أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-4-2020
15940
التاريخ: 21-4-2020
3270
التاريخ: 21-4-2020
11800
التاريخ: 21-4-2020
7053
|
قال تعالى : {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص : 1 - 11] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
{ص} اختلفوا في معناه فقيل : هو اسم للسورة وقيل غير ذلك على ما ذكرناه في أول البقرة وقال ابن عباس هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) وقال الضحاك معناه صدق وقال قتادة هو اسم من أسماء القرآن فعلى هذا يجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير حذف حرف القسم ويجوز أن يكون رفعا على تقدير هذه صاد في مذهب من جعله اسما للسورة .
{والقرآن ذي الذكر} أي : ذي الشرف عن ابن عباس يوضحه قوله وإنه لذكر لك ولقومك وقيل معناه ذي البيان الذي يؤدي إلى الحق ويهدي إلى الرشد لأن فيه ذكر الأدلة التي إذا تفكر فيها العاقل عرف الحق عقلا وشرعا وقيل ذي التذكر لكم عن قتادة وقيل فيه ذكر الله وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى وذكر الأنبياء وأخبار الأمم وذكر البعث والنشور وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المكلف من الأحكام عن الجبائي ويؤيده قوله ما فرطنا في الكتاب من شيء {بل الذين كفروا} من أهل مكة {في عزة} أي في تكبر عن قبول الحق وحمية جاهلية عن قتادة ويدل عليه قوله أخذته العزة بالإثم وقيل في ملكة واقتدار وقوة بتمكين الله إياهم {وشقاق} أي عداوة وعصيان ومخالفة لأنهم يأنفون عن متابعتك ويطلبون مخالفتك .
ثم خوفهم سبحانه فقال {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} بتكذيبهم الرسل {فنادوا} عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة {ولات حين مناص} أي ليس الوقت حين منجى ولا فوت وقيل لات حين نداء ينجي قال قتادة نادى القوم على غير حين النداء {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} أي جاءهم رسول من أنفسهم مخوف من جهة الله تعالى يحذرهم المعاصي وينذرهم النار .
{وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} حين يزعم أنه رسول الله {أ جعل الآلهة إلها واحدا} هذا استفهام إنكار وتعجيب وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أبطل عبادة ما كانوا يعبدونه من الآلهة مع الله ودعاهم إلى عبادة الله وحده فتعجبوا من ذلك وقالوا كيف جعل لنا إلها واحدا بعد ما كنا نعبد آلهة {إن هذا} الذي يقوله محمد من أن الإله واحد {لشيء عجاب} لأمر عجيب مفرط في العجب .
{وانطلق الملأ منهم} هذا تمام الحكاية عن الكفار الذين تقدم ذكرهم أي وانطلق الأشراف منهم {أن امشوا} أي يقول بعضهم لبعض امشوا {واصبروا على آلهتكم} يعني أنهم خرجوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب وهم يقولون اثبتوا على عبادة آلهتكم واصبروا على دينكم وتحملوا المشاق لأجله وقيل أن القائل لذلك عقبة بن أبي معيط {إن هذا} الذي نراه من زيادة أصحاب محمد {لشيء يراد} أي أمر يراد بنا وقيل معناه أن هذا فساد في الأرض وعن قريب ينزل به الهلاك ونتخلص منه وقيل أن هذا الأمر يراد بنا من زوال نعمة أو نزول شدة لأنهم كانوا يعتقدون في الأصنام أنهم لو تركوا عبادتها أصابهم القحط والشدة .
ثم حكى عنهم أيضا بأنهم قالوا {ما سمعنا بهذا} الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد وخلع الأنداد من دون الله {في الملة الآخرة} يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل عن ابن عباس قال أن النصارى لا يوحدون لأنهم يقولون ثالث ثلاثة وقيل يعنون ملة قريش أي في ملة زماننا هذا عن مجاهد وقتادة وقيل معناه ما سمعنا بأن هذا يكون في آخر الزمان عن الحسن .
{إن هذا} أي ما هذا الذي يقول محمد {إلا اختلاق} أي تخرص وكذب وافتعال ثم أنكروا تخصيص الله إياه بالقرآن والنبوة بأن قالوا {ء أنزل عليه الذكر من بيننا} أي كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا وليس بأكبر سنا منا ولا بأعظم شرفا فقال سبحانه {بل هم في شك من ذكري} أي ليس يحملهم على هذا القول إلا الشك في الذكر الذي أنزلته على رسولي {بل لما يذوقوا عذاب} وهذا تهديد لهم والمعنى أنهم سيذوقونه .
ثم أجابهم عن إنكارهم نبوته بقوله {أم عندهم خزائن رحمة ربك} يقول أ بأيديهم مفاتيح النبوة والرسالة فيضعونها حيث شاءوا أي أنها ليست بأيديهم ولكنها بيد {العزيز} في ملكه {الوهاب} كثير الهبات والعطايا على حسب المصالح فيختار للنبوة من يشاء من عباده ونظيره قوله ولقد اخترناهم على علم على العالمين {أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما} فيتهيأ لهم أن يمنعوا الله من مراده {فليرتقوا} أي إن ادعوا ذلك فليصعدوا {في الأسباب} أي في أبواب السماء وطرقها عن مجاهد وقتادة وقيل الأسباب الحيل أي فليحتالوا في أسباب توصلهم إلى السماوات ليأتوا بالوحي إلى من اختاروا .
ثم أخبر سبحانه عن الكفار أنهم سيهزمون ببدر فقال {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} قال قتادة أخبر الله سبحانه وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم بها أي هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند مهزومون مغلوبون من جملة الكفار الذين تحزبوا على الأنبياء وأنت منصور عليهم مظفر غالب وقيل هم أحزاب الذين حاربوا نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم الخندق ووجه اتصاله بما قبله أن المعنى كيف يرتقون إلى السماء وهم فرق من قبائل شتى مهزومون .
