القول بأنّ الإرادة نفس العلم بالأصلح ـ كما هو مذهب المحقّق الطوسي ورؤساء المعتزلة ـ أو نفس العلم بالنظام الكلّي الجملي ـ كما نسب إلى الحكماء ـ ضعيف ، لأنّ الإرادة انّما هو بعد العلم. واثبات صفة اضافية هي الإرادة سوى العلم للواجب لا يوجب نقصا فيه ، وإلاّ لتأتّى ذلك في غيرها من الصفات أيضا. فمطلق العلم هو الانكشاف ، والعلم بالأصلح هو انكشاف هذا الأصلح ، والقدرة هو التمكّن من الفعل أو الترك بالنظر إلى الذات ، والمشية هو القصد أو الميل إلى الفعل أو الترك بحسب المصلحة أو المفسدة بحيث يحتملهما جميعا ، والاختيار هو ايثار أحد الطرفين وترجيحه والميل إليه بسبب المصلحة ، والإرادة تعلّق القصد بأحد الطرفين الّذين اختاره ومال إليه. فالمشية بعد تعيّن أحد الطرفين يصير اختيارا والاختيار بعد العزم والجزم يصير إرادة ، فالمختار من ينظر في أحد الطرفين ويميل إليه ، والمريد هو

الناظر العازم إلى الطرف الّذي مال إليه ، فالاختيار متوسّط بين المشية والإرادة ، لأنّ الفاعل يشاء أوّلا ثمّ يرجّح أحد الطرفين ثمّ يعزم عليه ؛ فالمشية إذا عزمت تصير إرادة. وإلى هذا يشير ما روي عن أبي الحسن الرضا ـ 7 انّه قال : يا يونس تعلم ما المشية؟ ؛

قال : لا ؛

قال : هي الذكر الأوّل ؛ فتعلم ما الإرادة؟ ، قال : لا ؛

قال : هي العزيمة على ما يشاء (5).

ثمّ إن منع إطلاق القصد على مشيته وإرادته ـ تعالى ـ فليعبّر عنهما بالرضا أو الابتهاج أو الحثّ أو ما يناسبها ممّا يعبر عنه بالفارسية ب : « خواستن ». على أنّ ما ذهب إليه الفلاسفة من امتناع تحقّق القصد أو الميل أو العزم أو ما يشابهها للواجب ـ سبحانه ـ دليلهم على ذلك إنّ الفاعل بالقصد يكون فعله لغرض البتة ، والفاعل بالغرض يكون مستكملا به أعمّ من أن يكون الغرض عائدا إلى ذاته أو إلى غيره ، لأنّ اتصال النفع إلى الغير إن كان لأجل قصد شوقي يوجب الاستكمال مع أنّه ـ سبحانه ـ منزّه عن الاستكمال ، بل هو الجواد الحقّ المطلق وهو الّذي تفيض منه الفوائد لا لشوق منه ولا بطلب قصدي لشيء يعود إليه ، إذ الجود هو افادة ما ينبغى لا لعوض ولا لإحسان ومدح وثناء ولا للتخلص عن المذمّة.

ولا ريب في أنّ هذا الايراد ـ أعني : لزوم تأتّي الغرض ـ يرد ظاهرا في صورة كون إرادته بنفس العلم بالأصلح ، وما يجاب به عنه هنا يمكن أن يجاب به في صورة كون إرادته القصد أو الميل أو امثالهما.

وسنشير إلى حقيقة الحال في ذلك.

