المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



عرابي الخطيب الزعيم  
  
2284   03:57 مساءً   التاريخ: 30-9-2019
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : في الأدب الحديث
الجزء والصفحة : ص344-355ج1
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-2-2016 3024
التاريخ: 12-08-2015 2275
التاريخ: 7-10-2015 4338
التاريخ: 13-08-2015 2192


لقد أجمع الذين شهدوا عرابي خطيبًا، وحادثوه على أن جودة الكلام أهم مزاياه، وأنه كان محدثًا لبقًا ذا خلبةٍ وسيطرةٍ على النفوس، وأنه كان خطيبًا فصيحًا ذا تأثير كبير على سامعيه، وأن ذلك كان أكبر مقومات شخصيته.
يقول ماليت: "كان لحديثه أحسن وقع في النفوس"(1)، وكان مراسل التيمس يسميه: "الداعي الفصيح إلى الحرية العربية(2)"، ويرى بلنت "أنه كان فصيحًا قادرًا على شرح آرائه باللغة التي يفهمها مواطنوه ويحبونها, ومن ثَمَّ كان له نفوذ كبير(3)"، ويقول جريجوري: "ويظهر في بادئ الأمر أنه ثقيل، إلى أن يتأثر فتتقد عيناه، ويتكلم بشهامة، وأخبرني الذين يعرفون اللغة العربية أن فصاحته أشهر من أن تنكر(4)".
أما الشيخ محمد عبده: فكان يزدريه ويقول عنه في قصيدته التي هجاه بها:
وقائد الجند شهم في مكالمة ... أشل قلبًا إذا الهيجا تناديه
ومع ذلك يشهد له بأنه "كان أجرأ إخوانه على القول، وأقدرهم على إقامة الحجة(5)".
وعلى الرغم من أن الرافعي قد أنكر بعض مزاياه، فلم يسعه إلّا أن يعترف بقدرته الخطابية حيث يقول: كل ما امتاز به هو لسان ذلق، وصوت جهوريّ
(1/344)

وترسل في الحديث، فقد كان خطيبًا فصيحًا، وأقوله كانت تقع من نفوس الضباط والسامعين موقع الاقتناع(6)".
ترك عرابي طائفة من الآثار نتبين منها جهاده في سبيل مصر قولًا وعملًا وكتابةً، تتمثل في مجموعة كبير من أحاديثه وخطبه ورسائله إبان الثورة، ويلحق بها ما قاله في أثناء محاكمته، ثم المذكرات التي تركها قبيل وفاته وسماها: "كشف الستار" وتاريخه المختصر الذي كتبه بعد عودته، وهو مثبت في آخر التاريخ السري.
ابتدأ عرابي دعوته سريةً في داخل الجيش وخارجه، وقد اختاره زملاؤه الضباط زعيمًا لهم؛ لأنه كان أشد المجتمعين إحساسًا بالظلم، وأقدرهم على التعبير عنه، وأجراهم في مهاجمة الظالمين, وقد كان للباقته وفصاحته في الكلام واستشهاده ببعض الأحاديث النبوية الشريفة والحكم والمأثورة تأثير كبير في نفوس الضباط، واجتذبهم إليه ومال بهم إلى تلبية ندائه، والاستماع لنصحه والاقتناع بآرائه"(7).
ثم تخرج الدعوة إلى النور، ونرى جماعةً من الضباط يذهبون إليه في بيته ليناقشوه في الأوامر التي أصدرها عثمان رفقي, وأنهم يريدون الاحتجاج على ذلك، وقد اختاروه ليمثلهم؛ فيحاول أن يثنيهم بالرفق أو يختاروا غيره، ولكنهم أصروا على اختياره، فقال لهم: إن من يتصدى لزعامة هذا الأمر هالك لامحالة، فأقسموا له على أن يفدوه من كل شر, فكتب الاحتجاج ووقعه معهم وقد جاء فيه " إن عثمان رفقي يعامل ضباط الجهادية بالذل والاحتقار, ويسعى فيما يوجب لهم الحرمان والإضرار, كأننا الأعداء الألداء، وكأن الله -سبحانه وتعالى- يطلب منه ظلم المصريين والإجحاف بحقوقهم" ويقدمها إلى رياض، ويدور بينهما الحوار الآتي:
رياض: إن أمر هذه "العريضة" مهلك.
(1/345)

