المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



نشاط الشعر / ذخائر عقلية خصبة  
  
3233   04:26 مساءً   التاريخ: 6-8-2019
المؤلف : د .شوقي ضيف
الكتاب أو المصدر : تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة : ص190ـ203
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر العباسي /

 

مرّ بنا نشاط الترجمة في العصر كما مر بنا النشاط العام للحياة العقلية، حتى ليكاد يظن الإنسان أنه لم يكن هناك أحد لا تتسع قراءاته، فتشمل جميع مواد الثقافات المعروفة حينئذ من عربية وإسلامية وأجنبية من موارد شتى: موارد هندية وفارسية ويونانية، مع ما كان يداخل المعارف الهيلينية من موارد شرقية فارسية وغير فارسية. فكل ذلك كان تحت أبصار الناس من شباب وغير شباب ينهلون منه كما يشاءون دون حجاب ودون أية صعوبات، فدار الحكمة مكتبة الدولة مفتوحة على مصاريعها ودور أخرى كثيرة عرضنا لها في غير هذا الموضع، ودكاكين الوراقين بالمثل تعرض كل ما يطلبه القارئ، وحلقات المساجد تموج بالمحاضرين في مختلف فروع المعرفة، ولكل شخص الحق في أن يستمع إلى ما يرغب فيه من هذه المحاضرات.

وأخذ العرب حينئذ يشاركون مشاركة قوية فعالة في تاريخ الفكر الإنساني؛ فإذا علماء وفلاسفة عظام يأخذون في الظهور بينهم، ويكفي أن نذكر الخوارزمي العالم 

ص190

الرياضي النابه واضع علم الجبر، والكندي الفيلسوف أو أول فلاسفة العرب بالمعنى الدقيق لكلمة فلاسفة، وهما معلمان كبيران في العصر يدلان أقوى دلالة على نهضة العقل العربي وازدهاره حينئذ، مما عرضنا لبعض مظاهره في الفصل الماضي.

وحدث في أثناء ذلك أن أخذ بعض الأدباء يتجرد للمزج بين ثقافات العصر واستخلاص ثقافة عربية لها طوابعها ومشخصاتها المستقلة، على نحو معروف عن الجاحظ المعتزلي، وكان المعتزلة قد أكبوا منذ أوائل العصر العباسي في القرن الثاني الهجري على الثقافات الأجنبية يتزودون منها، واستطاع كثيرون منهم أن يكوّنوا لأنفسهم نظريات تتصل بالطبيعة وما وراء الطبيعة مما صورناه في كتابنا العصر العباسي الأول، ونفذ الجاحظ في العصر كما قلنا آنفا إلى الوصل في كتاباته بين الثقافتين العربية والإسلامية والثقافات الأجنبية، بحيث غدت كتبه تغذّي العقول والقلوب، فالأدب فيها يلتقي بالفكر والعلم التقاء خصبا مثمرا، على نحو ما نجد في كتابه «الحيوان». وخطا ابن قتيبة في هذا الاتجاه من المزج بين الثقافات خطوة أخرى كما أسلفنا، فمزج في كتابه «عيون الأخبار» بين الثقافة العربية والثقافة الفارسية مزجا قويا، مزاوجا بين طائفة كبيرة من الآداب في الثقافة الأولى والآداب السياسية في الثقافة الثانية، مع ما أضافه من الحِكم الطريفة التي جلبها من كتاب كليلة ودمنة المترجم عن الهندية، وكذلك ما أضافه عن الثقافة اليونانية.

كان طبيعيّا لذلك كله أن تنمحي الأبعاد والفوارق؟ ؟ ؟ بين الفكر العربي الخالص والفكر الأجنبي، فإذا هما يمتزجان في بيئة الشعراء وغيرها من البيئات، وإذا كثير من الشعراء يتعمقون الفلسفة والثقافات الأجنبية، وحقّا ظلت طائفة لا تعنى بهذا التعمق على نحو ما مر بنا في الفصل الماضي عند البحتري وأضرابه، ولكن حتى هؤلاء وحتى البحتري نفسه لم يستطيعوا التخلص من معرفة بعض جوانب الفكر الأجنبي، على حين نجد كثيرين غيره من أمثال ابن الرومي تعمقوا في هذا الفكر، بل لقد أقبلوا عليه يلتهمونه التهاما، بل لقد انقضوا عليه انقضاضا، وكأنما لا يريدون أن يبقوا منه بقية. على أنهم لم يفنوا في هذا الفكر، فقد ظلوا يحتفظون للشعر العربي بشخصيته ومقوماته الأساسية. فهم لا يذيبونه في الفكر الأجنبي، بل هم يخضعون هذا الفكر له، أو بعبارة أدق هم يتخذون من هذا الفكر وسائل كي يتعمقوا في تصوير المشاعر

ص191

 والأفكار التي طالما عرض لها الشعر العربي، مضيفين إليها معاني وخواطر حافلة يما يملأ النفس إعجابا.