ثمّ إنّ ما نسب إلى الحكماء من أنّ الإرادة عندهم نفس العلم بنظام الخير فالظاهر إنّه خلاف الواقع ، فانّ الظاهر من كلام الشيخ إنّ إرادته ـ سبحانه ـ عندهم ما يعبّر عنه بالفارسية ب : «خواستن » من الرضا أو الابتهاج أو الحبّ أو العشق أو امثال ذلك ، فانّه قال في رسالته لاثبات المبدأ الأوّل في بيان إرادته ـ تعالى ـ : « هذه الموجودات كلّها صادرة من ذاته ـ تعالى ـ ومن مقتضى ذاته ، فهي غير منافية له. ولانّه يعشق ذاته ، فهذه الاشياء كلّها مرادة لأجل ذاته ، فكونها مرادة له ليس لأجل غرض ، بل لأجل ذاته ـ لانّها مقتضى ذاته ـ. فليس يريد هذه الموجودات لانّها هي ، بل لأجل ذاته ولانّها مقتضى ذاته. مثلا لو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشيء ، ونحن انّما نريد لأجل الشهوة واللذة لا لأجل ذات الشيء المراد ». ثمّ قال : « فنقول : هذه المعلومات صدرت عن مقتضى ذات واجب الوجود بذاته المعشوقة له مع علم منه بأنّه فاعلها وعاقلها ، وكلّ ما صدر عن شيء على هذه الصفة فهو غير مناف لذلك الفاعل وكلّ فعل يصدر عن فاعل وهو غير مناف له فهو مراده ، فإذن الاشياء كلّها مرادة للواجب ـ تعالى ـ وهو المراد الخالي عن الغرض ، لأنّ الغرض في رضاه بصدور تلك الأشياء عنه أنّه مقتضى ذاته المعشوقة ، فيكون رضاه بتلك الأشياء لأجل ذاته ، فيكون الغاية في فعله ذاته. ومثال هذا إذا أحببت شيئا لأجل انسان كان المحبوب بالحقيقة ذلك الانسان ، فكذلك المعشوق المطلق هو ذاته. ومثال الإرادة فينا : انّا نريد شيئا فنشتاقه ـ لانّا محتاجون إليه ـ ، وواجب الوجود يريده على الوجه الّذي ذكرناه ، ولكنه لا يشتاق إليه ـ لانّه غني عنه ـ. فالغرض لا يكون إلاّ مع الشوق ، فانّه يقال : لم طلبت هذا؟ ؛ فيقال : لأنّه اشتاقه ؛ وحيث لا يكون الشوق لا يكون الغرض » ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ في هذا الكلام مواضع تدلّ على أنّ إرادته ـ سبحانه ـ ليست عين علمه بنظام الكلّ ، بل ارادته لشيء هو رضاه ـ تعالى ـ أو ابتهاجه به أوجبه له ـ أو غير ذلك ممّا يناسب امثال تلك الألفاظ ـ.

وقد ظهر ممّا قرّرناه أنّ الداعي للإيجاد هو العلم بالأصلح وهو منشئا ومصحّح للإرادة ، وهي غير الداعي بالاعتبار.

ثمّ إن قيل : لمّا كانت الإرادة ـ سواء كانت نفس الداعي أو غيرها ـ على ما اخترت عين الذات بمعنى أنّ الذات بذاته كانت منشئا لها كان المرجّح مجرّد الذات فلا يمكن صدورالطرف الآخر عنه ـ لأنّ مقتضى الذات ممتنع الانفكاك عنه ـ فلا يكون الذات قادرا حينئذ ـ إذ يعتبر في القدرة أن يكون تعلقها بالطرفين على السواء ـ ؛

قلنا : القدرة عند الحكماء هو التمكّن من فعل العالم مع العلم وإن وجب بالنظر إلى الذات ولم يمكن الترك ، والإرادة عندهم هو عين العلم بالنظام الكلّي ـ كما نسب إليهم في المشهور ـ أو غيره بالاعتبار كالرضا والابتهاج ومثلهما ـ على ما ظهر من كلام الشيخ ـ ، والقدرة عند المتكلّمين هو امكان الفعل والترك بالإمكان الذاتي أو الوقوعي. وقد عرفت فيما سبق أنّ الاكثر نسب القول بالقدرة بمعنى امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات إلى الحكماء أيضا ، ولكنّه قد عرفت ما فيه. والإرادة عندهم ـ أي : عند المتكلّمين ـ إمّا العلم بالأصلح ـ كما اختاره العلاّمة الطوسي وبعض رؤساء المعتزلة ـ أو غيره ممّا يعبر عنه بالفارسية ب : « خواستن » كالرضا والابتهاج ومثلهما ، فعلى الأوّل ـ أعني : على القول بكون القدرة هو التمكّن من ايجاد العالم وإن وجب بالنظر إلى الذات وكون الإرادة عين العلم بالنظام الأصلح ، كما ذهب إليه الحكماء ـ فلا يرد الشبهة المذكورة أصلا ، لأنّ القدرة بهذا المعنى لا ينافي الإرادة بهذا المعنى مطلقا ، فانّ حاصل هذا القول : إنّ ذات الواجب بذاته اقتضى تمثّل نظام الخير في ذاته وانكشافه لذاته ، واقتضى هذا التمثل والانكشاف صدوره عنه ـ سبحانه ـ ؛ فهذا الصدور مع العلم هو القدرة ، وهذا العلم هو الإرادة.

