أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014
3683
التاريخ: 10-10-2014
1810
التاريخ: 27-09-2015
6454
التاريخ: 10-10-2014
1979
|
لقد افتتحت السورة المذكورة بالإشارة إلى ظاهرة الجدال وألمحت إلى الجزاء الاجتماعي لمجتمعات كانت أشد قوة من مجتمع معاصري الإسلام، كما ختمت بالجزاء الاخروي الذي طال المجتمعات أو المجتمع البائد الذي استهلت السورة بقصته التي تتحدث عن موسى (عليه السلام) ومؤمن آل فرعون وصلتها بمجتمع فرعون وتعامله المجادل مع الشخصيتين المذكورتين.
إذن، تجيء قصة مؤمن آل فرعون في سياق خاص لتلقي الإنارة على ذلك بالنحو الذي سنتحدث عنه الآن، نقول:
تتضمن سورة «المؤمن» جملة من القصص تحوم على آل فرعون، وهذه القصص أو الحكايات المتنوعة ينتظمها خيط يوحد بينها، بحيث يمكن أن نعدها قصة واحدة تتناول الحياة الطولية لآل فرعون: بدء من مجيء موسى (عليه السلام) إليهم،...
مرورا بهلاكهم،... وانتهاء إلى مقرهم في اليوم الآخر: البرزخ، ثم النار.
إن بناء هذه القصة أوالهيكل الهندسي لها، يقوم على حيوات أو بيئات مختلفة:
بيئة الحياة الدنيا أولا. ثم بيئة البرزخ أو القبر ثانيا، ثم بيئة النار ثالثا. وكلها تحوم على سلوك آل فرعون... يرسمها النص وفق شكل قصصي ممتع، يداخل من خلالها، فيما بين هذه البيئات المختلفة، عبر التسلل الموضوعي للزمن الذي لا تفصل القصة آناته في المستقبل عن الحاضر و... فضلا عن الماضي.
وهذا فيما يتصل ببيئة القصة.
أما فيما يتصل بعنصر الشخصيات أو الأبطال في القصة، فإنها تحفل بأكثر من شخصية ثانوية مثل موسى (عليه السلام)... ومثل مؤمن آل فرعون... فضلا عن شخصيات
فرعون وهامان وقارون. هذا إلى أن آل فرعون أنفسهم يمثلون شخصية جماعية رئيسة في القصة، كما هو واضح، وينبغي ألا ننسى بأن القصة ذكرتنا بشخصية يوسف أيضا في سياق خاص، كما سنلحظ.
بيد أن الدور الخطير الذي تحوم القصة ـ في غالبيتها ـ عليه، هو الدور الذي يمارسه البطل: مؤمن آل فرعون، مما سوغ للقصة أن تحمل اسمه عنوانا لها، نظرا لأهمية الاسلوب الذي تعرضه القصة في ممارسة العمل الرسالي الذي نهض به مؤمن آل فرعون، مما يشكل مع اسلوب المواجهة المباشرة الذي اختطه بطل آخر وهو موسى،... يشكلان معا طريقتين أو اسلوبين تفرضهما طبيعة المناخ السياسي على الأبطال المجاهدين في توزعهم بين العمل السري والعلني، عبر سوح الجهاد من أجل الله.
أما عناصر القصة الاخرى من أحداث ومواقف، فتخضع بدورها إلى بناء هندسي ممتع، نتحدث عنه وعن سائر العناصر القصصية مفصلة في تضاعيف هذه الدراسة.
تبدأ القصة مع شخصية موسى (عليه السلام) في مواجهته الصريحة لفرعون وهامان وقارون على هذا النحو:
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين }
{إلى فرعون وهامان وقارون }
{فقالوا ساحر كذاب }
{فلما جاءهم بالحق من عندنا }
{قالوا: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم }
{وما كيد الكافرين إلا في ضلال }
هذا هو القسم الأول من القصة.
السماء ترسل موسى إلى فرعون وهامان وقارون.
والسؤال هو: ما هي المواقع الوظيفية التي يضطلع بها هؤلاء الثلاثة: فرعون وهامان وقارون.
أما فرعون، فإنه كبير الطغاة وموقعه من الأحداث لا يحتاج إلى تعقيب.
وأما هامان فوزيره وله موقع مثير للسخرية، كما سنلحظ. بيد أن قارون صاحب كنوز فرعون، لم يرد له موقع في القصة، بل رسمته النصوص القرآنية في قصة اخرى وقفنا عليها مفصلا.
هل يعني ذلك ـ من الزاوية الفنية الخالصة ـ أن القصة ليست في صدد تبيين المواقع الوظيفية التي يحتلها هؤلاء الثلاثة في القصة التي نحن في صددها، بل في صدد عرض الأوثان التي تحتل موقعا اجتماعيا في البيئة التي يتحرك في نطاقها آل فرعون وعلاقتهم بموسى (عليه السلام)، بغض النظر عن التحرك الفعلي المحدد لهذا الوثن أو ذاك ؟
أغلب الظن أن الأمر كذلك، مادامت الأوثان الكبيرة لها تأثيرها الاجتماعي في نطاق الموقع الذي تحتله في أذهان الرعاع ومادام الأمر متصلا برهط أو قوم أبى الشيطان إلا أن يركب رؤوسهم بالرغم من الأدلة والحجج والبراهين التي قدمها موسى إليهم، بضمنهم قارون فيما يمثل أحد الرؤوس المنتسبة لآل فرعون الذين تحوم القصة حولهم.
كان رد الفعل لهؤلاء الأوثان على الرسالة التي دعاهم إليها موسى، هو اتهامه بالسحر والكذب.
بيد أن القصة عبرت سلسلة الزمن واقتطعت شريحة من أحداث المستقبل، ثم عادت إلى الحاضر من جديد، لتواصل حركة الأحداث وفق تسلسلها.
الشريحة الزمنية التي اقتطعتها القصة، هي ردود الفعل التي تركتها دعوة موسى إلى القوم، متمثلة في قولهم:
{اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم }
فمن خلال هذا الحوار نستخلص ـ وفقا للطريقة الفنية التي سلكتها القصة ـ أن رسالة موسى إلى الإيمان بالله أحدثت تأثيرها في النفوس، بحيث آمن بها من آمن،... وبحيث دفعت فرعون وزبانيته إلى المطالبة بقتل المؤمنين واستحياء نسائهم، على نحو ما يفعله طغاة العصر الحديث.
لكن القصة عقبت على ذلك بقولها:
{وما كيد الكافرين إلا في ضلال }
مما يعني ـ من وجهة النظر الفنية ـ أن أحداث القصة اللاحقة ستكشف عن أن الهزيمة كانت من نصيب الطغاة.
ومن هنا تعود القصة إلى التسلسل الزمني للأحداث من جديد، بعد أن قطعت شريحة من المستقبل شددت فيها على أن الجمهور ـ قل أو كثر ـ قد استجاب لنداء السماء، وإلى أن النهاية الكسيحة للطغاة تحددت تماما.
وها هي القصة تعود من جديد، لتواصل ردود الفعل التي تركتها الدعوة الخيرة إلى الله وفقا لتسلسل الأحداث التي بدأت بهذا النحو من رد الفعل لدى الطاغية فرعون:
{وقال فرعون: ذروني أقتل موسى وليدع ربه }
{إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد }
إن هذا المنطق المثير للسخرية، جزء من وسيلة إعلامية يستخدمها الطغاة في كل زمان ومكان، ونعني به ـ في لغة علم نفس الجمهور ـ عملية إسقاط السمة السلبية التي يحملها المفسدون في الأرض على الشخصيات المصلحة.
فالمفسد والمنحط والبشع والقميء والذليل تغطية لانحطاطه يحاول إسقاط نفس السمة التي يحملها على الآخرين، حتى تنهار من جانب، أية قيمة أخلاقية نظيفة في الحياة في حالة وعي الآخرين بوساخة مثل هذا الاسلوب الإعلامي، وحتى تتشوه الحقائق من جانب آخر، بغية الاحتفاظ بالمنصب أو النظام السياسي الذي يستخدم مثل هذا الاسلوب الإعلامي في حالة عدم وعي الآخرين بحقيقة الموقف.