ولا ريب في أن ذلك كان على درجات، فمن الشعراء من كان يغرق في التثقف بالثقافات الأجنبية، ومنهم من كان لا يشق على نفسه، فهو إنما يلم بأطراف منها تقل وتكثر حسب ملكاته العقلية، ومهما أسرف الشاعر في هذا الإلمام فإنه يحتفظ لأساليبه بالنصاعة والنقاء، حتى من كان يرجع إلى أصول غير عربية، فقد استقر في نفوس جميع الشعراء الاحتفاظ بتقاليد الشعر الموروثة وأن يطل شعرهم موصولا بماضيه، وحقّا حاول الشعوبيون أن يشككوهم في هذا الماضي وأن يقطعوا صلتهم به، ولكنهم لم يصيخوا إليهم ولا استمعوا إلى ضجيجهم، فقد كانت شخصية الشعر العربي في نفوسهم أقوى من أن تزعزعها أو تهزها صيحات هؤلاء الشعوبيين المارقين، فلم يزايلوها ولا انحرفوا عنها ولا عن أصولها التقليدية. بل لقد استطاعوا أن يثبتوا مرونة هذه الأصول، وأنها تتسع لفنون البديع الجديد التي سجلها ابن المعتز اتساعا كانت تحمل مقدماته في صدورها من قديم، بل لقد وجدوا في مرونة هذه الأصول ما يمكنها من أن تحمل كل صنوف الغذاء الفكري الجديد على اختلاف ألوانها، غذاء الفلسفة والمنطق والعلوم المختلفة وغذاء الآداب الفارسية واليونانية والحكمة الهندية، فكل سيول هذا التراث الثقافي الأجنبي من كل جنس يستوعبها الشاعر العباسي ويتمثلها ويتقنها علما وفقها وتحليلا دون أن ينحرف بشعره عن أصوله الموروثة، بل إن هذه الأصول تونق وتزدهر ويصبح كل ما ينقل إليها من الفكر الأجنبي عربي اللسان والصياغة المصفاة، بل أهم من ذلك أن ذهن الشاعر العباسي يصبح ذهنا عميقا يتغلغل في حقائق المعاني نافذ إلى دخائلها وأغوارها البعيدة، نفوذا يتيح له ما لا ينفد من الخواطر الشعرية المبتكرة.

وحقا أن هذا العمق في ذهن الشاعر العباسي يلاحظ منذ بشار ومن تلاه في القرن الثاني، غير أننا كلما تقدمنا مع الزمن ازداد هذا العمق بعدا في بواطن المعاني المستمرة، وهو عمق رافقته صور كثيرة من دقة التحليلات والاستنباطات والتقسيمات، فمن ذلك ما يرويه ابن قتيبة من أن بعض الشعراء أنشد الكندي الفيلسوف:

وفي أربع منى حلت منك أربع … فما أنا أدرى أيها هاج لي كربي

ص192

 أوجهك في عيني أم الطعم في فمي … أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي

فقال له الكندي: والله لقد قسّمتها تقسيما فلسفيّا (1)، وتكثر مثل هذه التقسيمات بين الشعراء إذ كانت تعدّ من بدع العصر ومستحدثاته الطريفة، ومنها قول ابن المعتز في جمال الذوائب (2):

سقتني في ليل شبيه بشعرها … شبيهة خدّيها بغير رقيب

فأمسيت في ليلين بالشعر والدّجى … وخمرين من راح وخدّ حبيب

وهو تقسيم طريف لليل والخمر جميعا. وعلى نحو ما كانوا يغربون في التقسيم كانوا يغربون في الأخيلة، وقد نقلوا منها ما أعجبهم في آداب العجم، من مثل قول علي بن الجهم في وصف الورد:

