أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-5-2019
32690
التاريخ: 13-6-2019
3688
التاريخ: 9-8-2019
2373
التاريخ: 23-5-2019
3637
|
قال تعالى : {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف : 113 - 126] .
قال تعالى : {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف : 113 - 116] .
{وجاء السحرة فرعون} في الكلام حذف كثير ، تقديره : فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ، يحشرون السحرة ، فحشروهم ، فجاء السحرة فرعون ، وكانوا خمسة عشر ألفا ، عن ابن إسحاق . وقيل : ثمانين ألفا عن ابن المنكدر . وقيل : سبعين ألفا ، عن عكرمة . وقيل : بضعة وثلاثين ألفا ، عن السدي . وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، اثنان من القبط ، وهما رئيسا القوم ، وسبعون من بني إسرائيل ، عن مقاتل . وقيل : كانوا سبعين عن الكلبي .
{قالوا} لفرعون ، إنما لم يقل فقالوا ، حتى يتصل الثاني بالأول ، لأن المعنى لما جاؤوا قالوا ، لم يصلح دخول الفاء على هذا الوجه {أئن لنا لأجرا} (2) أي : عوضا على عملنا ، وجزاء بالخير {إن كنا نحن الغالبين} لموسى {قال نعم} أي : قال فرعون مجيبا لهم عما سألوه : نعم لكم الأجر {وإنكم لمن المقربين} أي : وإنكم مع حصول الأجر لكم ، لمن المقربين إلى المنازل الجليلة ، والمراتب الخطيرة ، التي لا يتخطى إليها العامة ، ولا يحظى (3) بها إلا الخاصة .
وفي هذا دلالة على حاجة فرعون وذلته لو استدل قومه به وأحسنوا النظر فيه لنفوسهم ، لأن من المعلوم أنه لم يحتج إلى السحرة إلا لعجزه وضعفه .
{قالوا} يعني : قالت السحرة لموسى {يا موسى إما أن تلقي} ما معك من العصا أولا {وإما أن نكون نحن الملقين} لما معنا من العصي والحبال أولا . {قال} لهم موسى {ألقوا} أنتم وهذا أمر تهديد وتقريع كقوله سبحانه : {اعملوا ما شئتم} . وقيل : معناه ألقوا على ما يصح ، ويجوز لا على ما يفسد ، ويستحيل .
وقيل : معناه إن كنتم محقين فألقوا {فلما ألقوا سحروا أعين الناس} أي : فلما ألقى السحرة ما عندهم من السحر ، احتالوا في تحريك العصي والحبال ، بما جعلوا فيها من الزئبق ، حتى تحركت بحرارة الشمس ، وغير ذلك من الحيل ، وأنواع التمويه ، والتلبيس ، وخيل إلى الناس أنها تتحرك على ما تتحرك الحية ، وإنما سحروا أعين الناس ، لأنهم أروهم شيئا لم يعرفوا حقيقته ، وخفي ذلك عليهم ، لبعده منهم ، فإنهم لم يخلوا الناس يدخلون فيما بينهم .
وفي هذا دلالة على أن السحر لا حقيقة له ، لأنها لو صارت حياة حقيقية ، لم يقل الله سبحانه {سحروا أعين الناس} بل كان يقول فلما ألقوا صارت حياة . وقد قال سبحانه أيضا : {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} {واسترهبوهم} أي : استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس ، عن الزجاج . وقيل : معناه أرهبوهم وأفزعوهم ، عن المبرد {وجاءوا بسحر عظيم} وصف سحرهم بالعظم لبعد مرام الحيلة فيه ، وشدة التمويه به ، فهو لذلك عظيم الشأن عند من يراه من الناس ، ولأنه على ما ذكرناه في عدة السحرة وكثرتهم ، كان مع كل واحد منهم عصا ، أو حبل ، فلما ألقوا ، وخيل إلى الناس أنها تسعى ، استعظموا ذلك ، وخافوه .
- {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [الأعراف : 116 - 122] .
ثم أخبر سبحانه عن نفسه ، فقال : {وأوحينا إلى موسى} أي : ألقينا إليه من وجه لم يشعر به إلا هو {أن ألق عصاك} التي معك {فإذا هي تلقف ما يأفكون} معناه : فألقاها فصارت ثعبانا ، فإذا هي تبتلع ما يكذبون فيه أنها حياة ، عن مجاهد {فوقع} أي : ظهر {الحق} وهو أمر موسى ، وصحة نبوته ، ومعجزاته ، عن الحسن ، ومجاهد . وقيل : وقع الحق بأن صارت العصا حية في الحقيقة {وبطل ما كانوا يعملون} أي : بطل تمويهاتهم ، عن الجبائي .