إن فرعون وهو كبير المفسدين في الأرض عصرئذ ومثله: طغاة العصر الحديث يتهم موسى بالإفساد ويصطنع الحرص أو التخوف من أن يبدل موسى دين الجمهور. وقد خيل إليه أن هذا الاسلوب النفسي كفيل بأن يخدع رعاع الجمهور، وأن يسبب رد فعل مؤلم في أعماق الواعين الذين يؤلمهم حقا تشويه الحقائق.
لكن الذي فاته، أن السماء تقف بالمرصاد لكل مكر يلتجئ إليه المفسدون في الأرض، حتى لو كان ذلك إلى أمد بعيد، وأن النهاية لا تسجل لصالح الطغاة، إلا بنحوها الكسيح الذي تمثل في غرق فرعون وقومه، وإمحائهم من الوجود تماما.
لقد اقترح طاغية عصره، فرعون، أن يقتل موسى حفاظا على عرشه الذي حاول أن يمده بأسباب القوة ومنها: خداع المغفلين وإيذاء الواعين من خلال لجوئه إلى الإعلام المضلل:
{إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد }
غير أن التفكير بقتل موسى (عليه السلام) قد اقترن ـ فيما يبدوـ بمعارضة البعض من مستشاريه وهو ما تكشف القصة عنه فيما بعد بطريقة فنية غير مباشرة.
وموسى نفسه قبل أن يختفي من مسرح الأحداث في هذه القصة قدم إجابة لها أهميتها في منطق الأحداث التي ستكشف عنه بيئة القصة، وذلك عندما عقب على ردود الفعل التي أحدثته دعوته إلى الإيمان بالله، قائلا:
{إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب }
إلى هنا فإن دور موسى في القصة، أو لنقل: الموقع الوظيفي الذي يحتله موسى في القصة، ينتهي... ليخلي الموقع إلى بطل جديد يمارس ألوانا ضخمة من النشاط تأخذ مساحة كبيرة من حجم القصة، بل تؤثر في حركتها تأثيرا كبيرا.
هذا البطل الجديد يبدأ من النقطة التي بدأ فيها فرعون بالتفكير بقتل موسى، وجوبه بالمعارضة التي اتخذت شكلها السافر بظهور هذا البطل على مسرح الأحداث، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن هذا البطل كان خازنا لفرعون أو ابنا لخاله، مما يعني أهمية معارضته، وانسحاب هذه الأهمية على التفكير بعملية القتل.
لقد قال موسى (عليه السلام) قبل أن يختفي من مسرح الأحداث في هذه القصة:
{إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب }
هذه الإجابة ستلقي إنارة ـ كما قلنا ـ على مستقبل الأحداث، وبخاصة شخصية فرعون التي يسمها طابع التكبر وعدم الانقياد لمنطق الواقع، كما سنلحظ ذلك من خلال تحركاته المثيرة للسخرية في هذا الصدد.
ومما لا شك فيه، أن موسى عندما بدأ بالتحرك نحو فرعون وقومه، إنما رافق تحركه أكثر من موقف سكتت القصة عنه. لكن البطل الجديد ـ وهو مؤمن آل فرعون، كما سنعرض لتفصيلات شخصيته بعد قليل ـ كشف عن جانب من تحركات موسى (عليه السلام)، مما تدلنا مثل هذه الصياغة القصصية عن بعض السمات أو الأسرار الفنية التي سلكتها القصة في بناء الأحداث والشخصيات.
إن القصة قد اكتفت بتقديم شخصية موسى من أ نه تقدم إلى آل فرعون:
{بآياتنا وسلطان مبين }
وإلى أ نه استعاذ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.
أما تفصيلات الموقف الذي واكب طريقة دعوته القوم إلى الإيمان بالله، فقد سكتت القصة عنها تاركة ذلك ـ من جانب ـ إلى القارئ والسامع حتى يستخلص بنفسه ملابسات الموقف ومن جانب ثان لا ضرورة فنية لبعض التفصيلات، ثم من جانب ثالث ـ وهذا ما نعتزم التنبيه عليه ـ تركت القصة بعض تفصيلات المواقف المتصلة بشخصية موسى،... تركتها إلى بطل جديد هو مؤمن آل فرعون حيث نستكشف من خلال التعريف بشخصيته، سمات الموقف الذي واكب تحركات موسى.
وواضح مدى الأهمية أو الإمتاع الفني لهذا النمط من التعريف بالشخصيات و بالأحداث في ميدان اللغة القصصية. وخارجا عن السمة الفنية المذكورة يعنينا أن نشير إلى أن البطل موسى سيختفي من المسرح تماما، وإلى أن بطلا جديدا سيأخذ موقعه، أو يستكمل الدور الذي بدأه موسى في حركة القصة بعامة.
فما هي ملامح هذا البطل الجديد ؟
تبدأ القصة بتعريف البطل الجديد على هذا النحو:
{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه }
أما ماذا قال البطل، فأمر نتحدث عنه فيما بعد، ولكن ما هي سمات هذا البطل الذي قلنا إنه كان في المقدمة من المعارضين لقتل موسى (عليه السلام) وإلى أ نه سيتمم ما بدأه موسى من مهماته التي أوكلتها السماء إليه ؟
إن سمات ثلاثة رسمتها القصة لهذا البطل وهذه السمات:
هي كونه رجلا مؤمنا.
وإنه من آل فرعون.
وإنه يكتم إيمانه.
هنا ينبغي أن نتأمل بدقة الأهمية الفنية الكبيرة لمثل هذا التعريف بالسمات الثلاثة لشخصية البطل الجديد. فهذا التعريف بالبطل يطرح دلالات كبيرة ذات ثراء وغنى، يجدر بنا أن نتمثلها في ميدان الجهاد من أجل الله، وأن نفيد منها في كل تحرك سياسي أو اجتماعي أو فردي تطالبنا السماء به في النطاق الذي يسمه وضع إرهابي خاص، لايسمح الطغاة من خلاله بتحرك الشخصية الإسلامية جهارا، أو في النطاق الذي يحقق فائدة أشد في سرية الموقف منه في جهريته مثلا ولو في موقف دون آخر كما سنرى ذلك مفصلا، عند متابعتنا لسلوك البطل الذي نحن في صدد الحديث عنه.
إن مجرد كون البطل من آل فرعون يعني أن الرهوط أو الأقوام أو الجماعات المفسدة في الأرض، لا يعني انغلاقهم جميعا عن الخير، مادامت التنشئة الاجتماعية الخاصة والفارقية بين الأفراد تحددان نمط السلوك وتعدلان منه، بل وتمحوان الطابع الوراثي المنحرف في حالات خاصة فضلا عن محوهما لأثر البيئة المنحرفة.
إن امرأة فرعون نفسه كانت مؤمنة، فكيف بابن خاله مثلا ؟
إن ملاحظة هذا الجانب يفيدنا في استثمار الشخصيات التي تلفها اسر أو أقوام أو بيئات أو أنظمة منحرفة، وانتشالها ـ سرا أو جهرا حسب ما يستدعيه السياق ـ من الانحراف، ونقلها من الظلمات إلى النور وبخاصة إنها بحكم موقعها من النظام أو الرهط تظل ذات فاعلية أشد من سواها كما هو واضح.
المهم، أن هذه السمة الاجتماعية التي عرفتنا القصة بها، ونعني بذلك: سمة كون هذا المؤمن من آل فرعون تظل ذات فاعلية في حركة الأحداث على ما سنلحظه لاحقا.
وأما سمة كونه مؤمنا، فأمر نسجت القصة صمتا حياله، بما في ذلك نصوص التفسير التي اكتفت بالقول بأ نه كتم إيمانه مدة من السنين دون أن تحدد أولياته.
وحتى السمة الثالثة، ونعني بها: كتم إيمانه لا تتحدث النصوص المفسرة عن ملابساتها بقدر ما تتحدث عن طابعها العام وعن مداها الزمني.
