المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
الحديث المضطرب والمقلوب
2024-12-22
الحديث المعلّل
2024-12-22
داء المستخفيات الرئوية Pulmonary cryptococcosis
2024-12-22
احكام الوضوء وكيفيته
2024-12-22
أحكام النفاس
2024-12-22
من له الحق في طلب إعادة المحاكمة في القوانين الجزائية الإجرائية الخاصة
2024-12-22



محمد عثمان جلال  
  
5573   04:16 مساءً   التاريخ: 30-9-2019
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : في الأدب الحديث
الجزء والصفحة : ص:103-113ج1
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-06-2015 2266
التاريخ: 26-1-2016 6589
التاريخ: 25-06-2015 2178
التاريخ: 30-12-2015 4879

 

محمد عثمان جلال:
وهو مصريٌّ من صميم الريف، ولد في "ونا القس" بمديرية بني سويف سنة 1828، وتلقى العلم في مدرسة قصر العيني، ثم في مدرسة الألسن، وكان من نبهاء تلامذة رفاعة الطهطاوي, وشغل عدة مناصب حكومية، وكان آخر ما تولاه منها منصب القضاء في المحاكم المختلطة سنة 1881، وتوفي سنة 1898 عن سبعين سنة.

(1/103)

امتاز محمد عثمان جلال بأنه يمثِّل الروح المصرية أتَمَّ تمثيلٍ في خفتها، وحبها للنكتة، ومرحها الجم، وقد اختلط كثيرًا بالعامة، وعرف أمثالهم ونوادرهم، ومواعظهم، وعرف كذلك ميولهما الفطرية، وحبهم للقصص العربية، وامتاز أيضًا بأنه كان أديبًا مطبوعًا، ثائرًا على المدرسة التقليدية التي تحاكي أدب القديم في محسناته وفخامته، وموضوعاته، فكان يعتمد أولًا على تجربته الشخصية, يستوحيها ويستلهمها, ويعبر عما يحسه وعما يهديه إليه فكره، فهو في أدبه يمثل القاهرة والريف المصريّ، لا بغداد ولا قرطبة, ولا البلاد العربية وصحراءها, وهذا لعمري هو الأدب الصادق، ولولا ما شاب أدبه من إسفافٍ في اللفظ, وجنوحٍ إلى العامية، إفراطًا منه في مصريته، لكان من أفذاذ الأدباء المصريين, وأصحاب المبادئ في الأدب، وقد نقد في كتابه "العيون اليواقظ" هؤلاء الذين يدعون إلى الأدب التقليديّ, ولا يستلهمون مشاعرهم الخاصة، وأساليبهم المبتكرة:
يقولون ما هذا الكتاب وما به ... أكاذيب أقوال البهائم في قبح
وقد زعموا أن البلاغة لم تكن ... بأحسن مما قيل في القد والرمح
وتشبيه لون الخد بالورد واللظى ... وتمثيل نور الوجه إن لاح بالصبح(1)
وقد غالى في مصريته وثورته على الأدب القديم، فأكثر من استعمال العامية، سواء في كتبه الموضوعة, أو في ترجمته للروايات المسرحية.
ومن أشهر كتبه التي تمثل هذه الروح المصرية المرحة، وتدل على شدة تأثره بعامة الشعب في أمثالهم, كتابه الذي أشرنا إليه سابقًا، وهو "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ", الذي ترجم به أمثال "لافونتين" La Fontaine شعرًا(2)، وقد شحنه محمد عثمان جلال بكثير من الأمثال العامية، من مثل قوله:
(1/104)

فإنما تأخذ من سماطي ... ما تأخذ الريح من البلاط(3)
وقوله:
واحذر مدى الأيام كل ساهي ... فإن تحت رأسه الدواهي(4)
وقوله:
إن كان بالتوت غضبان ... هلبت يرضيه شرابه(5)
وقوله:
صدقني حاجة ما تهمك ... وصى عليها جوز أمك(6)
ولغته في هذا الكتاب إما عامية دراجة، أو عربية قريبة من العامية، ومن أمثلة هذه القصص قوله:
كان البخيل عنده دجاجة ... تكفيه طول الدهر شر الحاجة
في كل يوم مر تعطيه العجب ... وهي تبيض بيضة من الذهب
فظن يوما أن فيها كنزًا ... وأنه يزداد منه عزًّا
فقبض الدجاجة المسكين ... وكان في يمينه سكين
وشقها نصفين من غفلته ... إذ هي كالدجاج في حضرته
ولم يجد كنزًا ولا لقيه ... بل رمة في حجره مرمية
فقال لا شك بأن الطمعا ... ضيع للإنسان ما قد جمع
وقد كان لهذا الكتاب تأثير كبير في أدب الأطفال في عصرنا الحاضر، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الأطفال من قصة مأخوذة منه بنصها، أو محرَّفَة بعض التحريف أو منثورة، بل إن بعض المشتغلين بكتب الأطفال لم يتحرجوا في أن ينسبوا بعض قصصه إلى أنفسهم, وعلى مواله نسج شوقي كثيرًا من القصص الرمزية أو قصص الحيوان.
(1/105)