وإنما ظهر ذلك لهم لأنهم لما رأوا تلك الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة في العصا ، علموا أنه أمر سماوي ، لا يقدر عليه غير الله تعالى ، فمن تلك الآيات : قلب العصا حية ، ومنها : أكلها حبالهم وعصيهم مع كثرتها ، ومنها : فناء حبالهم وعصيهم في بطنها ، إما بالتفرق ، وإما بالفناء عند من جوزه ، ومنها : عودها عصا كما كانت من غير زيادة ولا نقصان ، وكل من هذه الأمور يعلم كل عاقل أنه لا يدخل تحت مقدور البشر ، فاعترفوا بالتوحيد والنبوة ، وصار إسلامهم حجة على فرعون وقومه .
{فغلبوا هنالك} أي : قهر فرعون وقومه عند ذلك المجمع ، وبهت فرعون ، وخلى سبيل موسى ، ومن تبعه {وانقلبوا صاغرين} أي : انصرفوا أذلاء مقهورين {وألقي السحرة ساجدين} يعني : إن السحرة لما شاهدوا تلك الآيات ، وعلموا أنها من عند الله تعالى ، آمنوا بالله تعالى ، وبموسى ، وسجدوا لله ألهمهم الله ذلك .
وقيل : إن موسى وهارون سجدا لله تعالى شكرا له على ظهور الحق ، فاقتدوا بهما فسجدوا معهما ، وإنما قال {ألقي} على ما لم يسم فاعله ، ليكون فيه معنى إلقائهم ما رأوا من عظيم آيات الله ، بأن دعاهم إلى السجود لله ، والخضوع له ، عزت قدرته ، وأنهم لم يتمالكوا أنفسهم ، عند ذلك ، بأن وقعوا ساجدين . وهذا كما يقال : أعجب فلان بنفسه ، وإن كان أتي من قبله ، وليس يفعل ذلك به غيره .
{قالوا آمنا} أي : صدقنا {برب العالمين} الذي خلق السماوات والأرض ، وما بينهما {رب موسى وهارون} خصوهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين ، لأنهما دعوا إلى الإيمان بالله تعالى ، ولشريف ذكرهما ولتفضيلهما على غيرهما ، على طريق المدحة والتعظيم لهما . وقيل : إنهم فسروا سجودهم بأن {قالوا آمنا برب العالمين} لئلا يتوهم متوهم أنهم سجدوا لفرعون ، ثم قالوا : {رب موسى وهارون} لأن فرعون كان يدعي أنه رب العالمين ، فأزالوا به الإبهام ، لئلا يتوهم الجهال ، أنهم عنوا بقولهم رب العالمين فرعون .
وقال علي بن عيسى : يجوز أن يقال إن الله سبحانه ، لم يزل ربا ، ولا مربوب ، كما جاز لم يزل سميعا ولا مسموع ، لأنها صفة غير جارية على الفعل ، كما جرى صفة مالك على ملك يملك ، فالمقدور هو المملوك ، ولا يطلق الرب إلا على الله تعالى ، لأنه يقتضي أنه رب كل شيء يصح ملكه ، ويقال في غيره : رب الدار ، ورب الفرس ، ومثل {خالق} لا يطلق إلا عليه سبحانه ، ويقال في غيره : خالق الأديم .
-{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف : 123 - 126] .
ثم حكى سبحانه ما صدر عن فرعون عند إيمان السحرة ، فقال سبحانه : {قال فرعون آمنتم به} أي : أقررتم له بالصدق من {قبل أن آذن لكم} أي : من قبل أن آمركم بإيمان ، وآذن لكم في ذلك {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها} أراد فرعون بهذا القول التلبيس على الناس ، وإيهامهم أن إيمان السحرة لم يكن عن علم ، ولكن لتواطؤ منهم ، ليذهبوا مالكم وملككم .
وقيل : معناه : إن هذا لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر ، قبل خروجكم إلى هذا الموضع ، لتستولوا على مصر ، فتخرجوا منها أهلها {فسوف تعلمون} عاقبة أمركم ، وهذا وعيد لهم ، ثم بين الوعيد فقال : {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} أي : من كل شق طرفا . قال الحسن : هو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، وكذلك اليد اليسرى مع الرجل اليمنى .