_________________
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{ص} تقدم الكلام عن مثله في أول سورة البقرة {والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقاقٍ} . كذبت قريش بالقرآن الذي فيه خيرهم وعزهم ، فأقسم سبحانه بالقرآن نفسه انه الحق من عند اللَّه ، وانه لا سبب لهذا التكذيب إلا تعاظم المكذبين واستنكافهم عن الحق وعداؤهم لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) . . وقسمه تعالى بالقرآن يومئ إلى أنه الدال ببلاغته على اعجازه ، وبتعاليمه على صدقه ، ثم حذر سبحانه قريشا وذكرهم بهلاك الأولين لما كذبوا الرسل ، وذلك حيث يقول :
{كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا ولاتَ حِينَ مَناصٍ} . استنكف الأولون عن الحق وخاصموا أهله تماما كما استنكفتم وخاصمتم يا عتاة قريش ، ولما جاءهم العذاب تراجعوا وخضعوا ، ولكن بعد فوات الأوان ، فخير لكم أن تؤمنوا الآن وقبل أن تضيع عليكم الفرصة فتستغيثوا وتندموا حيث لا يجدي صياح ولا ندم .
تقليد الموحد وتقليد المشرك :
{وعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} . محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من قريش ، ما في ذلك ريب ، ولكنه ليس من عتاتهم وطغاتهم ، فكيف يعده هؤلاء منهم ؟ ولو أنه استعبد الناس ، وكان له كنز أو جنة من نخيل أو بيت من زخرف لكان منهم في الصميم ، وان لم يكن قرشيا . أنظر ج 5 ص 83 فقرة (التفكير من خلال المال وحب الذات) وفقرة (منطق أرباب المال بنك وعقار) ص 453 .
{وقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ} . ولما ذا هو ساحر كذاب ؟ وهذا هو الجواب {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ} . ليس العجب العجاب عند هؤلاء واقعا وحقيقة أن ينكر محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)الشرك وتعدد الآلهة ، وان خيّل ذلك إليهم ، وشعروا به من أنفسهم . . كلا ، انما العجب العجاب هو خروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) على تقاليدهم الموروثة وأوضاعهم المألوفة أبا عن جد . .
انهم في الواقع يدافعون عن تقاليد الآباء والأجداد كدين ومبدأ ، وليس عن الأصنام من حيث هي ، انهم يدافعون عن الأصنام لأنها من تركة الأولين وميراثهم : {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف - 23] .
وينطبق هذا على ايمان الجهلاء من الموحدين تماما كما ينطبق على ايمان المشركين لأن مصدر الإيمانين واحد ، وهو التقليد . . والفرق ان تقليد الموحد صحيح ومقبول لأن له أساسا من الواقع تماما كقولي : ان صاحب نظرية الجاذبية اسمه نيوتن ، وصاحب نظرية النسبية اسمه اينشتين ، أما تقليد المشرك فضلال ، وصاحبه مسؤول ومعاقب إلا إذا كان قاصرا كالبهائم لأن الشرك باللَّه لا أساس له من الواقع . وبكلمة ان الفكرة تكون صادقة إذا كانت من صلب الواقع سواء أكانت عن علم أم عن تقليد . انظر ج 1 ص 259 فقرة (التقليد وأصول العقائد) .
{وانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ} . المراد بالملأ هنا عتاة قريش .
واصبروا على آلهتكم أي اثبتوا على عبادتها . وهذا شيء يراد إشارة إلى الثبات على عبادة الأصنام . والملة الآخرة هي عقيدة التثليث في المسيحية ، ووصفها المشركون بالآخرة لأنها آخر ديانة ظهرت في عهدهم . وفي تفسير الطبري وغيره ان مشيخة قريش قالوا لأبي طالب : ليكف ابن أخيك عن آلهتنا ، وندعه وإلهه الذي يعبد . ولما ذكر أبوطالب ذلك للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال : أريدهم على كلمة واحدة يقولونها ، فتدين لهم العرب والعجم . فقالوا : نعطيكها وعشرا فما هي ؟ قال : {لا إله إلا اللَّه} . فانصرفوا ، وهم يقولون : اجعل الآلهة إلها واحدا الخ . وهذه الرواية تتفق مع ظاهر الآية ، ويساعد عليها واقع المشركين ومكانة شيخ الأبطح .
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا} ؟ أيختار اللَّه محمدا لرسالته ، ولا جاه له ولا مال ؟ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} . ضمير {هم} يعود لبعض المشركين لأن منهم من أنكر نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) حسدا ، ومنهم من أنكرها حرصا على مصالحه {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ} . فإذا ذاقوه زال عنهم الشك والريب : {وأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ} [يونس - 54] .
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} . المراد بخزائن الرحمة هنا النبوة فقط ، أوهي وغيرها من نعم اللَّه وإحسانه ، والمعنى لما ذا أنكر المشركون واستكثروا رحمة اللَّه لمحمد في اختياره رسولا للعالمين ؟ ألأنهم يملكون هذا الاختيار من دون اللَّه {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ والأَرْضِ وما بَيْنَهُما} . ان مالك الكون هو الذي يملك النبوة ويهبها ويعز بها من يشاء ، والمشركون لا يملكون مع اللَّه شيئا كي يمنحوا النبوة لرجل من القريتين عظيم . . أجل هناك شيء واحد يستطيعون به أن يملكوا السماوات والأرض ، وهو{فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبابِ} . المراد بالأسباب الطرق والوسائل ، والمعنى ان النبوة يتحكم بها من يملك الكون بما فيه ، فإذا أراد عتاة قريش أن يختاروا للنبوة واحدا منهم فعليهم قبل كل شيء أن يملكوا الأسباب والوسائل التي تصل بهم إلى هذا الملك ان كانت متوافرة لديهم . . وفي هذا من التعجيز ما هو في غنى عن البيان {جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزابِ} . ان الذين حاربوك وعارضوك يا محمد ليسوا بشيء ، فهم مغلوبون مهزومون أمام دعوتك على الرغم من كثرة جنودهم وتكتل أحزابهم .
