أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-2-2020
4617
التاريخ: 9-3-2020
2375
التاريخ: 28-4-2020
5791
التاريخ: 12-2-2020
3002
|
قال تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [يونس: 26 - 30]
بين سبحانه أهل دار السلام فقال: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } ومعناه للذين أحسنوا العمل وأطاعوا الله تعالى في الدنيا جزاء لهم على ذلك الحالة الحسنى والمنزلة الحسنى وهي الحالة الجامعة للذات والنعيم على أكمل ما يكون وأفضل ما يمكن وهو تأنيث الأحسن {وزيادة} ذكر في ذلك وجوه (أحدها) أن الحسنى الثواب المستحق والزيادة التفضل على قدر المستحق على طاعاتهم من الثواب وهي المضاعفة المذكورة في قوله {فله عشر أمثالها}عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة (وثانيها) الزيادة هي إن ما أعطاهم الله تعالى من النعم في الدنيا لا يحاسبهم به في الآخرة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) (وثالثها) أن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب عن علي (عليه السلام) وقيل الزيادة ما يأتيهم في كل وقت من فضل الله مجددا (ورابعها) أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى وروي ذلك عن أبي بكر وأبي موسى الأشعري وغيرهما وقد بين الله سبحانه الزيادة في موضع آخر بقوله ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله { وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ }أي: لا يلحق وجوههم سواد عن ابن عباس وقتادة وقيل غبار ولا ذلة أي هو ان وقيل كآبة وكسوف عن قتادة وروى الفضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما من عين ترقرقت بمائها إلا حرم الله ذلك الجسد على النار فإن فاضت من خشية الله لم يرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }مر معناه.
{ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ}أي: اكتسبوها وارتكبوها { جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا }أي: لهم جزاء كل سيئة بمثلها يعني يجزون بمثل أعمالهم أي قدر ما يستحق عليها من غير زيادة لأن الزيادة على قدر المستحق من العقاب ظلم وليس كذلك الزيادة على قدر المستحق من الثواب لأن ذلك تفضل يحسن فعله ابتداء فالمثل هنا مقدار المستحق من غير زيادة ولا نقصان {وترهقهم ذلة}أي: يلحقهم هو ان وذل لأن العقاب يقارنه الإهانة والإذلال {ما لهم من الله من عاصم} أي: ما لهم من حافظ ومانع يدفع عقاب الله عنهم { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا }أي كأنما ألبست وجوههم ظلمة الليل والمراد وصف وجوههم بالسواد كقوله سبحانه ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ظاهر المراد .
ولما تقدم ذكر الجزاء بين سبحانه وقت الجزاء فقال { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا }أي: نحشر الخلائق أجمعين أي نجمعهم من كل أوب إلى الموقف {ثم نقول للذين أشركوا}في عبادتهم مع الله غيره وفي أموالهم فقالوا هذا لله وهذا لشركائنا {مكانكم أنتم وشركاؤكم}أي: أثبتوا والزموا مكانكم أنتم مع شركائكم يعني الأوثان فقد صحبتموهم في الدنيا فاصحبوهم في المحشر وقيل معناه أثبتوا حتى تسألوا كقوله {وقفوهم إنهم مسئولون}{فزيلنا بينهم}أي: فميزنا وفرقنا بينهم في المسألة فسألنا المشركين على حدة لما عبدتم الأصنام وسألنا الأصنام على حدة لما عبدتم وبأي سبب عبدتم وهذا سؤال تقريع وتبكيت عن الحسن ومثله وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وقيل معناه فزيلنا بينهم وبين الأوثان فتبرأ منهم الشركاء وانقطعت أسبابهم { وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}أي: يحييهم الله وينطقهم فقالوا ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون عن مجاهد وقيل: إن شركاءهم من كانوا يعبدونهم من الشياطين وقيل هم الملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله وفي كيفية جحدهم لعبادتهم إياه قولان (أحدهما) أنهم يقولون ذلك على وجه إهانتهم بالرد عليهم أي ما اعتذرنا بذلك لكم (والآخر) إن المراد أنكم لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا ولم يرد أنهم لم يعبدوهم أصلا لأن ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الآخرة لكونهم ملجئين إلى ترك القبيح عن الجبائي وهذه الآية نظير قوله {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا}الآية {فكفى بالله شهيدا}أي: فاصلا للحكم {بيننا وبينكم}أيها المشركون { إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ }مر معناه وهذا إذا كان المراد به الملائكة فإنهم عما ادعوه غافلون لأنهم لم يشعروا بذلك ولا أمروا به وإن كان المراد الأصنام فلم يكن لها حس ولا علم وهذا غاية في إلزام الحجة اختاروا للعبادة من لم يدعهم إليها ولم يشعر بها.
