أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-02-2015
2480
التاريخ: 2-03-2015
22553
|
لقد كان من حسن الحظ للنحو أن كانت البصرة مولده ومهده لأنها اختصت بما حرمته الكوفة التي ناهضتها بعد ذلك للأمور التالية:
أولا: أن العرب النازحين إليها من القبائل العريقة في اللغة الفصحى استطابوها فاتخذوها دراهم وأكثرهم من قيس وتميم الذين بقوا على عربيتهم.
ثانيا: أنه كان على كثب منهم "المِرْبَدُ" الذي قد اتخذه العرب سوقا في الجهة الغربية منها مما يلي البادية بينه وبينها نحو ثلاثة أميال، يقضون فيه شئونهم قبل أن يدخلوا الحضر أو يخرجوا منه، وقد صارت هذه السوق في الإسلام صورة موازنة لعكاظ الجاهلية، فكانت فيه النوادي الأدبية والمجامع الثقافية تألفت فيه حلقات الإنشاد والمفاخرة والمنافرة والمعاظمة ومجالس العلم والأدب، فكان الشعراء يؤمونه ومعهم رواتهم، وكانت لفحولهم حلقات خاصة فيه، قال الأصفهاني: "وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها"(1).
ص75
كما كان العلماء والأدباء والأشراف ينزلون فيه للمذاكرة والرواية والوقوف على ملح الأخبار، واللغويون يأخذون عن أهله ويدونون ما يسمعون، والنحويون يسمعون فيه ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، وكثيرا ما نجد التنويه عنه في تراجم النحاة واللغويين.
ثالثا: موقعها الجغرافي فإنها على طرف البادية مما يلى العراق وأدنى المدن إلى العرب الأقحاح الذين لم تلوث لغتهم بعامية الأمصار فعلى مقربة منها بوادي نجد غربا والبحرين جنوبا، والأعراب تفد إليهم منهما ومن داخل الجزيرة العربية بكثرة، وكل أولئك يسر لعلماء البصرة حينما قاموا بتدوين القواعد أن يجدوا طلبتهم وينالوا رغبتهم، ففي هذه الثلاثة مدد من اللسان العربي الفصيح لا ينفدوهم في بصرتهم مقيمون لا يتجشمون بعدئذ أسفارا ولا يجربون قفارا، إذ لم تشتد الحاجة أولا للرحلة في مدى الطبقتين
"وراعي الإبل هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل ويكنى أبا جندل والراعي لقب غلب عليه لكثرة وصفه الإبل وجودة نعته إياها وهو شاعر فحل من شعراء الإسلام".
الأوليين من طبقاتهم. لأنهم لما يبلغوا الغاية في تجريد القياس وتعليل النحو وتفريعه ولم تضطرب الروايات في هذا الحين، ومادة اللغة قوية.
ولا ريب أن نشوء النحو بالبصرة إنما كان تلبية لداعي المحافظة على صيانة اللغة العربية مما نزل بها منذرا بالخطر المدلهم الذي لو ترك وشأنه لدرجت كما درج غيرها من اللغات، كما كان واجبا على من دخل في الإسلام من غير أبناء العرب أن يتعلمه ليتعرف لغة القوم الذين صار منهم حتى يتم الاندماج بينهما وتستحكم أواصر الوحدة فيها: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(2).
والفضل في ذلك راجع إلى أبي الأسود الذي توطنها مع تشيعه للعلويين ومناوأة البصريين للعلويين وشيعتهم، إلا أن سلطان هذا العلم استرعاهم فأقبلوا إليه يزفون، وتحلقوا حوله وتدارسوا مسائله حبا في المعرفة لذات المعرفة ورغبة في العلم لذاته غير طامعين في مغنم أو حريصين على شيء من حطام الدنيا، وأغلبهم من الموالي الذين سعد بهم هذا العلم منذ بزغ فجره لأنهم من أمم مرنت على مزاولة العلوم والفنون بحسب لغاتها، فشدوا عضد أبي الأسود في التدوين وكانوا له خير معين.