_______________
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
يدور الكلام في السورة حول كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذرا بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد وإخلاص العبودية له تعالى .
فتبدأ بذكر اعتزاز الكفار وشقاقهم وبالجملة استكبارهم عن اتباعه والإيمان به وصد الناس عنه وتفوههم بباطل القول في ذلك ورده في فصل .
ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر وذكر قصص عباده الأولين في فصل ثم يذكر مآل حال المتقين والطاغين في فصل .
ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإبلاغ نذارته ودعوته إلى توحيد الله وأن مآل أتباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لآدم فأبى إبليس فرجمه وقضى عليه وعلى من تبعه النار في فصل .
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها .
قوله تعالى : {ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق} المراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده وما يتفرع عليه من المعارف الحقة من المعاد والنبوة وغيرهما ، والعزة الامتناع ، والشقاق المخالفة ، قال في مجمع البيان ، : وأصله أن يصير كل من الفريقين في شق أي في جانب ومنه يقال : شق فلان العصا إذا خالف انتهى .
والمستفاد من سياق الآيات أن قوله : {والقرآن ذي الذكر} قسم نظير ما في قوله : {يس والقرآن الحكيم} {ق والقرآن المجيد} {ن والقلم} لا عطف على ما تقدمه ، وأما المقسم عليه فالذي يدل عليه الإضراب في قوله : {بل الذين كفروا في عزة وشقاق أنه أمر يمتنع عن قبوله القوم ويكفرون به عزة وشقاقا وقد هلك فيه قرون كثيرة ثم ذكر إنذار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما قاله الكفار عليه وما أمرهم به ملؤهم حول إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أعني المقسم عليه نحو من قولنا : إنك لمن المنذرين ، ويشهد على ذلك أيضا التعرض في السورة بإنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذكر مرة بعد أخرى .
وقد قيل في قوله : { ص والقرآن ذي الذكر} من حيث الإعراب والمعنى وجوه كثيرة لا محصل لأكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى .
والمعنى - والله أعلم - أقسم بالقرآن المتضمن للذكر - إنك لمن المنذرين - بل الذين كفروا في امتناع عن قبوله واتباعه ومخالفة له .
قوله تعالى : {كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص} القرن أهل عصر واحد ، والمناص بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخر كما أنه بالباء الموحدة بمعنى التقدم على ما في المجمع ، وقيل : هو بمعنى الفرار .
والمعنى : كثيرا ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفار من قرن وأمة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم : يا ويلنا إنا كنا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه وليس الحين حين تأخر الأخذ والعذاب أوليس الحين حين فرار .
قوله تعالى : {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} أي تعجبوا من مجيء منذر من نوعهم بأن كان بشرا فإن الوثنية تنكر رسالة البشر .
وقوله : {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} يشيرون بهذا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به وهو القرآن ، وبالكذب لزعمهم أنه يفتري على الله بنسبة القرآن وما فيه من المعارف الحقة إليه تعالى .
قوله تعالى : {أ جعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} العجاب بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب وهو بتشديد الجيم أبلغ .
وهومن تتمة قول الكافرين والاستفهام للتعجيب والجعل بمعنى التصيير وهوكما قيل تصيير بحسب القول والاعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى : {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } [الزخرف : 19] فمعنى جعله (صلى الله عليه وآله وسلم) الآلهة إلها واحدا هو إبطاله ألوهية الآلهة من دون الله وحكمه بأن الإله هو الله لا إله إلا هو .
قوله تعالى : {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد} نسبة الانطلاق إلى ملإهم وأشرافهم وقولهم ما قالوا يلوح إلى أن أشراف قريش اجتمعوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحلوا مشكلة دعوته إلى التوحيد ورفض الآلهة بنوع من الاستمالة وكلموه في ذلك فما وافقهم في شيء منه ثم انطلقوا وقال بعضهم لبعض أو قالوا لأتباعهم أن امشوا واصبروا {إلخ} وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول مما سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله .
وقوله : {أن امشوا واصبروا على آلهتكم} بتقدير القول أي قائلين أن امشوا واصبروا على آلهتكم ولا تتركوا عبادتها وإن عابها وقدح فيها ، وظاهر السياق أن القول قول بعضهم لبعض ، ويمكن أن يكون قولهم لتبعتهم .
وقوله : {إن هذا لشيء يراد} ظاهره أنه إشارة إلى ما يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويطلبه وأن مطلوبه شيء يراد بالطبع وهو السيادة والرئاسة وإنما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملإ من قوم نوح لعامتهم : {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون : 24] .
وقيل : المعنى إن هذا الذي شاهدناه من إسراره (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يطلبه وتصلبه في دينه لشيء عظيم يراد من قبله .
وقيل : المعنى إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا أن تمشوا وتصبروا .
وقيل : المعنى إن الصبر خلق محمود يراد منا في مثل هذه الموارد ، وقيل غير ذلك وهي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق .
قوله تعالى : {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق} أرادوا بالملة الآخرة المذهب الذي تداوله الآخرون من الأمم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الأولى التي تداولها الأولون كأنهم يقولون : ليس هذا من الملة الآخرة التي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الأولين .
وقيل : المراد بالملة الآخرة النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليث .
وضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانية وقع عندهم كالإسلام .
وقوله : {إن هذا إلا اختلاق} أي كذب وافتعال .
قوله تعالى : {أ أنزل عليه الذكر من بيننا} استفهام إنكاري بداعي التكذيب أي لا مرجح عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يترجح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم : ما أنت إلا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة .
قوله تعالى : {بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب} إضراب عن جميع ما قالوه أي إنهم لم يقولوا عن إيمان واعتقاد به بل هم في شك من ذكري وهو القرآن .