{ثم لأصلبنكم أجمعين} أي : لا أدع واحدا منكم إلا صلبته . وقيل : إن أول من قطع الرجل ، وصلب ، فرعون ، صلبهم في جذوع النخل على شاطئ نهر مصر . {قالوا} يعني السحرة جوابا لفرعون : {إنا إلى ربنا منقلبون} أي : راجعون إلى ربنا بالتوحيد والإخلاص ، عن ابن عباس . والإنقلاب إلى الله تعالى هو الانقلاب إلى جزائه ، وغرضهم بهذا القول التسلي في الصبر على الشدة ، لما فيه من المثوبة مع مقابلة وعيده بوعيد أشد منه ، وهو عقاب الله {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا} معناه : وما تطعن علينا ، وما تكره منا ، إلا إيماننا بالله ، وتصديقنا بآياته التي جاءتنا ، قال ابن عباس : معناه ما لنا عندك من ذنب ، ولا ركبنا منك مكروها تعذبنا عليه ، الا إيماننا بآيات ربنا ، وهي ما أتى به موسى عليه السلام آمنوا بها ، أنها من عند الله ، ولا يقدر على مثلها إلا هو {ربنا أفرغ علينا صبرا} أي : أصبب علينا الصبر عند القطع والصلب ، حتى لا نرجع كفارا . والمراد : ألطف لنا حتى نتصبر على عذاب فرعون ، ونتشجع عليه ، ولا نفزع منه {وتوفنا مسلمين} أي : وفقنا للثبات على الإيمان والإسلام إلى وقت الوفاة . وقيل : مسلمين مخلصين لله ، حتى لا يردنا البلاء عن ديننا . قالوا : فصلبهم فرعون من يومه ، فكانوا أول النهار كفارا سحرة ، وآخر النهار شهداء بررة . وقيل أيضا : إنه لم يصل إليهم ، وعصمهم الله منه !
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 327-333 .
2 . كذا في جميع النسخ ولعله على قراءة أهل الكوفة .
3 . حظي : كان ذا منزلة ، ومكانة ، وحظ .
{وجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ، قالَ نَعَمْ وإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . ان هؤلاء السحرة الذين ساوموا فرعون ضد موسى ( عليه السلام ) كانوا يمثلون الدين في عصرهم . . ولهم أشباه ونظائر في كل عصر ، يساومون على دينهم وضميرهم كل من يدفع الثمن . . ففي عصرنا هذا اشترى الصهاينة والمستعمرون الكثير من أرباب القلانس والعمائم ، ودفعوا لهم الثمن ، فقبضوا وتطوعوا يناصرون الاستعمار والاستغلال بالتمويه والتضليل ، وألفوا لهذه الغاية الهيئات والجمعيات باسم الدين والمبادئ ، ولكن سرعان ما افتضحوا ، وصاروا سبة على لسان كل واع مخلص .
{قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} . خيروه بين أن يبدأ ، أو يبدؤا ثقة منهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة ، وعدم مبالاتهم بموسى ( عليه السلام ) .
وغريب قول الرازي : ان السحرة خيروا موسى تأدبا واحتراما . قال - موسى - {أَلْقُوا} مستخفا بهم وبسحرهم {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} . ونسبة السحر إلى الأعين دليل على ان سحرهم لا واقع له ، وإنما هو مجرد تمويه وتضليل ، واسترهبوهم أي ان سحرهم لا واقع له ، وإنما هو مجرد تمويه وتضليل ، واسترهبوهم أي ان السحرة خوفوا وأرهبوا النظارة ، وجاؤا بسحر عظيم في التمويه والتضليل ، لا في الحقيقة والواقع .
{وأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ . فَوَقَعَ الْحَقُّ وبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} . خاف موسى أن يغتر الجاهلون بتمويه السحرة وتضليلهم ، فشد اللَّه من عزمه ، وأوحى إليه انه معه ، وأن ما جاء به السحرة ليس بشيء ، وإنما هو افتعال وتزوير . وأمره أن يلقي العصا ، ولما ألقاها ابتلعت ما زوروا ، وأبطلت ما افتعلوا ، وظهر الحق عيانا للجميع . وذهل فرعون من هول الصدمة . . انه حشد الجماهير ، وأتى بالسحرة من كل مكان ليدعم بهم عرشه وسلطانه ، ويثبت للناس كذب موسى وافتراءه . . وإذا بالآية تنعكس رأسا على عقب ، ويؤمن الجميع بما فيهم السحرة بصدق موسى وأمانته ، وكذب فرعون وخيانته {فَغُلِبُوا هُنالِكَ وانْقَلَبُوا صاغِرِينَ} . بعد ذاك الزهو ، وتلك الكبرياء ، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهان الخطب على فرعون بعض الشيء ولكنه فوجئ بما هو أدهى وأمر {وأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، رَبِّ مُوسى وهارُونَ} . هؤلاء هم السحرة الذين تحدى بهم فرعون موسى وهارون يستسلمون طائعين ، ويسجدون لرب العالمين رب موسى وهارون ، لا لفرعون الذي جاء بهم لإبطال دعوة اللَّه والحق .
وتسأل : ما هو القصد من قول السحرة : رب موسى وهارون ، مع العلم بأن قولهم : آمنا برب العالمين يغني عنه ؟ .
الجواب : ان فرعون كان يقول للناس : {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى . . ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} . ولو اكتفى السحرة بقولهم : رب العالمين لدلَّس فرعون وحرّف ، وقال : إياي يعنون برب العالمين ، فقطعوا الطريق على تدليسه وتحريفه بقولهم : رب موسى وهارون .