عرابي: إننا لم نطلب إلّا حقًّا وعدلًا، وليس في طلب الحق من خطر، وإننا لنعتبرك أبًا للمصريين، فما هذا التلويح والتخويف؟
رياض: ليس في البلاد من هو أهل لأن يكون عضوًا في مجلس النواب.
عرابي: إنك مصريّ وباقي النظار مصريون، والخديو مصري، أتظن أن مصر ولدتكم ثم عقمت؟ كلّا! فإن فيها العلماء والحكماء والنبهاء، وعلى فرض أن ليس فيها من يليق لأن يكون عضوًا في مجلس النواب، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد من معارفكم, ويكون كمدرسة ابتدائية تخرج لنا بعد خمسة أعوام رجالًا يخدمون الوطن بصائب فكرهم, ويعضدون الحكومة في مشروعاتها الوطنية(8)".
ويقبض الجراكسة على عرابي, ويسجن في قصر النيل, فيقتحمه الجند ويطلقون سراحه, ويهمون بذبح الجراكسة لولا تدخل عرابي؛ حيث وقف فيهم خطيبًا ونصح لهم "بالّا يمدوا يدًا بسوءٍ إلى أحد من الجراكسة ولا إلى غيرهم؛ لأنهم إخواننا, ولئن آثروا أنفسهم علينا, فإنا لا نريد إلّا النصفة والمساواة(9)".
ويسير عرابي إلى عابدين في مظاهرة عسكرية صاخبة، وتعدَّل القوانين، ويقام لذلك حفل في قصر النيل أقامه البارودي وزير الحربية, وحضره الوزراء يخطب عرابي قائلًا: "إننا لا نريد إلّا الإصلاح وإقامة العدل على قاعدة الحرية والإخاء والمساواة, وذلك لا يتمُّ إلّا بإنشاء مجلس النواب وإيجاده فعلًا، ونحن مطيعون للحكومة, بل نحن الآلة المنفذة لأوامرها العادلة"(10).
ثم عُزِلَ البارودي, وتولى مكانه داود, الذي قسا على الضباط, فاجتمعوا لدى عرابي واستحلفهم على السيف والمصحف، أن تكون أرواحهم موقوفة على حفظ الوطن من شر الأعداء, والاحتراس على موارد إيراده من أيدي الطمع, وبأن يكونوا جميعًا على قلب رجل واحد، وأعلمهم بأنه قد اجتمعت الكلمة على أن
(1/346)

يتولى الزعامة(11)، وأخذ يرسل إلى القرى والمدن ينشر فيها دعوته ويبين لأهلها "أن الوزارة الرياضية قد ركبت متن الشطط وعدلت عن الصراط المستقيم، وليس لها من نية سوى العمل على ما فيه اضمحلال البلاد وتلاشيها بما هو جارٍ من بيع الأراضي للأجانب, وتسليم أغلب مصالح الحكومة لهم, وإعطائهم الرواتب الفادحة المثقلة على أكتافهم، وإن سكوتنا وإضرابنا عن هذه كله يُعَدُّ من الجبن والعجز والتفريط في وطننا(12)" وطلب منهم في النهاية أن ينيبوه عنهم في كل ما يتعلق بأحوال البلاد، وأن يوقعوا على ذلك.
وبهذا هيأ عرابي لثورة 9 سبتمبر 1881، وقد دار بينه وبين توفيق في ذلك اليوم حوارٌ بدا هادئًا ثم اشتد، قال عرابي ثائرًا "ولقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا وعقارًا، فو الله الذي لا إله إلّا هو, إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم" فهرب توفيق وترك الأمر لبعض حاشيته، وقد سلَّم توفيق لعرابي بكل ما طلب.
وألف شريف الوزارة الجديدة، وذهب عرابي مع وفد من الضباط لتهنئته، وخطب خطبة ضافية أكد فيها حقوق البلاد، وقبل أن ينقل إلى الزقازيق مع فرقته, وقد وقف في محطة القاهرة يودع الألوف التي جاءت لتحيته, وارتجل هذه الخطبة "سادتي وإخواني! بكم ولكم قمنا وطلبنا الحرية، وقطعنا غرس الاستعباد، ولا ننثني عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها, وما قصدنا بسعينا إفسادًا ولا تدميرًا, ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلالٍ واستعبادٍ، ولا يتمتع في بلادنا إلّا الغرباء, حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة.
ومن قرأ التواريخ يعلم أن الدول الأوربية ما تحصلت على الحرية إلّا بالتهور وإراقة الدماء، وهتك الأعراض وتدمير البلاد، ونحن اكتسبنها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم, أو نخيف قلبًا, أو نضيع حقًّا, أو نخدش شرفًا.
وما أوصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلّا الاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد..
(1/347)