وليس شكهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوة وقصورها عن إفادة اليقين بل تعلق قلوبهم بما عندهم من الباطل ولزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الآية الإلهية المعجزة فشكوا في الذكر والحال أنه آية معجزة .
وقوله : {بل لما يذوقوا عذاب} إضراب عن الإضراب أي ليس إنكارهم وعدم إيمانهم به عن شك منهم فيه بل لأنهم لعتوهم واستكبارهم لا يعترفون بأحقيته ولولم يكن شك ، حتى يذوقوا عذابي فيضطروا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم .
وفي قوله : {لما يذوقوا عذاب} أي لم يذوقوا بعد عذابي ، تهديد بعذاب واقع .
قوله تعالى : {أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب} الكلام في موقع الإضراب و{أم} منقطعة والكلام ناظر إلى قولهم : {ما أنزل عليه الذكر من بيننا} أي بل أ عندهم خزائن رحمة ربك التي ينفق منها على من يشاء حتى يمنعوك منها بل هي له تعالى وهو أعلم حيث يجعل رسالته ويخص برحمته من يشاء .
وتذييل الكلام بقوله : {العزيز الوهاب} لتأييد محصل الجملة أي ليس عندهم شيء من خزائن رحمته لأنه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد ، ولا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لأنه وهاب كثير الهبات .
قوله تعالى : {أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب} {أم} منقطعة ، والأمر في قوله : {ليرتقوا} للتعجيز والارتقاء الصعود ، والأسباب المعارج والمناهج التي يتوسل بها إلى الصعود إلى السماوات ويمكن أن يراد بارتقاء الأسباب التسبيب بالعلل والحيل الذي يحصل به لهم المنع والصرف .
والمعنى : بل لهم ملك السماوات والأرض فيكون لهم أن يتصرفوا فيها فيمنعوا نزول الوحي السماوي إلى بشر أرضي فإن كان كذلك فليصعدوا معارج السماوات أو فليتسببوا الأسباب وليمنعوا من نزول الوحي عليك .
قوله تعالى : {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} الهزيمة الخذلان و{من الأحزاب} بيان لقوله : {جند ما} و{ما} للتقليل والتحقير ، والكلام مسوق لتحقير أمرهم رغما لما يشعر به ظاهر كلامهم من التعزز والإعجاب بأنفسهم .
يدل على ذلك تنكير {جند} وتتميمه بلفظة {ما} والإشارة إلى مكانتهم بهنالك الدال على البعيد وعدهم من الأحزاب المتحزبين على الرسل الذين قطع الله دابر الماضين منهم كما سيذكر ولذلك عد هذا الجند مهزوما قبل انهزامهم .
والمعنى : هم جند ما أقلاء أذلاء منهزمون هنالك من أولئك الأحزاب المتحزبين على الرسل الذين كذبوهم فحق عليهم عقابي .
_______________
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
إنقضاء مهلة النّجاة :
مرّة اُخرى تمرّ علينا سورة تبدأ آياتها الاُولى بحروف مقطّعة وهو حرف (ص) ويطرح نفس السؤال السابق بشأن تفسير هذه الحروف المقطّعة : هل هذه إشارة إلى عظمة القرآن المجيد الذي يتألّف من مثل هذه الحروف المتيسّرة في متناول الجميع كالحروف الهجائية ، والذي غيّرت محتوياته مجرى حياة الإنسانية في هذا العالم . . .
وأنّ قدرة الله العظيمة هي التي أوجدت من هذه الحروف البسيطة تركيباً رائعاً عظيماً هو القرآن المجيد كلام الله ، أم أنّها إشارة إلى رموز وأسرار بين الله سبحانه وتعالى وأنبيائه . .
أمّ أنّها تعني اُموراً اُخرى؟
مجموعة من المفسّرين إعتبرت هنا حرف (ص) رمزاً يشير إلى أحد أسماء الله ، وذلك لأنّ الكثير من أسمائه تبدأ بحرف الصاد مثل (صادق) ، (صمد) ، (صانع) أو أنّه إشارة إلى (صدق الله) التي إختصرت بحرف واحد .
ولابدّ أنّكم طالعتم تفسير هذه الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة في تفسير بدايات آيات سور (البقرة) و(آل عمران) و(الأعراف) .
ثمّ يقسم الله تعالى بالقرآن ذي الذكر والذي هو حقّاً معجزة إلهيّة {والقرآن ذي الذكر} (2) .
فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر ، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ الغفلة ، تذكّر الله ، وتذكّر نعمه ، وتذكّر محكمته الكبرى يوم القيامة ، وتذكّر هدف خلق الإنسان .
نعم ، فالنسيان والغفلة هما من أهمّ عوامل تعاسة الإنسان ، والقرآن الكريم خير دواء لعلاجهما .
فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين في الآية (67) من سورة التوبة : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة : 67] أي إنّهم نسوا الله ، والله في المقابل نسيهم وقطع رحمته عنهم .
ونقرأ في نفس هذه السورة الآية (26) عن الضالّين ، قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص : 26] .
نعم ، فالنسيان هو الإبتلاء الكبير الذي ابتلي به الضالّون والمذنبون ، حتّى أنّهم نسوا أنفسهم وقيمة وجودها ، كما قال القرآن الكريم ، كلام الله الناطق {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر : 19] .
فالقرآن خير وسيلة لتمزيق حجب النسيان ، وهو نور لإزالة الظلمات والغفلة والنسيان ، حيث أنّ آياته تذكّر الإنسان بالله وبالمعاد ، وتعرّف الإنسان قيمة وجوده في هذه الحياة .
الآية التالية تقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا رأيت هؤلاء لا يستسلمون لآيات الله الواضحة ولقرآنه المجيد ، فاعلم أنّ سبب هذا لا يعود إلى أنّ هناك ستاراً يغطّي كلام الحقّ ، وإنّما هم مبتلون بالتكبّر والغرور اللذين يمنعان الكافرين من قبول الحقّ ، كما أنّ عنادهم وعصيانهم ـ هما أيضاً ـ مانع يحول دون تقبّلهم لدعوتك {بل الذين كفروا في عزّة وشقاق} .