حول السحر :
في المجلد الأول ص 164 تكلمنا عن السحر بعنوان السحر وحكمه ، وقلنا فيما قلنا : نحن مع الذين لا يرون للسحر واقعا ، وأقمنا الدليل على ذلك ، ونعطف الآن على ما سبق ما يلي :
ان قوله تعالى : سحروا أعين الناس دليل واضح ان السحر لا واقع له ، وانه شعوذة وتمويه ، أما قوله سبحانه : وجاؤا بسحر عظيم فمعناه ان ما جاؤوا به عظيم في ظاهره ، وفي أعين الناس ، وانهم قد بلغوا النهاية في الشعوذة والتزوير ، ويوضح هذا المعنى ويؤكده الآية 66 من سورة طه : {فَإِذا حِبالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} . انها لا تسعى حقيقة وواقعا ، بل توهما وتخيلا . . وعن الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) : من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذاب يصدقه فقد كفر بما أنزل اللَّه .
وقال كثير من المفسرين : ان سحرة فرعون احتالوا لتحريك الحبال والعصي بما جعلوا فيها من الزئبق حتى تتحرك بحرارة الشمس . . وأيا كان السبب فنحن نؤمن ايمانا لا يشوبه ريب بأن الساحر كذاب لا يصدقه إلا مغفل ، وان ما أتى به سحرة فرعون ، ويأتي به الهنود وغير الهنود من الأعمال المدهشة لها سبب من غير شك ، ونحن وان كنا نجهل نوع هذا السبب فانا نعلم علم اليقين بأنه لا يغير الواقع ، ولا يبدل منه شيئا ، والا استطاع الساحر أن يدفع عن نفسه الضر ، ويملك لها النفع ، ويحكم العالم بأسره بمجرد إرادته وتمتماته ، وكان شريكا للَّه في ملكه تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
{قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} . أرأيت إلى هذا المنطق ؟ انه يريدهم أن يستأذنوه في شؤون قلوبهم من الإيمان والحب والبغض . . ولا انسان في الكون له سلطان على قلبه ، ولكنه منطق الطغاة {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . يوجه فرعون بقوله هذا التهمة إلى السحرة بأن ايمانهم بموسى لم يكن عن حجة واقتناع ، وانما هو مجرد حيلة وخديعة تواطئوا عليها مع موسى من قبل ، وان الغاية من هذا التواطؤ إخراج الحاكمين من مصر وانتزاع الملك منهم . . قال هذا فرعون ، وهو يعلم انه كاذب في قوله ، ولكن أراد التمويه على الناس خوفا أن ينتقضوا عليه ، ويؤمنوا بموسى ، ولكن الناس يعلمون ان السحرة كانوا يؤلهون فرعون ، ويمكنونه من رقاب العباد باسم الدين ، وان السحرة لم يؤمنوا الا عن بصيرة واقتناع ، وأيضا يعلم الناس ان موسى لم يجتمع بواحد من السحرة ، لأن فرعون جمعهم من هنا وهناك .
{لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} . هذا هو سلاح الطغاة في مواجهة الحق ، قال المسعودي في مروج الذهب : جمع معاوية الناس في سنة 59 ه ليبايعوا ولده يزيد ، فقام رجل من الأزد خطيبا ، وقال : ان مات هذا - مشيرا إلى معاوية - فهذا مشيرا إلى يزيد ، ومن أبى فهذا ، وهز السيف . فقال له معاوية : اقعد أنت من أخطب الناس .
{قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ} . افعل ما شئت فلا نأبه بك ولا بقتلك فنحن على يقين من لقاء ربنا وعدله . . وكل من يؤمن بلقاء اللَّه يقف هذا الموقف ، بل يرى الاستشهاد سعادة ووسيلة لمرضاة اللَّه وثوابه ، أما الذين يخافون الموت في سبيل اللَّه ، ويتهربون منه فهم يؤمنون بلقاء اللَّه نظريا فقط ، أما عمليا فإنهم به كافرون .
{وما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا} . ان قولهم هذا يتضمن التهديد لفرعون ، لأن معناه انك لا تنقم منا نحن ، وانما أنت تنقم من اللَّه ورسوله بالذات ، لأنه لا ذنب لنا إلا الإيمان باللَّه ورسوله موسى : {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهً ورَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة - 64] .
{رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً} . في هذا الموقف يحمد الصبر على القتل والتعذيب لأنه في سبيل اللَّه ، وقد سألوا اللَّه سبحانه ان يرزقهم هذه الفضيلة خوفا أن تنهار أعصابهم ، وتتلاشى عزائمهم ان أحسوا بوقع السيف في أجسادهم .
{وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} لك ولنبيك راضين بالتعذيب والتنكيل في سبيلك .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 377-381 .
قوله تعالى : {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الأعراف : 113] إلى آخر الآية التالية أي فأرسل حاشرين فحشروهم وجاء السحرة كل ذلك محذوف للإيجاز .