ومن البين ـ من وجهة النظر الفنية الخالصة ـ أن القصة ليست في صدد تحديد أوليات الإيمان أو مداه الزمني بقدر ما تشدد على طابع الكتمان نفسه، نظرا للفاعلية التي ينطوي الكتمان عليها في الحفاظ على حياة الشخصية، وممارسة وظيفتها العبادية ولو في النطاق الفردي من جانب. ثم إمكانات الممارسة الاجتماعية التي ستتاح لهذه الشخصية في تحركها السري الذي يثبت حقا، أو يمسح باطلا، أو يستثمر أفرادا آخرين في نقلهم من الظلمات إلى النور، أو انتظارا لفرصة سانحة من التحرك، على نحو ما سنلحظه من تحرك مؤمن
آل فرعون عندما واجه لحظة حاسمة تتصل بتفكير الطغاة في الإقدام على جريمة قتل لشخصية مصطفاة من السماء.
يبدأ الدور أو الموقع الوظيفي للبطل الجديد: مؤمن آل فرعون، مع الموقف الآتي:
{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه }
{أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟}
{وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم }
{إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب }
{يا قوم: لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض }
{فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ؟}
من هذا الحوار أو الموقف نستخلص جملة من الامور الفنية، منها:
إن فرعون عندما قال:
{ذروني أقتل موسى }
إنما قالها وهو يعتزم التفكير فعلا بقتل موسى. أو إنه كان في صدد الاستشارة أو طلب التأييد لقراره... ولذلك أدلى مؤمن آل فرعون برأيه، متدخلا فيما يبدو حيث كان قد وعد القوم بالنجاة مثلا في حالة إيمانهم بالله وبالعذاب الدنيوي في حالة ركوب الذات.
نفهم هذا من خلال إشارة البطل إلى أن موسى إن يك صادقا:
{يصبكم بعض الذي يعدكم }
أي من العطاء. ونفهمه أيضا من خلال إشارته القائلة:
{فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ؟}
أي من عذاب الله الذي لوح به موسى.
هذه المواقف التي سلكها موسى، لم تسردها القصة عند حديثها عن مواجهته للقوم، وإنما كشف البطل الجديد عنها: مؤمن آل فرعون.
وهذه واحدة من سمات العرض الفني للقصة.
ولكن خارجا عن السمة الفنية المتقدمة، يعنينا أن نتعرف على أهمية هذا الدور أو الموقع الوظيفي للبطل الجديد: مؤمن آل فرعون، من حيث طريقته في التدخل، ومن حيث تدخله الذكي لانقاذ الموقف، ومن حيث انعكاس ذلك على فرعون نفسه، ثم انعكاسه على الأحداث بعامة، فضلا عما رافقته من ملابسات متنوعة.
القارئ أو السامع يتوقع أن فرعون كان جادا في اعتزامه على قتل موسى.
وظاهر القصة القرآنية تعزز مثل هذا الذهاب. بيد أن النصوص المفسرة تلقي بعض الإنارة على الموقف، معللة سبب تردده أو استشارته أو تأجيله لقرار القتل.
تقول هذه النصوص المفسرة بما مؤداه: إن إدراك فرعون بأن قتل الأنبياء وأولادهم لا يمكن أن يجرأ عليه إلا أولاد البغايا...، هذا الإدراك منعه من الإقدام على جريمة القتل. حتى أن هذه النصوص المفسرة تنقل لنا جانبا من وجهات نظر مستشاريه أيضا، حيث اقترحوا على فرعون أن يرجئه وأخاه هارون إلى وقت آخر للسبب ذاته، من أن أولاد السفاح هم الذين يجرأون على قتل الشخصيات العظيمة.
إن هذا يعني ـ على الأقل ـ أن فرعون كان حريصا على سمعته من أن تشوه، وأن يغمز نسبه في حالة إقدامه على مثل هذه الجريمة في قتل الأنبياء أو أولادهم.
وبالفعل، فإن الإقدام على جريمة قتل للشخصيات التي يصطفيها الله، أو للشخصيات العاملة المخلصة في تعاملها مع الله... إن الاجتراء على قتل مثل هذه الشخصيات في أي زمان ومكان لا يمكن أن يصدر إلا من سيكوباتيين منحرفين، لو فتشت ملفاتهم الخاصة، لوجد أنهم ولدوا من أب غير شرعي.
والتاريخ يحدثنا قديما وحديثا عن أمثال هؤلاء المنحرفين الذين تحكموا في غفلة من الرقابة في مصائر الشخصيات المصطفاة، أو المخلصة المنتسبة إلى مبادئ السماء، فأقدموا على جرائم القتل دون أن يبالوا حتى بسمعتهم التي يعرفها الداني والقاصي، ودون أن يعنيهم أنهم من أب شرعي أو غير شرعي. وأيا كان فإن ملابسات الموقف المتصل بالتفكير في جريمة القتل، تبين لنا أن فرعونلم ينفذ قراره بنحو عاجل، بل لف الموقف تردد وتأجيل واستشارة ومدارسة،...
كان من آثارها هذا التدخل من قبل البطل الجديد: مؤمن آل فرعون، فيما آن أن نتبين تفصيلاته.
إذا كان الإقدام على جريمة قتل لايصدر إلا عن أولاد السفاح، فإن التدخل للحيلولة دون وقوع الجريمة يكشف عن صفة مضادة تماما، بمعنى أن السكوت على جريمة قتل مع إمكان التدخل يعد سمة مشابهة للسمة الانحرافية التي تطبع القتلة...
من هنا، نظرا للنظافة والنقاء اللذين يطبعان مؤمن آل فرعون، وجد هذا البطل الذي كتم إيمانه مدة طويلة من الزمن،... وجد أن السكوت على جريمة قتل يعد مساهمة في الجريمة، ولذلك تدخل مباشرة للحيلولة دون تنفيذ الجريمة،...
وهذا ما يفسر لنا ـ من الزاوية الفنية والنفسية ـ أسباب تدخل هذا البطل...
بيد أن البطل الجديد، وهو يتسم بنضج الشخصية، وبالحكمة، وبالذكاء الاجتماعي، وبالموقف الفقهي السليم،... لم يتدخل بشكل عاطفي أو ساذج، بل بنحو ذكي قائم على المحاجة التي تقطع على الآخرين حججهم، بغض النظر عن النتائج النهائية التي ترددت النصوص المفسرة في تحديدها، الذاهب إلى أن البطل قد نجا مع موسى في عبور البحر، أو نجا من محاولة قتل خططت له...
وبعامة، فإن مناقشته للقوم أخذت بنظر الاعتبار مصلحة القوم أنفسهم، حيث تحرك من خلال عواطفهم ورغباتهم،... قال لهم:
{لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض }
أي: أقرهم على السلطة التي يتمتعون بها، وحذرهم من زوالها في حالة صدق الكلام الذي توعدهم به موسى من نزول العذاب. مثلما أقرهم بعامة على المعطيات التي يرغبون إليها، فيما بشرهم بها موسى في حالة إيمانهم بالله، في قوله:
{وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم }
والمهم أن اسلوب تدخله قد اتسم بالنضج وبالحكمة وبالضرب على رغباتهم ذاتها.
والسؤال هو: ما هو رد فعل فرعون حيال هذا التدخل أو النصيحة ؟
ثم: ما هي معطيات هذا التدخل في نطاق العمل من أجل مبادئ السماء ؟
أما معطيات هذا التدخل، فسنوضحها في حينه عبر متابعة المواقف المتنوعة التي سلكها البطل في الأجزاء اللاحقة من القصة.
وأما رد فعل فرعون حيال هذه النصيحة، فتوضحه الفقرة الحوارية الآتية:
{قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد }
وهذا يعني أن فرعون لايزال عند قراره السابق، وعند نطاق ذات اللغة المضللة التي تتحدث كذبا وافتعالا عن الهداية والرشاد ونحوهما من المنطق المضلل.
بيد أن القصة تقف عند هذا الحد من رد الفعل لدى فرعون، دون أن تفصل في عرض قراراته العملية في هذا الصدد.
