أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-5-2020
2962
التاريخ: 27-5-2020
3146
التاريخ: 29-5-2020
4118
التاريخ: 27-5-2020
3409
|
قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُو مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَو جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } [الزخرف : 46 ، 56] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
ذكر سبحانه حديث موسى (عليه السلام) فقال {ولقد أرسلنا موسى ب آياتنا} أي بالحجج الباهرة والمعجزات القاهرة {إلى فرعون وَمَلَئِهِ } أي أشراف قومه وخص الملأ بالذكر وإن كان أيضا مرسلا إلى غيرهم لأن من عداهم تبع لهم {فقال} موسى {إني رسول رب العالمين} أرسلني إليكم {فلما جاءهم ب آياتنا} أي فلما أظهر المعجزات التي هي اليد البيضاء والعصا {إذا هم منها يضحكون} استهزاء واستخفافا وجهلا منهم بما عليهم من ترك النظر فيها وبما لهم من النفع بحصول العلم بها {وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها} المراد بذلك ما ترادف عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس وكانت كل آية من هذه الآيات أكبر من التي قبلها وهي العذاب المذكور في قوله {وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون} لأنهم عذبوا بهذه الآيات وكانت عذابا لهم ومعجزات لموسى (عليه السلام) فغلب عليهم الشقاء ولم يؤمنوا .
{وقالوا يا أيه الساحر} يعنون بذلك يا أيها العالم وكان الساحر عندهم عظيما يعظمونه ولم يكن صفة ذم عن الكلبي والجبائي وقيل إنما قالوا استهزاء بموسى (عليه السلام) عن الحسن وقيل معناه يا أيها الذي سلبنا بسحره تقول العرب خاصمته فخصمته وحاججته فحججته فكذلك ساحرته (2) ، وأرادوا أنه غالب السحرة فغلبهم بسحره {ادع لنا ربك بما عهد عندك} أي بما زعمت أنه عهد عندك وهو أنه ضمن لنا أنا إذا آمنا بك أن يكشف العذاب عنا {إننا لمهتدون} أي راجعون إلى الحق الذي تدعونا إليه متى كشف عنا العذاب وفي الكلام حذف لأن التقدير فدعا موسى وسأل ربه أن يكشف عنهم ذلك العذاب فكشف الله عنهم ذلك {فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون} أي يغدرون وينقضون العهد وفي هذا تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمعنى : فاصبر يا محمد على أذى قومك فإن حالك معهم كحال موسى مع قومه فيؤول أمرك إلى الاستعلاء على قومك كما آل أمره إلى ذلك .
{ونادى فرعون في قومه} معناه أنه لما رأى أمر موسى يزيد على الأيام ظهورا واعتلاء خاف على مملكته فأظهر الخداع فخطب الناس بعد ما اجتمعوا و{قال يا قوم أ ليس لي ملك مصر} أتصرف فيها كما أشاء أراد بذلك إظهار بسطته في الملك والمال {وهذه الأنهار} مثل النيل وغيرها {تجري من تحتي} أي من تحت أمري وقيل إنها كانت تجري تحت قصره وهو مشرف عليها {أ فلا تبصرون} هذا الملك العظيم وقوتي وضعف موسى {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين} أي ضعيف حقير يعني به موسى قال سيبويه والخليل عطف أنا بأم على قوله {أ فلا تبصرون} لأن معنى أم أنا خير معنى أم تبصرون فكأنه قال أ فلا تبصرون أم تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده وقيل المهين الفقير الذي يمتهن نفسه في جميع ما يحتاج إليه ليس له من يكفيه أمره {ولا يكاد يبين} أي ولا يكاد يفصح بكلامه وحججه للعقدة التي في لسانه وقال الحسن كانت العقدة زالت عن لسانه حين أرسله الله كما قال مخبرا عن نفسه وأحلل عقدة من لساني ثم قال قد أوتيت سؤلك يا موسى وإنما عيره بما كان في لسانه قبل وقيل كان في لسانه لثغة (3) فرفعه (4) الله تعالى وبقي فيه ثقل عن الجبائي .
{فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب} أي هلا طرح عليه أسورة من ذهب إن كان صادقا في نبوته وكان إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب {أو جاء معه الملائكة مقترنين} متتابعين يعينونه على أمره الذي بعث له ويشهدون له بصدقة وقيل متعاضدين متناصرين كل واحد منهم يمالىء صاحبه {فاستخف قومه} ومعناه إن فرعون استخف عقول قومه {فأطاعوه} فيما دعاهم إليه لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل وهو قوله {أ ليس لي ملك مصر} إلى آخره ولو عقلوا لقالوا ليس في ملك الإنسان دلالة على أنه محق وليس يجب أن يأتي مع الرسل ملائكة لأن الذي يدل على صدق الرسل هو المعجز دون غيره {إنهم كانوا قوما فاسقين} أي خارجين عن طاعة الله تعالى .
ثم أخبر سبحانه عن انتقامه من فرعون وقومه فقال {فلما آسفونا} أي أغضبونا عن ابن عباس ومجاهد وغضب الله سبحانه على العصاة إرادة عقوبتهم ورضاه عن المطيعين : إرادة ثوابهم الذي يستحقونه على طاعتهم وقيل معناه آسفوا رسلنا لأن الأسف بمعنى الحزن لا يجوز على الله سبحانه {انتقمنا منهم} أي انتقمنا لأوليائنا منهم {فأغرقناهم أجمعين} ما نجا منهم أحد {فجعلناهم سلفا} أي متقدمين إلى النار {ومثلا} أي عبرة وموعظة {للآخرين} أي لمن جاء بعدهم يتعظون بهم والمعنى أن حال غيرهم يشبه حالهم إذا أقاموا على العصيان .
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج85-88 .
2- [فسحرته] .
3-اللغثة : ثقل اللسان بالكلام . وتحوّل اللسان من السين الى الثاء ، او من الراء الى الغين ، او من حرف الى حرف .
4- كذا في النسخ . ولعل تذكير الضمير باعتبار الثقل .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
{ولَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ ومَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ} . هذه هي المرة السادسة عشرة التي تكررت فيها قصة موسى ( عليه السلام) ما عدا الآيات التي جاء فيها ذكره . وتكلمنا مفصلا حينا ومجملا حينا آخر عن هذه القصة ، وعند تفسير الآية 9 من سورة طه في المجلد الخامس ذكرنا السبب الموجب لتكرارها ، وقال بعض المفسرين : ان اللَّه عز وجل أعاد هنا قصة موسى لأن عتاة قريش طعنوا بنبوة محمد (صلى الله عليه واله ) لفقره ، فبيّن سبحانه انه قد أرسل موسى الفقير إلى فرعون الغني ، والآيات السابقة تؤيد هذا القول . ومهما يكن فإن معنى الآية التي نحن بصددها واضح ، ويتلخص بأن اللَّه بعث موسى إلى فرعون وقومه بالمعجزات الدالة على نبوته ، كالعصا واليد البيضاء ، فسخروا منه ومن دعوته ومعجزاته .
{وما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها} . المراد بالآية هنا العذاب ، كما قال سبحانه : {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ والْجَرادَ والْقُمَّلَ والضَّفادِعَ والدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ} [133– الأعراف] . ومعين أكبر هنا أوضح ، وأختها أي شريكتها في العذاب {وأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن الضلال إلى الهدى ، وعن الفساد في الأرض إلى إصلاحها ، ولكن ما أغنت الآيات والنذر عن قوم لا يبصرون إلا منافعهم ومكاسبهم .
{وقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ} . في هذه الآية حكى سبحانه ان قوم فرعون خاطبوا موسى بالساحر ، وفي الآية 134 من سورة الأعراف حكى انهم خاطبوه باسمه : {ولَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنّ}َ . وغير بعيد انهم خاطبوه مرة بالاسم ، ومرة بكلمة الساحر . . وهذا مألوف في الحوار عند الناس {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} . أخذهم اللَّه بالسنين ، فاستغاثوا بموسى وعاهدوا اللَّه أن يتوبوا إليه ان كشف عنهم العذاب ، ولكنهم نكثوا واستمروا على الكفر والضلال بعد أن كشف عنهم الرجز وشملهم برحمته وعنايته .
{ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذِهِ الأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} . من تحتي كناية عن تصرفه في الأنهار كما يشاء . .
وقد استدل فرعون على عظمته وعلو شأنه بالمال والعقار . . ولا عجب ، فهذا هو المنطق السائد عند الأكثرية الغالبية في كل قطر وعصر . . وأصحاب المال في هذا العصر هم الحاكمون بأمرهم في كثير من البلدان {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُو مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِينُ} . مهين حقير لفقره ، ويبين يفصح ويوضح عما يريد .