{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ }أي: في ذلك المكان وفي تلك الحال وفي ذلك الوقت تجرب وتعلم كل نفس ما قدمت من خير أوشر وترى جزاءه على القراءة بالتاء معناه تقرأ كل نفس جزاء عملها وجزاء ما قدمته { وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ }أي: وردوا إلى جزاء الله وإلى الموضع الذي لا يملك أحد فيه الحكم إلا الله الذي هو مالكهم وسيدهم وخالقهم والحق صفة لله تعالى وهو القديم الدائم الذي لا يفنى وما سواه يبطل وقيل الحق هوالذي يكون معنى اللفظ حاصلا له على الحقيقة فالله جل جلاله هوالحق لأن معنى الإلهية حاصل له على الحقيقة { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }أي: بطل وهلك عنهم ما كانوا يدعونه بافترائهم من الشركاء مع الله تعالى .
_________________
1- تفسير مجمع البيان ،ج5 ،ص179-182.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزِيادَةٌ} قال الرازي : نظير هذه الآية قوله تعالى :
{هَلْ جَزاءُ الإِحْسانِ إِلَّا الإِحْسانُ}. ويلاحظ بأن الإحسان يختص بالتفضل على الغير ، والحسن ما كان محبوبا للفطرة سواء أكان تفضلا ، أم لم يكن ، ويدخل فيه حسن العقيدة ، وحسن القول والفعل ، ونية الخير ، بل والشعور بالذنب ، فكل هذه محبوبة للَّه وللفطرة ، وهو سبحانه يكافئ عليها بالحسنى ، إذن ، فالآية نظير قوله تعالى : {ومَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً - 23 الشورى}.
واختلف المفسرون في معنى الزيادة ، لأنها ان كانت من نوع الحسنى فما هي بزيادة ، وان كانت غيرها فالكلمة مبهمة ، والذي نفهمه نحن ان المراد بالزيادة هنا انه جل ثناؤه يثيب الذين أحسنوا بأكثر مما يستحقون ، قال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ - 172 النساء}.
فعطف الزيادة على توفية الأجور دليل على ما قلناه .
{ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
كل ما في القلب من حزن وسرور ، وأمن وخوف ينعكس أثره في الوجه بوضوح ، ولكن أثر الخوف والقلق أظهر أثرا فيه من غيره ، بخاصة وجوه أهل النار إذا عاينوها ، فإنها تسود من الرعب ، حتى كأنها مغطاة بدخان ، أو بغبار أسود ، أما أهل الجنة فوجوههم ضاحكة مستبشرة : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ - 40 عبس}، أي: تغطيها غبرة سوداء .
{والَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها}. ان اللَّه عادل يجزي من أساء بما يستحق ، ولا يظلمه مثقال ذرة ، بل ويعفو عن كثير ، لأنه كريم ، ولجوده وكرمه يضاعف لمن أحسن أضعافا كثيرة {وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}أي ترهق المسيئين ذلة الفضيحة وكسوف الخزي ، ولا أحد أذل وأخزى ممن يفتضح على رؤوس الأشهاد {ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ}يمنع عنهم سخط اللَّه وعذابه .
{كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}. بعد أن قال سبحانه : ان الذين أحسنوا لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة قال : ان الذين أساؤا تسود وجوههم حتى كأنها قطعة من الليل البهيم . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : ما خير بخير بعده النار وما شر بشر بعده الجنة ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية .
{ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً}الذين أحسنوا والذين أساؤا {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وشُرَكاؤُكُمْ}. يقف غدا للحساب في موقف واحد المشركون والذين كانوا يزعمونهم شركاء للَّه ، ويتقابلون وجها لوجه ليدلي كل فريق بحجته فتخيب آمال المشركين فيمن كانوا يأملون بهم ، ويرجون منهم النفع في هذا الموقف ، ويتبين لهم انهم كانوا على ضلال في شركهم وعنادهم لرسل اللَّه وكتبه .
{فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ}أي: ان اللَّه سبحانه يميز يوم الحساب بين جميع خلقه بصفاتهم التي هم فيها وعليها ، ويظهر كل واحد على حقيقته ، وعندها يتبين للمشركين انه لا أحد يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، وان الأمر للَّه وحده لا شريك له ولا ند {وقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ}حين أوقف اللَّه المشركين والذين يعبدون في موقف واحد ، وقابل بينهم وجها لوجه ، قال هؤلاء لأولئك :
ما كنتم لنا عابدين ، وانما خيل ذلك إليكم ، وصوّرت لكم الأوهام ان للَّه شركاء واننا نحن أولئك الشركاء الذين لا وجود لهم الا في مخيلتكم ، فأنتم في الحقيقة تعبدون لا شيء ، ونحن شيء ، إذن لستم لنا بعابدين {فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ}فهو يعلم انكم اخترعتم في أوهامكم شركاء لا وجود لهم ، وأيضا يعلم ببراءتنا من شرككم {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ}لا نعرف عنها شيئا ، وفيه إيماء إلى نفي الأهلية عنهم للعبادة ، وانهم عبيد وليسوا بمعبودين .
{هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ورُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}. أي: انه تعالى يجمع الناس للحساب ، ويجزي كل نفس بما كسبت ، ولا تجد شيئا مما كانت تعتقده وتتوهمه ينفعها ويدفع عنها الا العمل الخالص لوجه اللَّه وحده . . وقد تكرر هذا المعنى بأساليب شتى في العديد من الآيات .
________________
1- تفسير الكاشف ،محمد جواد مغنيه ،ج4،ص151-153.
قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ } إلخ، الحسنى مؤنث أحسن والمراد المثوبة الحسنى، والمراد بالزيادة الزيادة على الاستحقاق بناء على أن الله جعل من فضله للعمل مثلا من الجزاء والثواب ثم جعله حقا للعامل في مثل قوله: {لهم أجرهم عند ربهم: آل عمران - 199 ثم ضاعفه وجعل المضاعف منه أيضا حقا للعامل كما في قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}: الأنعام - 160 وعند ذلك كان مفاد قوله: {للذين أحسنوا الحسنى} استحقاقهم للجزاء والمثوبة الحسنى، وتكون الزيادة هي الزيادة على مقدار الاستحقاق من المثل أو العشرة الأمثال نظير ما يفيده قوله: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله}: النساء: - 173.
ولو كان المراد بالحسنى في قوله: {للذين أحسنوا الحسنى} العاقبة الحسنى، وليس فيما يعقل فوق الحسنى شيء كان معنى قوله: }وزيادة) الزيادة على ما يعقله الإنسان من الفضل الإلهي كما يشير إليه قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}: الم السجدة - 17 وما في قوله: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}: ق - 35 فإن من المعلوم أن كل أمر حسن يشاؤه الإنسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما يدركه فافهم ذلك.
والرهق بفتحتين اللحوق والغشيان يقال: رهقه الدين أي لحق به وغشيه، والقتر الدخان الأسود أوالغبار الأسود، وفي توصيفهم بقوله: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} محاذاة لما في الآية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر وهو سواد صوري والذلة وهي سواد معنوي.
والمعنى: للذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى وزيادة من فضل الله - أو العاقبة الحسنى وزيادة لا تخطر ببالهم - ولا يغشى وجوههم سواد من قتر ولا ذلة، وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } إلى آخر الآية، جملة {جزاء سيئة بمثلها} مبتدأ لخبر محذوف والتقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها من العذاب، والجملة خبر للمبتدإ الذي هو قوله: {الذين كسبوا السيئات} والمراد أن الذين كسبوا السيئات لا يجزون إلا مثل ما عملوه من العقوبات السيئة فجزاء فعلة سيئة عقوبة سيئة.