أما ترى شجرات الورد مظهرة … لنا بدائع قد ركّبن في قضب

كأنهنّ يواقيت يطيف بها … زبرجد وسطها شذر من الذّهب

والصورة من قول أرديشير: «الورد ياقوت أحمر وأصفر ودر أبيض على كراسي زبرجد يتوسطه شذور ذهب» (3). ولا تكاد تحصى صور الشعراء الطريفة، بل إن صور شاعر واحد أكثر من أن تحصى، غير أنه مما يلاحظ أنهم عنوا كثيرا بأن يغرقوا في الوهم والتجريد على شاكلة قول العطوى أحد متكلمي المعتزلة الحذاق (4):

فو حقّ البيان يعضده البر … هان في مأقط ألدّ الخصام

هي تجري مجرى الأصالة في الرّأ … ي ومجرى الأرواح في الأجسام 

ص193

 

مألوفة من التجريد والوهم البعيد، وكأن الحسين بن الضحاك استعار منهم قبسا حين قال في بعض غزله (5):

إن من لا أرى وليس يراني … نصب عيني ممثّل بالأماني

بأبي من ضميره وضميري … أبدا بالمغيب ينتجان

نحن شخصان إن نظرت وروحا … ن إذا ما اختبرت يمتزجان

فإذا ما هممت بالأمر أوه‍ … مّ بشئ بدأته وبداني

كان وفقا ما كان منه ومنى … فكأني حكيته وحكاني

خطرات الجفون منا سواء … وسواء تحرّك الأبدان

وهو يعبر عن اتحاد بالمحبوب وفناء فيه حتى كأنما هما شخص واحد وروح واحدة وإن بديا شخصين وروحين فخواطرهما واحدة، بل حتى حركات الأجسام واحدة. وكل ذلك بعد في الخيال إلى درجة الوهم، وعلى شاكلته قول ابن المعتز:

وشكوى لو أنّ الدمع لم يطف حرّها … تولّد منها بينهن حريق

فلولا الدموع لاحترق العاشقان، حرقتهما الشكوى الممضة التي لا يخمد أوارها، وقد تكون الصورة حسية، ولكن نشعر إزاءها بالبعد في الخيال والإغراق في الوهم كقول أبي العباس الناشئ المعتزلي في وصف سحاب يهطل ولا يكفّ عن سقوطه (6):

خليليّ هل للمزن مقلة عاشق … أم النار في أحشائه وهي لا تدري

سحاب حكت ثكلى أصيبت بواحد … فعاجت له نحو الرياض على قبر

فالمزن أو السحاب مقلة عاشق ما تزال تتساقط منها حبات الدموع، وما بريقه إلا نار العشق الملتهبة في الأحشاء، بل لكأنه ثكلى فقدت وحيدها، فهي تبكي عليه بكاء مرّا لا ينقطع. وللشاعر أشعار كثيرة في الإشاذة بأصحابه من المتكلمين

ص194

وكيف أنهم ينيرون دياجي المشاكل المظلمة بأفكارهم الثاقبة، وكانت مناظراتهم لا تزال دائرة في العصر على الرغم من استعلاء أهل السنة عليهم، ولكنهم ظلوا يشعلون العراق بحجاجهم وحوارهم وجدالهم وظلوا يثيرون دفائن المعاني بردودهم ومناقضاتهم لخصومهم، مما نرى آثاره عند الشعراء، ومعروف أن الشاعر العربي من قديم كان يشكو طول الليل حتى ليبدو عند بعض الشعراء مظلما لا آخر لظلامه، ويلم ابن بسام بهذا المعنى، فينفى هذا الظلم عن الليل قائلا (7):

لا أظلم الليل ولا أدّعي … أن نجوم الليل ليست تغور

ليلي كما شاءت فإن لم تزر … طال إن زارت فليلي قصير

فالطول والقصر نسبيان، وهما معلقان بصاحبته إن هي زارت قصر الليل وإن لم تزر طال، وبذلك نقض المعنى على من سبقه نقضا، منصفا لليل من الشعراء السابقين الذين طالما ظلموه. وقد يقال: وأين شعر المعتزلة الذى استظهروا فيه عقيدتهم الاعتزالية ومصطلحاتهم الكلامية، ويبدو أنه كان لهم شعر كثير في هذا الباب سقط من يد الزمن، فالمرزباني في معجم الشعراء يترجم لشخص منهم يسمى محمد بن دكين المتكلم ويذكر أن له أشعارا يحض فيها على القول بالعدل والتوحيد، غير أنه لا ينشد منها شيئا (8).