كان لتعاون تلك البيئة التي تموج بمختلف العرب الذين يمثلون أغلب القبائل المعترف بينهم بسلامة سلائقها -كما كانت تعج بالرواة والحفظة والنقدة، وهذا الداعي العلمي الخالص- الأثر الطيب في سلوك البصريين في قواعدهم، ونمطهم العلمي، فحولهم الأساليب العربية متوافرة تجود لهم بشواهد القواعد دون مجهود يلحقهم، ولا منافس لهم يستعجلهم ويقطع عليهم سلسلة الاستقراء حتى يثقوا بما يدونون متئدين مطمئنين إلا شيئا واحدا، وذلك هو منادي العلم المحض، فكان لزاما لذلك أنه لم تدون قواعدهم إلا مدعومة على عناصر ثلاثة:
ص76
1- سلامة من أخذوا عنه من العرب المقطوع بعراقتهم في العروبة وصونهم فطرهم من تسرب الوهن إليها من رطانة الحضارة حتى لم يأخذوا إلا عن سكان البوادي، بل كانوا يتحرزون عنهم إذا لمحوا عليهم ضعفا اعتراهم، فكانوا يختبرونهم أحيانا قبل التقبل لما يروون عنهم، قال ابن جني: "ومن ذلك ما يحكى أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال: كيف تقول استأصل الله عرقاتهم؟ ففتح أبو خيرة التاء فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جلدك"(3).
2- الثقة برواية ما سمعوه عنهم من طريق الحفظة والأثبات الذين بذلوا النفس والنفيس في نقل المرويات عن قائليها معزوة إليهم.
3- الكثرة الفياضة من هذا المسموع التي تخول لهم القطع بنظائره وتسلمهم إلى الاطمئنان عليه في نوط القواعد به، وإلا اعتبروه مرويا يحفظ ولا يقاس عليه إلا إذا لم يرد من نوعه ما يخالفه، فلا بأس من اعتباره مبنى للتقعيد عليه، ومن هنا ارتضى العلماء رأي سيبويه في إلحاق فعولة بفعيلة في النسب في حذف حرف المد وقلب الحركة فتحة اعتمادا على سماعه في النسب إلى "شنوءة" شنئيا" وعدم سماع ما يخالفه نسبا من هذه الزنة، ولذا قال ابن جماعة في حاشيته على الجاربزدي: "فهو جميع المسموع منها فصار أصلا يقاس عليه".
تلك حالة السابقين منهم وهم بذلك خطوا الخطة التي ترسمها خلفهم بعدهم عندما حانت المنافسة بين البلدين، وأخذت الكوفة تنحاز لنفسها وتهيئ لها طريقا آخر، بل زاد عندئذ البصريون نشاطا ومثابرة على السير في منهاجهم، إذ قد بدأ وقت ذاك اختبال الألسن ودخل إلى الطباع الفساد وخلص شيء من ذلك إلى الأجيال الناشئة في الحضر فاختلف المصران بعضهما عن بعض وتمكنت منهما العصبية، وأخذ كل في الطعن على الآخر.
كل ذلك حمل كثيرا من البصريين على التطواف في الجزيرة العربية ولم يقنعهم ما بين ظهرانيهم فارتحل من رجال الطبقة الثالثة الخليل ويونس وغيرهما، ومن الرابعة أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعي، وأخذوا عن القبائل، وإن توافر على الأصمعي ميله إلى غير النحو والصرف من علوم اللغة العربية.
فأخذوا عن القبائل البعيدة من أطراف الجزيرة والباقية في سرتها من جفاة الأعراب
ص77
وأهل الطبائع المتوقحة، وتحاموا سكان الأطراف الحضريين المخالطين لغير العرب، وربما كان أوفى كتاب استقرأ القبائل من الصنفين كتاب الألفاظ والحروف للفاربي، وقد نقل كلامه بنصه السيوطي في المزهر "النوع التاسع الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب".