ويقال: إن قصص "لافونتين" هذه التي ترجمها محمد عثمان جلال مأخوذة من قصص "إيسوب(7)".
هذا وقد ترجم عثمان جلال بعض رويات "موليير(8)" الهزلية: "الأربع روايات من نخب التياترات؛ منها رواية "ترتوف"، وسماها: "الشيخ متلوف" ومثلت مرارًا على المسرح المصري, ومنها: "النساء العالمات" وقد مصَّرَ أشخاص هذه الروايات وكتبها باللغة العامية.
وترجم كذلك بعض رويات "راسين(9)" وسماها: "الروايات المفيدة في علم التراجيدة" وقد قال في مقدمتها: "وجعلت نظمها يفهمه العموم, فإن اللغة الدراجة أنسب لهذا المقام، وأوقع في النفس عند الخواص والعوام(10)".
وألَّفَ محمد عثمان جلال روايةً بالعامية عن الخدم والمخدومين، ويقول الاستاذ العقاد عن ملكة عثمان القصصية عند الحديث عن هذه الرواية: "قد كان له ملكة قيمة في فن القصة والرواية المسرحية، فكانت هذه الملكة تنزع به إلى نظم الزجل غالبًا, والشعر أحيانًا, في وصف ما يقع له من النوادر والفكاهات والرياضيات، ومن ذلك زجله في الأزهار, وزجله في المأكولات، وأقوم منهما كليهما روايته المسرحية عن المخدومين والخدم، وهي باكورة في وضع الروايات المصرية، وتمثيل البيت المصريّ، والمجتمع الوطني, يندر ما يقاربها في بابها بين روايات هذا الجيل، وبحقٍّ يسمى محمد عثمان جلال أبا المسرحيات الوطنية في العصر الحديث(11)".
(1/106)

وقد يحار المرء في تحليل هذا الاتجاه الذي انحرف إليه عثمان جلال، وإيثاره اللغة العامية مع تمكنه من اللغة الفصحى، أما الدكتور طه حسين: فيرى أن ذلك لضعفه في اللغة العربية, وذلك حين يقول: "فأخذ الذوق يتغير، وكان تغيره قويًّا، ظهر في مظهرين مختلفين، أحدهما: إيثار اللغة العامية على لغة الأدب العصريّ، والآخر: إيثار اللغة القديمة، والأساليب القديمة على لغة العصر وأساليبه، ورأينا رجلًا كعثمان جلال قد أعجبه الأدب الفرنسيّ, وأراد أن ينقل إلى قومه صورًا منه، ولم يكن من الأدب القديم على حظٍّ قويٍّ، ورأى أن الأدب العصريَّ أدنى إلى الموت من أن يحتمل هذا الأدب الفرنسيّ، فيترجم لقومه، أو قل: ينقل إلى قومه تمثيل موليير في الزجل العاميّ, لا في الشعر العربيّ(12)".
على أن هذا الكلام على ما به من وجاهةٍ لا يؤخذ على إطلاقه، فمحمد عثمان جلال قد ترجم "بول وفرجيني" كما سنذكر فيما بعد, بأسلوب عربيٍّ فصيحٍ، كما قال كثيرًا من الشعر باللغة الفصحى، فهو لم يكن بهذه المنزلة من الضعف اللغويّ حتى يعجز عن ترجمة أمثال لافونتين، وهزليات موليير، ومآسي راسين, ويضع رواية باللغة العامية.
ولعل من الأسباب غير ما ذكره الدكتور طه حسين، عِظَمِ تأثره بالروح المصرية في كل شيء، وتعصبه للهجة العامية التي هي لغة جمهرة الشعب، وقد يكون ذلك لغرض تجاريٍّ بحت؛ إذ لم يجد الأدب الرفيع سوقًا رائجةً, فأقبل على التحدث إلى جمهرة الشعب باللغة التي يفهمونها لعلهم يقبلون على كتبه، وليس أدل على رواج هذه الكتب التي تكتب بالعامية من قول الشيخ محمد عبده، "ومنها الكتب المضرة بالأدب والأخلاق، كتب الأكاذيب الصرفة، وهي ما يذكر فيها تاريخ أقوام على غير الواقع، وتارةً تكون بعبارةٍ سخيفةٍ مخلةٍ بقوانين اللغة، ومن هذا القبيل كتب أبو زيد وعنترة العبسيّ، وإبراهيم بن حسن، والظاهر بيبرس، والمشتغلون بهذا القسم أكثر من الكثير، وقد طبعت كتبه مئات المرات, ونفق سوقها، ولم يكن بين الطبعة والثانية إلّا زمن قليل(13)".
(1/107)