«العزّة» كما قال الراغب في مفرداته ، هي حالة تحوّل دون هزيمة الإنسان (حالة الذي لا يقهر) وهي مشتقّة من (عزاز) وتعني الأرض الصلبة المتينة التي لا ينفذ الماء خلالها ، وتعطي معنيين ، فأحياناً تعني (العزّة الممدوحة) المحترمة ، كما في وصف ذات الله الطاهر بالعزيز ، وأحياناً تعني (العزّة بالإثم) أي الوقوف بوجه الحقّ والتكبّر عن قبول الواقع ، وهذه العزّة مذلّة في حقيقة الأمر .
«شقاق» مشتقّة من (شقّ) ، ومعناه واضح ، ثمّ استعمل في معنى المخالفة ، لأنّ الاختلاف يسبّب في أن تقف كلّ مجموعة في شقّ ، أي في جانب .
القرآن هنا يعدّ مسألة العجرفة والتكبّر والغرور وطيّ طريق الانفصال والتفرقة من أسباب تعاسة الكافرين ، نعم هذه الصفات القبيحة والسيّئة تعمي عين الإنسان وتصمّ آذانه ، وتفقده إحساسه ، وكم هو مؤلم أن يكون للإنسان عيون تبصر وآذان تسمع ولكنّه يبدو كالأعمى والأصم .
فالآية (206) من سورة البقرة تقول : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة : 206] أي عندما يقال للمنافق : اتّق الله ، تأخذه العصبية والغرور واللجاجة ، وتؤدّي به إلى التوغّل في الذنب والسقوط في نار جهنّم وإنّها لبئس المكان .
ولإيقاظ اُولئك المغرورين المغفّلين ، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي تأريخ البشر ، ليريهم مصير الاُمم المغرورة والمتكبّرة ، كي يتّعظوا ويأخذوا العبر منها {وكم أهلكنا من قبلهم من قرن} .
أي إنّ اُمماً كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء ، وإنكارها آيات الله ، وظلمها وإرتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول العذاب عليها ، ولكن ما الفائدة فقد تأخّر الوقت! ولم يبق أمامهم متّسع من الوقت لإنقاذ أنفسهم {فنادوا ولات حين مناص} .
فعندما كان أنبياء الله في السابق يعظونهم ويحذّرونهم عواقب أعمالهم القبيحة ، لم يكتفوا بصمّ آذانهم وعدم الإستماع ، وإنّما كانوا يستهزئون ويسخرون من الأنبياء ويعذّبون المؤمنين ويقتلونهم ، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمّروا كلّ الجسور التي خلفهم ، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعاً ، العذاب الذي رافقه إنغلاق باب التوبة والعودة ، وفور نزوله تبدأ أصوات الإستغاثة تتعالى ، والتي لا تغني عنهم يومئذ شيئاً .
وكلمة (لات) جاءت للنفي ، وهي في الأصل (لا) نافية اُضيفت إليها (تاء) التأنيث ، لتعطي معنى التأكيد (3) .
«مناص» من مادّة (نوص) وتعني الملاذ والملجأ ، ويقال : إنّ العرب عندما كانت تقع لهم حادثة صعبة ورهيبة ، وخاصّة في الحروب كانوا يكرّرون هذه الكلمة ويقولون (مناص . . . مناص) أي : أين الملاذ؟ أين الملاذ ؟ ولأنّ هذا المفهوم يتناسب مع معنى الفرار ، وأحياناً تأتي بمعنى إلى أين الفرار (4) .
على أيّة حال ، فإنّ اُولئك المغرورين المغفّلين لم يستفيدوا من الفرصة التي كانت بأيديهم للجوء إلى أحضان الرحمة واللطف الإلهي ، وعندما أضاعوا الفرصة ونزل عليهم العذاب الإلهي ، أخذوا ينادون ويستغيثون ويبذلون الجهد للعثور على طريق نجاة لهم ، ولكن كلّ هذه الجهود تبوء بالفشل ، حيث أنّهم مهما بذلوا من جهد ومهما إستغاثوا فإنّهم لا يصلون إلى مقصدهم .
هذه كانت سنّة الله مع كلّ الاُمم السابقة ، وستبقى كذلك ، لأنّ سنّة الله لا تتغيّر ولا تتبدّل .
ومن المؤسف أنّ الناس ـ على الأغلب ـ غير مستعدّين للإتّعاظ من تجارب الآخرين ، وكأنّهم راغبون في تكرار تلك التجارب المرّة ، التجارب التي تقع أحياناً مرّة واحدة في طول عمر الإنسان ، ولا تتكرّر ثانية ، وبصورة أوضح : إنّها الاُولى والأخيرة .
وقوله تعالى : {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ } [ص : 4 - 7] .
هل يمكن قبول إله واحد بدلا من كلّ تلك الآلهة ؟
المغرورون والمتكبّرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة والناقصة ، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياساً لكلّ القيم . لذا فعندما رفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لواء التوحيد في مكّة ، وأعلن الإنتفاضة ضدّ الأصنام الكبيرة والصغيرة في الكعبة ، والبالغ عددها (360) صنماً ، تعجّبوا : لماذا جاءهم النذير من بينهم؟ {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} .
كان تعجّبهم بسبب أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل منهم . . فلماذا لم تنزل ملائكة من السماء بالرسالة؟ . . هؤلاء تصوّروا أنّ نقطة القوّة هذه نقطة ضعف ، فالذي يبعث من بين قوم ، هو أدرى بإحتياجات وآلام قومه ، كما أنّه أعرف بمشكلاتهم وتفصيلات حياتهم ، ويمكن أن يكون لهم اُسوة وقدوة ، إلاّ أنّهم اعتبروا هذا الإمتياز الكبير نقطة سلبية في دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعجّبوا من أمر بعثته إليهم .