وعلى هذا لا يرد أيضا لزوم تأتّي الغرض في فعله ، ولا لزوم التفات العالي إلى السافل. وعلى الثاني ـ أعني : كون القدرة هو التمكّن من ايجاد العالم مع العلم وكون الإرادة ما يلزم من العلم بنظام الخير من الرضا أو الابتهاج وما شابههما ـ فالشبهة المذكورة أيضا غير واردة أصلا ، لأنّ الرضا والابتهاج بالفعل لا ينافي القدرة بمعنى التمكّن من الفعل مع وجوبه ، فانّ القدرة بهذا المعنى لا ينافي الوجوب ، فلا ينافي الإرادة الموجبة أيضا.

نعم! ، يرد حينئذ كون فعله ـ تعالى ـ معلّلا بالغرض ، لأنّ الرضا والابتهاج بفعل يكون مشتملا على الغرض البتة إمّا عائدا إلى ذات الفاعل أو إلى غيره ، وعلى الصورتين يلزم الاستكمال ، ويلزم أيضا التفات العالي إلى السافل ؛ والحكماء لا يقولون به.

والجواب عنه هو ما ظهر من كلام الشيخ في العبارة المنقولة عنه ، وحاصل الجواب : أنّ الممكنات المعلولة له الصادرة عنه لمّا كانت من لوازم ذاته ورشحات فيضه فرضاه وابتهاجه بها انّما هو لأجل كونها لوازم ذاته لا لأجل انفسها حتّى يلزم استكماله بها ، فانّه لمّا علم ذاته الّذي هو أجلّ الأشياء بأجلّ علم يكون مبتهجا بذاته اشدّ الابتهاج ، ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عن ذلك الشيء من اجل أنّه يصدر عن ذلك الشيء ؛ فالواجب ـ تعالى ـ لا يريد الأشياء لا لأجل ذواتها من حيث ذواتها ، بل لأجل أنّها صدرت من ذاته ـ تعالى ـ. فالغاية بهذا المعنى في الايجاد نفس ذاته ـ تعالى ـ ، وكلّ ما كان فاعليته لشيء على هذا السبيل يكون فاعلا وغاية معا لذلك الشيء. وما قالوا من أنّ العالي لا يلتفت إلى السافل ولا يريده في فعله وإلاّ لزم أن يكون مستكملا به ـ لكون وجوده أولى له من عدمه والعلّة لا يستكمل بالمعلول ـ ، لا ينافي ذلك ؛ إذ المراد من الإرادة والالتفات المنفيين عن العالي بالقياس إلى السافل هو ما يكون بالذات لا بالعرض ، فلو أحبّ واجب الوجود مفعوله وأراده لأجل كونه أثرا من آثار ذاته ورشحا من رشحات فيضه وجوده لا يلزم أن يكون وجوده له بهجة وخيرا ، بل بهجته انّما هي بما هو محبوب بالذات ـ وهو ذاته المتعالية الّتي كلّ جمال وكمال رشح وفيض من جماله وكماله ـ. فلا يلزم من حبه ـ تعالى ـ وإرادته له استكماله بغيره ، لأنّ المحبوب والمراد بالحقيقة نفس ذاته ، كما انّك إذا أحببت انسانا فتحبّ آثاره لكان المحبوب لك بالحقيقة ذلك الانسان. قال الشيخ في التعليقات : « ولو أنّ انسانا عرف الكمال الّذي هو حقيقة واجب الوجود ثمّ كان ينظم الأمور الّتي بعده على مثاله حتّى كانت الأمور على غاية النظام لكان غرضه بالحقيقة واجب الوجود بذاته ـ الّذي هو الكمال ـ ، فان كان واجب الوجود بذاته هو الفاعل فهو أيضا الغاية والغرض » (6) ؛ انتهى.

قيل : ومن هاهنا يظهر حقيقة ما قيل : لو لا العشق ما يوجد سماء ولا أرض ولا بحر ولا برّ.