وقولهم : ﴿إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا﴾ سؤال للأجر جيء به في صورة الخبر للتأكيد ، وإفادة الطلب الإنشائي في صورة الإخبار شائع ، ويمكن أن يكون استفهاما بحذف أداته ، ويؤيده قراءة ابن عامر : ﴿أإن لنا لأجرا﴾ وقوله : {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف : 114] إجابة لمسئولهم مع زيادة وعدهم بالتقريب .
قوله تعالى : {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف : 115] خيروه بين أن يكون هو الملقي بعصاه ، وبين أن يكونوا هم الملقين لما أعدوه من الحبال والعصي وهذا التخيير في مقام استعدوا لمقابلته ، ولا محالة يفيد التخيير في الابتداء بالإلقاء فمعناه إن شئت ألق عصاك أولا وإن شئت ألقينا حبالنا وعصينا أولا .
وفيه نوع من التجلد لدلالته على أنهم لا يبالون بأمره سواء ألقى قبلهم أو بعدهم فلا يهابونه على أي حال لوثوقهم بأنهم هم الغالبون ، ولا يخلو التخيير مع ذلك عن نوع من التأدب .
قوله تعالى : {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } [الأعراف : 116] إلى آخر الآية ، السحر هاهنا نوع تصرف في حاسة الإنسان بإدراك أشياء لا حقيقة لها في الخارج ، وقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة : 102] في الجزء الأول من الكتاب ، والاسترهاب الإخافة ، ومعنى الآية ظاهر ، وقد عد الله فيها سحرهم عظيما .
قوله تعالى : وأوحينا إلى موسى أن ألق إلى آخر الآيتين ، أن تفسيرية واللقف واللقفان تناول الشيء بسرعة ، والإفك هو صرف الشيء عن وجهه ولذا يطلق على الكذب ، وفي الآية وجوه من الإيجاز ظاهرة ، والتقدير : وأوحينا إلى موسى بعد ما ألقوا أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي حية وإذا هي تلقف ما يأفكون .
وقوله : ﴿فوقع الحق﴾ فيه استعارة بالكناية بتشبيه الحق بشيء كأنه معلق لا يعلم عاقبة حاله أ يستقر في الأرض بالوقوع عليها والتمكن فيها أم لا؟ فوقع واستقر {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف : 118] من السحر .
قوله تعالى : {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف : 119] أي غلب فرعون وأصحابه ﴿هنالك﴾ أي في ذلك المجمع العظيم الذي تهاجم عليهم فيه الناس من كل جانب ففي لفظ ﴿هنالك﴾ إشارة إلى ذلك وهو للبعيد ، ﴿ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾ أي عادوا وصاروا أذلاء مهانين .
قوله تعالى : {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 120 - 122] أبهم فاعل الإلقاء في قوله :﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ وهو معلوم فإن السحرة هم الذين ألقوا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين ، وذلك للإشارة إلى كمال تأثير آية موسى فيهم وإدهاشها إياهم فلم يشعروا بأنفسهم حين ما شاهدوا عظمة الآية وظهورها عليهم إلا وهم ملقون ساجدون فلم يدروا من الذي أوقع بهم ذلك .
فاضطرتهم الآية إلى الخرور على الأرض ساجدين ، والإيمان برب العالمين الذي اتخذه موسى وهارون ، وفي ذكر موسى وهارون دلالة على الإيمان بهما مع الإيمان برب العالمين .
وربما قيل : إن بيانهم رب العالمين برب موسى وهارون لدفع توهم أن يكون إيمانهم لفرعون فإنه كان يدعي أنه رب العالمين فلما بينوه بقولهم ﴿رب موسى وهارون﴾ ولم يأخذا فرعون ربا اندفع ذلك التوهم ، ولا يخلو عن خفاء فإن الوثنية ما كانت تقول برب العالمين بحقيقة معناه بمعنى من يملك العالمين ويدبر أمر جميع أجزائها بالاستقامة بل قسموا أجزاء العالم وشئونها بين أرباب شتى ، وإنما أعطوا الله سبحانه مقام إله الآلهة ورب الأرباب لا رب الأرباب ومربوبيها .
والذي ادعاه فرعون لنفسه على ما حكاه الله من قوله : ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ النازعات : 24 ، إنما هو العلو من جهة القيام بحاجة الناس - وهم أهل مصر خاصة - عن قرب واتصال لا من جهة القيام بربوبية جميع العالمين ، ومع ذلك كله قد أحاطت الخرافات على الوثنية بحيث لا يستبعد أن يتفوهوا بكون فرعون رب العالمين وإن خالف أصول مذاهبهم قطعا .
قوله تعالى : {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف : 123] إلى آخر الآيتين خاطبهم فرعون بقوله : ﴿آمنتم به قبل أن آذن لكم﴾ تأنفا واستكبارا ، وهو إخبار يفيد بحسب المقام والإنكار والتوبيخ ، ومن الجائز أن يكون استفهاما إنكاريا أو توبيخيا محذوف الأداة .