وأحياناً كانوا يجتازون مرحلة التعجّب إلى مرحلة إتّهام رسول الله بالسحر والكذب {وقال الكافرون هذا ساحر كذّاب} .
وقلنا عدّة مرّات : إنّ إتّهامهم الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر ، إنّما نتج من جرّاء رؤيتهم لمعجزاته التي لا تقبل الإنكار وتنفذ بصورة مدهشة إلى أفكار المجتمع ، وإتّهامه بالكذب بسبب تحدّثه باُمور تخالف سنّتهم الخرافية وأفكارهم الجاهلية التي كانت جزءاً من الاُمور المسلّم بها في ذلك المجتمع ، وإدّعاء الرسالة من الله .
وعندما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته لتوحيد الله ، أخذ أحدهم ينظر للآخر ويقول له : تعالى واسمع العجب العجاب {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب} (5) .
نعم ، فالغرور والتكبّر إضافة إلى فساد المجتمع ، تساهم جميعاً في تغيّر بصيرة الإنسان ، وجعله متعجّباً من بعض الاُمور الواقعية والواضحة ، في حين يصرّ بشدّة على التمسّك ببعض الخرافات والأوهام الواهية .
وكلمة (عجاب) على وزن (تراب) تعطي معنى المبالغة ، وتقال لأمر عجيب مفرط في العجب .
فالسفهاء من قريش كانوا يعتقدون أنّه كلّما إزدادت عدد آلهتهم إزداد نفوذهم وقدرتهم ، ولهذا السبب فإنّ وجود إله واحد يعدّ قليلا من وجهة نظرهم ، في حين ـ كما هو معلوم ـ أنّ الأشياء المتعدّدة من وجهة النظر الفلسفية تكون دائماً محدودة ، والوجود اللامحدود واحد لا أكثر ، ولهذا السبب فإنّ كلّ الدراسات في معرفة الله تنتهي إلى توحيده .
وبعد أن يئس طغاة قريش من توسّط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل ، خرجوا من بيته ، ثمّ إنطلقوا وقال بعضهم لبعض ، أو قالوا لأتباعهم : اذهبوا وتمسّكوا أكثر بآلهتكم ، واصبروا على دينكم ، وتحمّلوا المشاق لأجله ، لأنّ هدف محمّد هوجرّ مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنّا بسبب تركنا الأصنام ، وإنّه يريد أن يترأّس علينا {وإنطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يراد} .
«إنطلق» مشتقّة من (إنطلاق) وتعني الذهاب بسرعة والتحرّر من عمل سابق ، وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم .
و(الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب ، وبعد خروجهم من بيته تحدّث بعضهم لبعض أو لأتباعهم أن لا تتركوا عبادة أصنامكم وأثبتوا على عبادة آلهتكم .
وجملة (لشيء يراد) تعني أنّ هناك أمراً يراد بنا . ولكونها جملة غامضة بعض الشيء ، فقد ذكر المفسّرون لها تفاسير عديدة ، منها : أنّها إشارة إلى دعوة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدّها ، وقالت : إنّ ظاهرها يدعو إلى الله ، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب ، وما هذه الدعوة إلاّ ذريعة لتنفيذ ذلك الأمر ، أي السيادة والرئاسة ، ودعت الناس إلى التمسّك أكثر بعبادة الأصنام ، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم ، وهذا الاُسلوب طالما لجأ إليه أئمّة الضلال لإسكات أصوات السائرين في طريق الحقّ ، إذ يطلقون على الدعوة إلى الله لفظة (مؤامرة) المؤامرة التي يجب أن يتولّى رجال السياسة تحليلها بدقّة لوضع الخطط والبرامج المنظّمة لمواجهتها ، وأن يمرّ بها عامة الناس مرّ الكرام من دون أن يعيروا لها أي إهتمام ، وأن يتمسّكوا أكثر بما عندهم ، أي بأصنامهم .
ونظير هذا الحديث ورد في قصّة نوح ، عندما قال الملأ من قوم نوح لعامّتهم { مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون : 24] .
وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من هذه العبارة هو : يا عبدة الأصنام أثبتوا واستقيموا على آلهتكم ، لأنّ هذا هو المطلوب منكم .
أمّا البعض الآخر فقد قال : المقصود هو أنّ محمّداً يستهدفنا نحن ، وأنّه يريد جرّ مجتمعنا إلى الفساد من خلال تركنا لآلهتنا ، وفي نهاية الأمر ستزال النعم عنّا وينزل علينا العذاب !
فيما إحتمل البعض الآخر أنّ المراد هو أنّ محمّداً لن يتوقّف عن دعوته وأنّه مصمّم على نشرها بعزم راسخ ، ولهذا فإنّ المحادثات معه عقيمة ، فاذهبوا وتمسّكوا أكثر بعقائدهم .
وأخيراً إحتمل بعض المفسّرين أنّ المقصود هو أنّ المصيبة ستحلّ بنا ، وعلى أيّة حال ، علينا أن نتهيّأ لها وأن نتمسّك أكثر بسنّتنا .
وبالطبع ، لكون هذه الجملة لها مفهوم عامّ ، فإنّ أغلب التفاسير يمكن أن تعطي المعنى المطلوب ، رغم أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب من بقيّة التفاسير .
وعلى أيّة حال ، فإنّ زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات المنهارة لأتباعهم ، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم أكثر ، ولكن كلّ مساعيهم ذهبت أدراج الرياح .
ولخداع عوامّ الناس وإقناع أنفسهم ، قال زعماء المشركين {ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلاّ إختلاق} .
فلوكان ادّعاء التوحيد وترك عبادة الأصنام أمراً واقعيّاً لكان آباؤنا الذين كانوا بتلك العظمة والشخصيّة قد أدركوا ذلك ، وكنّا قد سمعنا ذلك منهم ، لذا فهو مجرّد حديث كاذب وليست له سابقة .