وقوله: {ما لهم من الله من عاصم} أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من عذابه وفيه نفي لشركائهم الذين يظنونهم شفعاء على وجه ينفي كل عاصم مانع سواء كان شريكا شفيعا أو ضدا قويا ممانعا أو أي عاصم غيرهما.
وقوله: { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا } القطع جمع قطعة ومظلما حال من الليل، والمراد كان الليل المظلم قسم إلى قطع فأغشيت وجوههم تلك القطع فاسودت بالتمام، والمتبادر منه أن يغشى وجه كل من المشركين بقطعة من تلك القطع لا كما فسره بعضهم أن المراد أن الوجوه أغشيت تلك القطع قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.
فليس في الكلام ما يدل على ذلك.
وقوله: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} يدل على دوام بقائهم في النار للدلالة الصحابة والخلود عليه كما أن نظيره في أصحاب الجنة يدل على نظيره.
قوله تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ } إلى آخر الآية.
المراد حشر جميع من سبق ذكره من المؤمنين والمشركين وشركائهم فإنه تعالى يذكر المشركين وشركاءهم في هذه الآية وما يتلوها ثم يشير إلى الجميع بقوله في الآية التالية: {هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت}.
وقوله: {ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم} أي الزموا مكانكم أنتم وليلزم شركاؤكم مكانهم وتفرع على هذا الخطاب أن زيلنا بينهم، وقطعنا الرابطة التي كانت تربطهم بشركائهم وهي رابطة الوهم والحسبان التي يتصلون بسببها بشركائهم فانقطعوا عن شركائهم وانقطع شركاؤهم عنهم فبان أن عبادتهم لم تقع عليهم ولم تتعلق بهم لأنهم إنما عبدوا الشركاء وهم ليسوا بشركاء.
والدليل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى بعده: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} فالكلام على ظاهره من النفي الجدي الصادق لعبادتهم إياهم، وليسوا يكذبون في كلامهم هذا بدليل استنادهم إلى شهادة الله سبحانه، ولا أنهم يريدون أنا لم نكن ندعوكم إلى عبادتنا فإن الكلام لا يلائم هذا المعنى، ولا أن مرادهم التعريض لهم بأنكم كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم المغوين لكم في الحقيقة فإن ذلك لا يلائم دعواهم الغفلة، وكذا لا يلائمه قوله بعده: {هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت} إلخ، على ما سيجيء من معناه بل مرادهم نفي العبادة حقيقة بنفي حقيقة الشركة، والاستشهاد على ذلك بشهادة الله وعلمه بغفلتهم عن عبادتهم.
والعبادة التي هي اتصال ما بالمملوكية والتذلل من العابد بالمعبود إنما تكون عبادة إذا اتصلت وارتبطت بالمعبود - حتى يتم به معنى اللام في قولنا: العبادة له - ولا يكون ذلك إلا بشعور من المعبود وعلم منه بذلك فإذا لم يتحقق هناك علم لم تتحقق عبادة حقيقة، وإنما هي صورة عبادة.
فقد تبين أن المراد بقوله: { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } إظهاره وإبرازه تعالى يومئذ حقيقة الأمر الذي سترت عليه الأوهام وحجبته الأهواء في الدنيا وهو أن حقيقة المولوية ومالكية زمان التدبير لله سبحانه وليس لغيره من المولوية والربوبية شيء حتى يصح الالتجاء إليه وتصدق عبادته.
فإذا كشف الله الغطاء عن وجه هذه الحقيقة يومئذ بأن للمشركين أن شركاءهم لم يكونوا شركاء ولا معبودين لهم في الحقيقة - لغفلتهم عن عبادتهم، وإنما كانوا يأتون لهم بصورة العبادة التي كان الوهم والهوى يصور أنها عبادة وليست بها.
وإليه يشير أيضا قوله تعالى: { وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ:} النحل: - 86.