وقوله : {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} [الأعراف : 123] الآية يتهمهم بالمواطاة والمواضعة في المدينة يريد أنهم لما اجتمعوا في مدينته بعد ما حشرهم الحاشرون من مدائن مختلفة شتى فجاءوا بهم إليه ولقوا موسى أجمعوا على أن يمكروا بفرعون وأصحابه فيتسلطوا على المدينة فيخرجوا منها أهلها ، وذلك لأنهم لم يشاهدوا موسى قبل ذلك فلو كانوا تواطئوا على شيء فقد كان ذلك بعد اجتماعهم في مدينته .
أنكر عليهم إيمانهم بقوله : ﴿آمنتم به قبل أن آذن لكم﴾ ثم اتهمهم بأنهم تواطئوا جميعا على المكر ليخرجوا أهل المدينة منها بقوله : ﴿إن هذا لمكر﴾ إلخ ليثبت لهم جرم الإفساد في الأرض المبيح له سياستهم وتنكيلهم بأشد العقوبات .
ثم هددهم بقوله : ﴿فسوف تعلمون﴾ ثم بينه وفصله بقوله : {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف : 124] فهددهم تهديدا أكيدا أولا بقطع الأيدي والأرجل من خلاف وهو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى وبالجملة قطع كل من اليد والرجل من خلاف الجهة التي قطعت منها الأخرى .
وثانيا بالصلب وهو شد المجرم بعد تعذيبه على خشبة ورفع الخشبة بإثبات جانبه على الأرض ليشاهده الناس فيكون لهم عبرة ، وقد تقدم تفصيل بيانه في قصص المسيح (عليه السلام) في تفسير سورة آل عمران .
قوله تعالى : {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الأعراف : 125] إلى آخر الآيات .
جواب السحرة وهم القائلون هذا المقال وقد قابلوه بما يبطل به كيده ، وتنقطع به حجته ، وهو أنك تهددنا بالعذاب قبال ما تنقم منا من الإيمان بربنا ظنا منك أن ذلك شر لنا من جهة انقطاع حياتنا به وما نقاسيه من ألم العذاب ، وليس ذلك شرا فإنا نرجع إلى ربنا ، ونحيا عنده بحياة القرب السعيدة ، ولم نجترم إلا ما تعده أنت لنا جرما وهو إيماننا بربنا فما دوننا إلا الخير .
وهذا معنى قوله : ﴿قالوا إنا إلى ربنا منقلبون﴾ وهو إيمان منهم بالمعاد {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} [الأعراف : 126] وعدوا أمر العصا - على الظاهر آيات كثيرة لاشتماله على جهات كل منها آية كصيرورتها ثعبانا ، ولقفها حبالهم وعصيهم واحدا بعد واحد ، ورجوعها إلى حالتها الأولى .
والنقم هو الكراهة والبغض يقال : نقم منه كذا ينقم من باب ضرب وعلم : إذا كره وأبغض .
ثم أخذتهم الجذبة الإلهية من غير أن يذعروا مما هددهم به ، واستغاثوا بربهم على ما عزم به من تعذيبهم وقتلهم فسألوه تعالى قائلين : {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا - على ما يريد أن يوقع بنا من العذاب الشديد - وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف : 126] إن قتلنا .
وفي إطلاق الإفراغ على إعطاء الصبر استعارة بالكناية فشبهوا نفوسهم بالآنية ، والصبر بالماء ، وإعطاءه بإفراغ الإناء بالماء وهو صبه فيه حتى يغمره ، وإنما سألوا ذلك ليفيض الله عليهم من الصبر ما لا يجزعون به عند نزول أي عذاب وألم ينزل بهم .
وقد جاءوا بالعجب العجاب في مشافهتهم هذه مع فرعون وهو الجبار العنيد الذي ينادي {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات : 24] ويعبده ملك مصر فلم يذعرهم ما شاهدوا من قدرته وسطوته فأعربوا عن حجتهم بقلوب مطمئنة ، ونفوس كريمة ، وعزم راسخ ، وإيمان ثابت ، وعلم عزيز ، وقول بليغ ، وإن تدبرت ما حكاه الله سبحانه من مشافهتهم ومحاورتهم فرعون في موقفهم هذا في هذه السورة وفي سورتي طه والشعراء أرشدك ما في خلال كلامهم من الحجج البالغة إلى علوم جمة ، وحالات روحية شريفة ، وأخلاق كريمة ، ولو لا محذور الخروج عن طور هذا الكتاب لأوردنا شذرة منها في هذا المقام فلينتظر إلى حين .
___________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 220-223 .
قال تعالى : {وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ * قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ * قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ * رَبِّ مُوسى وَهارُونَ} [الأعراف 113-122] .