وقد كان في لسان موسى لثغة فأزالها اللَّه سبحانه بدليل قول موسى لربه : واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي وقوله تعالى لموسى : {قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى} - 36 طه . وفرعون عيّر موسى بما كان ، لا بما هو كائن بالفعل .
{فَلَولا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَو جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أي ملازمين لموسى تماما كما تلازم الرجل العظيم حاشيته . وقال المفسرون : جرت عادة قوم فرعون إذا اختاروا رئيسا لهم ان يسوّروه بسوار من ذهب ، ويطوقوه بطوق من ذهب علامة على رياسته ، ومن أجل هذا قال فرعون : كيف يكون موسى نبيا ، ولا سوار في يده ، ولا طوق في عنقه ، والذي جرأه على ذلك هو جهل قومه وضلالهم وضعف عقولهم كما قال سبحانه : {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} . في العام الماضي طلبت عاملا ليصلح خط الكهرباء في مكتبتي ، ولما رأى الكتب مبعثرة في كل جزء من الغرفة ذهل وقال : ان زوجتي تكرهني ، فأرجوك أن تكتب لها كتاب محبة . فقلت له : أنا جاهل بهذا الفن .
فقال : ولما ذا تقتني هذه الكتب ؟
{فَلَمَّا آسَفُونا} أي أغضبونا بتكذيب الرسول ، ونكث العهد وإصرارهم على الكفر والضلال {انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ} القائد منهم والمقود {فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً} أي متقدمين على غيرهم إلى النار {ومَثَلًا لِلآخِرِينَ} عبرة وعظة لمن يأتي بعدهم ، ومثله : {وقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} - 37 الفرقان .
________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص552-554 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
لما ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه ورميهم الحق الذي جاءهم به رسول مبين بأنه سحر وأنهم قالوا : {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} فرجحوا الرجل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكثرة ماله مثل لهم بقصة موسى (عليه السلام) وفرعون وقومه حيث أرسله الله إليهم بآياته الباهرة فضحكوا منها واستهزءوا بها ، واحتج فرعون فيما خاطب به قومه على أنه خير من موسى بملك مصر وأنهار تجري من تحته فاستخفهم فأطاعوه فآل أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم .
قوله تعالى : {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين} اللام في {لقد} للقسم ، والباء في قوله : {بآياتنا} للمصاحبة ، والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون} المراد بمجيئهم بالآيات إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة ، والمراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافا بالآيات .
قوله تعالى : {وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها} إلخ ، الأخت المثل ، وقوله : {هي أكبر من أختها} كناية عن كون كل واحدة منها بالغة في الدلالة على حقية الرسالة ، وجملة {وما نريهم من آية} إلخ ، حال من ضمير {منها{ ، والمعنى : فلما أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون والحال أن كلا منها تامة كاملة في إعجازها ودلالتها من غير نقص ولا قصور .
وقوله : {وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون} أي رجاء أن يرجعوا عن استكبارهم إلى قبول رسالته ، والمراد بالعذاب الذي أخذوا به آيات الرجز التي نزلت عليهم من السنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كما في سورة الأعراف .
قوله تعالى : {وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون} ما في {بما عهد عندك} مصدرية أي بعهده عندك والمراد به عهده أن يكشف عنهم العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم .
وقولهم : يا أيها الساحر خطاب استهزاء استكبارا منهم كما قالوا : ادع ربك ولم يقولوا : ادع ربنا أوادع الله استكبارا ، والمراد أنهم طلبوا منه الدعاء لكشف العذاب عنهم ووعدوه الاهتداء .
وقيل : معنى الساحر في عرفهم العالم وكان الساحر عندهم عظيما يعظمونه ولم يكن صفة ذم .
وليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم : ادع لنا ربك .
قوله تعالى : {فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون} النكث نقض العهد وخلف الوعد ، ووعدهم هو قولهم : {إننا لمهتدون} .
قوله تعالى : {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أ ليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أ فلا تبصرون} أي ناداهم وهو بينهم ، وفصل {قال} لكونه في موضع جواب السؤال كأنه قيل : فما ذا قال؟ فقيل : قال كذا .