وليست الأشعار الاعتزالية في نفسها شيئا إلا ما قد تدل عليه من صلة أصحابها المعروفة بالفلسفة والفكر الأجنبي اليوناني وغير اليوناني، وأهم منها ما استودعه هذا الفكر في العقل العربي من خصب، ليس هو وحده مورده الوحيد، بل لعل تفاعل هذا العقل مع عناصر الفكر الأجنبي كانت أكثر خصبا، إذ استطاع أن يستوعبها ويتمثلها، ويصطنع لنفسه من خلالها مواد لا تقل عنها روعة ولا جمالا، وهى مواد يمكن رؤيتها رؤية واضحة في كثرة التوليدات العقلية.

ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا يوجد شاعر في هذا العصر إلا وقد نفذ إلى كثير من هذه التوليدات حتى الشعراء الشعبيون من أمثال الحمدوني إسماعيل بن إبراهيم، ويروى أن أحد ممدوحيه وهو أحمد بن حرب المهلبي وهب له طيلسانا (كساءً فارسيّا) 

ص195

أخضر فلم يرضه، فأخذ ينشد فيه مقطعات تجاوز بها الخمسين من مثل قوله (9):

طيلسان لابن حرب جاءني … قد قضى التمزيق منه وطره

فهو قد أدرك نوحا فعسى … عنده من علم نوح خبره

أبدا يقرأ من أبصره: … (أئذا كنّا عظاما نخره)

ولا شك في أن هذه قدرة بارعة، والحمدوني لم يملكها عفوا، وإنما ملكها واستحوذ عليها بفضل خصب ملكته وما أتاحت الثقافة المعاصرة له من محصول غذاها به، فإذا هو حين يتناول موضوعا مثل طيلسان ابن حرب وأنه خلق بال يستطيع أن يعرضه في صور متعددة لا تبلغ في العدد أصابع يد ولا أصابع يدين، بل تتجاوز ذلك إلى عشرات من المقطوعات، ولكل مقطوعة صورتها الطريفة الخاصة.

ويكاد الإنسان يقطع بأنه لا يوجد شاعر في العصر إلا وقد أذعن للثقافات المعاصرة المتنوعة واتخذ منها غذاء لعقله وقلبه، وكأن شاعرا لا يستطيع منها فكاكا ولا خلاصا، ونضرب مثلا بالبحتري الذي رأيناه في الفصل السابق يحمل حملة شعواء على من يكلّفون الشعراء دراسة المنطق والفلسفة، فإننا حين نتصفح أشعاره نجد فيها آثار الثقافات التي عاصرته، حتى لنراه يشيد بالعلم والمعرفة في بعض ممدوحيه، إذ يقول له (10):

عرف العالمون فضلك بالعل‍ … م وقال الجهّال بالتقليد

وهو لا يشيد بالعلم فحسب، بل ينكر أيضا التقليد وكأنه يدعو للاجتهاد واستخدام العقول، بل إنه ليزعم أن التقليد جهل ما وراءه جهل، وحرىّ بمن يدعو هذه الدعوة أن يطبقها على نفسه، وأن يأخذها بالعلم والتثقيف، وكل ما في الأمر أنه لم يكن يسرف في ذلك إسراف بعض معاصريه من الشعراء ولا كان يفرغ له، فقد كان يعيش في شعره مع نفسه أكثر مما كان يعيش مع الثقافة التي

ص196

عاصرته، بل إننا نحتاج إلى تقييد هذا الكلام، فقد جمع من أشعار القدماء والمحدثين ديوان حماسة ضخما. مما يؤكد أنه عكف على دراسة هذه الأشعار حتى استطاع أن يستخلص منها هذا الديوان، وكأننا نعدم في العصر الشاعر الذي لا يطلب الثقافة الفنية، بل الثقافة العامة، وكل من يتابع البحتري في شعره يلاحظ أنه حوى لنفسه أطرافا من تلك الثقافة أتاحت له أن يصبح من ذوي الملكات الخصبة، وتثقفه بأشعار أستاذه أبي تمام ذائع مشهور، وهي نفسها تحبب إلى من يديم النظر فيها أن يأخذ بحظ أو حظوظ من الثقافات المعاصرة، وصوّر بنفسه مدى تنوع هذه الثقافات وتنوع الكلام الذي يحملها في قوله لبعض ممدوحيه (11):