ثمّ إنّ الحكماء كما قالوا إنّ الواجب ـ تعالى ـ غاية بالمعنى المذكور قالوا إنّه ـ تعالى ـ غاية بمعنى أنّ جميع الأشياء في حركاتها وأفاعيلها طالبة للتشبه به ، ولكلّ منها عشق وشوق إليه اراديا كان أو طبيعيا ؛ ولذا حكم الإلهيون بسريان العشق والشعور في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتهم ؛ وحكم الشيخ في التعليقات بأنّ القوى الأرضية كالنفوس الفلكية في أنّ الغاية في أفاعيلها ما فوقها ـ إذ هي لا يحرّك المادّة ليحصل ما تحتها من المزاج وغيره وإن كانت هذه من التوابع اللازمة ـ ، بل الغاية لفعل كلّ منها تحصيل الكمال الّذي يتصوّر في حقّه واستكماله بما فوقه وتشبّهه به إلى أن تنتهي سلسلة الاستكمالات والتشبّهات إلى الغاية الأخيرة والكمال الاقصى ـ أعني : الواجب سبحانه ـ. ومن هنا يظهر سرّ كلامهم : لو لا عشق العالي لانطمس السافل.

فان قيل : كيف يكون ذات الواجب باعتبار علمه بنظام الخير غاية وغرضا له ـ تعالى ـ في الايجاد عند الحكماء مع أنّهم صرّحوا بأنّ العلّة الغائية ما يقتضي فاعلية الفاعل ، فيلزم أن يكون ذاته ـ تعالى ـ علّة لذاته! ؛

قلت : أجابوا عنه : بأنّ المراد من الاقتضاء والاستلزام مطلق عدم الانفكاك سواء كان مع التغاير بين العلّة الغائية والفاعلية أم لا ، فاقتضاء العلّة الغائية هنا ـ أعني : ذاته تعالى ـ لفاعليته ـ سبحانه ـ بمعنى عدم انفكاك ذاته عن فاعليته وإن لم يتحقّق التغاير ولم يقم ضرورة ولا برهان على أنّ الفاعل المختار لشيء والغاية له يجب أن يكونا متغايرين في الحقيقة ، بل ربما يكونان متحدين في الحقيقة ، فانّ الفاعل هو ما يفيد الوجود والغاية هي ما يفاد لأجله الوجود ـ سواء كانت نفس الفاعل أو أعلى منه ـ. ولو كانت الغاية قائمة بذاتها وكانت بحيث يصدر عنها أمر لكانت فاعلا وغاية معا ، فذات الواجب علّة فاعلية من حيث إنّه يفيد وجودات الأشياء وعلّة غائية لها من حيث أنّ افادته وجودها لأجل ذاته من حيث علمه بنظام الخير.

فان قيل : الحكماء صرّحوا بانّ الغاية متقدّمة على الفعل بحسب المشيئة والتعقّل ومتأخّرة عنه بحسب الوجود ، فلو كان الواجب ـ تعالى ـ فاعلا وغاية لجميع الأشياء لزم أن يكون متقدّما عليها ومتأخّرا عنها ، فيلزم أن يكون شيء واحد أوّل الأوائل وآخر الأواخر! ؛

قلت : قد اجابوا عن ذلك بأنّ تأخّر الغاية عن الفعل في الوجود انّما هو إذا كانت من الأمور الواقعة بحسب الكون دون الأمور المتعالية عنه الواقعة فوقها ، فانّهم قسّموا المعلول إلى مبدع وكائن وقالوا : الغاية في القسم الأوّل مقارنة ماهية ووجودا مع وجود المعلول وفي القسم الثاني متأخّرة وجودا عنه وإن تقدّمت بالماهية عليه. وأنت تعلم بانّ الحكم بمقارنة وجود الواجب لوجود معلولاته ظاهر الفساد ؛ ولذا قيل في الجواب عن الايراد المذكور : إنّ الحقّ إنّ الواجب ـ تعالى ـ أوّل الأوائل من جهة ذاته ووجوده وعلّيته الفاعلية والغائية لجميع ما سواه وآخر الأواخر من جهة كونه غاية بالمعنى الآخر ـ أعني : غاية قصد الأشياء وتشوّقها إليه وطلب التشبّه به والاستكمال إرادة وطبعا ـ ، لأنّه الخير المطلق والكمال الحقيقي. فمصحّح الاعتبار الأوّل ذاته بذاته ومصحّح الاعتبار الثاني صدور الأشياء عنه على وجه يلزمها عشق يقتضي حفظ كمالاته الأوّلية وشوق إلى تحصيل ما يفقد عنها من الكمالات الثانوية ليشبّه بمبدئها الحقّ بقدر الامكان.

