الموقع المتوسط

إن الموقع المتوسط للعاصمة يساعد على إدارة أمور الدولة في سهولة ويسر، كما يساعد على حمايتها من السقوط في حالة الحرب لأن ضياع العاصمة يحطم الروح المعنوية للدولة ويعني استسلامها للعدو، كما أنه يساعد على التوازن بين مصالح اجزائها.

وليس من الضروري أن يكون التوسط هندسيا أو جغرافيا، وإنما التوسط يجب أن يكون حيويا، فالمركز المتوسط الهندسي أو الجغرافي يختلف عن التوسط الحيوي فليس من الضروري أن يكون المتوسط الهندسي هو التوسط الحيوي في الدولة، وعادة تكون العاصمة في منطقة القلب الحيوي في الدولة (الاكيومين) أي في منطقة النواة النووية التي هي مركز الثقل السكاني، ومثال ذلك مدريد في إسبانيا، وبرن في سويسرا، وأنقرة في تركيا، ووارسو في بولندا.

وقد يتغير الموقع المتوسط للعاصمة أحيانا نظرا لاتساع الدولة أو انكماشها مثل واشنطن التي كانت في موقع متوسط من قبل لكنها ليست كذلك الآن نظرا لتوسع الولايات المتحدة غربا وجنوبا، وكذلك بالنسبة لبرلين التي كانت تتوسط المانيا من قبل ولكن بعد اقتطاع أجزاء من المانيا وضمها لبولندا لم تصبح برلين في موقع متوسط الآن.

وما سبق نرى أن اختيار موقع العاصمة لا يعتمد على عامل واحد وإنما غالبا يرجع إلى عدة عوامل ربما يكون تأثير أحدها أقوى من الآخر، ويلاحظ من اختيار موسكو عاصمة لروسيا اعتمادا على عوامل تاريخية وقومية وموقع متوسط بالنسبة لروسيا الاوراسية، وكما في باريس حيث العامل التاريخي والمتوسط.

وهذا يعني أن العوامل السابق ذكرها لاختيار العاصمة هي عبارة عن محاولة لتقسيم مدن العواصم بصورة قد تبعد عن الحتمية، ولذلك فإن دراسة كل عاصمة كحالة خاصة أمر ضروري نظرا لأننا نتعامل مع أمور ترتبط بالإنسان والحضارة وهذا ليس ثابتا في جميع الدول. ورغم ذلك فإن هناك بعض السمات المشتركة بين العواصم مثل باريس ولندن والقاهرة.

ومما لاشك فيه أن دور العاصمة قد تغير كثيرا عما كان عليه في الأزمنة الماضية، فعندما نتكلم عن باريس كعاصمة لمملكة الكابيتيان في فرنسا يجب أن نزيل من ذهننا أنها كانت تقوم بالدور الذي تقوم به لندن أو روما مثلا في الوقت الحاضر، فقد كانت الطاقة الإدارية للحاكم صغيرة وصعبة، والأعباء الحكومية محدودة وكان الملك محاطا بوزارته وحاشيته ويعيش لنفسه متنقلا من ضيعة إلى أخرى، وورائه حاشيته حاملين السجلات والأختام، فالعاصمة في ذلك الوقت كانت تتفق ومكان وجود الحاكم، على أنه كان لكل حاكم مكان مفضل، فكان شرلمان يحب مسقط راسه آخن، وكان هذا المكان المفضل ينال عناية أكبر من سواه، سواء في بناء القصور والحصون أو الكنائس، وذلك أن الملك كان يقضي معظم وقته فيه. ثم بدأت الأحوال في التغير التدريجي، عندما لم تعد السجلات تنتقل وراء الحاكم، فغي إنجلترا حفظت في برج لندن، واختير قصر باريس المحصن لحفظ السجلات وأخذت الأعمال الحكومية تتركز في العاصمة، وأخيرا كان لظهور النظم الديموقراطية واجتماع البرلمان في العاصمة أثره في تثبيت مكان ومكانة العاصمة.

وكان التطور الدور الذي تلعبه الحكومة في الوقت الحاضر، وتعدد وظائفها أثره في لزيادة المطردة لأهمية العاصمة، فقد ظهرت فيها ايضا الصناعات الخفيفة وصناعات الخدمات لمقابلة احتياجات رجال الإدارة، ومن ثم ازداد نمو العواصم، غير انها في معظم الأحوال تكون العاصمة في المدينة الأولى سكانيا في الدولة، فهناك خمس وعشرون دولة في اوربا ( باستثناء القزمية )، وتعد العاصمة السياسية فيما لا يقل عن ثلاث وعشرين منها أكبر مدينة، ويظهر الاستثناء في حالة بلد كسويسرا حيث برن العاصمة الاتحادية تعتبر رابع مدينة. وتظهر حالات الاستثناء أيضا في قارة آسيا، فاستانبول العاصمة القديمة أكبر من أنقرة، وفي الصين يحتل ميناء شنغهاي المكان الأول، وتأتي بكين المكان الثاني، وفي أفريقية نجد أن العاصمة ليست المدينة الأولى في المغرب ونيجيريا وموريتينا, ويجب ايضا تذكر أن موقع العاصمة يبدو ذوى مغزى كبير. فمن ناحية الحماية والدفاع نجد الموقع المركزي مثالي، ولعل مدريد، برن، وارسو، أنقرة يمكن اعتبارها من العواصم المركزية، ولكن اذا لم تكن الدولة ملتئمة تماما، فان اختيار الوضع المركزي يكون أمرا عسيرا، وعادة ما تكون عواصم الدول البحرية بالقرب من البحر او على قرب منه، ولكنها في الغالب تكون على خليج او مصب خليجي، فلندن على التايمز، وطوكيو على خليج بنفس الاسم، بل والإسكندرية كانت عاصمة مصر أيام الإغريق، على العموم إذا كانت العاصمة على الساحل، أو هي منه على قرب فلا بد من اسطول قوي لحمايتها فقد سقطت اوسلو عاصمة النرويج عام 1940 بسهولة عندما أبحر الأسطول الألماني في الخليج الذي تقع فيه.

وقد تتوزع سلطة العاصمة بين أكثر من مدينة كما في بوليفيا حيث تعد لاباز La Paz العاصمة الرئيسة وفيها مقر الحكومة، بينما تعد مدينة سوكر Sucre العاصمة القانونية حيث مقر القضاء، وكما هو الحال في هولندا حيث تعد أمستردام العاصمة، وإلى جانبها مدينة لاهاي حيث مقر البرلمان، وفي جنوب أفريقيا حيث مدينة كيب تاون Cape Town التي تضم السلطة التشريعية (البرلمان)، بينما السلطة التنفيذية (الحكومة) في بريتوريا  Pretoria، والسلطة القضائية في بلوموفنتين Bloemofontein, ولكن الموقع المتوسط للعاصمة هام جدا، لأن العاصمة تعد قلب الدولة النابض وتمتلك الفكر، لأنها تجذب إليها الشباب والعلماء، ولذلك ينبغي أن تكون في أكثر المواقع أمانا وقدرة على الحماية. ومن المواقع المثلى المتوسطة للدولة مدريد في اسبانيا، ووارسو في بولندا وبرن في سويسرا، وباريس في فرنسا، وبرلين في المانيا، والخرطوم في السودان.