ولقد جمعت فضائلا ما استجمعت … يفنى الزمان وذكرها لم يهرم

مثل الكلام تفرّقت أنواعه … فرقا وتجمعها حروف المعجم

وحقّا لم يكن البحتري صاحب تعمق في معانى الشعر مثل أبي تمام أو مثل معاصره ابن الرومي، ولكن كانت ملكته خصبة، وكانت ما تزال تمده بخواطر لا تنفد، ونستطيع أن نلاحظ ذلك في سينيته التي وصف فيها إيوان كسرى وصفا لم يسبق إليه، كما نستطيع أن نلاحظه في تنوع اعتذاراته للفتح بن خاقان تنوعا خلب معاصريه، كما خلبهم عنده إبداعه في وصفه لخيال المحبوبة أو طيفها حين يلم به في رؤاه واحلاءه، وتغنى الشعراء بالخيال قديم منذ أوائل العصر الجاهلي، ولكن الجديد عند البحتري أنه استطاع بملكته العباسية الخصبة التي تقتدر على التوليد والإتيان بالصور المبتكرة والإكثار منها أن يستولي على إعجاب الأسلاف بمثل قوله (12):

سقى الغيث أجراعا عهدت بجوّها … غزالا تراعيه الجآذر أغيدا (13)

إذا ما الكرى أهدى إلىّ خياله … شفى قربه التّبريح أو نقع الصّدا (14)

ولم أر مثلينا ولا مثل شأننا … نعذّب أيقاظا وننعم هجّدا (15)

ص197

وقوله (16):

ألمّت بنا بعد الهدوّ فسامحت … بوصل متى نطلبه في الجدّ تمنع (17)

وما برحت حتى مضى الليل وانقضى … وأعجلها داعى الصباح الملمّع (18)

فولّت كأن البين يخلج شخصها … أوان تولّت من حشاي وأضلعي (19)

وواضح ما في الشطر الأخير بالأبيات الأولى من لفتة ذهنية واضحة، ومثله آخر الأبيات الثانية فقد ولّت وكأنها تنتزع من حشاه وأضلعه وروحه، وكان يعرف البحتري كيف يمس قلب سامعه، كما كان يعرف كيف يستأثر لنفسه ببعض الصور والمعاني، فقد سمع أو حفظ قول القائل في وصف أحاديث بعض النسوة وما يذعن فيه من جمال وسحر:

إذا هن ساقطن الأحاديث بالضّحى … سقاط حصى المرجان من كفّ ناظم

فما زال يدير البيت في نفسه وما زال يحاول أن يضيف إليه إضافة بارعة، وإذا ملكته تسعفه بقوله في وصف لقائه بمن خلبت لبّه (20):

ولما التقينا والنّقا موعد لنا … تبيّن رامي الدّرّ منا ولا قطه (21)

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها … ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

ولعل أكبر شاعر في العصر، وذخائر الفكر حينئذ في الشعر ومدى ما أثرت الحياة العقلية فيه ابن الرومي، ويبدو عنده بوضوح أنه عكف على جميع الثقافات التي عاصرته، وأنه أخذ ينهل منها حتى تحولت إلى ذهنه وقلبه، فإذا هو يستوعبها، وإذا هو يتقنها، بل إذا هو يتمثلها تمثلا نادرا، وكان مما دفعه إلى ذلك دفعا اعتناقه مبكرا مذهب الاعتزال، وفي

ص198

شعره ما يدل على حرصه الشديد عليه كقوله (22):

أأرفض الإعتزال رأيا … كلاّ لأني به ضنين

فهو يؤمن به ويعتنقه منحازا إليه، ولا يرضى به بديلا، وإنه ليمنحه كل حبه، حتى ليصبح ضنينا به، وكأنه غدا جزءا من جوهر نفسه، ولعله لذلك كان يحسّ بواشجة رحم بينه وبين نظرائه ممن يعتنقون هذا المذهب الذى كان معروفا حينئذ بمبدئين يجادل فيهما أصحابه طويلا، وهما العدل على الله بحيث لا يعطل حرية الإرادة عند الإنسان حتى يكون مسئولا عن أعماله وينال ما يستحقه من الثواب والعقاب، فلا جبر ولا حتم ولا إلزام، ثم التوحيد وما يطوى فيه من تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، فهو ليس بجسم ولا عرض ولا يحده زمان ولا مكان، وإلى ذلك يشير في بيان علاقته الوثيقة ببعض معاصريه قائلا له (23):