فان قيل : الحكماء مصرّحون بأنّ افعال الله غير معلّلة بالأغراض ؛

قلت : انّهم يقولون : إنّ افعاله ـ تعالى ـ منزّهة عن غاية هي غير نفس ذاته ـ من كرامة أو محمدة أو لذّة أو ايصال نفع إلى الغير ـ ، لا عن غاية هي نفس ذاته ـ سبحانه ـ ، لأنّ الباعث لهم في ذلك هو لزوم الاستكمال ومعلوم أنّ كون ذاته غاية لفعله لا يوجب الاستكمال.

ثمّ الظاهر من كلام الحكماء إنّ كل فاعل لفعل ليس له غرض حقّ فيما دونه وقصد صادق لأجل معلوله ، لانّه لو كان للفاعل غرض وقصد في فعله لزم أن يكون مستكملا بهذا المقصود فيكون هذا المقصود أشرف من الفاعل وقصده مع كونه علّة فاعلية له ، وهو باطل. وما يتراءى من قصد بعض الفواعل في أفاعيلهم إلى ما هو دونهم ـ كقصد الطبيب في معالجة شخص حصول الصحّة له ـ فانّما هي فواعل بالعرض لا بالذات ، فانّ المبدأ بالذات لحصول الصحّة هو واهب الكمالات على الموادّ بعد استعدادها ، فالطبيب انّما هو يهيّئ المادّة والمفيد هو الواجب ـ سبحانه ـ.

ثمّ إن فرض أنّ الفاعل بالذات قصد في فعله ما هو احسن من ذاته ومن قصده فانّما هو على سبيل الغلط والجزاف.

فان قيل : لو لم يكن للواجب غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها فكيف صدر منه وجود الممكنات على النحو المشاهد من غاية الاحكام والاتقان ونهاية ما يتصوّر من الحكم والمصالح ـ على ما يشهد به التأمّل في الآيات الآفاقية والأنفسية ـ؟! ؛

قلت : الحكماء يجيبون عن ذلك بأنّ الحكم والمصالح الّتي يشتمل عليها فعله ـ تعالى ـ وإن لم تكن مقصودة له ـ تعالى ـ لأجل المعلولات ولا لأجل ذاته حتّى تكون مقصودة له بالذات ويكون لفعله علّة غائية خارجة عن ذاته إلاّ أنّ ذاته ـ تعالى ـ لكونه منبع جميع الخيرات والكمالات وملزوما لكلّ ما يكون على افضل انحاء الوجود والاتقان لا يحصل الأشياء منه إلاّ على أتمّ ما ينبغي وأبلغ ما يتصوّر من الاتقان والاحكام ، فكلّ ما يصدر عنه يصدر على اقصى ما يتصوّر في حقّه من الحكم والمصالح والخيرية والكمال سواء كانت من المصالح الضرورية ـ كوجود العقل للانسان والنبيّ للأمّة ـ أو النسبية ـ كانبات الشعر على الحاجبين وتقعّر الأخمصين من القدمين ـ.

وجميع ما ذكر هنا انّما هو مبنيّ على قواعد الحكمة لا على ما اعتقدناه. وامّا على المعنى الثالث ـ وهو كون القدرة عبارة عن صحّة الصدور واللاصدور بالإمكان الذاتي أو الوقوعي وكون الإرادة نفس العلم بالأصلح أو ما يلزم منه من الرضا والابتهاج وأمثال ذلك ممّا يعبر عنه ب : « خواستن » ـ فالجواب عن الشبهة المذكورة : إنّ منشئية الذات بذاته لإرادة طرف الوجود وترجيح وجود العالم على تركه انّما هو لكون طرف الوجود على نحو ما وجد أكمل وأشرف ووجوب صدور ما هو الأكمل الأشرف عنه ـ سبحانه ـ ، لاقتضاء الذات ذلك بحيث لا يتمكّن من الطرف الآخر ، بل لاقتضاء أكملية طرف الوجود ذلك وإن تمكّن الذات عن ايقاع كلّ من الطرفين.