نحن الآن في نعمة جليلةٍ وعزةٍ جميلةٍ, وقد فتحنا باب الحرية في الشرق، ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة, ويجانب حدوث ما يكدر صفو الراحة، ونحن قائمون إلى رأس الوادي، ليعلم الجميع أن قيامنا كان لطلب الحقوق لا للعقوق، وأن الطمأنينة عادت كما كانت، وعدنا إلى ما نشأنا عليه من طاعةٍ، وأحض إخواني في الجهادية بحفظ وحدة الاتحاد، وعدم الإصغاء إلى الوشاة والحساد، فإنكم تعلمون أننا جاهدنا في هذا الأمر أعوامًا طوالًا حتى ربطنا القلوب، وألَّفْنَا النفوس، وبيننا مِن الأعداء مَنْ يسعى في تفريق كلمتنا, وإضرام نار الفتنة بيننا، فاردعوهم بلسان التقرع، واحفظوا لنا ما عاهدناكم عليه، فالبلاد محتاجة إلينا، وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات، وإلّا ضاعت مبادئنا، ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه.."(13).
وأنت تراه هنا حريصًا على الحرص على المبادئ التي دعا إليها، وعلى أن يؤكد أنه رجل سلام لا رجل شغب، وعلى أنه يعد نفسه أحد زعماء الشرق، وقد سنَّ له القدوة الحميدة في المطالبة بالحرية, وأنه حريص كذلك على وحدة الصفوف، متنبه إلى كيد الأعداء ووشايتهم وحسدهم.
وخطب في الزقازيق عند وصوله، كما خطب في حفل أقامه أمين الشمسي لتكريمه, وجاء فيه: "وأنتم الآن مهيؤون للانتخاب، فلا تملككم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات، بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقكم, ويدفعون المظالم عنكم, ويفتحون باب العدل والإنصاف في بلادنا، فلا تأخذكم الأراجيف، واطمئنوا في بلادكم، والتفتوا إلى أشغالكم، ومصالحكم، وكونوا على يقين من حفظ البلاد"(14).
ثم يرسل إليه نوبار يشكره على إنقاذ البلاد، ويعرض عليه عودته لتولي الحكومة، ويقول عرابي: "فعجبنا لذلك وأجبناه بأن مبدأنا هو أن مصر للمصريين, وللنزلاء عندنا حسن الضيافة ومزيد الإكرام"(15) وهي الكلمة التي رددها فيما بعد الزعيم مصطفى كامل "أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا".
(1/348)

ويعود إلى القاهرة, ويقابله كثير من مراسلي الصحف الأجنبية, ويؤكد لهم عدم التعصب الديني، وأنه إنما يتحدث باسم الأمة، وأنه سيقاوم كل اعتداء أجنبيٍّ على البلاد، ثم يتولى وزارة الحربية, ويستقبله "بلنت" ويتحدث معه في مشروعات كثيرة يقوم بتنفيذها، وطالما فخر بها فيما بعد لورد كرومر، ويقول بلنت: "عزي للموظفين البريطانيين في عهد الاحتلال، وادعى لورد كرومر أنه مبتكر كثير منها, فمن ذلك: إلغاء السخرة التي كان يفرضها الباشاوات الترك على الفلاحين, واحتكار بيع الماء في مدة الفيضان، وحماية الفلاحين من المرابين واليونانيين، وإنشاء بنك زراعي تشرف عليه الحكومة، وهذا هو البنك الذي باهى به كثيرًا اللورد كرومر، وكذلك تناقشنا في الإصلاحات القضائية, وفي نظم تربية الذكور والإناث، وفي طريقة الانتخاب للبرلمان الجديد وفي مسألة الرقيق"(16).
غدر وخيانة:
ولكن أنى الأمور أن تسير كما قدر عرابي؟ وكيف يمكن من الإصلاح، وينشر الوعي في البلاد، وينهض بمصر، والإنجليز والفرنسيون يريدونها متأخرة، بل يريدون اغتصابها، وامتصاص دمها، ولذلك أرسل مذكرة إلى توفيق بنفي عرابي, وإبعاد رفيقه, واستقالة الوزارة، وقد قبل توفيق المذكرة، واجتمع على أثر ذلك كثير من الضباط والنواب بمنزل سلطان باشا، وخطب فهيم عرابي، وأخذ يعدد مساوئ الخديو ومعايب أسلافه, وما جلبوه على البلاد وأهلها من المظالم والمغارم, وغير ذلك من أنواع البلايا والرزايا، واشتد الهرج فصاح عرابي: "ما بالكم لا تسمعون، وكأنكم خشب مسندة، وإن كنتم لا تنادون بخلعه، فنحن قد خلعناه، فصاح عند ذلك سائر العسكر قد خلعناه ثلاثًا"(17).
ويصل وفد من تركيا، ويحاول إغراء عرابي بالذهاب إليها فيرفض عرابي، وترفض الأمة ويقول لهم: "ليقل الناس ما يشاءون, فإني ولدت في بلاد الفراعنة، وستظل الأهرام الخالدة قبري"(18).
(1/349)