وقوله : {وهذه الأنهار تجري من تحتي} أي من تحت قصري أومن بستاني الذي فيه قصري المرتفع العالي البناء ، والجملة أعني قوله : {وهذه الأنهار} إلخ ، حالية أو{وهذه الأنهار} معطوف على {ملك مصر} ، وقوله : {تجري من تحتي} حال من الأنهار ، والأنهار أنهار النيل .
وقوله : {أ فلا تبصرون} في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله : {أ ليس لي ملك مصر} إلخ .
قوله تعالى : {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} المهين الحقير الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة ، ويريد بالمهين موسى (عليه السلام) لما به من الفقر ورثاثة الحال .
وقوله : {ولا يكاد يبين} أي يفصح عن مراده ولعله كان يصف موسى (عليه السلام) به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكن الله رفع عنه ذلك لقوله : {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه : 36] بعد قوله (عليه السلام) : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه : 27 ، 28] .
وقوله في صدر الآية : {أم أنا خير} إلخ ، أم فيه إما منقطعة لتقرير كلامه السابق والمعنى : بل أنا خير من موسى لأنه كذا وكذا ، وإما متصلة ، وأحد طرفي الترديد محذوف مع همزة الاستفهام ، والتقدير : أ هذا خير أم أنا خير إلخ ، وفي المجمع ، قال سيبويه والخليل : عطف أنا بأم على {أ فلا تبصرون} لأن معنى {أنا خير} معنى أم تبصرون فكأنه قال : أ فلا تبصرون أم تبصرون لأنهم إذا قالوا له : أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده انتهى .
أي إن وضع {أم أنا خير} موضع أم تبصرون من وضع المسبب موضع السبب أو بالعكس .
وكيف كان فالإشارة إلى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير وتوصيفه بقوله : {الذي هو مهين ولا يكاد يبين} للتحقير وللدلالة على عدم خيريته .
قوله تعالى : {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} الأسورة جمع سوار بالكسر ، وقال الراغب : هو معرب دستواره قالوا : كان من دأبهم أنهم إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فالمعنى لوكان رسولا وساد الناس بذلك لألقي إليه أسورة من ذهب .
وقوله : {أو جاء معه الملائكة مقترنين} الظاهر أن الاقتران بمعنى التقارن كالاستباق والاستواء بمعنى التسابق والتساوي ، والمراد إتيان الملائكة معه متقارنين لتصديق رسالته ، وهذه الكلمة مما تكررت على لسان مكذبي الرسل كقولهم : { لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } [الفرقان : 7] .
قوله تعالى : {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} أي استخف عقول قومه وأحلامهم ، والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} الإيساف الإغضاب أي فلما أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، والغضب منه تعالى إرادة العقوبة .
قوله تعالى : {فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} السلف المتقدم والظاهر أن المراد بكونهم سلفا للآخرين تقدمهم عليهم في دخول النار ، والمثل الكلام السائر الذي يتمثل به ويعتبر به ، والظاهر أن كونهم مثلا لهم كونهم مما يعتبر به الآخرون لو اعتبروا واتعظوا .
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص89-92 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
الفراعنة المغرورون ونقض العهد :
في هذه الآيات إشارة إلى جانب ممّا جرى بين نبيّ الله موسى بن عمران(عليه السلام) وبين فرعون ، ليكون جواباً لمقالة المشركين الواهية بأن الله إن كان يريد أن يرسل رسولاً ، فلماذا لم يختر رجلاً من أثرياء مكّة والطائف لهذه المهمّة العظمى؟
وذلك لأنّ فرعون كان قد أشكل على موسى نفس هذا الإِشكال ، وكان منطقه عين هذا المنطق ، إذ جعل موسى في معرض التقريع والتوبيخ والسخرية للباسه الصوفي ، وعدم امتلاكه لأدوات الزينة ، فقالت الآية الأولى : {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون ومَلائه فقال إنّي رسول ربّ العالمين} .
المراد من «الآيات» : المعجزات التي كانت لدى موسى ، والتي كان يثبت حقانيته بواسطتها ، وكان أهمها العصا واليد البيضاء .
«الملاء» ـ كما قلنا سابقاً ـ من مادة الملأ ، أي القوم أو الجماعة الذين يتبعون هدفاً واحداً ، وظاهرهم يملأ العيون لكثرتهم ، وقرآنياً فإنّ هذه الكلمة تعني الأشراف والأثرياء أو رجال البلاط عادة .