ثم تبدأ بعرض مواقف جديدة للبطل: مؤمن آل فرعون، على نحو ما ستتحدث عنه لاحقا.
غير أن السؤال ـ من وجهة النظر الفنية ـ هو:
لماذا سكتت القصة عن تحديد العمل الذي سيتخذه فرعون حيال موسى ؟
هل إ نه هم بقتله ؟ هل إنه أرجأه لوقت آخر ؟
كل ذلك سكتت القصة عنه وتابعت حديثها عن مواقف البطل: مؤمن آل فرعون... فما هو السر الفني وراء ذلك ؟
مسرحة القصة
الملاحظ، أن قصة مؤمن آل فرعون خضعت لهيكل قصصي خاص قائم على مسرحة القصة، فيما يتصل بالحوار الذي أجراه كل من بطلي القصة: المؤمن وفرعون. فمؤمن آل فرعون يتحدث مع قومه ثلاث مرات أو أكثر، حيث يتخلله حديث فرعون مع قومه أيضا أكثر من مرة.
مؤمن آل فرعون يخاطب قومه، قائلا: لاتقتلوا موسى!! ثم يسكت.
ويجيء فرعون في هذه اللحظة، ليقول: الرشاد هو في قتل موسى.
إلى هنا يبدو وكأن الحوار جار بين المؤمن وفرعون، ولكن من خلال مخاطبة القوم وليس حوارا مباشرا بينهما.
ثم يعود البطل مؤمن آل فرعون إلى مخاطبة القوم، مذكرا إياهم بهلاك القرون الماضية. ثم يسكت المؤمن.
ويجيء فرعون ليخاطب وزيره هامان، قائلا له: ابن لي صرحا حتى أطلع على إله موسى. ثم يسكت فرعون.
ويعود المؤمن ليتحدث من جديد، قائلا لقومه: إتبعون، أهدكم سبيل الرشاد...
إلى آخره.
إن هذا الحوار المقسم إلى أجزاء كان من الممكن أن يصاغ مرة واحدة وينتهي الأمر، وبخاصة أن المؤمن وفرعون لم يتحدثا مباشرة حتى يتطلب الأمر سؤالا وجوابا وتعددا للحوار، وإنما يتحدثان مع قومهما، حتى ليبدو أحيانا أن كلا منهما لا علاقة لحديثه بحديث الآخر.
فمثلا كان مؤمن آل فرعون يتحدث عن هلاك القرون الماضية: أقوام نوح وعاد وثمود. وإذا بالقصة تقطع سلسلة حديثة لتفسح المجال لفرعون، ولكن ماذا قال فرعون ؟
طلب فرعون من وزيره هامان أن يبني له صرحا ليطلع إلى إله موسى.
فالملاحظ عدم وجود علاقة ظاهرة بين حديث المؤمن وفرعون. المؤمن يتحدث عن تجارب الأقوام البائدة وفرعون يتحدث عن بناء صرح.
ثم عاد المؤمن إلى الحديث من جديد، ولكن بنحو لا علاقة له أيضا بحديث فرعون حيث خاطب القوم، قائلا:
{اتبعون أهدكم سبيل الرشاد }
إذن تقطيع الحوارات بهذا النحو دون أن تكون بين البطلين المؤمن والكافر مناقشة تتطلب تقطيع الحوار بهذا الشكل،... لابد أن ينطوي على سر فني له خطورته. وإلا لم كانت هذه القصة دون سواها من القصص التي وقفنا عليها تنفرد بهذا الشكل من الحوار المقسم إلى أجزاء، دون أن تكون علاقة ظاهرة بين الحوارات التي يقاطعها المؤمن حينا، ويقاطعها فرعون حينا آخر، وأحدهما لا يواجه الآخر ؟
من وجهة نظرنا الفنية، أن هذه القصة ـ قصة ممسرحة ـ إذا صح لنا استخدام مثل هذه اللغة.
فمن المألوف في حقل الأدب القصصي أن بعض القصص تصاغ لكي تقرأ فحسب، وبعضها يصاغ ليمثل على خشبة المسرح.
طبيعيا ثمة فارق بين القصة وبين المسرحية، لا يعنينا الآن ملاحظة الفوارق الكبيرة بينهما. وهذا المائز بين الشكلين القصصي والمسرحي لا علاقة له بالقصة ذات الطابع المسرحي في مشاهدها: جزئيا أو كليا. وبكلمة اخرى أن النص الذي بين أيدينا يظل نصا قصصيا وليس نصا مسرحيا، كل ما في الأمر أن بعض أو غالبية هذا النص صيغ وفق بعد مسرحي يتطلبه الموقف.
ويمكننا تخيل هذا الموقف على النحو الآتي:
هناك قاعة اعدت لعقد اجتماع يحضره فرعون وهامان وسائر وزرائه وكبار الموظفين وربما حشد من الجمهور أيضا.
ويحضر هذا الاجتماع أيضا، مؤمن آل فرعون بصفته أحد كبار موظفي الدولة.
يفتتح الاجتماع فرعون، مقترحا على الحاضرين قتل موسى (عليه السلام).
ويتدخل مؤمن آل فرعون في الأمر، مدليا برأيه في هذا الصدد. مشيرا إليهم بعدم قتله.
لكن فرعون يقاطعه، أو يعقب على رأيه مبينا أن الرشاد هو في قتل موسى.
وهنا يعود المؤمن إلى الكلام ثانية، موجها كلامه إلى الحاضرين، مذكرا إياهم بحوادث القرون الغابرة وما أصاب أقوام نوح وعاد وثمود من الإبادة، نتيجة لاصرارهم على الكفر.
ثم يكف المؤمن عن الكلام،... ويعود فرعون من جديد متحدثا مع القوم، وكأ نه يريد التعريض بشخصية المؤمن، وبتخطئة آرائه، أو كأ نه يريد السخرية منه ونقل الحديث إلى وجهة اخرى فيخاطب وزيره هامان قائلا له: إبن لي صرحا لأصعد نحو السماء وأنظر إلى إله موسى.
لكن المؤمن وهو يدرك سخف الحديث الذي شغل به فرعون أذهان الحاضرين يعود ثالثة إلى الحديث مخاطبا الحاضرين:
{يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد }
ثم يستمر في كلامه المخلص الجاد على عكس فرعون الذي شغل الحاضرين بالسخرية والهزل والكلام الفارغ...
ثم ينفض الاجتماع بعد أن ينهي المؤمن كلامه.
وبعد ذلك تأخذ القصة منعطفا آخر...
المهم أن القصة من وجهة نظرنا الفنية الخاصة كانت في صدد نقل وقائع الاجتماع الذي حضره فرعون وهامان والمؤمن وسائر الأشخاص المعنيين بهذه القضية.
ولذلك جاء عنصر الحوار مقطعا إلى شرائح، كان فرعون نظرا لشخصيته المفسدة، الممزقة، المريضة سببا في عدم انتظامه في سؤال وجواب منطقيين، أو في مناقشة سليمة مترابطة الحلقات، بل حاول تمييع القضية ونقلها من صعيد الجد إلى صعيد الهزل، على النحو الذي نقلته القصة مفصلا.
وهذا ـ مثلما قلنا ـ يفسر لنا أسرار صياغة الحوار، وكأنه لا علاقة بين مفرداته،... لا علاقة بين طرفي السؤال والجواب فيه و... لا علاقة بين تقطيعه إلى أجزاء... إلى آخره.
ومن البين أن هذا النحو من صياغة الحوار الذي فرضته طبيعة الاجتماع أو الجلسة التي عقدها كبير المفسدين في الأرض: فرعون،... هذا النحو من صياغة الحوار يظل حيا في غاية الحيوية، ممتعا كل الإمتاع، يشع بحركة الواقع بكل بساطته وتعقيده في آن واحد... إنه ينقل وقائع الاجتماع أو الجلسة بتناقضاتها التي يجسدها فرعون وبجديتها التي يجسدها مؤمن آل فرعون. ينقلها لا بنحو مباشر وكأن الأمر مسرح وجمهور، بل ينقلها بنحو غير مباشر ومن خلال شكل قصصي لا مسرحي... ينقلها من خلال صياغة خاصة للحوار تنفرد عن الصياغة المألوفة للحوار في القصص القرآنية الاخرى، حتى يدفعنا ـ نحن القراء والسامعين ـ إلى استخلاص واستنتاج حركة جديدة داخل القصة، هي: وجود جلسة أو اجتماع خاص أو جماهيري فرضته ظروف معينة، وطبعته ملامح خاصة على النحو الذي سنفصل الحديث عن نتائجه.