وتحدث مذبحة الإسكندرية وتتوالى الأحداث، وهو دائمًا يوجه، ويثبت القلوب الخائفة، وحينما دارت الحرب لم يفقد أعصابه، وقد انتصر في موقعة كفر الدوار انتصارًا ساحقًا، وارتدَّ الإنجليز إلى الاسكندرية, فطاردهم الجيش إلى تفتيش "سيوف" وأوقع بيهم, بَيْدَ أنهم انتهكوا حرمة القناة، ولم يكن عرابي يقدر أنهم سيهاجمونه من الشرق، وقد طلب إليه أن يردم القناة، فخشي مغبة هذا العمل، وتألب الدول عليه، ثم يهزم عرابي في التل الكبير بسبب الخيانة التي دبت في صفوف الجيش, وقد حاول جهده أن يثبت الفارين, ولكنهم أبو الاستماع إليه، وفي ذلك يقول عرابي في مرارة وأسى: "دعوناهم للهجوم معنا فامتنعوا ودهشوا، فذكرناهم بحماية الدين والعرض والشرف والوطن, فلم يجد كل ذلك نفعًا، ولأن الرعب كان قد أخذ من قلوبهم كل مأخذ"(19).
محاكمة:
ويحاكم عرابي، فلم تلن قناته، ولم يجبن عن مصارحة المحكم بالحق، وعن الأسباب التي دعته للثورة، سألوه عن الماضي كله، لماذا قام بمظاهرة عابدين، ولماذا أحاط الجيش بالقصر فقال: "إن الأسباب التي دعت إلى ذلك هي عدم الأخذ بالعدل والمساواة في المعاملات، وشأن البلاد التي لم يكن فيها قوانين، ويقص عليهم بعض ما كان يلقاه المصريون من ظلمٍ وإجحافٍ وإهدارٍ للكرامة، ثم يقول: "فاجتمعت إذن أفكار الناس على أنه لا مخلِّصَ لهم من تلك المظالم إلّا وجود مجلس نيابي, من شأنه حفظ الأرواح والحقوق والأموال, مع قوانين عادلة تكفل لهم حقوقهم، فاجمعوا أمرهم على ذلك، ولخوفهم من البطش بهم أنابوني مع إخواني الضباط في عرض طلباتهم، ولكوننا إخوانهم وأبناؤهم، وهم أهلونا، يضرنا ما يضرهم، وينفعنا ما ينفعهم، وأن البلاد التي ليس بها مجلس نيابي يحفظ للأمة حقوقها في كافة ممالك الأرض, يحصل فيها أكثر من ذلك، بحيث يسفك فيها كثير من الدماء، وهذا لا يخفى على كل متذكر؛ لأن الحاكم المستبد لا يقبل الشورى بسهولة، فمن أجل ذلك الظلم, ولشمولنا مع أهلينا بحقوق واحدة, حصل ما تقدم ذكره بدون أن تفسك شعرة واحدة من رأس أي إنسان".
(1/350)