والتأكيد على صفة : (ربّ العالمين) هو في الحقيقة من قبيل بيان مدعى مقترن بالدليل ، لأنّ ربّ العالمين ومالكهم ومعلمهم هو الوحيد الذي يستحق العبوديّة ، لا المخلوقات الضعيفة المحتاجة كالفراعنة والأصنام !
ولنرَ الآن ماذا كان تعامل فرعون وآل فرعون مع الأدلة المنطقية والمعجزات البينة لموسى(عليه السلام) ؟
يقول القرآن الكريم في الآية التالية : {فلمّا جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون} وهذا الموقف هو الموقف الأوّل لكل الطواغيت والجهال المستكبرين أما القادة الحقيقيين ، إذ لا يأخذون دعوتهم وأدلتهم بجدية ليبحثوا فيها ويصلوا إلى الحقيقة ، ثمّ يجيبونهم بسخرية واستهزاء ليُفهموا الآخرين أن دعوة هؤلاء لا تستحق البحث والتحقيق والإِجابة أصلاً ، وليست أهلاً للتلقي الجاد .
إلاّ أننا أرسلنا بآياتنا الواحدة تلو الأُخرى لإِتمام الحجة : {وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها} (2) .
والخلاصة : أنّنا أريناهم آياتنا كل واحدة أعظم من أختها وأبلغ وأشد ، لئلا يبقى لهم أي عذر وحجّة ، ولينزلوا عن دابة الغرور والعجب والأنانية ، وقد أريناهم بعد معجزتي العصا واليد البيضاء معاجز الطوفان والجراد والقمل والضفادع وغيرها (3) .
ثمّ تضيف الآية : {وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون} فمرّة أتاهم الجفاف والقحط ونقص الثمرات كما جاء في الآية (130) من سورة الأعراف : {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف : 130] .
وكان العذاب أحياناً بتبدل لون ماء النيل إلى لون الدم ، فلم يعد صالحاً للشرب ، ولا للزراعة ، وأحياناً كانت الآفات النباتية تقضي على مزارعهم .
إنّ هذه الحوادث المرّة الأليمة وإن كانت تنبه هؤلاء بصورة مؤقتة ، فيلجؤون إلى موسى ، غير أنّهم بمجرّد أن تهدأ العاصفة ينسون كل شيء ، ويجعلون موسى غرضاً لسهام أنواع التهم ، كما نقرأ ذلك في الآية التالية : {وقالوا يا أيّها الساحر ادع لنا ربّك بما عهد عندك إنّنا لمهتدون} .
أي تعبير عجيب هذا ؟! فهم من جانب يسمونه ساحراً ، ومن جانب آخر يلجؤون إليه لرفع البلاء عنهم ، ومن جانب ثالث يعدونه بتقبل الهداية !
إن عدم الإِنسجام بين هذه الأُمور الثلاثة في الظاهر أصبح سبباً في اختلاف التفاسير :
فذهب البعض : إنّ الساحر هنا يعني العالم ، لأنّهم كانوا يعظمون السحرة في ذلك الزمان ، وخاصّة في مصر ، وكانوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى العلماء .
واحتمل البعض أن يكون السحر هنا بمعنى القيام بأمر مهم ، كما نقول في محادثاتنا اليومية : إنّ فلاناً ماهر في عمله جدّاً حتى كأنه يقوم بأعمال سحرية !
وقالوا تارة : إنّ المراد أنّه ساحر بنظر جماعة من الناس .
وأمثال هذه التفاسير .
إلاّ أنّ العارفين بطريقة تفكير وتحدث الجاهلين المعجبين بأنفسهم والمستكبرين المغرورين والطواغيت يعلمون أنّ لهؤلاء الكثير من هذه التعابير المتناقضة ، فلا عجب من أن يسمّوه ساحراً أوّلاً ، ثمّ يلجؤون إليه لرفع البلاء ، وأخيراً يعدونه بالإِهتداء .
بناء على هذا فيجب الحفاظ على ظاهر تعبيرات الآية والوقوف عندها ، إذ لا تبدو هناك حاجة إلى توجيهات وتفاسير أُخرى .