والحاصل إنّ التصرف انّما هو في جانب المعلول بمعنى انّ المعلول هو الّذي يتعلّق به العلم بالأصلح ويصير مرادا وهذا انّما هو ايجاد الأشياء على نحو ما وجد ، فذاته ـ سبحانه ـ اقتضى مشية وإرادة هما عين ذاته ـ تعالى ـ بها يرجّح كلّ ما هو أكمل وأصلح بالنسبة إلى نظام الكلّ من طرفي الفعل ـ أعني : وجوده وعدمه ـ ، فاذا صار وجود زيد مثلا أصلح من عدمه اقتضى ذاته ـ تعالى ـ ترجيحه عليه لكونه خيرا وصلاحا لا لخصوصية كونه وجود زيد مثلا ، ولم يقتض عدمه لكونه شرّا ومقابلا لما هو أصلح لا لخصوصية كونه عدم زيد. وكذا إذا صار عدمه أصلح اقتضاه لذلك لا لشيء آخر ، فامتناع صدور عدمه الّذي هو مقابل الوجود حين ترجيح الوجود انّما هو بسبب عارض هو كونه خيرا لا لأمر ذاتي ، فلا ينافي الامكان الذاتي ولا الوقوعي أيضا لجواز صيرورة ما هو خير وصلاح في وقت شرا وفسادا في وقت آخر. ويظهر من هذا عدم كون شيء من المقدورات خيرا وصلاحا بالذات أو كونه شرا وفسادا بالذات ، بل كلّ ما هو خير فانّما هو خير بالنسبة إلى نظام الكلّ وكلّ ما هو شرّ فانّما هو شرّ كذلك ، وينحصر الخير بالذات في واجب الوجود بالذات والشرّ بالذات في ممتنع الوجود بالذات؛ وانكشف أيضا انّ مشيته ـ تعالى ـ بالذات انّما هو لذاته فقط لا لشيء آخر. وإلى الجواب المذكور أشار المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم حيث قال بعد أن صرّح بأنّ صحّة الصدور واللاصدور هي المسمّى بالقدرة وهي لا تكفي في الصدور إلاّ بعد أن يترجّح أحد الجانبين على الآخر والترجيح انّما هو بالقصد الّذي يسمّى بالإرادة أو بالداعي ، وعند القدرة والإرادة يجب الصدور وعند فقد أحدهما أو كليهما يمتنع الصدور.

فان قيل : إذا كان فاعلية الفاعل لفعل وعلمه بذلك نفس ذات الفاعل لم يمكن صدور مقابل ذلك الفعل عنه ، فلم يكن قادرا على ذلك الفعل إذا اعتبر في القدرة أن يكون تعلّقها بالطرفين سواء ؛

قلت : الملازمة ممنوعة ، فانّ صدور ذلك الفعل عنه بواسطة أنّه يستعدّ لصدوره عنه دون مقابله ـ لانّه أكمل من مقابله ـ لا بواسطة أنّ ذات الفاعل يستدعي خصوصية ذلك الفعل حتّى لو كان مقابله اكمل يصدر عنه ويكون فاعليته وعلمه بذلك عين ذاته ؛ فليتأمّل » انتهى.

قال بعض المشاهير : خلاصة كلام المحقّق إنّ الإرادة متعلّقة في الأزل بوجود الفعل فيما لا يزال من الأوقات المفروضة ، فيكون الإرادة والتعلّق الازليان موجبين بوجود الفعل في وقت معيّن ممّا لا يزال دون الأزل ضرورة أنّ القدرة تؤثّر على وفق الإرادة ويكون مرجّح تعلّق الإرادة بوجود الفعل في ذلك الوقت هو كونه أصلح على نحو ما قال الحكماء في نظام العالم وهذا هو بعينه ما قال الغزالي في جواب الخيام حيث سأل الخيام عنه من مخصّص ايجاد العالم في الآن الّذي اوجده وليس قبله زمان بعد أن سأل الغزالي عنه من مخصّص مقدار الفلك الأعلى ومخصّصات مناطق الافلاك ومخصّصات مقادير حركاتها ؛

واجاب الخيام عنه : بانّ تلك الامور من مقتضيات النظام الأعلى ؛

فقال الغزالي : وجود العالم في الآن الّذي اوجده فيه هو أيضا من مقتضيات النظام الاعلى ؛ انتهى.