فأجهد هؤلاء العلماء أنفسهم وشرقوا وغربوا وتحملوا ذلك الشهور والأعوام وما بالوا ما نالهم من نصب أو مخمصة تفانيا في التثبت بأنفسهم من سلامة ما يروون عن العرب، فشافهوهم في أوديتهم وسمعوا منهم في أخبيتهم ومراعيهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، وقدموا للعلم خدمة جلّى ويداً لا تنسى. فعن هؤلاء أخذت علوم العربية وفي أيامهم دونت، وجل ما في أيدي الناس منها إنما كان بفضلهم. سأل الكسائي الخليل: من أين أخذت علمك؟ فقال: من بوادي نجد والحجاز وتهامة، ويقول الأصمعي: "سمعت صبية بحمى ضرية يتراجزون فوقفت وصدّوني عن حاجتي وأقبلت أكتب ماأسمع ، فأقبل شيخ فقال أتكتب كلام هؤلاء الأقزام الأذعان؟".(4)
ومازلت الرحلة الى الجزيرة العربية سُنّة متبعة عند العلماء الى أوساط القرن الرابع. ثم فسدت سلائق العرب فيها، فاكتفى العلماء بآثار أسلافهم التي حوتها الكتب، وإنما كان العلماء بعد ذلك يسألون بعض الأعراب المتوسمين بشيء من جفاء البادية ممن لم تنسخ فيهم الفطرة نسخا ليستريحوا الى ذلك لا ليخذوا به، وهذا بالنسبة الى البادية، أما الحضر فضعفت الثقة بشعرائه من منتصف القرن الثاني تقريبا، يقول الأصمعي: "ختم الشعراء بابن هرمة والحكم الخضري وابن ميادة وطفيل الكندي ومكين العذري".(5)
وبالغ البصريون في التحري والتنقيب عن الشواهد السليمة، وأبلوا في ذلك ما شهد لهم به الدهر، فتجافوا عن كل شاهد منحول ومفتعل. وآية ذلك أول كتاب لهم، وهو كتاب سيبويه، وقد اعترفت له شهادة العلماء فيه من شيوخه وأترابه والذين بعده، فكانت أقيستهم وقواعدهم قريبة الصحة لكفالة مقدماتها بسلامتها، فلا غرابة بعدئذ أن جعلوها الحكم بينهم فيما يرد من الكلام غير مكترثين بما جاء مخالفا لها مما لا ظهير له ولا مثيل أن يستنكروه لكثرة ما اندس من الرواة وذوي الأهواء في اللغة، وإما أن يتلمسوا الضرورة إذا كان في نظم – فإن اعتاص كل ذلك عليهم فإنهم يضطرون الى جعله جزئيا شاذا يوضع في صف المحفوظات التي لا يقاس عليها، وفي كتب النحو ما يقفك على كل هذا.
ص78
ولنضرب لك بعض الأمثلة مما ورد مخالفا لأقيستهم فتخلصوا منها بمثل ذلك- قضت أقيستهم:
1- ألا يعمل الوصف إلا متعمدا على النفي، أو استفهام، أو موصوف ولو بمعني لفظا أو تقديرا، فيرد عليهم قول الطائي:
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت
فيؤولونه بأن الوصف خبر مقدم والمطابقة على حد: (والملائكة بعد ذلك ظهير).
2- وجوب تذكير الفعل مع جمع المذكر السالم وتأنيثه مع جمع المؤنث السالم، فيرد عليهم فيهما: (آمنت به بنو إسرائيل) وقول عبدة ابن الطيب:
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي و الظاعنون إليّ ثم تصدّعوا(6)
فيتخلّصون بأن الجمعين ليم يسلم فيهما نظم الواحد فكانا كجمعي التكسير.
3- عدم نيابة الظرف أو الجار و المجرور أو المصدر عن الفاعل مع وجود المفعول به فيرد عليهم: (ليُجزى قواما بما كانوا يكسبون) وقول جرير:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسبّ بذلك الجرو الكلابا(7)
فيقولون: النائب في الآية ضمير الغفران، والبيت ضورة، غير هذا.
4- وجوب تنكير التمييز، فيعرض عليهم بقول رشيد اليشكري:
رأيتك لما أن عرفت وجوهنا صددت وطبت النفس ياقيس عن عمرو
فلا يجدون إلا الضرورة.