لحظنا مفصلا بناء القصة قصة مؤمن آل فرعون والسمات الفنية التي طبعتها، عبر الحوار المسرحي الذي أجراه كل من المؤمن وفرعون، ووجهاه إلى القوم في الاجتماع الذي عقد لدراسة القرار المتصل بقتل موسى (عليه السلام).
والآن نتابع تفصيلات هذا الحوار الذي خصصت القصة غالبيته للبطل: مؤمن آل فرعون وخللته تعليقات عابرة لفرعون.
قال البطل مؤمن آل فرعون ـ بعد أن وجد أن فرعون راكب رأسه ـ موجها خطابه إلى القوم، مستخدما لغة الثواب والعقاب الدنيويين والاخرويين معا، بعد أن كان في خطابه الأول يحوم على الحيلولة دون تنفيذ القرار بقتل موسى.
ولكن بعد أن وجد أن فرعون لم يأبه لنصيحته، واصل خطابه إلى القوم، مذكرا إياهم بمصائر الأقوام البائدة وبالمصير الاخروي الذي سيلحق قومه في حالة إصرارهم على الكفر:
{وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب }
{مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم }
{وما الله يريد ظلما للعباد }
{ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين }
{ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد }
هنا يشدد البطل على شخصية أحد الرسل بالذات، وهو يوسف (عليه السلام)، مذكرا قومه بموقف الأقباط من رسالة يوسف، وتشكيكهم بها:
{ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات }
{فما زلتم في شك مما جاءكم به }
{حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا }
{كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب }
{الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم }
{كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا }
{كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }
السؤال هنا: ما هو الموقع الفني لهذا التذكير بشخصية يوسف دون سواه ؟
إن القضية متصلة بالأقباط وبقوم موسى، وقد كان يوسف بالذات كما تقول بعض النصوص قد نبه قومه حين حضرته الوفاة على الشدائد التي سيواجهونها في المستقبل.
وهذا يعني أن تذكير البطل: مؤمن آل فرعون بشخصية يوسف ينطوي على عنصر فني ونفسي واضح الصلة بالموقف الجديد. فقد تحققت نبوءة يوسف، حيث قتل الرجال، وذبحت الأطفال، وبقرت بطون الحبالى على النحو الذي نعرفه من تعامل الأقباط مع الإسرائيليين.
ونحن ينبغي أن نلفت الانتباه إلى القصة القرآنية عندما تذكر بإنقاذ قوم من قوم، إنما تستهدف تحذيرهم من جانب وترسم لهم ـ في حالة عدم اتعاظهم بهذا التذكير ـ مصيرا مماثلا للبائدين.
فقد لحظنا مثلا في إحدى قصص موسى (عليه السلام)، تشدد القصة على النعم التي أغدقتها السماء على الإسرائيليين وفي مقدمتها إنقاذهم من الأقباط. بيد أن الإسرائيليين كفروا بالنعم وركبوا رؤوسهم حتى فاقوا بجرائمهم جرائم مضطهديهم، بحيث رسمت السماء ـ في القصة المشار إليها ـ مصائر سوداء تتناسب مع حجم الجرائم التي ارتكبها الإسرائيليون، مما يعني أن تذكيرهم بالنعم من وجهة النظر الفنية يقترن بمصير يرسم لهم في نهاية المطاف، جزاء للكفران بالنعم.
هنا، في قصة مؤمن آل فرعون تأخذ القصة وجهة اخرى في عملية التذكير بالماضي، ليس هدفها محكوما بذات الطابع الذي يعتزم رسم مصير خاص لهذا الرهط أوذاك، بل هدفها التحذير فحسب، حتى تحمل القوم على الإيمان بالله.
وفعلا، فإن الإيمان برسالة السماء عصرئذ وجد سبيله عبر أعداد كبيرة لايعنينا الآن الحديث عنها، مادامت القصة في صدد هدف آخر.
المهم أن تذكير البطل: مؤمن آل فرعون بشخصية يوسف دون سواه من الشخصيات، يظل حاملا خصيصة فنية ونفسية ذات صلة بنبوءة يوسف من جانب وبتشكيكهم بعد وفاته (عليه السلام) بالرسل من جانب آخر:
{حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا }
وصلة اولئك جميعا بعملية التشكيك الذي يحياه القوم حاضرا، عندما جاءهم موسى برسالته.
عندما كان البطل مؤمن آل فرعون يواصل في الاجتماع الذي حضره فرعون وهامان وسائر القوم، عندما كان البطل يواصل تحذيره، كان فرعون يطلب من وزيره هامان بناء صرح ليطلع على السماء...
{وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا }
بيد أن البطل لا يلتفت إلى الاقتراح السخيف الذي كشف المزيد من صلف فرعون، بل واصل حديثه الذي يحمل في طياته ردا غير مباشر على فرعون...
ومن وجهة النظر الفنية فإن مؤمن آل فرعون عندما ختم كلامه السابق بقوله:
{كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }
أو في حالة الذهاب إلى أن هذه الفقرة تعقيب من السماء وليس من البطل...
يبدو أن اقتراح فرعون السابق جسد تطبيقا عمليا لقوله: إن الله يطبع على كل قلب متكبر جبار. بحيث لم تعد هناك أ ية إمكانية لهداية هذا الضال.
ألم يكشف فرعون بنفسه ـ من خلال اقتراحه السخيف ـ من أ نه قد طبع على قلبه فعلا ؟
المهم أن البطل مؤمن آل فرعون لم يلتفت لمثل هذا الاقتراح السخيف ـ بناء الصرح ـ، بل واصل خطابه إلى القوم، مضمنا ذلك ردا غير مباشر على فرعون:
{وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد }
{يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار }
لا يغب عن بالنا أن فرعون ـ في الاجتماع المذكور ـ سبق أن وجه خطابا إلى القوم، زعم فيه أ نه يهديهم إلى سبيل الرشاد.
{ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد }
لكن القصة ـ فنيا ـ ترد على الزعم المذكور موضحة على لسان بطلها مؤمن آل فرعون: أن الرشاد، هو في اتباع مبادئ السماء.
ولنتابع خطاب البطل:
{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار }
{تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم }
{وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار }
{لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة }
{وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار }
{فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد }
بهذه الفقرات ينتهي خطاب البطل: مؤمن آل فرعون، ثم تأخذ القصة منعطفا آخر... وهنا ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أهمية هذه الفقرات التي اختتم البطل بها خطابه، من حيث انطواؤها على سمات وخصائص فنية، ستعكس آثارها على حركة القصة ومصير البطل، فضلا عن المصائر التي ستلحق قومه على نحو ما سنفصله إن شاءالله.
كانت الكلمات الأخيرة التي ألقاها البطل: مؤمن آل فرعون في الاجتماع الذي حضره فرعون وكبار قومه... كانت هذه الكلمات التي أنهى بها البطل خطابه للقوم، ذات دلالة ومغزى كبيرين، فيما يتصل بحركة القصة وما تموج به من أحداث في المستقبل، سواء أكان هذا المستقبل خاصا ببيئة الدنيا، أم بها وببيئة الحياة الاخرى أيضا. وسواء أكان متصلا بمصير شخصية البطل نفسه، أم بمصير آل فرعون.
إن الأهمية الفنية لهذه الكلمات التي أنهى البطل بها خطابه من حيث البناء العضوي للقصة وتلاحم خطوطها الهندسية، تتمثل في كونها قد حملت القارئ أو السامع على أن يمارس عملية التنبؤ بمصائر الأحداث. بعضها يكاد يبين للقارئ والسامع، وبعضها يلفع بشيء من الغموض.