وعبارة (الملّة الآخرة) يحتمل أنّها تشير إلى جيل آبائهم باعتباره آخر جيل بالنسبة لهم ، ويمكن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب وخاصّة (النصارى) الذين كانوا آخر الملل ، ودينهم كان آخر الأديان قبل ظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أي إنّنا لم نعثر في كتب النصارى على شيء ممّا يقوله محمّد ، وذلك لأنّ كتب النصارى كانت تقول بالتثليث ، أمّا التوحيد الذي دعا إليه محمّد فإنّه أمر جديد .
ولكن يتّضح من آيات القرآن الكريم أنّ عرب الجاهلية لم يكونوا معتمدين على كتب اليهود والنصارى ، وإنّما إعتمادهم الأساس كان على سنن وشرائع أجدادهم وآبائهم ، وهذا دليل على صحّة التّفسير الأوّل .
«إختلاق» مشتقّة من (خلق) وتعني إبداء أمر لم تكن له سابقة ، كما تطلق هذه الكلمة على الكذب ، وذلك لأنّ الكذّاب غالباً ما يطرح مواضيع لا وجود لها ، ولهذا فإنّ المراد من كلمة (إختلاق) في الآية ـ مورد البحث ـ أنّ التوحيد الذي دعا إليه هذا النبيّ مجهول بالنسبة لنا ولآبائنا الأوّلين ، وهذا دليل على بطلانه .
وقوله تعالى : {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص : 8 - 11]
الجيش المهزوم :
الآيات السابقة تحدّثت عن المواقف السلبية التي إتّخذها المعارضون لنهج التوحيد والإسلام ، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين . فمشركو مكّة بعد ما أحسّوا أنّ مصالحهم اللامشروعة باتت في خطر ، وإثر تزايد إشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم ، ومن أجل خداع الناس وإقناع أنفسهم عمدوا إلى مختلف الإدّعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومنها سؤالهم بتعجّب وإنكار {أأنزل عليه الذكر من بيننا} .
ألم يجد الله شخصاً آخر لينزل عليه قرآنه ، غير محمّد اليتيم والفقير ـ خاصّة وأنّ فينا الكثير من الشيبة وكبار السنّ الأثرياء المعروفون .
هذا المنطق لم يكن منحصراً بذلك الزمان فقط ، وإنّما يتعدّاه إلى كلّ عصر وزمان ، وحتّى في زماننا ، فإن تولّى شخص ما مسؤولية مهمّة طفحت قلوب الآخرين بالغيظ والحسد ، وبدأت ألسنتهم بالثرثرة وتوجيه النقد والطعن : ألم يكن هناك شخص آخر حتّى توكّل هذه المهمة بالشخص الفلاني الذي هومن عائلة فقيرة وغير معروفة؟
نعم ، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى يشتركون بعض الشيء مع المسلمين ، ولكن حبّ الدنيا من جهة ، وحسدهم من جهة اُخرى ، تسبّبا في أن يبتعدوا عن الإسلام والقرآن ، ويقولوا إلى عبدة الأصنام : إنّ الطريق الذي تسلكونه أفضل من الطريق الذي سلكه المؤمنون { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } [النساء : 51] .
من البديهي أنّ إشكال التعجّب والإنكار المتولّدة عن الخطأ في «تحديد القيم» إضافة إلى الحسد وحبّ الدنيا ، لا يمكن أن تكون معياراً منطقياً في القضاء ، فهل أنّ شخصيّة الإنسان تحدّد باسمه أو مقدار ماله أو مقامه أو حتّى سنّه؟ وهل أنّ الرحمة الإلهيّة تقسّم على أساس هذا المعيار؟
لهذا فإنّ تتمّة الآية تقول : إنّ مرض اُولئك شيء آخر ، إنّهم في حقيقة الأمر يشكّكون في أمر الوحي وأمر الله {بل هم في شكّ من ذكري} .
ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصيّة الرّسول ما هي إلاّ أعذار واهية ، وشكّهم وتردّدهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد ، وإنّما بسبب أهوائهم النفسية وحبّ الدنيا وحسدهم .
وفي نهاية الأمر فإنّ القرآن الكريم يهدّدهم بهذه الآية {بل لمّا يذوقوا عذاب} أي إنّ هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي ، ولهذا السبب جسروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخلوا المعركة ضدّ الوحي الإلهي بهذا المنطق الأجوف .
نعم ، فهناك مجموعة من الناس لا ينفع معها المنطق والكلام ، ولكن سوط العذاب هو الوحيد الذي يحطّ من تكبّرهم وغرورهم ، لذا يجب أن يعاقب اُولئك بالعقاب الإلهي كي يشفوا من مرضهم .
ويضيف القرآن الكريم في الردّ عليهم : هل يمتلكون خزائن الرحمة الإلهيّة كي يهبوا أمر النبوّة لمن يرغبون فيه ، ويمنعونها عمّن لا يرغبون فيه؟ {أم عندهم خزائن رحمة ربّك العزيز الوهّاب} .
فالله سبحانه وتعالى بمقتضى كونه (ربّ) هذا الكون ومالكه ، وبارئ عالم الوجود وعالم الإنسانية ، ينتخب لتحمل رسالته شخصاً يستطيع قيادة الاُمّة إلى طريق التكامل والتربية . وبمقتضى كونه (العزيز) فإنّه لا يقع تحت تأثير الآخرين ويسلّم مقام الرسالة إلى أشخاص غير لائقين ، فمقام النبوّة عظيم ، والله سبحانه وتعالى هو صاحب القرار في منحه . ولكونه (الوهّاب) فإنّه ينفذ أيّ شيء يريده ، ويمنح مقام النبوّة لكلّ من يرى فيه القدرة على تحمّله .