وعلى أية حال ، فيظهر من أسلوب الآية أنّهم كانوا يعدون موسى(عليه السلام) وعوداً كاذبة في نفس الوقت الذي هم بأمس الحاجة إليه ، وحتى في حال المسكنة وعرض الحاجة لم يتخلوا عن غرورهم ، ولذلك عبروا في طلبهم من موسى بـ(ربك) و(بما عهد عندك) ولم يقولوا : ربّنا ، وما وعدنا ، أبداً . مع أن موسى قال لهم بصراحة : إنّي رسول ربّ العالمين ، لا رسول ربّي .
أجل ، إن ضعاف العقول والمغرورين إذا ما تربعوا على عرش الحكم ، فسيكون هذا منطقهم وعرفهم وأسلوبهم .
إلاّ أن موسى رغم كل هذه التعبيرات اللاذعة والمحقرة لم يكفّ عن السعي لهدايتهم مطلقاً ، ولم ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم ، بل استمرّ في طريقه ، ودعا ربّه مرات كي تهدأ عواصف البلاء ، وهدأت ، لكنّهم كما تقول الآية التالية : {فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون} .
كل هذه دروس حيّة وبليغة للمسلمين ، وتسلية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكي لا ينثنوا مطلقاً أمام عناد المخالفين وتصلبهم ، ولا يدعوا اليأس يخيم على أرواحهم وأنفسهم ، بل ينبغي أن يشقوا طريقهم بكل ثبات ورجولة وحزم ، كما ثبت موسى(عليه السلام) وبنو إسرائيل على مواقفهم ، واستمرّوا في طريقهم حتى انتصروا على الفراعنة .
وهي أيضاً تحذير للأعداء اللجوجين المعاندين ، بأنهم ليسوا أقوى من فرعون وآل فرعون ولا أشد ، فلينظروا عاقبة أمر أُولئك ، وليتفكروا في عاقبتهم .
إذا كان نبياً فلم لا يملك أسورة من ذهب ؟
لقد ترك منطق موسى(عليه السلام) من جهة ، ومعجزاته المختلفة من جهة أُخرى ، والإِبتلاءات والمصائب التي نزلت على رؤوس أهل مصر والتي رفعت ببركة دعاء موسى(عليه السلام) من جهة ثالثة ، أثراً عميقاً في ذلك المحيط ، وزعزعت أفكار الناس واعتقادهم بفرعون ، ووضعت كل نظامهم الإِجتماعي والديني موضع سؤال واستفسار .
هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى(عليه السلام) عن التأثير في أفكار شعب مصر ، فالتجأ إلى القيم الواهية المنحطة التي كانت حاكمة في ذلك المحيط ، وقارن بينه وبين موسى(عليه السلام) من خلال هذه القيم ليبدو متفوقاً على موسى ، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول : {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} (4) .
أمّا موسى فماذا يملك؟ لا شيء سوى عصا ولباس صوف! فلمن الشأن الرفيع والمكانة السامية ، له أم لي؟ أهو يقول الحق أم أنا؟ افتحوا عيونكم جيداً وتأمّلوا دقيقاً في المسألة . .
وبهذا فقد عظم فرعون القيم المبتدعة السيئة ، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية ، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) .
التعبير بـ «نادى» يوحي بأن فرعون عقد مجلساً عظيماً لخبراء البلد ومستشاريه ، وخاطبهم جميعاً بصوت عال فقال ما قال ، أو أنّه أمر أن يوزع نداؤه كرسالة في جميع أنحاء البلاد .
والتعبير بالأنهار ، المراد منه نهر النيل ، بسبب أن هذا النهر العظيم كالبحر المترامي الأطراف ، وكان يتشعب إلى فروع كثيرة تروي كل المناطق العامرة في مصر .
وقال بعض المفسّرين : كان لنهر النيل (360) فرعاً ، وكان أهمها : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس .
أمّا لماذا يؤكّد فرعون على نهر النيل خاصّة؟ فذلك لأنّ كل عمران مصر وثروتها وقوتها وتطورها كان يستمد طاقته من النيل ، من هنا فإنّ فرعون كان يُدِلّ به ، ويفتخر به على موسى .
والتعبير بـ(تجري من تحتي) لا يعني أن نهر النيل يمر من تحت قصري ، كما قال ذلك جمع من المفسّرين ، لأنّ نهر النيل كان أعظم من أن يمرّ من تحت قصر فرعون ولوكان المراد أنّه يمرّ بمحاذاة قصره ، فإنّ كثيراً من قصور مصر كانت على هذه الحال ، وكان أغلب العمران على حافتي هذا الشط العظيم ، بل المراد أنّ هذا النهر تحت أمري ، ونظام تقسيمه على المزارع والمساكن حسب التعليمات التي أريدها .