والظاهر انّ مراد الخيام من الزمان في قوله : « وليس قبله زمان » هو الزمان الموجود الّذي يصلح كلّ جزء من اجزائه للتخصيص ، لا الاعمّ منه ومن الزمان الموهوم الّذي اجزائه كنفسه وهمية ولا يصلح شيء منها للتخصيص ويمكن وقوع الايجاد في كلّ جزء منه حتّى يرد أنّ عدم مطلق الزمان لا الموجود ولا الموهوم قبل آن الايجاد هو المخصّص لإيجاد العالم في آن الايجاد، لأنّ عدم وقت أصلا قبله تعيّن الايجاد فيه ـ كما افاده المحقّق بقوله : « واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله » (7) ـ ؛ فلا معنى لجعل الخيام عدم الوقت موجبا لعدم المخصّص. فمراد المحقّق من الوقت مطلق الوقت الشامل للموجود الخارجي وللوهمي ومراد الخيام من الزمان هو الموجود الخارجي ، وغرضه إنّه إذا لم يتحقّق زمان خارجي يصلح اجزائه للتخصيص وتحقّق زمان وهمى لا يصلح اجزائه لذلك ، فما مخصّص الايجاد في الآن الوهمي الّذي وجد العالم فيه؟!.

وحينئذ فلا منافاة.

فان قلت : إذا كان المرجّح في طرف المعلولات بمعنى أنّ أصلحية وجودها على ما وجدت عليه منشئا لترجيح طرف الوجود من دون وجود مرجّح من طرف الفاعل ـ كما ذهب إليه المحقّق ورؤساء المعتزلة ـ يلزم كون أفعاله معلّلة بالأغراض ، لأنّ ايجاد الأشياء على النحو الواقع إن كان لأجل كونه أصلح من دون اقتضاء حتميّ من الذات له يلزم أن يكون الغاية في فعله هو كون الفعل حسنا لا لانّه محسن والمحسن يصدر عنه الحسن البتة ، ومعلوم إنّ هذه الغاية غاية زائدة على ذات الفاعل ـ إذ من يفعل فعلا لأجل كونه حسنا يفعل هذا الفعل ليكون محسنا أو ليحسن إلى غيره ـ ، وعلى التقديرين يلزم الاستكمال ؛

قلت : القائلون بهذا القول ـ أعني : المحقّق وأمثاله ـ لا يتحاشون عن اثبات غرض في فعله إذا لم يكن عائدا إلى ذاته ، فانّهم يقولون : إنّ اتقان هذه الموجودات وإحكامها واشتمالها على غرائب الحكم والمصالح وتضمّنها لعجائب البدائع والمنافع لا ينفكّ عن الاغراض والغايات الراجعة إلى الممكنات ، إلاّ أنّ الغايات إذا كانت عائدة إلى الغير لا يستلزم منه الاستكمال ، فانّ الفاعل يمكن أن يكون تامّا فوق التمام بحيث لا يتصوّر اكمل منه ومع ذلك يفعل فعلا يكون غايته ايصال النفع إلى الغير. ولا يوجب ذلك استكمالا فيه وإن كان هذا الايصال لأجل قصد شوقي ، لأنّ الاستكمال انّما يلزم لو كان لهذه الغاية ـ أعني : ايصال النفع إلى الغير ـ غاية اخرى راجعة إلى ذاته ـ كمحمدة أو التخلّص من مذمّة أو صيرورته أحسن أو اكمل ممّا كان ـ ؛ أمّا إذا لم يكن لهذه الغاية غاية اخرى بل غاية فعله كان مجرّد ايصال النفع إلى الغير ـ حتّى إذا قيل له : لم اخترت ايصال النفع إلى الغير وأيّ فائدة فيه بالنسبة إلى ذلك؟ ؛ فقال : لانّه ايصال النفع إلى الغير ولا يتفاوت به ذاتي وصفاتي ولا يحصل منه فائدة لي ؛

وان قيل له : لم كنت شائقا به؟

فقال : لكونه نفعا للغير وكونه مجرّد الصلاح والخير ـ لم يلزم منه الاستكمال أصلا. و

لا استبعاد في أن يكون غاية فعل فاعل مجرّد ايصال النفع إلى الغير بحيث لا يكون له فيه غرض لذاته أصلا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال من قبلهم.