بعضها محفوف بالتوجس والتخوف على مصير البطل، وبعضها مصحوب بمشاعر الرثاء والإشفاق على مصائر القوم الذين لم تجدهم النصيحة...
المهم أن عنصر التشوق، لما ستسفر عنه الأحداث قد لا يبين للقارئ أو السامع العاديين، لكنه ـ بالنسبة للقارئ الذكي الذي يخبر أساليب الفن القصصي يظل الأمر معكوسا تماما، طالما يعرف أن لكل كلمة يلقيها البطل ولكل إشارة يلوح بها مغزى ودلالة، وبخاصة أن البطل لم يكن مجرد شخصية عادية، بل شخصية آمنت بالله مبكرا حتى أن النصوص المفسرة أشارت إلى أن هذا البطل واحد من أربعة أشخاص في التاريخ، يجسدون دلالة قوله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون}
أي أنهم في مقدمة السابقين إلى الإيمان في ظروف لم يتح لأي رجل أن يحالفه مثل هذا التوفيق.
على أ ية حال، مثل هذه الشخصية الكبيرة التي أحاطها الله برعايته، لابد ـ حينما تحذر وتلوح بشيء ـ أن يكون لتحذيرها ولتلويحها بهذا الشيء أو ذاك، أثره في حركة القصة ومستقبل أحداثها.
والآن لنتعرف على الدلالات التي تضمنتها كلمات البطل في ختام الجلسة أو الاجتماع الذي عقد لمناقشة قرار القتل المتصل بموسى (عليه السلام)، وملابسات الرسالة التي جاء بها وكلف ـ من قبل الله ـ بتوصيلها إلى فرعون وقومه.
قال البطل، مؤمن آل فرعون:
{يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار }
وهذه هي الفقرة الاولى من الفقرات التي نتوقع ـ من الزاوية الفنية ـ أن تكون لها انعكاساتها على مصائر القوم.
وقال البطل أيضا:
{فستذكرون ما أقول لكم }
وهذه هي الفقرة الثانية التي تحمل وقع الصاعقة على النفوس، نظرا لما تـتـضمنه من تلويح بما سيكون.
وقال البطل في آخر كلمة صدرت منه:
{وأفوض أمري إلى الله...}
وهذه الفقرة تحمل القارئ والسامع على أن يتوقع ملاحقة الطغاة لهذا البطل.
لكنه ـ أي القارئ أوالسامع ـ يطمئن في الآن ذاته إلى أن السماء ستكون عند حسن ظن البطل وإلى أنها ستحيطه برعايتها العظيمة.
والآن بعد تأملنا لهذه الكلمات الثلاث:
1 ـ {ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار }.
2 ـ {فستذكرون ما أقول لكم }.
3 ـ {وأفوض أمري إلى الله }.
بعد تأمل هذه الكلمات الثلاث: يتوقع القارئ ـ من وجهة النظر الفنية ـ أن تنعطف القصة نحو ترتيب الآثار عليها.
وفعلا، وبطريقة مدهشة وسريعة: تنهي القصة مصير آل فرعون دنيويا،...
وتنقذ البطل من مكرهم. فقد عقبت القصة مباشرة على كلمات البطل، قائلة:
{فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب }
إن هذه الكلمات... حسمت كل شيء، وأنهت فنيا كل مصير يتصل بحياة البطل وبحياة آل فرعون في هذه الحياة الدنيا.
وستعرض القصة بعد ذلك مباشرة، مصير آل فرعون في بيئة البرزخ، ثم في بيئة النار على نحو ما سنفصل الحديث عنه لاحقا.
لكننا ـ قبل ذلك ـ ينبغي ألا نمر عابرا ـ دون التذكير من جديد ـ بالعلاقة العضوية بين كلمات البطل وبين مصائر القوم، ومصير البطل نفسه، ثم استخلاص بعض الدلالات الفكرية التي ينبغي أن نفيد منها في تعاملنا الدنيوي.
فيما يتصل بمصير البطل: مؤمن آل فرعون، قال هذا البطل:
{وأفوض أمري إلى الله }
وسرعان ما أجابته السماء، فحققت حسن ظنه بالله، فقالت:
{فوقاه الله سيئات ما مكروا }
عند هذه الدلالة ينبغي أن نقف، ولو عابرا.
فبغض النظر عن السمة الفنية التي كشفت عن وجود علاقة بين خطاب البطل الذي وجهه إلى القوم، وبين تعقيب القصة عليه... بغض النظر عن السمة الفنية المذكورة... يعنينا أن نشدد على دلالتها الفكرية.
إن هذا البطل الذي كتم إيمانه سنين طويلة، لأسباب تتعلق بمبدأ التقية التي تفرض مثل هذا الكتمان، بغية الحفاظ على استمرارية العبادة حينا، واستثمارها في الوقت المناسب حينا ثانيا، والتخطيط للثورة حينا ثالثا...
أقول: إن هذا البطل الذي كتم إيمانه للأسباب المتقدمة التي فرضتها التقية ـ وتفرضها طبيعة العمل السري الذي تمارسه الحركات التحررية ـ هذا البطل يعلن فجأة عن هويته في الوقت المناسب، ولكن وفق اسلوب نفسي ذكي بدأه أولا بنحو يبدو وكأ نه شخص محايد، حيث قال للطغاة:
{أتقتلون رجلا أن يـقول ربي الله }
ثم أبدى حرصا أو تعاطفا مع مصالحهم أنفسهم، حينما قال لهم:
{لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض }
{فمن ينصرنا من بأس الله }
وقبل ذلك هون من أهمية القضية حينما قال لهم:
{وإن يك كاذبا فعليه كذبه }
{وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم }
فهذا الاسلوب هون من أهمية القضية من جانب، ثم ربطها بمصلحة القوم من جانب ثان في حالة صدق موسى بدعواه، مما يجعل القوم ـ دون أدنى شك ـ مطمئنين إلى مشاعره حيالهم... ثم تدرج البطل في تصعيد الموقف من خلال تذكيرهم بالأقوام البائدة، ثم بشخصية يوسف وتشكيكهم برسالته... حتى انتهى الأمر أن يعلن بصراحة عن هويته الحقيقية، وإلى أن يتحدث بنفس اللهجة الصريحة التي حدثهم موسى بها، لغة المواجهة المباشرة مع الطغاة، ولكن من خلال لغة الحب الذي تحمله رسالات السماء كلها، مشفوعة بلغة التهديد التي تظل حائمة على الحب أيضا، مادامت تقتاد إلى الإيمان وما يحققه من معطيات دنيوية واخروية للقوم.
المهم، أن البطل بدأ من التقية وتدرج إلى الحياد وانتهى إلى المواجهة الصريحة، حتى وصل الأمر إلى أن يتوقع البطل إلقاء القبض عليه أو قتله،...
وعندها هتف قائلا:
{وأفوض أمري إلى الله }
إن ما يعنينا من هذا: جانبان. الإفادة من كتمان الموقف، وسريته واستثماره في الوقت المناسب بطريقة ذكية، وليس بطريقة عاطفية أو ساذجة أو مغفلة لا تأخذ بنظر الاعتبار ظروف الموقف. ثم أهمية التفويض إلى الله في حالة المواجهة المباشرة.
لقد أنهت قصة مؤمن آل فرعون، أنهت مصير كل من البطل المؤمن ومصائر أعدائه، فبالنسبة إلى المؤمن سكتت القصة عن تحديد تفصيلات مصيره. بيد أن القصة لوحت بنجاته دنيويا حينما قالت:
{فوقاه الله سيئات ما مكروا }
والمهم ـ من الناحية الفنية ـ أن القصة ربطت بين تفويض البطل أمره إلى الله، وبين وقاية الله للبطل سيئآت ما مكروا به.
ليست القصة في صدد نمط الطريقة التي نجا البطل من خلالها وإنما في صدد النجاة نفسها، ولذلك نسجت القصة صمتا حيال الطريقة التي نجا بها.
وهذا هو المسوغ الفني لعدم الدخول في تفصيلات المصير الذي آل البطل إليه.