5- عدم جواز تأكيد النكرة، فيرد عليهم قول عبد الله بن مسلم الهذلي:
لكنه شاقه أن قيل ذا رجبُ يا ليتَ عدةَ حولٍ كُلِّهِ رجَبَا(8)
فيقولون: الرواية عدة حولي، أو للضرورة.
6- عدم إظهار "أَنْ" بعد كي فيعترض عليهم بقول الشاعر:
أردتَ لكيما أن تطيرَ بِقِرْبتِي فتتركها شنا ببيداءَ بلقَعِ(9)
ص79
فيقولون: لا يعرف قائله، أو لضرورة الشعر، أو غير ذلك.
7- عدم عمل "أَنْ" محذوفة في غير مواطنها المعروفة فيرد عليهم: خذ اللص قبلَ يأخذَكَ، وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وأمثال هذا فيقولون: إن ذلك شاذ يحفظ ولا يجارى في الاستعمال.
كل ذلك إنما سرى لهم من التعويل على قواعدهم، بل لقد بلغ بهم الاعتزاز بها إلى الاعتراض على العربي المطبق على الاستشهاد بقوله كما رأيت فيما تقدم من اعتراض ابن أبي إسحاق على الفرزدق، وأغرب من ذلك تعقب تلميذه عيسى بن عمر قول النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرُّقش في أنيابها السم ناقع(10)
إذ قال أساء النابغة إنما هو ناقعا، وقد خطأ أبو عمرو ذا الرمة في قوله:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا(11)
لأن أفعال الاستمرار بمعنى الإيجاب فلا يصح الاستثناء في خبرها.
ضجر الشعراء من النحاة، ولهذا قال عمار الكلبي لما عيب عليه بيت من شعره:
ماذا لقيت من المستعربين ومن قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا(12)
ومرجع هذه النزعة إلى عيسى بن عمر وشيخه ابن أبي إسحاق من متقدمي البصريين، دون غيرهما من معاصريهما، فإن يونس وشيخه أبا عمرو كانا يتحرزان عن تخطئة العربي ويعتمدان قوله وإن خالف القياس، وقد غلبت النزعة الأولى الثانية على البصريين بعد سيبوبه وصارت لهم منهاجا، وانتقلت الثانية إلى الكوفيين، ثم اتخذوها إحدى دعائم القواعد كما ترى.
ص80
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الأغاني أخبار جرير ج8 ص29 طبع الدار.
(2) سورة الحجرات، الآية: 10.
(3) الخصائص جـ1 ص413، وأبو عمرو وهو أبو عمرو بن العلاء، وأبو خيرة هو نهشل بن يزيد، راجع هذه الحكاية في ترجمة أبي عمرو في نزهة الألباء.
(4) المزهر "النوع السادس" ضرية بلدة، والأقزام: القصار والأدناع: السفلة.
(5) راجع ترجمة ابن هرمة في الشعر والشعراء، وفي الأغاني.
(6) البيت من قصيدة في المفضليات.
(7) قفيرة أم جد الفرزدق، والبيت من شواهد الرضي- راجع الخزانة شاهد 51.
(8) البيت من قصيدة في معجم البلدان (أحزاب)، وفي رغبة الآمل على الكامل جـ7، 214 وما بعدها، وفي مجالس ثعلب جـ 9 ص474.
(9) البيت من شواهد المفصل والرضي- راجع الخزانة شاهد 653.
(10) البيت من قصيدة في معجم البلدان "أحزاب"، وفي رغبة الأمال على الكامل جـ7 ص214 وما بعدها، وفي مجال ثعلب الجزء التاسع ص474.
(11) ذكر التخطئة الزمخشري في المفصل، والرضي على الكافية راجع الخزانة شاهد 736، والمغني مبحث "إلا"، والبيت من شواهد سيبويه على رفع "نرمي" جـ1 ص428، وهو من قصيدة يقال لها أحجبية العرب.
(12) مطلع قصيدة في الخصائص باب "في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض إلخ" والإمتاع والمؤانسة "الليلة الخامسة والعشرون" وأنباه الرواة ترجمة الأخفش، وفي معجم الأدبا ترجمة ابن جني مع ذكر البيت المعيب.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|