كيف انتصر الحقّ في النهاية ؟
في هذه الآيات جرى الحديث حول المواجهة بين النّبي موسى عليه السلام ، وبين السحرة ، وما آل إليه أمرهم في هذه المواجهة ، وفي البداية تقول الآية : إنّ السحرة بادروا إلى فرعون بدعوته ، وكان أوّل ما دار بينهم وبين فرعون هو : هل لنا من أجر إذا غلبنا العدوّ {وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ} ؟!
وكلمة «الأجر» وإن كانت تعني أي نوع من أنواع الثواب ، ولكن نظرا إلى ورودها هنا في صورة «النكرة» ، و «النكرة» في هذه الموارد إنّما تكون لتعظيم الموضوع وإبراز أهميته بسبب إخفاء ماهيته ونوعيته ، لهذا يكون الأجر هنا بمعنى الأجر المهم والعظيم وبخاصّة أنّه لم يكن ثمّة نزاع في أصل استحقاقهم للأجر والمثوبة ، فالمطلوب من فرعون هو الوعد بإعطائهم أجرا عظيما وعوضا مهمّا .
فوعدهم فرعون ـ فورا ـ وعدا جيدا وقال : إنّكم لن تحصلوا على الأجر السخي فقط ، بل ستكونون من المقرّبين عندي {قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} .
وبهذه الطريقة أعطاهم وعدا بالمال ووعدا بمنصب كبير لديه ، ويستفاد من هذه الآية أنّ التقرب إلى فرعون في ذلك المحيط ، وتلك البيئة كان أعلى وأسمى وأهم من المال والثروة ، لأنّه كان يعني منزلة معنوية كان من الممكن أن تصبح منشأ لأموال كثيرة وثروات كبيرة .
وفي المآل حدّد موعد معين لمواجهة السحرة لموسى ، وكما جاء في سورة «طه» و «الشعراء» دعي جميع الناس لمشاهدة هذا النزال ، وهذا يدل على أنّ فرعون كان مؤمنا بانتصاره على موسى عليه السلام .
وحلّ اليوم الموعود ، وهيّأ السحرة كل مقدمات العمل . . . حفنة من العصىّ والحبال التي يبدو أنّها كانت معبأة بمواد كيمياوية خاصّة ، تبعث على حركتها إذا سطعت عليها الشمس ، لأنّها تتحول إلى غازات خفيفة تحرّك تلك العصي والحبال المجوفة .
وكانت واقعة عجيبة ، فموسى وحده (ليس معه إلّا أخوه) يواجه تلك المجموعة الهائلة من السحرة ، وذلك الحشد الهائل من الناس المتفرجين الذين كانوا على الأغلب من أنصار السحرة ومؤيديهم .
فالتفت السحرة في غرور خاص وكبير إلى موسى عليه السلام وقالوا : إمّا أن تشرع فتلقي عصاك ، وإمّا أن نشرع نحن فنلقي عصيّنا؟ {قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} .
فقال موسى عليه السلام بمنتهى الثقة والاطمئنان : بل اشرعوا أنتم {قالَ أَلْقُوا} .
وعند ما ألقى السحرة بحبالهم وعصيّهم في وسط الميدان سحروا أعين الناس ، وأوجدوا بأعمالهم وأقاويلهم المهرجة ومبالغاتهم وهرطقاتهم خوفا في قلوب المتفرجين ، وأظهروا سحرا كبيرا رهيبا : {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} .
وكلمة «السحر» ـ كما مرّ في المجلد الأوّل من هذه الموسوعة التفسيرية ، عند تفسير الآية (102) من سورة البقرة ـ تعني في الأساس الخداع والشعبذية ، وقد يطلق أيضا على كل عامل غامض ، ودافع غير مرئي .
وعلى هذا الأساس ، فإن هذه الجماعة كانت توجد أفعالا عجيبة بالاعتماد على سرعة حركة الأيدي ، والمهارة الفائقة في تحريك الأشياء لتبدو وكأنّها أمور خارقة للعادة وكذلك الأشخاص الذين يستفيدون من الخواص الكيمياوية والفيزياوية الغامضة الموجودة في الأشياء والمواد ، فيظهرون أعمالا مختلفة خارقة للعادة . كل هؤلاء يدخلون تحت عنوان «الساحر» .
هذا علاوة على أن السحرة يستفيدون ـ عادة ـ من سلسلة من الإيحاءات المؤثرة في مستمعيهم ، ومن العبارات والجمل المبالغة ، وربّما الرهيبة المخوفة لتكميل عملهم ، والتي تترك آثارا جدّ عجيبة في مستمعيهم ومتفرجيهم وجمهورهم .
ويستفاد من آيات مختلفة في هذه السورة ومن سور قرآنية أخرى حول قصة سحرة فرعون ، أنّهم استخدموا كل هذه العوامل والأدوات ، وعبارة «سحروا أعين الناس» وجملة «استرهبوهم» أو تعبيرات أخرى في سور «طه» و «الشعراء» جميعها شواهد على هذه الحقيقة .