إن لا يكن بيننا قربى فآصرة … للدين يقطع فيها الوالد الولدا

مقالة «العدل والتوحيد» تجمعنا … دون المضاهين: من ثنّى ومن جحدا

وواضح أنه يجعل لحمة الاعتزال فوق لحمة القربى، وكأنه يؤمن بأن القربى دم أما الاعتزال فعقل وروح، وهو لذلك فوق القربى وشائج وأواصر. ولا يهمنا أنه كان يؤمن بالاعتزال من حيث هو، وإنما يهمنا أن الاعتنال وصله بالثقافات الأجنبية على اختلاف صنوفها وألوانها، فقد كان المعتزلة يتصلون مباشرة بهذه الثقافات لدعم عقولهم من جهة ولتبين ما فيها من آراء فاسدة كانوا ينقضونها نقضا، وكانت أهم ثقافة أكبوا عليها الثقافة اليونانية بما فيها من فلسفة ومنطق، وأكبّ معهم كثير من الشعراء-وخاصة من كانوا يعتنقون الاعتزال-على هذه الثقافة ينهلون منها ويعبون، وفي مقدمتهم ابن الرومي الذي يبدو أنه كان يفرغ لها وخاصة في مطالع حياته وينفق في ذلك أوقاتا طويلة، مما أتاح لأشعاره أن تصطبغ بأصباغ عقلية واضحة.

وأول ما يطالعنا من هذه الأصباغ صبغ يعم جميع أشعاره كما تعم الخضرة أشجار

ص199

الطبيعة في الربيع، ونقصد استقصاءه للمعاني، فهو إذا ألمّ بمعنى لم يكد يترك فيه بقية لأحد من بعده، وكان لذلك تأثير مهم في قصائده إذ تبدو الأبيات فيها مترابطة ترابطا لا يعرف لأحد غيره من شعراء العربية، ترابطا يجعل البيت لا يفهم تمام الفهم إلا إذا نظر القارئ فيما يسبقه وما يتلوه، حتى لتصبح القصيدة بناء متكاملا متناسقا، مما يوثق الوحدة بينها لا الوحدة الموضوعية فحسب، بل أيضا الوحدة العضوية، إذ تصبح كلا واحدا مؤلفا من أجزاء ولكل جزء أو بيت مكانه، بحيث لو نزع منه إلى مكان آخر لنبا به المكان الجديد. ومنشأ ذلك أن الأبيات يتولد بعضها من بعض، أو قل هي الأفكار والمعاني ما تزال تتوالد وتتشعب، وكل شعبة تنشأ عن سابقتها وتلتحم بها لحمة القرابة ، بل لحمة الأعضاء في الجسد الواحد.

وتتصل بهذا الجانب عند ابن الرومي خصائص عقلية كثيرة، لعل أولها هذا الخصب الذي لا حد له، فقد أصبح العقل العربي يتعمق المعاني حتى يصل إلى قاعها وقرارها، ويستخرج كل ما كان مستورا بها من لآلئ كانت خافية عن الأنظار، بل إن الشاعر يغوص في مسارب المعاني فيطّلع على شعب لا تكاد تحصى وهما جانبان: جانب التشعيب والتفريع وجانب الكشف والاستقصاء، حتى يتضح المعنى من جميع جوانبه، وحتى نصبح كأننا نستمع إلى صور من الحوار المعروف عند المعتزلة، فهم ما يزالون بحوارهم يثيرون دقائق المعنى حتى ينكشف من جميع أطرافه، وإذا هو واضح أشد ما يكون الوضوح بفضل علم المنطق الذى يستهدون به في مباحثهم وبفضل ملكاتهم العقلية التي صقلها الفكر الفلسفي.

وكأنما تحولت المعاني الشعرية عند ابن الرومي إلى صورة من صور حوارهم، فهي تتفرع إلى أقصى حد، وهى تتضح أيضا إلى أقصى حد، ولذلك كانت القصيدة عنده تطول طولا مسرفا لا يعرف لشاعر عربي من قبله ولا من بعده، لأن المعاني تذكر بجميع شعبها، وما يزال يستقصيها حتى تبدو واضحة أشد ما يكون الوضوح وهو الوضوح نفسه الذى يشغف به أهل المنطق أو قل من يعكفون على دراسة المنطق. حتى يستأثر بكل ما يفكرون فيه، وحتى يمنحوه عنايتهم الكاملة.