ولما سئل عن خطبته في القدح والذم في توفيق والمناداة بخلعه، لم يتجللج لسانه، ولم ينكر ما حدث وقال "ما كان من الممكن قبول هذه اللائحة، ولو أدّى ذلك لخلعه, وكنت أنا وكل الناس على هذا الرأي"(20).
ويُحْكَم على عرابي بالسجن, ونراه في سجنه أشجع زملائه، ويردُّ بمقالٍ قويٍّ على اتهام الجوائب له ولزملائه بأنهم عصاة مارقون، وتنشر له جريدة "التيمس" رده هذا, وفي آخره يقول: "إننا كنا ندافع عن وطننا بطريقة تقرها شريعة الله والإنسان، وكل من يقول غير هذا كائنًا من كان, فهو عبد للهوى والمال.
يا دعاة الحق! أمن العدل أن يحرم أبناء الوطن من كل وظيفة، ويأخذ الأجانب أماكنهم، ومن حضر إلى مصر من الشراكسة والألبان والبلقان؟.. ولكننا سنجد بين حماة الإنسانية من يدافعون عن الحق في وجه طغيان هذا العهد الذي يسود منه وجه الإنسان"(21).
ونراه حين يجرد من ألقابه وأمواله يقول: "لا أعبأ بآلامي ولا بالسجن، ولا بالسباب ولا بأي شيء يوجه إلي بعد ذلك, ما دمت قد وقفت نفسي على حرية بلادي، ولا شيء يهمني الآن إلّا أن أنقذ بلادي من هذه الهوة المملوءة بالأفاعي السامة، وأن أنتشلهم من مخالب هذا التنين الفظيع.
وإني لا أعبأ بهذه الألقاب العارضة التي لم أكن أرغب فيها في أي وقت من الأوقات، وإني مكتفٍ بشرفي الشخصيّ الذي سوف يلازمني ما حييت، ويبقى بعدي إذا مت، وسوف يرضيني دائمًا أن أنادى بأحمد عرابي المصري فقط, وبغير ألقاب"(22).
ثم ينفى عرابي فما جزع حين ترك مصر، ولا تضعضع في المنفى، بل كان أهل سرنديب ينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال, ويعده المسلمون هناك من زعماء الإسلام والأبطال، وكان يرد على الصحف المصرية والأجنبية التي تتهجم عليه
(1/351)

وعلى إخوانه بلسانٍ عذبٍ، وحجةٍ قويةٍ، وقد نشرت له جريدة "التميس" كتابًا طويلًا يدافع فيه عن ثورته ويبين أسبابها(23).
ويعود عرابي من المنفى وهو في الستين من عمره، وقد وصف عودته منذ أن ودعه أهل سيلان حتى رست به الباخرة على شواطئ مصر وصفًا مؤثرًا(24). وقد ألف بعد عودته كتابه "كشف الستار" وقد عُنِيَ فيه بالحركة الأدبية إبان الثورة العرابية، حتى مقالات هؤلاء الذين تجنوا عليه ومفترياتهم، وقد دحضها وردَّ عليها، فمن ذلك تعليقه على ما كتب حمزة فتح الله, الذي كان يدعو إلى الهزيمة والتسليم، ويعد عرابي وإخوانه خونة مارقين عن طاعة الخديو، ويجب أن يفسحوا المجال للإنجليز كي يعيدوا الأمن والطمأنينة للبلاد، فيقول عرابي: "من الأقوال المأثورة ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تعلموا أولاد السفلة العلم"، وهو قول حكيم؛ لأنهم يتخذون العلم ذريعةً لتضليل العامة، وآلةً للتلبيس على الناس، ينصرون الباطل على الحق ابتغاء حطام يسير، أو ابتسامة أمير، أضلهم الله على علم فهم لا يهتدون، ومصداق ذلك أن الشيخ حمزة فتح الله, أنشأ مقالةً مفتراةً نشرتها جريدة "الاعتدال" التي أنشئت إذ ذاك, ضمنها من الأكاذيب ما يعجز عنه مسيلمة الكذاب" ويوردها عرابي ويعلق على بعض أجزائها بقول: "يريد الشيخ تسليم البلاد للعدو بلا قتال، لقد باع دنياه وآخرته بثمن بخس، ولا رعى الله الغني من سبيل الخيانة والتزلف، وحبذا الفقر مع الأمانة والقناعة، وكل إناء بما فيه ينضح ... إلخ"(25).
ويذكر بعض الرسائل والقصائد التي كتبها أهل سرنديب, ويختم كتابه بدعوة الناشئة المصرية أن تجدَّ وتجتهد, وتعمل ليلًا ونهارًا على استرداد مجدها واستقلالها وحريتها المسلوبة منها, ومطالبة الإنجليز بالجلاء حتى ينكشف هذا البلاء(26).
(1/352)