أما النجاة من سيئات آل فرعون فهو ما تستهدف القصة لفت انتباهنا إليه مادام البطل قد فوض أمره إلى الله.
ودلالة تفويض الامور إلى الله هي التي ينبغي أن نفيد منها في هذه الشريحة من القصة، بعد أن أفدنا من دلالة التقية ودلالة المواجهة المباشرة مع الأعداء ومعطياتهما في ميدان الجهاد.
إن التفويض إلى الله، يعني أن المجاهد في سوح القتال، أو ميدان الفكر، أو في حقل الجهاد الذاتي، أو مطلق التعامل مع الله... يعني أن السماء تنقذ عبادها من الشدائد التي يواجهونها، حتى لو اطبقت السماء على الأرض، شريطة أن يكون التفويض إلى الله نابعا من أعماق مخلصة، وأن يكون مقترنا بالاخلاص في الممارسات العبادية بعامة. وهو ما لحظناه في ممارسات البطل مؤمن آل فرعون، فهو قد كتم إيمانه من أجل الله وتدخل في قضية قتل موسى (عليه السلام) من أجل الله، ونصح قومه من أجل الله، وتوعدهم ـ دون أن يبالي حتى بالموت ـ من أجل الله...
إنه...، فوض أمره إلى الله في تحديد مصيره... وكان الله في حسن ظنه، حيث وقاه سيئآت ما مكروا، وحاق بآل فرعون العذاب.
ونتجه الآن إلى مصير آل فرعون...
القصة أجملت أيضا مصير الطغاة، مكتفية بقولها:
{وحاق بآل فرعون سوء العذاب }
موازنة برسم هذا المصير بين البطل الذي أنقذته السماء دون أن تذكر تفصيلات إنقاذه، وبين انتقام السماء من الأعداء دون أن تذكر تفصيلات الانتقام أيضا...
المهم هو: هذه الموازنة الهندسية بين مصير كل من طرفي الصراع: الحق والباطل.
بيد أن الملاحظ، أن القصة لازالت في نطاق الرسم المتصل بالمصير الدنيوي لآل فرعون.
وقد سبق القول ـ في مقدمة دراستنا لهذه القصة ـ : إن البيئة التي تحركت القصة من خلالها، تنتظمها ثلاث بيئات: بيئة الدنيا، بيئة البرزخ، وبيئة الحياة الآخرة.
وهذا يعني أن هناك بيئتين لا تزالان في انتظار آل فرعون، هما بيئة البرزخ أو القبر وبيئة جهنم.
لكننا قبل أن نتحدث عن هاتين البيئتين، يجدر بنا أن نصل بينهما فنيا وبين الكلمات الأخيرة التي أنهى بها البطل مؤمن آل فرعون خطابه إلى القوم...
قال البطل في خطابه:
{وأفوض أمري إلى الله }
وجاء الجواب في الجزء اللاحق من القصة:
{فوقاه الله سيئات ما مكروا }
وقال البطل:
{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ؟}
وقال أيضا:
{فستذكرون ما أقول لكم }
إن قول البطل: {فستذكرون ما أقول لكم} وقوله: {أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار} ينطويان على حقيقة فنية بالغة الخطورة، متمثلة في انعكاس هذين القولين على مصائر آل فرعون في الدنيا وفي الآخرة بخاصة، أي بمصير آل فرعون في بيئة البرزخ وفي بيئة جهنم.
وبكلمة اخرى: إذا استخدمنا لغة النقد القصصي ،يمكننا أن نذهب إلى أن الفقرتين اللتين أنهى البطل بهما خطابه قد أنميا حركة الأحداث وطوراها عضويا، بحيث كان لهما تأثير سببي على تلوين الأحداث المقبلة، وتطبيعهما بهذا المصير أو ذاك.
وبالفعل فإن النار التي دعا القوم: البطل إليها،... والنجاة التي دعا البطل: القوم إليها... هذه الدعوة قد تجسدت نجاة فعليا للبطل، وتجسدت عقابا فعليا لآل فرعون. مضافا لذلك، قال البطل:
{فستذكرون ما أقول لكم }
وها هي أحداث القصة تحقق نبوءات البطل وتذكر القوم فعلا بنصائح البطل...
ولكن بعد فوات الأوان...
والآن لنعرض بيئتي البرزخ واليوم الآخر وعلاقتهما بقول البطل:
{وأن المسرفين هم أصحاب النار }
وبقوله:
{فستذكرون ما أقول لكم }
ومما لا شك فيه، أن الطغاة سيتذكرون ما قاله البطل لهم،... ومما لا شك فيه أيضا، أنهم نتيجة لإسرافهم أصبحوا من أصحاب النار كما تنبأ البطل بذلك.
وها هي بيئة البرزخ تخلع أفئدة الطغاة، ليل نهار...
ولنقرأ:
{النار يعرضون عليها غدوا وعشيا }
وها هي بيئة اليوم الآخر يواجهون الأمر بالدخول إلى جهنم التي عرضوا عليها في حياة القبر غدوا وعشيا:
{ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }
ونتساءل عن السمة الفنية التي سوغت عرض بيئة البرزخ أولا، ثم بيئة النار، وبخاصة الفقرة القائلة:
{أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }
ولسوف نرى في القسم الأخير من القصة موقفا خاصا لآل فرعون في بيئة النار، تعرض من خلاله مناقشات القوم فيما بينهم ومعاتبة البعض للبعض الآخر، فيما تعكس جانبا آخر من أحداث القصة في العلاقة العضوية القائمة بين سلوكهم في الدنيا وانسحابه على الموقف الاخروي،... فضلا عن انسحابه على نمط تعاملهم مع البطل: مؤمن آل فرعون.
ونحن قبل أن نتحدث عن السمة الفنية التي انطوى عليها عرض البرزخ، ثم الأمر بالدخول إلى (أشد العذاب)... ثم عرض بيئة النار ذاتها عبر المناقشات التي سيتوفر عليها آل فرعون في تلك البيئة...
قبل أن نعرض لهذا كله، ينبغي أن نشير إلى أن البطل: مؤمن آل فرعون، سيختفي من المسرح تماما،... كما اختفى من قبل موسى (عليه السلام)... وسيكون هذا القسم الأخير من القصة مخصصا لآل فرعون فحسب في بيئة ما بعد الحياة الدنيا.
ونحن لا نحتاج لطرح أي سؤال فني يختص بالتعرف على سبب اختفاء البطل من مسرح الأحداث،... ما دمنا قد أوضحنا أن البطل قد انتهى موقعه مع انتهاء رسالته التي نهض بها في مقارعة الطغاة في الحياة الدنيا.
أما الحياة الآخرة، فإن صلتها بالبطل ستظل في نطاق آخر هو: انعكاس أقواله ونصائحه وتنبؤاته على مصائر آل فرعون، حينما قال لهم:
{ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار }
وحين أكد لهم:
{وأن المسرفين هم أصحاب النار }
وحينما نبههم بهذه الكلمة الرائعة:
{فستذكرون ما أقول لكم }
إنهم سيتذكرون وهم في القبر...، وهم في الموقف...، وهم في النار...
نصائح البطل، واستكبارهم، ولكن بعد فوات الأوان.
لقد أطال مؤمن آل فرعون، خطابه الموجه إلى قومه...
وهذه الإطالة لابد أن تتضمن سرا...
أما طرف الصراع الآخر وفي مقدمته فرعون، فكانت ردود فعله، سخرية، واستكبارا، وإمعانا في ركوب الذات...
من هنا نتوقع ـ وبخاصة أن تنبؤات البطل المؤمن قد لوحت بذلك ـ أن يطول الحساب مقابلا لإطالة الكلام، والنصيحة والحب والتوعد،... حتى يتحقق التوازن الفني بين حجم النصيحة التي قدمها البطل، وحجم العقاب المترتب على رفض آل فرعون لتلك النصيحة التي قدمها المؤمن ومن قبله موسى (عليه السلام).