ويقول عثمان جلال مؤيدًا هذا الرأي حين حاول نشر "العيون اليواقظ":
"
واشتغلت بإتمام العيون اليواقظ، وعرضتها على الوالي بواسطة المرحوم مصطفى فاضل، وكان أوصلني إليه محمد علي الحكيم، فما أثمر غرسها، فاتفقت مع فرنساويّ له مطبعة من الحجر, يسمى: يوسف بير، وعهدته بطبعها فتعهد، ثم أخلف ما وعد، فكلفت مطبعة أكبر من مطبعته، وصرفت عليها ما جمعت، ونشرتها، ثم بعد الحمار وبعتها، وقلت في ذلك:
راجي المحال عبيط ... وآخر الزمر طيط
والناس فاثنان بخت ... مروج وقليط
والعلم من غير حظ ... لا شك جهل بسيط(14)
وقد يكون من الأسباب التي دعته إلى ترجمة المسرحيات وكتابتها باللغة الدارجة, إقبال الفرق التمثيلية على هذا النوع دون سواه, ولا سيما بعد أن أغلقت أبواب "الأوبرا" التي كان يشجعها إسماعيل, ويهب الممثلين فيها والمؤلفين لها بعض المال، ويحضر الروايات بنفسه، وكان التأليف حينذاك باللغة الفصحى، فلما أغلقت الأوبرا أبوابها؛ إذ عد التمثيل ترفًا وإسرافًا، وأنشئت الفرق الخاصة, واعتمدت على الجمهور، اضطرت إلى مجاراته في لغته، وإلى التأليف له بالعامية حتى يقبل على مسارحها.
وإذا أحسنَّا الظن بعثمان جلال قلنا: إنه جارى المصلحين في نزولهم إلى مستوى الشعب حتى يكون لكلامهم أثره، ولم ينظروا للأدب إلّا بمقدار ما يؤثر في النفوس، وقد رأى عثمان جلال انتشار الأدب الرخيص, وإقبال الجمهور على سماعه في المقاهي؛ من أمثال قصة أبو زيد، وعنترة, والظاهر بيبرس, وغيرها، فأثر أن يوجد لهم أدبًا اسمى موضوعًا، ولكن لابد من كتابته باللغة التي يفهمونها، ولا سيما حين منعت الحكومة طبع كتب الأدب الرخيص؛ إذ وجدت فيها ضررًا عظيمًا، ولبَّت نداء المصلحين بمنع تداولها(15).
(1/108)