وهكذا ظلَّ عرابي وطنيًّا حتى آخر كلمة سطرها، وفيًّا لبلاده ولمبدئه, على الرغم من المحن التي توالت عليه، وقد ظلمه التاريخ، وتجنَّى عليه الكُتَّابُ تملقًا للأسرة الحاكمة, حتى شوقي قال يستقبله عند عودته من المنفى:
صغار في الذهاب وفي الإياب ... أهذا كل شأنك يا عرابي
حتى مصطفى كامل كان من المتجنين عليه عقب عودته.
ولكنه اليوم استرد مكانته الحقة في التاريخ، وأنه كان ممثلًا لشعب بأكمله، ويتكلم بلسانه, ويشعر بشعوره, وإذا كانت الأيام قد آذته, والتقدير قد أخطأه, فما يغض ذلك منه ولا من ثورته, وقد استجاب شباب مصر لندائه, وحررت على أيديهم البلاد، وطُرِدَ الإنجليز, وأُذِلُّوا أيما إذلال، كما طردت الأسرة الظالمة شر طردة، وكانت ثورة 1952 امتدادًا لثورته، وإن تأخر بها الزمن، إلّا أنها جاءت محكمة قاضية موفقة.
تعقيب:
رأيت أن عرابي كان خطيب الثورة، ولا يقل شأنًا عن عبد الله نديم، وإن اختلفا أسلوبًا ومنهجًا، لقد كان عرابي قدوةً للمصريين في جرأته ومطالبته بالحرية والعدالة وإنصاف الفلاحين الكادحين، وأن يعيش المصريون مكرمين في ديارهم لا مستغلين ولا مهانين، وأن تكون خيراتها لهم لا للأجانب وأفاقي الأرض.
ولذلك كان شعاره "مصر للمصريين" أجل! كان قدوة لعبد الله نديم، ومصطفى كامل, وسعد زغلول وجمال عبد الناصر, وضرب لهم المثل وهو الفلاح المصري في كيف يجابهون السادة المتألهين، وكيف يدمغونهم بالظلم، وكيف يثورون لكرامتهم، وكيف يحافظون على هذه الكرامة حتى في أحلك الأوقات وأشدها يأسًا، وكيف يتمسكون بحقوقهم لا يلينون, ولا يضعفون أمام جبروت الطغاة.

(1/353)

ولقد رأيت من خطبة أنها كانت من وحي العاطفة المتأججة في حنايا صدره، وأنها كانت هادئةً في قوةٍ؛ إذ لم يكن عصبيًّا ولا حادَّ المزاج، ولا مهيجًا، على النقيض من عبد الله نديم, ولم يكن متمهلًا ولا جامدًا شأن الذي يقرأ درسًا من الدروس, بل متحمسًا في رزانة ووقار، وبدا في كلامه الإيمان بالحق الصريح والإثارات العميقة المتأصلة.
وكان كلامه مؤثرًا في نفوس السامعين, كما أقرَّ ذلك كل من سمعه, لا لخلابةٍ فيه وتزويق، ولكن لأنه صادر عن إيمانٍ وعاطفةٍ جياشة؛ ولأنه ينبعث من نفسٍ طيبةٍ صهرتها الأحداث، وأحست بما تحسُّ به ملايين القلوب على ضفاف النيل منذ زمن قديم، فوجدت كلماته صدًى عميقًا في نفوس مواطنيه؛ لأنها عبَّرت في وضوح عما يختلج في كل صدر، ويعتمل في كل قلب.
ولم يكن صاحب صنعة في خطبه أو كتاباته، فلم يتكلف أيّ لونٍ من ألوان البديع، ولم يكن يقصد غير الوضوح، ومع هذا تحس أن فيه صفة الخطيب الجيد، فجمله قصيرة الفواصل, ترتاح عندها النفس, وتستوعبها الآذان، ولها جرس موسيقي خلاب، وأنها تتدفق في يسر وقوة، ومشحونة بالعاطفة والصدق، وقلما اقتبس من الشعر والحكم والأمثال، وإذا أتى بشيء منها كان موفقًا كل التوفيق، ولكنه كان يكثر من الاستشهاد بآي الله الحكيم وبالحديث الشريف، وقضايا الدين وحوادث التاريخ الإسلاميّ، وبخاصةٍ زمن الحرب لضرورة الإقناع والتأثير.
وكانت ألفاظه سليمةً ليس فيها من العاميّ المبتذل إلّا القليل، وإذا راعينا ظروفه وظروف عصره غفرناها له، ولم يك يعرف أصول المنطق والجدل، ويأتي بالمقدمات الطويلة، كما كان يفعل جمال الدين ومحمد عبده، وذلك لأنه لم يكن فيلسوفًا، ولا متعلمًا عميق الغور، وإنما كان زعيمًا شعبيًّا يطالب بحق بسيط صريح، وهو الحرية والعدالة والمساواة.
وقد غلب عليه الأسلوب الخطابيّ حتى في كتاباته، وكان واقعيًّا في تعبيراته، فلم يكن يعمد إلى الخيال الأدبيّ ولا إلى العبارة المحلاة، ولم يكن رجل أحلام وأوهام، بل رجل واقع وتجارب، وهو رجل مثل عليا، كما فصلنا ذلك عند الكلام على مبادئه وشخصيته.