وقد تبين بذلك أيضا أن قوله: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} قول من شركائهم لهم على الجد والحقيقة، ويظهر به فساد قول بعضهم: المراد أنكم لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا لا أنكم لم تعبدونا أصلا لأن ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الآخرة لكونهم ملجئين فيها إلى ترك القبيح.
فإن نفي أصل العبادة بما عرفت من معناه هو حق الصدق وإثبات العبادة وإن لم يكن كذبا إلا أنه لا يخلوعن مجاز في الجملة بالنظر إلى حقيقة الأمر على أن ما ذكره أن المراد نفي العبادة بأمرهم ودعوتهم معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ.
على أن الكذب إنما لا يقع في الآخرة إذا كان عملا وكسبا وإما بمعنى نتيجة الملكات الدنيوية فلا مانع من إمكانه بل هو واقع كما يحكيه تعالى في قوله: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ }: الأنعام: - 24 وغيره من الآيات.
وكذا قول بعضهم: إن المراد ما كنتم تخصوننا بالعبادة، وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وشياطينكم المغوية لكم - فإن صدق عبادة الأهواء والشيطان على عملهم من جهة أنه اتباع للهوى والشيطان لا ينفي عنه صدق كونه عبادة للأصنام كما أنه تعالى يصدق في كلامه الجهات الثلاث جميعا قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم:} يونس: - 18 وقال: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}: الجاثية: - 23، وقال: { أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ:} يس: - 60.
ومن المعلوم أن الشركاء يحتجون لنفي كونهم معبودين لهم لا لإثبات كون الهوى والشيطان معبودين لهم مع الشركاء فإن هذا لا ينفعهم في الحجة البتة، ويستلزم لغوية إثباتهم الغفلة لأنفسهم في قولهم: {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} لأن الأهواء أيضا ما كانت شاعرة بعبادتهم كما أن الأصنام وهي أجسام ميتة كذلك.
ولعل القائل اعتمد في قوله على الحصر المفهوم من قوله: {ما كنتم إيانا تعبدون} بتقديم المفعول على فعله، وظاهره أنه قصر قلب مدلوله نفي المعبودية عن أنفسهم وإثباته لغيرهم، ليس نفيا لأصل العبادة فإنهم يثبتونها في قولهم: {عن عبادتكم} فإن إضافة المصدر إلى معموله يفيد الثبوت.
لكن الحق أن هؤلاء الشركاء إنما قالوا لهم: {ما كنتم إيانا تعبدون} تجاه ما قاله المشركون على ما حكاه الله: { رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ }: النحل: - 86 فنفوا عبادتهم عن الله سبحانه وأثبتوها للشركاء والشركاء لم يكن ينفعهم إلا نفي عبادة المشركين عن أنفسهم، وأما أنها ثابتة لمن؟ فلا غرض لهم يتعلق بذلك وإنما همهم تنزيه أنفسهم عن دعوى الشركة، وقد احتجوا على ذلك بإثبات الغفلة عن ذلك لأنفسهم، ولو كانوا شاعرين بعبادتهم وعبدوهم كان لزمهم أعني الشركاء دعوى الشركة.
قوله تعالى: {فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم} إلى آخر الآية، ظهر معناه بما مر من التقرير والفاء في قوله: {فكفى بالله يفيد التعليل كقولنا: اعبد الله فهو ربك، وهو شائع في الكلام.
قوله تعالى: { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } إلى آخر الآية، البلاء الاختبار، والإشارة بقوله: {هنالك} إلى الموقف الذي ذكره بقوله: { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ }.
فذلك الموقف موقف تختبر وتمتحن كل نفس ما أسلفت وقدمت من الأعمال فتنكشف لها حقيقة أعمالها وتشاهدها مشاهدة عيان لا مجرد الذكر أوالبيان، وبمشاهدة الحق من كل شيء عيانا ينكشف أن المولى الحق هو الله سبحانه، وتسقط وتنهدم جميع الأوهام، وتضل جميع الدعاوي التي يفتريها الإنسان بأوهامه وأهوائه على الحق.