ليس من شك إذن في أن شعر ابن الرومي يصور تعمقه في دراسة المنطق وليس

ص200

 ذلك فحسب، فإن المنطق بأقيسته وعلله يستحيل عنده شعرا وفنّا، فإذا بنا نتنقل في طرائف لا تحصى من المعاني، وكأنما أصبحت هذه الطرائف حدودا للشعر، فهو لا يتصوّر بدونها، وإلا يكون شيئا غثّا لا قيمة له، وصوّر ذلك ابن الرومي نفسه في بعض حواره مع شاعر أنشده شعرا سليما من العيوب مطبوعا عاريا من دقائق المعاني، فقال له: «نحن-أعزّك الله-نطلب مع السلامة الغنيمة» (24). فلا شعر بدون غنيمة أو بدون معنى مبتكر أو بدون قياس سديد أو تعليل لافت دقيق، من مثل قوله (25):

عدوّك من صديقك مستفاد … فلا تستكثرنّ من الصّحاب

فإن الداء أكثر ما تراه … يكون من الطعام أو الشراب

وهذا التحذير من الصديق يدور في كثير من الأقوال والأمثال، ولكن الطريف عند ابن الرومي هو التعليل البارع، إذ قاس الصديق على الطعام والشراب الممتعين وكيف يستحيلان أحيانا داء لا شفاء منه، وكأنما يؤتى الحذر من مأمنه، ومن تعليلاته الطريفة تعليله لمحبة الأوطان، إذ يقول (26):

وحبّب أوطان الرجال إليهم … مآرب قضّاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم … عهود الصبا فيها فحنّوا لذلكا

فقد ألفته النفس حتى كأنه … لها جسد إن بان غودر هالكا

وكان الشعراء قبله يتشوقون إلى أوطانهم ولا يعرفون العلة في ذلك حتى كشفها لهم ابن الرومي، فكل يتعلق بوطنه ويشغف به، لأنه ملاعب صباه وشبابه التي لا يبرح خيالها ذاكرته، والتي طالما ألفتها النفس وأنست لها، بل لقد التصقت بها التصاق الروح بالجسد، بحيث لو انفصم أحدهما عن صاحبه أصبح في الهالكين. وتكثر في شعر ابن الرومي كثرة مفرطة التعليلات والأدلة والأقيسة كقوله في بعض غزله (27):

ص201

لا تكثرنّ ملامة العشّاق … فكفاهم بالوجد والأشواق

إن البلاء يطاق غير مضاعف … فإذا تضاعف كان غير مطاق

لا تطفئنّ جوى بلوم إنّه … كالريح تغرى النار بالإحراق

فهو يقيس تكرار اللوم للعشاق على تضاعف البلاء الذى لا يطاق، ولا يكفيه هذا القياس، وإذا هو ينفذ إلى قياس بديع، فالهوى نار مشتعلة في الصدور، واللوم ريح عاصفة تفرقها يمينا وشمالا، حتى تأتى على كل ما تجاوره، وكأنما لا يزال يغريها بأن تزداد تلظيا وإحراقا واشتعالا. وبجانب هذه القدرة لدى ابن الرومي على الأقيسة والعلل، نحس قدرة فائقة على الجدل وكسب القضية بالحق وغير الحق، وكأنه معتزلي كبير يناقش بعض مسائل الاعتزال ويحاول أن ينقض على خصمه حججه وأدلته، أو قل إنه يدلى بحجج وبراهين تمحو كل براهينه وحججه، وهى براهين وحجج شعرية، فيها فن وفيها جمال وفيها حس الشاعر وفطنته، من ذلك أن يجد الناس من حوله مجمعين على إيثار الورد على النرجس، فيرد عليهم إجماعهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع يقول (28):

خجلت خدود الورد من تفضيله … خجلا تورّدها عليه شاهد

أين العيون من الخدود نفاسة … ورياسة لولا القياس الفاسد

فاحمرار الورد الذي طالما شبّهه الشعراء بالخدود إنما هو احمرار خجل من تفضيل من لا يقدرون الجمال له على النرجس الذى يشبهه الشعراء بالعيون، وأين الخدود من العيون روعة وجمالا، وهو بون بعيد لا يخطئ فيه إلا أصحاب القياس الفاسد الكليل. ومما يتضح عنده فيه أثر الاعتزال واختلاطه بالمعتزلة أن نراه يعمد إلى ذم شيء ذمّا طبيعيّا، لأنه يستحق الذم، ثم يعمد بعد ذلك إلى مدحه، بيانا لقدرته في الحجاج والجدل. وينسب إلى الجاحظ كتاب في المحاسن والأضداد بعامة، وهو منحول عليه، ولكنا نجد معاصرا لابن الرومي هو إبراهيم بن محمد البيهقي يؤلف كتاب المحاسن والمساوئ وهو منشور، ويدل بوضوح على أن الناس شغفوا في العصر-يقودهم المعتزلة من أمثال الجاحظ-بمدح الشيء وذمه، وعلى

ص202

قبس من هذا الصنيع عمد ابن الرومي إلى ذم الحقد البغيض، فقال (29):