لقد عرضت القصة مرأى أو بيئة البرزخ بالنسبة إلى آل فرعون بشكل يتناسب مع حجم المواقف التي صدرت عنهم. لقد قتلوا الرجال واستحيوا النساء وذبحوا الأطفال،... مضافا إلى أ نهم ركبوا رؤوسهم وأصروا على الاستكبار بالرغم من النصائح التي قدمها ليس شخصية من غير رهطهم مثل موسى (عليه السلام) فحسب، بل فتى من رهطهم أنفسهم ومن داخل المنظومة الحاكمة، بل من المتصلين بنسب قريب إلى فرعون، وهو: البطل: ابن خال فرعون حسب بعض النصوص المفسرة.
مع ذلك كله، أصر القوم على العناد بحثا وراء شهوة الحكم والتسلط على رقاب الناس.
لقد بلغ الصلف، والغرور، والحماقة بفرعون إلى أن يطلب من وزيره الهزيل هامان أن يبني صرحا له، لعله يطلع على السماء،... ساخرا بذلك منها... حينئذ ماذا نتوقع من المصير لمثل هذا الطاغية، ولجماعته الحاكمة، ولقومه المتسلطين...
حتى الرعاع،... حتى الضعاف من رعيته، كان يبهرهم سلطانه الزائف، فانقادوا إليه وإلى كبراء قومه بحثا وراء مكاسب رخيصة، مؤثرين الحياة الدنيا على الآخرة... مؤثرين السلامة والعافية على الجهاد من أجل الله، مع أ نهم بمرأى ومسمع من الآخرين الذين انصاعوا لنداء الحق، وآمنوا بالله وتحملوا ما تحملوا من الشدائد انتصارا لله...
إذن البحث وراء شهوة الحكم، وإيثار السلامة والعافية، بالرغم من وضوح الحق وإطالة النصيحة، لابد أن تقتاد هؤلاء إلى مصير يتناسب هوله مع نمط المتاع الدنيوي الذي تحمسوا له. هذا المتاع قد لف في لحظات، وانفلت منهم مع حادثة الغرق التي سلمتهم إلى أعماق البحر.
لكن البحر سلمهم إلى حرارة النيران،... سلمتهم المياه الباردة إلى معرض النيران اللافحة...
ها هم بعد أن طواهم البحر،... إذا بهم يواجهون:
{النار يعرضون عليها غدوا وعشيا...}
وذلك كله، قبل أن تقوم الساعة.
وتقوم الساعة... وآل فرعون وسائر الطغاة قديما وحديثا، ممن تحكموا في رقاب الناس وذبحوا الرجال واستحيوا النساء وأبادوا الأطفال، وبحثوا وراء شهوة الحكم، وانقادوا ـ مثل الخراف ـ لرؤسائهم، وسكتوا عن الحق، وآثروا السلامة والعافية... حين تقوم الساعة... يهتف هاتف:
{أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }
وآل فرعون نموذج واحد فحسب،... وهناك عشرات النماذج ممن لفظهم التأريخ قديما وحديثا: سيهتف هاتف بنفس اللغة،... بإدخالهم أشد العذاب: جهنم.
هنا لا تزال القصة تتحدث عن بيئة الموقف: يوم الحساب،... وقبلها تحدثت عن بيئة القبر: بيئة البرزخ...
ولابد أن آل فرعون بدأوا يتذكرون نصيحة البطل: مؤمن آل فرعون حين قال لهم: {فستذكرون ما أقول لكم...} بدأوا يتذكرون نصيحة البطل الذي لوح لهم بأن المسرفين هم أصحاب النار، وإلى أ نه يدعوهم إلى النجاة... بدأوا يتذكرون ذلك،... ولكن دون جدوى.
إنهم يتلاومون فيما بينهم،... وكل يلقي تبعة ضلاله على الآخر...
وها هي القصة ـ في قسمها الأخير ـ تنقل الطغاة آل فرعون إلى بيئة جهنم بعد أن عرضتهم وهم في بيئة البرزخ،... ثم بعد أن عرضتهم وهم في عرصات القيامة، صيح بهم:
{أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }
وها هم قد دخلوا النار واستقروا في مهادها إلى ما لا نهاية له،... وتذكروا ما قاله البطل: مؤمن آل فرعون ذات يوم:
{فستذكرون ما أقول لكم }
ها هم يتذكرون كل شيء، كما تنبأ البطل، لكنهم لا يملكون أي خيار، بعد أن كانوا يملكونه في الحياة الدنيا، وفي ذلك الاجتماع الذي خطب بهم مؤمن آل فرعون، وتركهم أمام خيارين: الجنة أوالنار...
أما الآن فلا يملكون إلا خيارا واحدا هو: جهنم ولا يملكون شيئا غير أن يتلاوموا،... يعاتب بعضهم البعض الآخر، على نحو ما ستعرضه القصة في قسمها الأخير.
تنتهي القصة، بهذا العرض عن آل فرعون في بيئة النار:
{وإذ يتحاجون في النار }
{فيقول الضعفاء للذين استكبروا }
{إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ؟}
{قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد }
هذا هو الحوار الذي يقوم بين آل فرعون: كبراءهم وضعافهم.
وهناك حوار آخر يقوم بين آل فرعون وخزنة جهنم، على هذا النحو:
{وقال الذين في النار لخزنة جهنم }
{ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب }
{قالوا: أ ولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات }
{قالوا: بلى }
{قالوا: فادعوا}
{وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }
إن هذا العرض الذي ختمت القصة به، يحسم كل شيء. فهو تنمية عضوية وتطوير فني للعرض الذي حفل بأحداث ومواقف، كان البطل مؤمن آل فرعون في الصميم منها في محاججته مع آل فرعون وفي رد فرعون عليه...
إن الجمهور الذي حضر ذلك الاجتماع الذي عقده فرعون ومنظومته، أو تناهى إليه خبر البطل ومناقشته للقوم، ونصيحته المخلصة لهم... هذا الجمهور وطاغيته فرعون وسائر المستكبرين، يعقدون في جهنم اجتماعا مماثلا لاجتماعهم في الحياة الدنيا،... ولكن عبر لغة التلاوم وليس عبر لغة الخيار الذي كانوا يملكونه حينئذ...
وها هم الضعفاء،... الأتباع،... الذين لحسوا أقدام رؤسائهم... العملاء الذين
نفذوا رغبات ساداتهم... الساكتون عن الحق... المؤثرون السلامة والعافية... ها هم الضعفاء يوجهون اللوم إلى ساداتهم قائلين:
{إنا كـنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا ؟}
ويجيبهم رءساؤهم بهذه اللغة التي تضاعف من إحساس العملاء بالألم، وبالانسحاق حينما يجيبونهم قائلين:
{إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}
كم يكون إحساس العملاء بالانسحاق كبيرا، حينما يجدون ساداتهم قد تنصلوا من كل شيء ؟
وهذا كله فيما يتصل بحوار آل فرعون فيما بينهم: كبارهم وأذنابهم.
أما موقفهم مع خزنة جهنم، فأدهى وأمر...
لقد طلبوا من خزنة جهنم أن يخفف الله عنهم ولو يوما من عذاب النار... لكن خزنة جهنم ذكروهم، كما ذكرهم البطل: مؤمن آل فرعون بالرسل التي أتتهم بالأدلة والبراهين...
وعندها قالت الخزنة لهم: أدعوا أنتم... قالوها وهم ساخرون من آل فرعون، كما سخر فرعون في الاجتماع الذي عقده في الدنيا بمحضر من البطل: مؤمن آل فرعون، طالبا من وزيره هامان ـ على وجه السخرية ـ أن يبني له صرحا ليطلع على السماء...
وهذا هو الجواب الفني لسخرية فرعون: سخرية خزنة جهنم من الطغاة وأذنابهم، ممن آثروا الحياة الدنيا، وسخروا من المؤمنين...
أخيرا: أمكننا ملاحظة شخصية مؤمن آل فرعون وعلاقتها بـ فرعون ومن قبل كيفية تسلم دورها بعد الدور التمهيدي لموسى(عليه السلام) ومن ثم لاحظنا المادة القصصية الجديدة التي تربط بين شخصين موسى وناصره، وفق الأساليب الفنية المتنوعة، ومنها: الدور المسرحي بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|