فهذه الافتراءات والدعاوي جميعا إنما نشأت من حيث الروابط التي نضعها في هذه الدنيا بين الأسباب والمسببات والاستقلال والمولوية التي نعطيها الأسباب ولا إله إلا الله ولا مولى حقا إلا هو سبحانه فإذا انجلت حقيقة الأمر، وانكشف غيم الوهم وانهتك حجاب الدعاوي ظهر أن لا مولى حقا إلا هو سبحانه، وبطل جميع الآلهة التي إنما أثبتها الافتراء من الإنسان، وسقطت وحبطت جميع الأعمال إلا ما عبد به الله سبحانه عبادة حق.
فالفقرات الثلاث من الآية أعني قوله: {تبلوا كل نفس} إلخ، وقوله: {ردوا إلى الله} إلخ، وقوله: {وضل عنهم} إلخ، كل منها تعين الأخريين على إفادة حقيقة معناها، ومحصل مفاد المجموع ظهور حقيقة الولاية الإلهية يومئذ ظهور عيان وأن ليس لغيره تعالى إلا الفقر والمملوكية المحصنة فيبطل عند ذلك كل دعوى باطلة وينهدم بنيان الأوهام.
كما يشير إلى ذلك قوله: {هنالك الولاية لله الحق: الكهف: - 44، وقوله: { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ: غافر: - 16: }وقوله والأمر يومئذ لله: الانفطار: - 19، إلى غير ذلك.
_______________
1- تفسير الميزان، الطباطبائي ،ج10،ص33-38.
بيض الوجوه وسود الوجوه:
مرّت الإِشارة في الآيات السابقة إِلى عالم الآخرة ويوم القيامة، ولهذه المناسبة فإِنّ هذه الآيات تبيّن مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في البداية: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}(2).
ومع أن هناك بحث بين المفسّرين في المقصود من الزيادة في هذه الجملة، إلاّ أنّنا إِذا علمنا أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، رأينا أنّ المراد هو الإِشارة إِلى الثواب المضاعف الكثير، الذي يتضاعف أحياناً عشر مرات، وأُخرى آلاف المرات حسب نسبة الإِخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل، فنقرأ في الآية (160) من سورة الأنعام. {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}.
وفي الآية (173) من سورة النساء : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }.
وفي الآيات المرتبطة بالإِنفاق في سورة البقرة آية (261) يدور الحديث أيضاً عن مكافأة الصالحين ومضاعفة عملهم إِلى سبعمائة ضعف، أو مضاعفته أضعافاً كثيرة من قبل الله سبحانه.
والنقطة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هنا، هي أن من الممكن أن تستمر هذه الزيادة والإِضافة حتى في عالم الآخرة، أي أنّه في كل يوم سيمنحهم الله سبحانه موهبة ولطفاً جديداً، وهذا يبيّن أن حياة العالم الآخر ليست على وتيرة واحدة، بل تستمر في حركتها نحو التكامل الى ما لانهاية.
والرّوايات التي وردت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية، والتي تبيّن أن المراد من «الزيادة» هو التوجه إِلى نور الذات الإِلهية المقدسة والإِستفادة من هذه الموهبة المعنوية الكبيرة قد تكون إِشارة إِلى هذه النكتة.(3)
وفي بعض الرّوايات المنقولة عن أهل البيت(عليهم السلام)، فسّرت «الزيادة» بزيادة النعم الدّنيوية التي يتفضل بها الله على الصالحين علاوة على ثواب الآخرة(4)، ولكن لامانع من أن تكون الزيادة في الآية أعلاه إِشارة إِلى كل هذه المواهب.
ثمّ تضيف الآية: { وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ }. {يرهق} مأخوذة من مادة «رهق»، وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية، «والقتر» بمعنى «الغبار» والدخان.
وفي النهاية تقول: { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }التعبير بالأصحاب إِشارة إِلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط الجنّة.
ثمّ يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النّار الذين يشكلون الطرف المقابل للمجموعة الأُولى، فتقول: { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا }وهنا لايوجد كلام عن الزيادة، لأنّ الزيادة في الثواب فضل ورحمة، أمّا في العقاب فإِنّ العدالة توجب أن يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلاّ أن هؤلاء عكس الفريق الأوّل مسودة وجوههم {وترهقهم ذلة}(5).