الحقد داء دفين لا دواء له … يرى الصدور إذا ما جمره حرثا (30)

فاستشف منه بصفح أو معاتبة … فإنما يبرئ المصدور ما نفثا (31)

فالحقد داء لا يمكن الشفاء منه، وما يزال جمره متقدا في الصدور ولا يمكن إطفاؤه، ويحاول ابن الرومي أن يكتشف دواء لصاحبه، فيوصيه بالصفح والعتاب فقد ينفسان عنه بعض الشيء، ولكن أي تنفيس؟ إنه تنفيس المصدور الذى قد ينفس عنه لحظة ما ينفثه، وسرعان ما ينطوي صدره ثانية على مرضه أو قل على هذا الجمر جمر الحقد الذي يشوى صدر صاحبه شيّا. وابن الرومي في ذلك كله متفق مع الناس جميّعا في ذم الحقد الكريه، ولكن أليس من حقه أن يغرب عليهم كما يغرب أحيانا المعتزلة أصحاب الحجاج واللسن واللدد في الخصومة، فيمدح لهم الحقد البشع ويحيله شيئا مستحبا لا بشاعة فيه ولا قبح، يقول (32):

وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى … وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض

فحيث ترى خقدا على ذي إساءة … فثمّ ترى شكرا على حسن القرض

ولولا الحقود المستكنّات لم يكن … لينقض وترا آخر الدهر ذو نقض

فالحقد توأم للشكر وقرين له، وحرى بنا إذا تأملنا في حقيقته أن نعيد النظر فيه، فإنه يستحبّ إزاء بعص الأشخاص ممن يسيئون إلى الناس، بينما يستحب الشكر إزاء من يحسنون القرض والتفضل على من حولهم ببعض ما أنعم الله عليهم.

ويلفت ابن الرومي إلى دليل قاطع يدل على أن الحقد محمود، فلولاه لضاع الوتر أو الثأر ولم يأخذ موتور حقه من واتر. وبذلك استطاع أن يخرج الحقد الذميم في صورة حسنة محمودة، بفضل مهارته في الحوار والجدل، وكأنه معتزلي كبير يدافع عن قضية من قضايا المعتزلة الشائكة. وكثيرون من الشعراء وراءه أفادوا على شاكلته من حوار المعتزلة ومناظراتهم، كما أفادوا من ثقافات العصر ما استحالت به ملكاتهم

ص203

العقلية خصبة إلى أبعد حدود الخصب، بحيث أتاحت لهم ما لا يحصى من دقائق المعاني والأخيلة.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ابن أبي أصيبعة ص287.

(2) زهر الآداب الحصري 3/16.

(3) ديوان المعاني للعسكري 2/23 وانظر الديوان (طبعة المجمع العلمي بدمشق ) ص111.

(4) معجم الشعراء للمرزباني (طبعة الحلبي بالقاهرة )ص377.

(5) أغاني (طبعة دار الكتب) 7/ 187.

(6) زهر الآداب 1/ 177.

(7) المختار من شعر بشار للخالديين (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر ) ص20.

(8) معجم الشعراء ص407 .

(9) زهر الآداب 2/ 235.

(10) ديوان البحتري (طبع دار المعارف) 1/ 638.

(11) الديوان 4/ 2666.

(12) الديوان /6702/.

(13) الأجراع: الرمال الطيبة. الجو: منخفض الأرض. الجآذر: بقر الوحش.

(14) نقع الصدا: سكن الظمأ.

(15) هجدا: نائمين.

(16) الديوان /12372/.

(17) الهدو: شطر من الليل.

(18) الملمع: الممزوج سواده ببياضه إشارة إلى أوائل الصباح

(19) يخلج: ينتزع.

(20) ديوان المعاني 1/ 238 وانظر الديوان 2/ 1238.

(21) النقا: قطعة من الرمل.

(22) ديوان ابن الرومي (نشر كامل كيلاني) ص 92.

(23) ابن الرومي: حياته من شعره (طبع المكتبة التجارية) ص 223.

(24) ذيل زهر الآداب (طبع المطبعة الرحمانية بمصر) ص 190.

(25) الديوان ص 139.

(26) الديوان ص 13 وزهر الآداب 3/ 99.

(27) زهر الآداب 1/ 12.

(28) الديوان ص 389.

(29) الديوان ص 137.

(30) يرى: يشعل.

(31) المصدور: المريض بذات الصدر أو الرئة.

(32) الديوان ص 163.





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.