وربما كان من حسن الظن بعثمان جلال أنه قلَّدَ أدباء الغرب في إنطاقهم أشخاص رواياتهم بلهجاتهم المألوفة، ورأى أنه ليس من المعقول أن ينطق الخادم مثلًا اللغة العربية الفصحى، ولما كان جمهرة أبطاله من عامة الشعب, لجأ إلى العامية لتكون شخصياتهم مطابقة لواقع الحياة، خاليةً من التكلف والصنعة.
ومهما يكن من أمرٍ, فإن هذا النوع من الأدب لم يكتب له الخلود؛ لأن اللغة العامية، وإن كانت قريبةً من الشعب، تنبض بالحياة, وتجدد كل يوم, فهي لغةٌ لا أصل لها، ولا نظام، ولا قاعدة، ولذلك أهمل كل ما كتب بها، وإن كنت لا أبرئ محمد عثمان جلال من مملأته للإنجليز في حملتهم على اللغة العربية، وترويجهم للغة الدارجة؛ لأنه كان إبَّان عصر القوة -عصر إسماعيل- يكتب بالفصحى، فلما انقضى هذا العهد، ورأى المحتلين يشجعون اللغة العامية, ويعاضدهم المبشرون والمستشرقون أمثال: مارتمان Martman, ويشجعونه على الكتابة والتأليف باللغة العامية، وهم أصحاب الحول والطول، وعلى طريقته تلك(16).
وقد كان لمحمد عثمان جلال ومسرحياته، وكتابته باللغة العامية أثرٌ في الجيل الذي أتى بعده؛ إذ حذا حذوه "هيكل" في رواية "زينب", التي نشرها أول الأمر سنة 1914 باللغة العامية، ومحمد تيمور ومحمود تيمور فيما أخرجا من قصص, ولكن زينب أهملت كذلك؛ لأنها كتبت بالعامية، ويقول الأستاذ المازني في شأنها: "وأعتقد أن الدكتور هيكل يوافقني الآن على ذلك -أنه لو كتبها باللغة الفصحى -فإن فيها عاميًّا غير قليل- لكان أثرها أسرع في إزخار هذا التيار الجديد"(17).
ولم يجرؤ هيكل، كما لم يجرؤ من قبله محمد عثمان جلال، وقد كتبا باللغة العامية، على الجهر بأنهما ألفا هذه الروايات العامية، وإلّا انحطت منزلتهما الأدبية، ولذلك نرى عثمان جلال يرمز إلى اسمه بالحروف الأولى "م. ع.ج" على الروايات "المفيدة في علم التراجيدة" و"الأربع روايات من نخب التياترات", كما
(1/109)

يكني هيكل عن نفسه حين نشر "زينب" لأول مرةٍ بقوله: "زينب -مناظر وأخلاق ريفية- بقلم مصري فلاح"، ذلك لعلمهما بأن اللغة العامية ليست لها مكانة، وأنهما يحاولان بعثها وخلقها، ولكن هيهات.
ومن الكتب التي ترجمها محمد عثمان جلال عن الفرنسية رواية "بول وفرجيني" للكاتب الفرنسيّ "برناردين دي سان بيير"(18), وقد صبغها عثمان جلال بالصبغة المصرية كعادته، وسماها: "الأماني والمنة، في حديث قبول وورد جنة"، وتصرف فيها بالزيادة والنقصان، ولكنه حرص في كثير من الأحيان على روح الرواية وأصلها, وقد قال في تصدير الكتاب: "أخرجته من الطباع الإفرنجية، وجعلته على عوائد الأمة العربية، فمن تصحفه بعين النقد، رأى القد على القد، ومن قاسه بمقياس المقابلة، وطبق آخره وأوله، رأى فذًّا قرن بتوأم، وعلم أن من ترجم فقد ترجم، ثم كتبته على ورق الحنة، وسميته قبول وورد جنة، لمقارنة مخرج الاسمين، ومطابقته في لفظة اللغتين".
ولقد ترجمت هذه الرواية بعد ذلك عدة تراجم, أشهرها ترجمة المنفلوطي التي سماها: "الفضيلة"، وقد خلع عليها ثوبًا قشيبًا من أدبه وأسلوبه، وترجمته يغلب عليها الروح الأجنبيّ, وينقصها الروح المصريّ الذي اشتهر به عثمان جلال(19).
وكان لعمثان جلال الفضل في تنبيه الأدباء إلى هذه الرواية، وحاول كثير منهم ترجمتها كما ذكرنا، وقد التزم عثمان جلال الأسلوب المسجوع، والقصير الفقرات، السهل العبارة، واستمع إليه يصف حال ورد جنة قبل فراقها لقبول، وسفرها إلى خالتها.
"
ولما جاء العشاء، وجلس الكل على المائدة, وكان جلوسهم بغير فائدة؛ إذ كان لكل شأن يغنيه، وشاغل يشغله ويلهيه، ويأكلون قليلًا، ولا يقولون قليلًا، ثم
(1/110)