ويمكن أن يقول قائل: إِنّ هؤلاء يجب أن لا يروا من العقاب إلاّ بقدر ذنوبهم، وأنّ اسوداد الوجه هذا، وغبار الذل الذي يغطيهم شيء إضافي. لكن ينبغي الإِنتباه إلى أن هذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإِنسان إِلى الخارج، تماماً كما نقول: إِنّ الأفراد المعتادين على شرب الخمر يجب أن يجلدوا. وفي الوقت نفسه فإِنّ الخمر تولد مختلف أمراض المعدة والقلب والكبد والأعصاب.
وعلى كل حال، فقد يظن المسيئون أنّهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو النجاة، أو أنّ الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم، إلاّ أن الجملة التالية تقول بصراحة: {مالهم من الله من عاصم}.
إِنّ وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إِلى الحد الذي { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
مشهد من قيامة عبدة الأوثان:
تتابع هذه الآيات أيضاً البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين، وتجسم حيرة وانقطاع هؤلاء عند حضورهم في محكمة العدل الإِلهي، ووقوفهم بين يدي الله لمحاسبتهم.
فتقول أوّلا: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ }(6). واللطيف أنّ الآية أعلاه قد عبّرت عن الأصنام بشركائكم، في حين أنّ المشركين كانوا قد جعلوا الأصنام شريكة لله، لاشريكة أنفسهم.
إِنّ هذا التعبير في الحقيقة إِشارة لطيفة إِلى أن الأصنام لم تكن شريكة لله، وأن أوهام وتخيلات عبدة الأوثان هي التي أعطتها هذا المقام، وهذا يشبه تماماً ما لو عيّن المشرف على التعليم معلماً أو مديراً غير صالح لمدرسة ما، صدرت ومنهما أعمال قبيحة وغير لائقة. فتقول للمشرف: تعال وانظر، هذا معلمك وهذا مديرك يرتكبان مثل هذه الاعمال، في حين أنّه ليس معلمه ولامديره، بل معلم المدرسة ومديرها الذي اختارهما.
ثمّ تضيف: أنّنا سوف نعزل هاتين الفئتين ـ أي العابدون والمعبودون ـ عن بعضهم البعض، ونسأل كلا منهما على انفراد، تماماً كما هو المتداول في كل المحاكم حيث يسأل كل واحد على انفراد، فنسأل العابدين: بأي دليل جعلتم هذه الأصنام شريكة لله وعبدتموها؟ ونسأل المعبودين: لماذا أصبحتم معبودين؟ أو لماذا رضيتم بهذا العمل؟ {فزيلنا بينهم}(7).
في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء: { وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } فأنتم في الواقع كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم، لا أنّكم كنتم تعبدوننا، ولو سلمّنا ذلك فإِنّ عبادتكم لنا لم تكن بأمرنا ولا برضانا، والعبادة كهذه ليست بعبادة في الحقيقة.
ثمّ، ومن أجل التأكيد الأشد، يقولون: { فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ }(8).
هناك بحث بين المفسّرين في المراد من الأصنام والشركاء، أي معبودات هي؟ وكيف أنّها تتكلم بهذا الكلام؟
فالبعض احتمل أن يكون المراد منها المعبودات الإِنسانية والشيطانية، أو من الملائكة التي لها عقل وشعور وإِدراك، إلاّ أنّهم رغم ذلك لا يعلمون بأنّ فئة تعبدهم، أمّا لأنّهم يعبدونهم حال غيابهم، أو بعد موتهم، وعلى هذا فإِنّ تكلم هؤلاء سيكون أمراً طبيعياً جدّاً، وهذه الآية نظيرة الآية (41) من سورة سبأ، التي تقول: {ويوم يحشرهم جميعاً ثمّ يقول للملائكة أهؤلاء إِيّاكم كانوا يعبدون}.