وبما ذكر ظهر أنّه لا فرق بين مذهب الحكماء ومذهب المحقّق وأمثاله في حقيقة الإرادة ، إذ كلّ منهما قائل بانّ الإرادة هو العلم بالأصلح ـ أو ما يلزمه من الرضا والبهجة وامثالهما ممّا يعبّر عنه بالفارسية ب : « خواستن » ـ ، وانّما الفرق في أنّ الحكيم يقول : إنّ هذا الأصلح هو مقتضى ذاته ولوازم فيضه وواجب الصدور عنه لا يمكن أن ينفكّ عنه ، وهذا الاقتضاء الذاتي هو المرجّح للصدور ؛ والمحقّق والمعتزلة يقولون : إنّه ليس واجب الصدور عنه بالنظر إلى ذاته ، بل وجوب الصدور انّما هو للأصلحية بحال الغير ، وهو المرجّح للصدور.

تتميم

اعلم! أنّ الظاهر من اخبار ائمّتنا الراشدين ـ : ـ كون إرادة الله ـ سبحانه ـ حادثة ؛ كما روى عاصم بن حميد عن الصادق ـ 7 ـ قال : قلت له : لم يزل الله مريدا؟ ، فقال : إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه ، بل لم يزل الله عالما قادرا ثمّ أراد (8). ومثله اخبار آخر.

وربما استدلّ على حدوثها بقوله ـ سبحانه ـ : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

وجه الاستدلال : إنّ قوله ـ سبحانه ـ : « إذا أراد شيئا ـ ... إلى آخره ـ » قضية شرطية لزومية وإلاّ جاز أن يتحقّق الإرادة بدون لفظ « كن » وبالعكس ، والثاني باطل بالبديهة ؛ والأوّل أيضا باطل للحصر المستفاد من كلمة « انّما » ، فثبت كونه قضية شرطية لزومية وإذا كانت شرطية لزومية يلزم عدم انفكاك قول « كن » عن إرادته ـ سبحانه ـ ، ولا ريب أنّ قول « كن » حادث، فيكون الإرادة أيضا حادثة.

ولدلالة الاخبار والآية على حدوث الإرادة ذهب بعض مشايخنا

الامامية إلى أنّها من صفات الفعل ـ وهي ما يتّصف الواجب تعالى بها وبمقابلاتها ، فانّ الواجب يتصف بالإرادة وبمقابلها كالكراهة ، وكذلك المشية ـ. والحقّ إنّ المراد من الإرادة في الاخبار والآية هو تعلّقها بالمراد ـ كما دلّ عليه قول الصادق – عليه السلام- : « إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه » ـ ، ولا ريب في حدوث تعلّقها. وأمّا نفس الإرادة وحقيقتها فلا ريب في كونها صفة ازلية ، كيف ولو كان نفس الإرادة حادثة فان كانت عين العلم بالأصلح لزم كونه ـ تعالى ـ فاقدا للصفة الكمالية في مرتبة ذاته! ، ولزم أيضا التغيّر والتجدّد في صفاته ـ سبحانه ـ! ، وكونه محلاّ للحوادث!.

فان قيل : على ما اخترتم من أنّ الإرادة غير العلم بالأصلح بل هي لازمة له فتكون موقوفة عليه توقّف المسبّب على السبب ـ لأنّ تحقّقها انّما هو بعد العلم بالأصلح ـ فتكون متأخرة عن العلم والتأخّر ينافي الازلية ـ لأنّ التقدّم والتأخر من لوازم الغيرية والتعدد المنافيين للأزلية ـ ؛

قلنا : الصفات الأزلية باسرها منشأها مجرّد الذات وهي لازمة له غير منفكّة عنه في حاقّ مرتبته ، وسببية بعضها لبعض انّما هو بالاعتبار وهو لا ينافي الازلية ، كالعلم والحياة فانّ العلم يتوقّف على الحياة ، فلو كان مجرّد هذا التوقّف منافيا للأزلية لما كان العلم صفة أزلية ؛ وهو باطل بالاتّفاق.

__________________

(1) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة الثانية عشرة ص 41.

(2) راجع : المسألة الرابعة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 223.

(3) راجع : المسألة الخامسة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 194.

(4) راجع : المسألة الرابعة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 223.

(5) راجع : بحار الأنوار ، ج 5 ص 117.

(6) راجع : التعليقات ، ص 18.

(7) المسألة الرابعة من الفصل الثالث من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 126.

(8) راجع : التوحيد ، ص 146.




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.