ثمّ يضيف : {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} (5) وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين ـ حكومة مصر ، وملك النيل ـ ، وذكر لموسى نقطتي ضعف : الفقر ولكنة اللسان .
هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أية لكنة في اللسان ، لأنّ الله تعالى قد استجاب دعاءه ، ورفع عنه عقدة لسانه ، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن : { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه : 27] ، ومن المسلّم أن دعاءه قد استجيب ، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً .
ليس عيباً عدم امتلاك الثروة الكثيرة ، والألبسة الفاخرة ، والقصور المزينة ، والتي تحصل عادة عن طريق ظلم المحرومين والجور عليهم ، بل هو فخر وكرامة وسمو .
إنّ التعبير بـ «مهين» لعله إشارة إلى الطبقات الإِجتماعيّة في ذلك الزمان ، حيث كانوا يظنون أن الأشراف الأقوياء والأثرياء طبقة متعالية ، والكادحين الفقراء طبقة واطئة ، أو أنّه إشارة إلى أصل موسى حيث كان من بني إسرائيل ، وكان الأقباط يرون أنهم ساداتهم وكبراؤهم .
ثمّ تشبث فرعون بذريعتين أخريين ، فقال : {فلولا أُلقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} (6) فلو أنّ الله قد جعله رسوله فلماذا لم يعطه أساور من ذهب ، ومعاونين له كباقي الرسل ؟
يقولون : إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية ، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه ، بل كان قد لبس بدل ذلك ملابس الرعي الصوفية ، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة .
أمّا أنبياء الله فإنّهم باطراحهم هذه المسائل ـ بالذات ـ جانباً كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة ، وأن يزرعوا محلها القيم الإِنسانية الأصيلة ـ أي العلم والتقوى والطهارة ـ لأنّ نظام القيم إذا لم يُصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه السعادة أبداً .
على أية حال ، فإنّ ذريعة فرعون هذه تشبه الذريعة التي نقلت عن مشركي مكّة قبل عدّة آيات حيث كانوا يقولون : لِمَ لَم ينزل القرآن على عظيم من مكّة والطائف ؟!
والحجّة الثانية هي تلك الحجّة المعروفة التي كانت تطرحها كثير من الأُمم الضالة العاصية في مواجهة الأنبياء ، فكانوا يقولون أحياناً : لماذا أرسل الله بشراً وليس ملكاً ؟ وأحياناً أُخرى : إذا كان إنساناً فلماذا لم يأت معه ملك ؟
في حين أنّ الرسل المبعوثين إلى البشر يجب أن يكونوا من جنسهم ليلمسوا حاجاتهم ، ويحسوا بمشاكلهم ومسائلهم ويجيبوهم ، وليقدروا على أن يكونوا من الناحية العملية قدوة وأسوة لهم (7) .
ويلزم أن نذكر هنا أن «الأسورة» جمع سوار ، سواء كان من الذهب أم من الفضة .
وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة ، وهي : إنّ فرعون لم يكن غافلاً عن واقع الأمر تماماً ، وكان ملتفتاً إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير ، إلاّ أنّه : {فاستخف قومه فأطاعوه} .
إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الإِستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها ، هي الإِبقاء على الناس في مستوى مترد من الفكر والثقافة والوعي ، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل ، فتجعلهم غرقى في حالة من الغفلة عن الوقائع والأحداث والحقائق ، وتنصب لهم قيماً وموازين كاذبة منحطة بدلاً من الموازين الحقيقية ، كما تمارس عملية غسل دماغ تام متواصل لهذه الشعوب ، وذلك لأن يقظتها ووعيها ، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات ، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة ، فهذا الوعي بمثابة مارد يجب أن تحاربه بكل ما أوتيت من قوّة .
إنّ هذا الأسلوب الفرعوني ـ أي استخفاف العقول ـ حاكم على كل المجتمعات الفاسدة في عصرنا الحاضر ، بكل قوّة واستحكام ، وإذا كان تحت تصرف فرعون وسائل محدودة توصله إلى نيل هدفه ، فإن طواغيت اليوم يستخفون عقول الشعوب بواسطة وسائل الإِتصال الجماعية ، الصحف والمطبوعات ، شبكات الراديو والتلفزيون ، أنواع الأفلام ، بل وحتى الرياضة في قالب الانحراف ، وابتداع أنواع الأساليب المضحكة المستهجنة ، لتغرق هذه الشعوب في بحر الغفلة ، فيطيعوهم ويستسلموا لهم ، ولهذا كانت المسؤولية الملقاة على عاتق علماء الدين والملتزمين به ـ والذين يحيون خط الأنبياء الفكري والعقائدي ـ ثقيلة في محاربة برامج استخفاف العقول ، فهي من أهم واجباتهم .
والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة : {إنّهم كانوا قوماً فاسقين} ، إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم الضالين لولم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة الله عزَّوجلّ وحكم العقل ، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات ويصغون إليها ، فهم قد هيؤوا أسباب ضلالهم بأيديهم ، ولذلك فإنّهم ليسوا معذورين في هذا الضلال أبداً .
صحيح أنّ فرعون قد سرق عقول هؤلاء وحملهم على طاعته ، إلاّ أنّهم قد أعانوه على هذه السرقة باتباعهم الأعمى له .
نعم ، كان هؤلاء قوماً فاسقين يتبعون فاسقاً .
كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول الله موسى(عليه السلام) ، لكننا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ والإِرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة ، إذ لم يسملوا للحق :
تقول الآية : {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} فقد اختار الله سبحانه لهؤلاء عقوبة الإِغراق بالخصوص من بين كل العقوبات ، وذلك لأنّ كلّ عزّتهم وشوكتهم وافتخارهم وقوّتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة ، والذي كان فرعون يؤكّد عليه من بين كل مصادر قوته ، إذ قال : {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}؟
نعم ، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوّتهم ، سبب هلاكهم وفنائهم ، ويكون قبراً لهم ليعتبر الآخرون!
«آسفونا» من مادة الأسف ، وهو الحزن والغم ، ويأتي بمعنى الغضب ، بل إنّه يقال للحزن المقترن بالغضب أحياناً ـ على قول الراغب في مفرداته (8) ـ وقد يقال لكل منهما على الإِنفراد . وحقيقته ثوران دم القلب ، شهوة الإِنتقام ، فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضباً ، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزناً ، ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال : «مخرجهما واحد واللفظ مختلف» .
وفسر بعضهم «آسفونا» بـ (آسفوا رسلنا) ، إلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً ، ولا ضرورة لمثل هذا الخلاف الظاهري .
وهنا نكتة تستحق الإِنتباه ، وهي أنه لا معنى للحزن والغم بالنسبة إلى الله سبحانه ، ولا الغضب بالمعنى المتعارف بيننا ، بل إن غضب الله يعني «إرادة العقاب» ، ورضاه يعني «إرادة الثواب» .
وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مر من كلام : {فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين} .
«السلف» في اللغة يعني كل شيء متقدم ، ولذلك يقال للأجيال السابقة : سلف ، وللأجيال الآتية : خلف ، ويسمّون المعاملات التي تتمّ قبل الشراء «سلفاً» ، لأنّ ثمن المشتري يدفع من قبل .
والمثل يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة ، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة ومصيرهم المؤلم عبرة عظمى ، فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين .
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص391-400 .
2 ـ التعبير بـ «الأخت» في لغة العرب يعني ما يوازي الشيء في الجنس والمرتبة كالأختين .
3 ـ جاء تفصيل المعجزات التسع لموسى بن عمران (عليه السلام) في ذيل الآية (101) من سورة الإسراء .
4 ـ الواو في جملة (وهذه الأنهار تجري من تحتي) يمكن أن تكون عاطفة على (ملك مصر) ويمكن أن تكون حالية (تفسير الكشاف) . إلاّ أن الإحتمال الأوّل يبدو هو الأنسب .
5 ـ اعتبر جماعة (أم) في الجملة أعلاه منقطعة ، وأنها بمعنى (بل) ، وذهب البعض أنها متصلة ومتعلقة بجملة (أفلا تبصرون) ، وتقدير الجملة : أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير من هذا . . .
6 ـ جاءت كلمة «مقترنين» هنا بمعنى المتتابعين أو المتعاضدين ، وقال البعض : إن الإقتران هنا بمعنى التقارن .
7 ـ ورد في التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (9) من سورة الأنعام بحث مفصل في هذا الباب .
8 ـ مفردات الراغب ، مادة (أسف) .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|