ممّا يذكر أنّ كلمة (الوهّاب) جاءت بصيغة المبالغة ، وتعني كثير المنح والعطايا ، وهي هنا تشير إلى أنّ النبوّة ليست نعمة واحدة ، وإنّما هي نعم متعدّدة ، تتّحد فيما بينها لتمكّن صاحب هذا المقام الرفيع من أداء مهمّته ، وهذه النعم تشمل العلم والتقوى والعصمة والشجاعة والشهامة .
ونقرأ في الآية (32) من سورة الزخرف نظير هذا الكلام ، قال تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [الزخرف : 32] أي إنّهم يُشكِلون عليك بسبب نزول القرآن عليك ، فهل أنّهم هم المسؤولون عن تقسيم رحمة ربّ العالمين ؟
هذا ويمكن الاستفادة من كلمة (رحمة) هنا في أنّ النبوّة إنّما هي رحمة ولطف ربّ العالمين بعالم الإنسانية ، وحقّاً هي كذلك ، فلولا بعث الأنبياء لخسر الناس الدنيا والآخرة ، كما خسرها اُولئك الذين ابتعدوا عن نهج الأنبياء .
الآية اللاحقة واصلت تناول نفس الموضوع ، ولكن من جانب آخر ، حيث قالت : {أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب} .
هذا الكلام في حقيقته يعدّ مكمّلا للبحث السابق ، إذ جاء في الآية السابقة : إنّكم لا تمتلكون خزائن الرحمة الإلهية ، كي تمنحوها لمن تنسجم أهواؤه مع أهوائكم ، والآن تقول الآية التالية لها : بعد أن تبيّن أنّ هذه الخزائن ليست بيدكم ، وإنّما هي تحت تصرّف البارىء عزّوجلّ ، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد ، وهو أن ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول الله وإنّكم تعرفون أنّ تحقيق هذا الأمر شيء محال ، وأنتم عاجزون عن تنفيذه .
وعلى هذا ، فلا «المقتضي» تحت إختياركم ، ولا القدرة على إيجاد «المانع» ، فماذا يمكنكم فعله في هذا الحال؟ إذاً ، موتوا بغيظكم وحسدكم ، وافعلوا ما شئتم . .
وبهذا الشكل فإنّ الآيتين لا تكرّران موضوعاً واحداً كما توهّمه مجموعة من المفسّرين ، بل إنّ كلّ واحدة منهما تتناول جانباً من جوانب الموضوع .
الآية الأخيرة في بحثنا جاءت بمثابة تحقير لأولئك المغرورين السفهاء ، قال تعالى : {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} (6) فهؤلاء جنود قلائل مهزومين . .
«هنالك» إشارة للبعيد ، وبسبب وجودها في الآية ، فقد إعتبر بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى هزيمة المشركين في معركة بدر ، التي دارت رحاها في منطقة بعيدة بعض الشيء عن مكّة المكرّمة .
وإستخدام كلمة (الأحزاب) هنا إشارة حسب الظاهر إلى كلّ المجموعات التي وقفت ضدّ رسل الله ، والذين أبادهم الباري عزّ وجلّ ، ومجتمع مكّة المشرك هو مجموعة صغيرة من تلك المجموعات ، والذي سيبتلى بما ابتلوا به (الشاهد على هذا الحديث هوما سيرد في الآيات القادمة التي تتطرّق لهذه المسألة) .
ولا ننسى أنّ هذه السورة من السور المكيّة ، ونزلت في وقت كان فيه عدد المسلمين قليلا جدّاً ، بحيث كان من اليسير على المشركين أن يبيدوهم بسهولة ، قال تعالى : { تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال : 26] .
وفي ذلك اليوم لم تكن هنالك أيّة دلائل توضّح إمكانية إنتصار المسلمين ، حيث لم تكن المعارك قد وقعت ، ولا الإنتصارات في بدر والأحزاب وحنين قد تحقّقت .
ولكن القرآن قال بحزم إنّ هؤلاء الأعداء ـ الذين هم مجموعة صغيرة ـ سيهزمون في نهاية المطاف .
واليوم يبشّر القرآن الكريم مسلمي العالم المحاصرين من كلّ الجهات من قبل القوى المعتدية والظالمة بنفس البشائر التي بشّر بها المسلمين قبل (1400) عام ، في أنّ الله سبحانه وتعالى سينجز وعده في هزيمة جند الأحزاب ، إن تمسّك مسلمو اليوم بعهودهم تجاه الله كما تمسّك بها المسلمون الأوائل .
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص351-365 .
2 ـ جملة (والقرآن ذي الذكر) جملة قسم جوابها محذوف ، وتقديرها (والقرآن ذي الذكر إنّك صادق وإنّ هذا الكلام معجز) .
3 ـ البعض قال : إنّ (التاء) زائدة وإعتبرها للمبالغة كما في كلمة (علامة) كما إعتبر البعض أنّ (لا) هنا (نافية للجنس) والبعض شبّهها بـ (ليس) وعلى أيّة حال إضافة (التاء) إلى (لا) يوجد أحكاماً خاصّة ، منها من المؤكّد أنّها تستخدم للزمان ، والاُخرى أنّ إسمها أو خبرها محذوف دائماً ، وتذكر في الكلام بإحدى الحالتين المذكورتين آنفاً ، وطبقاً لهذا فإنّ عبارة (ولات حين مناص) تقديرها (ولات الحين حين مناص) .
4 ـ مفردات الراغب ، تفسير فخر الرازي ، تفسير روح المعاني ، كتاب مجمع البحرين مادّة (نوص) .
5 ـ «الجعل» بمعنى التصيير ، وهوـ كما قيل ـ تصيير بحسب القول والإعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع .
6 ـ (ما) تعدّ زائدة في هذه العبارة ، إنّما جاءت للتحقير والتقليل ، و(جند) خبر لمبتدأ محذوف ، و(مهزوم) خبر ثان والعبارة في الأصل هي (هم جند ما مهزوم من الأحزاب) والبعض يعتقد بعدم وجود محذوف في الجملة و(جند) مبتدأ و(مهزوم) خبر ، ولكن الرأي الأوّل أنسب .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|