والإِحتمال الآخر الذي ذكره كثير من المفسّرين، هو أن الله سبحانه يبعث الحياة والشعور في الأصنام في ذلك اليوم بحيث تستطيع إِعادة الحقائق وذكرها، والجملة أعلاه للاصنام التي دعاها الله سبحانه للشهادة، وأنّهم كانوا غافلين عن عبادة من يعبدهم، وبذلك تكون أكثر تناسباً مع هذا المعنى، لأنّ الأصنام الحجرية والخشبية لا تفهم شيئاً أصلا.
ويمكن أن نحتمل في تفسير هذه الآية أنّها تشمل كل المعبودات، غاية ما في الأمر أن المعبودات التي لها عقل وشعور تعيد الحقائق وتذكرها بلسانها، أمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا شعور فإِنّ الكلام عن لسان حالها، وتتحدث عن طريق انعكاس آثار العمل، تماماً كما نقول: إِنّ سيماءك تخبر عن سرك، والقرآن الكريم يبيّن أيضاً في الآية (21) من من سورة فصلت أن جلود الإِنسان ستنطق يوم القيامة، وكذلك في سورة الزلزلة يبيّن أنّ الأرض التي كان يسكنها الإِنسان ستذكر الحقائق.
إِنّ هذه المسألة ليست صعبة التصور في زماننا الحاضر، فإِذا كان شريط أصم يسجل كل كلامنا ويعيده عند الحاجة، فلا عجب أن تعكس الأصنام أيضاً واقع أعمال عابديها!.
على كل حال، ففي ذلك اليوم وذلك المكان وذلك الحال ـ كما يتحدث القرآن في آخر آية من آيات البحث ـ فإِنّ كل إِنسان سيختبر كل أعماله التي عملها سابقاً ويرى نتيجتها، بل نفس أعماله، سواء العابدون والمعبودون المضلون الذين كانوا يدعون الناس إِلى عبادتهم، وسواء المشركون والمؤمنون، من أي قوم ومن أي قبيل: { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } وفي ذلك اليوم سيرجع الجميع إِلى الله مولاهم الحقيقي، ومحكمة المحشر تبيّن أن الحكم لايتم إلاّ بأمره { وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ }.
وأخيراً فإِنّ جميع هذه الأصنام والمعبودات المختلقة التي جعلها هؤلاء شريكة لله كذباً ستفنى وتمحى: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } فإِنّ القيامة ساحة ظهور كل الأسرار الخفية للعباد، ولا تبقى آية حقيقة إلاّ وتُظهر نفسها. ومن الطبيعي أنّ هناك مواقف ومقامات لا تحتاج إِلى سؤال أو جدال وبحث، بل إنّ الحال يحكي عن كل شيء، ولا حاجة للمقال.
____________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج5،ص462-467.
2- ينبغي التنبه إِلى أن (الحسنى) في هذه الجملة مبتدأ مؤخر، ومعنى الآية هكذا. الحسنى للذين أحسنوا، ولذلك فإنّ (زيادة) المعطوفة عليها مرفوعة، والحسنى صفة للمثوبة المقدّرة، وقد حلّت محلّ الموصوف.
3- تفسير علي ابراهيم القمي ، ج1،ص312، وتفسير القرطبي ،ج8 ، ص330.
4- بحار الانوار ،ج7 ، ص260.
5- من الممكن، بقرينة الآية السابقة، أن تكون جملة (ترهقهم ذلة) بتقدير: (يرهقهم قتر وذلة)، وبقرينة المقابلة حذفتُ (قتر) لأجل الإِختصار.
6- إِنّ (مكانكم) في الواقع مفعول لفعل مقدر، وكانت في الأصل (ألزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم حتى تسألوا) وهذه الجملة في الحقيقة تشبه الآية (24) من سورة الصافات، حيث تقول (وقفوهم إِنهم مسؤولون).
7- «زيلنا» من مادة التزييل، بمعنى التفريق، قال بعض أرباب اللغة: إِن مادتها الثلاثية، زال يزيل، بمعنى الفرقة، لا أنّها من مادة: زال يزول بمعنى الزوال.
8- (إِن) في الجملة أعلاه مخففة من الثقيلة، وهي للتأكيد ومعنى الجملة هو: إِنّنا كنّا عن عبادتكم لغافلين.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|