(1/354)

لقد كان من آثار الثورة العرابية في الأدب أن ألهمت الناس الحماسة، وجَرَّأتهم على الخطابة, فظهر عشرات من الخطباء إبان الثورة، إذا عرفنا أن الخطابة باللغة العربية كانت قد ماتت قبل الثورة، وأن خطباء المساجد كانوا يرددون خطبهم من كتبٍ ويقرءونها على الناس، أدركنا مدى ما دَبَّ في اللغة من قوة، وفي الخطابة من حياة على يد الثورة العرابية؛ لأنها كانت ثورةً شعبيةً عامةً، وقد وجد الناس مجال القول فسيحًا، ووجدوا في قائد الثورة خطيبًا مفهوهًا فقلدوه، ولقد كانت الثورة في حاجة إلى الخطباء أكثر من حاجتها إلى الشعراء، حتى تنتشر الدعوة، ويفهم جمهور الشعب مبادئها، ويعضد الثورة ويثبت في الميدان، ولا يسمح للخيانة والغدر بالتسلسل إلى صفوفه.
ولا بدع إذا كان مصطفى كامل وسعد زغلول فيما بعد من الخطباء المقاويل, واعتمدوا في تجميع شعور الأمة على الخطابة.
هذه بعض آثار عرابي وثورته في الأدب، لقد خرج الأدب إلى ميدان الحياة والكفاح، بعد أن كان أدبًا شخصيًّا، ولا يعرف سوى التملق والدهان والرياء، وقد فصلنا ذلك في مقدمة هذا الفصل.

(1/355)

 

 

__________
(1)، (2) تاريخ المسألة المصرية, تيودور روتشين ترجمة العبادي وبدران ص142.
(3) التاريخ السري, ص99.
(4) الوطن: العدد 214.
(5) تاريخ محمد عبده لرشيد رضا, ج1 ص192.

(6) عبد الرحمن الرافعي: الثورة العرابية, ص82.
(7) المرجع السابق ص8.

(8) كشف الستار, ص155.
(9) سليم نقاش: مصر للمصريين, ج4 ص126، وتاريخ محمد عبده, ج1 ص202.
(10) الكافي: لميخائيل شارويم, ج4 ص243.

(11) المرجع السابق ص236، ومصر للمصريين, ج4 ص90.
(12) عبد الله نديم: "التنكيت والتبكيت" العدد 17، ومصر للمصريين ج4، وكشف الستار ص362.

(13) كشف الستار, ص368.
(14) المرجع السابق, ص269.
(15) التاريخ السري, ص154.

(16) التاريخ السري, ص154.
(17) ميخائيل شاروبيم: الكافي, ج4 ص296.
(18) التاريخ السري, ص432.

(19) مخطوط عرابي.

(20) نصوص المحاكمة في مخطوط عرابي, وفي الجزء السابع من كتاب "مصر للمصريين".
(21) أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه, ص506.
(22) التاريخ السري, ص412.

(23) مخطوط عرابي, ص259.
(24) نفس المرجع, ص342.
(25)مخطوط عرابي, ص342.
(26) مخطوط عرابي, ص712.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.