ما أسرع ما قامت ورد جنة أولًا، وجلست في مكانٍ غير بعيدٍ في الخلاء، فتبعها قبول، وجلس بجانبها، ومكثت تراقبه, ومكث يراقبها، وانقضت عليهما ساعة، وهما ساكنان، ولبعضهما ملتفتان.
وكانت ليلة نيرة، ذات سماء مقمرة، زائدة الإتحاف والألطاف، لا يرسمها رسام, ولا يصفها وصاف، قد نزل البدر منها منزلة القلب، ونشر أشعته على الشرق والغرب، فما يستره إلّا أثر الضباب، وبعض سحاب، كأنه حين تجلى على بساط الخضرة، بدرٌ عليه من الفضة بدرة، وكان الريح ممسكًا نفسه، والليل مطلقًا همسه، فلا يسمع في الغابات ولا في الوديان، لا صوت إنسانٍ ولا صوت حيوان, إلّا مناغاة الطيور في أوكارها، ومداعبتها مع صغارها، مسرورين بضيائه، وسكون الجو في جميع أرجائه".
وكان عثمان جلال كثيرًا ما ينطق قبول وورد جنة بالشعر العربيّ الفصيح, مع اعترافه بأنها "لم يتعلما الكتابة ولا القراءة" بل نشأ على السذاجة والبراءة، فلا يفكران في أزمانٍ مضت، ولا ليالٍ انقضت، بل قام بعقولهما الصغيرة، أن الدنيا قد انحصرت في هذه الجزيرة، وأن لا لذة لهما فوق لذتهما، ولا شغل إلّا حب أمهاتهما"(20).
ومن ذلك الشعر قول ورد جنة، تذكر لهف الأمهات على أولادهن، ولذلك قبل أن تسافر إلى خالتها لتبتدئ تعلمها الدنيا:
يا ويح قلبي على نساء ... قد لقبوهن بالأمهات
يحملن طول الزمان هَمًّا ... على البنين أو البنات
وكل خير لهن ماضٍ ... وكل ضيرٍ لهن آتٍ
ما تم حظٌّ لهن إلّا ... بدَّلَه الله بالممات
(1/111)

فقال لها قبول, وقد أحسن أن يقول:
وحق حبي لك يا أختاه ... وما اعترى قلبي وما أتاه
لترين اليوم أمهاتنا ... ولنبيتن معًا في بيتنا(21)
وأسلوب عثمان جلال في "بول وفرجيني" كما ترى من الأساليب الخالية من التعقيد, والتي تنطلق في يسر ورشاقة, ويدل على تمكنه من اللغتين الفرنسية والعربية، فقد حصر على الأصل كل الحرص، وأداه بخير أداء، ولولا تمصيره لأشخاص الرواية، وجعله الكنيسة مسجدًا، وبرج ناقوسها مئذنة، وصبغها بالصبغة المصرية الخالصة, لجاءت ترجمته مثلًا في الترجمة؛ إذ أضفى عليها من الأمانة، وخفة الظل، وسهولة اللفظ شيئًا كثيرًا.
ومن الذين اشتهروا بالترجمة خليفة محمود, وقد ترجم "إتحاف الملوك الألبا بتقديم الجمعيات في بلاد أوربا"، وكتاب "إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شرلكان" وترجم محمد أحمد عبد الرزاق كتاب "غاية الأدب في خلاصة تاريخ العرب" تأليف المؤرخ الفرنسيّ "سيديللو", وترجم بشارة شديد رواية "الكونت دي موت كريستو" تأليف: "إسكندر دوماس", وجاءت بعبارة بسيطة ليكون ذلك سهلًا على عامة الناس, كما يقول المترجم.
وترجم حسن عاصم خطبة "رينان" الفرنسيّ، وموضوعها "الدين الإسلاميّ والأمة العربية", وترجم مراد مختار من التركية "قصة أبي علي بن سينا, وشقيقه أبي الحارث، وما حصل منهما من نوادر العجائب، وشوارد الغرائب".
وهذه أهم الكتب الأدبية التي ترجمت في عصر إسماعيل، ويقول قدري باشا: إن مستوى الترجمة قد هبط بمصر بعد أن أغلقت مدرسة الألسن، ولم يخلفها معهد آخر لتخريج العلماء الأكفاء في التعريب، ولذلك استعانت الحكومة بالأجانب.
(1/112)

نعم إن مدرسة الألسن قد أعيدت في عهد إسماعيل -كما ذكرنا, بيد أن تخريج المترجمين لم يكن موضع عناية, ولا سيما بعد أن حولت إلى مدرسةٍ للحقوق سنة 1886.
أما التأليف فقد خطا خطواتٍ لا بأس بها, ولا سيما في القانون والتاريخ والعلوم، فقد ألف قدري باشا ثلاثة كتب, رتب فيها أحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية والأحوال الشخصية والوقف، على مذهب أبي حنيفة، وصاغها في شكل مواد قانونية، وهي كتاب "مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان" في المعاملات الشرعية، وكتاب "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية", وكتاب "قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف".
أما التأليف في العلوم, فهناك عشرات الكتب من تأليف علي البقلي، والشافعي، ومحمد بيومي، وصالح مجدي، ومحمد سليمان، وهو أول من برع في الترجمة من الإنجليزية.
وقد ذكر قدري باشا(22) أن تلاميذ رفاعة بك عرَّبُوا نحو ألف كتاب, أو رسالة في مختلف العلوم والفنون، وأن جميع الذين نبغوا في الترجمة كانت لهم مؤلفات قيمة.
هذا, وقد توسعت حكومة إسماعيل في فتح المدارس والمعاهد على اختلاف أنواعها ودرجاتها، واقتضى ذلك تنسيق العلوم والمواد المختلفة لصغار التلاميذ، فألفت الكتب العربية شاملةً كل نواحي العلم, من: حساب وجغرافيا وتاريخ وطبيعة كيمياء وحيوان وحياة ولغة, إلى غير ذلك مما مهَّدَ السبيل لبلوغ النهضة ذورتها في عصرنا الحالي.

(1/113)

 


__________

 

العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ ص 102 ..(1)
 (2) لافتونتين: شاعر فرنسي مشهور, ولد في سنة 1621، وتوفي بباريس سنة 1695، وقد اشتهر بكتابة القصص، والأمثال, أما "القصص" فقد أهمل فيه الأخلاق، ولكنه ممتلئ بالحيوية، وكتاب الأمثال هو أشهر الكتابين، ولا يزال حتى اليوم ذا منزلة عظيمة في عالم الأدب، وقد نظم فيه كثيرًا من القصص الرمزية،

وقصصًا على ألسنة الحيوان؛ من أمثال تلك التي في كليلة ودمنة, بل إن كثيرًا منها مأخوذة من كليلة ودمنة الذي ترجم إلى كل اللغات الأوربية منذ القرن الرابع عشر.
راجع "Nouveau Petit La Illustre".

(3) العيون اليواقظ ص149.
(4) ص164.
(5) ص 99.
(6) ص 176.

"(7) إيسوب": صاحب هذه الخرافات يوناني, ولد بعد تأسيس روما بمائتي سنة، وكان عبدًا رقيقًا, وإليه تنسب هذه القصص التي قيلت على ألسنة الحيوان، وكثير منها شرقيّ: هندي, وصيني، وفارسي, وعربي، وقد ترجم قسيس إغريقي في القرن الرابع عشر كثيرًا من القصص الشرقية ونسبها إلى إيسوب.
(Masterpiece Librery of Short Stories Vol. I.P.15) .
 موليير Moliere (8)شاعر فرنسي, ولد بباريس سنة 1622، واشتهر برواياته التمثيلية الهزلية، ومن أشهرها: النساء المتحذلقات، والطبيب رغم أنفه، وترتوف، ومدرسة النساء، وتوفي سنة 1673 (Petit Larouse Illu Stre) .
وراجع كتابنا "المسرحية: نشأتها وتاريخها وأصوله - فصل الملهاة".
راسين Racine (9)شاعر فرنسي, اشتهر بمآسيه ولد سنة 1639، وكان صديقًا لموليير، وللافنونتين، وقد بلغ المثل الأعلى في كتابة المأساة المسرحية على الطريقة "الكلاسكية" الاتباعية, ومن أشهر مآسيه: أندروماك، وقد ترجمها أديب

إسحاق كما مر بنا، , "باجازيت أو بابا زيد" وآتيل، وتوفي في سنة 1699 "راجع كتابنا المسرحية".
(10) مقدمة الروايات المفيدة في علم التراجيدة.
(11) شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي, للعقاد ص117.

(12) حافظ وشوقي ص4.
(13) تاريخ الأستاذ محمد عبده, لمحمد رشيد رضا, ص416.

(14) الخطط التوفيقية ج12 ص64.
(15) الوقائع المصرية, العدد 1109, 11 مايو 1881.

(16) The Encyclopecia of Islam. Vol. II P. 985.
(17) الأهرام 19 مارس سنة 1938, كلمة المازني في تكريم هيكل.

(18) برنادرين دي سان بيير Bermardin De Sanit Pierr كاتب فرنسي من دعاة الرجوع إلى الطبيعة, ولد في سنة 1737، وتوفي سنة 1814, ومن أشهر كتبه: بول وفرجيني, ودراسة الطبيعة.
)
19) H.R Gibb. B.S.O.S. Vol. VII Part. P.2-3.

(20)الأماني والمنة ص18.

(21)المصدر السابق ص29.
(22) تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي, ص511.





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.