بحوث
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطتين :
1 ـ المشهد العجيب لسحر السّاحرين
لقد أشار القرآن الكريم إشارة إجمالية من خلال عبارة {وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} إلى الحقيقة التالية وهي : أنّ المشهد الذي أوجده السحرة كان عظيما ومهما ، ومدروسا ومهيبا ، وإلّا لما استعمل القرآن الكريم لفظة «عظيم» هنا .
ويستفاد من كتب التاريخ ومن روايات وأحاديث المفسّرين في ذيل هذه الآية ، وكذا من آيات مشابهة ـ بوضوح ـ سعة أبعاد ذلك المشهد .
فبناء على ما قاله بعض المفسّرين كان عدد السحرة يبلغ عشرات الألوف ، وكانت الأجهزة والوسائل المستعملة كذلك تبلغ عشرات الآلاف ، ونظرا إلى أن السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن في مصر كانوا في ذلك العصر كثيرين جدّا ، لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب . خاصّة أنّ القرآن الكريم في سورة «طه» الآية (67) يقول : {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى} أي أنّ المشهد كان عظيما جدّا ورهيبا إلى درجة أن موسى شعر بالخوف قليلا ، وإن كان ذلك الخوف ـ حسب تصريح نهج البلاغة ـ (2) لأجل أنّه خشي أن من الممكن أن يتأثر الناس بذلك المشهد العظيم ، فيكون إرجاعهم إلى الحق صعبا ، وعلى أي حال فإنّ ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته .
2 ـ الاستفادة من السلاح المشابه
من هذا البحث يستفاد ـ بجلاء ووضوح ـ أنّ فرعون بالنظر إلى حكومته العريضة في أرض مصر ، كانت له سياسات شيطانية مدروسة ، فهو لم يستخدم لمواجهة موسى وأخيه هارون من سلاح التهديد والإرعاب ، بل سعى للاستفادة من أسلحة مشابهة ـ كما يظن ـ في مواجهة موسى ، ومن المسلّم أنّه لو نجح في خطّته لما بقي من موسى ودينه أي أثر أو خبر ، ولكان قتل موسى عليه السلام في تلك الصورة أمرا سهلا جدا ، بل وموافقا للرأي العام ، جهلا منه بأنّ موسى لا يعتمد على قوة إنسانية يمكن معارضتها ومقاومتها ، بل يعتمد على قوّة أزلية إلهية مطلقة ، تحطّم كلّ مقاومة ، وتقضي على كل معارضة .
وعلى أية حال ، فإنّ الاستفادة من السلاح المشابه أفضل طريق الإنتصار على العدو المتصلّب ، وتحطيم القوى المادية .
في هذه اللحظة التي اعترت الناس فيها حالة من النشاط والفرح ، وتعالت صيحات الابتهاج من كل صوب ، وعلت وجوه فرعون وملائه ابتسامة الرضى ، ولمع في عيونهم بريق الفرح ، أدرك الوحي الإلهي موسى عليه السلام وأمره بإلقاء العصى ، وفجأة انقلب المشهد وتغير ، وبدت الدهشة على الوجوه ، وتزعزت مفاصل فرعون وأصحابه كما يقول القرآن الكريم : {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ} .
و«تلقف» مشتقة من مادة «لقف» (على وزن سقف) بمعنى أخذ شيء بقوة وسرعة ، سواء بواسطة الفم ، والأسنان ، أو بواسطة الأيدي ، ولكن تأتي في بعض الموارد بمعنى البلع والابتلاع أيضا ، والظاهر أنّها جاءت في الآية الحاضرة بهذا المعنى .
و«يأفكون» مشقّة من مادة «إفك» على وزن «مسك» وهي تعني في الأصل الانصراف : عن الشيء ، وحيث أن الكذب يصرف الإنسان من الحق أطلق على الكذب لفظ «الإفك» .
وهناك احتمال آخر في معنى الآية ذهب إليه بعض المفسّرين ، وهو أن عصا موسى بعد أن تحولت إلى حيّة عظيمة لم تبتلع أدوات سحر السحرة ، بل عطّلها عن العمل والحركة وأعادها إلى حالتها الأولى . وبذلك أوصد هذا العمل طريق الخطأ على الناس ، في حين أن الابتلاع لا يمكنه أن يقنع الناس بأنّ موسى لم يكن ساحرا أقوى منهم .
ولكن هذا الاحتمال لا يناسب جملة «تلقف» كما لا يناسب مطالب الآية ، لأنّ «تلقف» ـ كما أسلفنا ـ تعني أخذ شيء بدقة وسرعة لا قلب الشيء وتغييره .
هذا مضافا إلى أنّه لو كان المقرر أن يظهر إعجاز موسى عليه السلام عن طريق إبطال سحر السحرة ، لم تكن حاجة إلى أن تتحول العصى إلى حيّة عظيمة ، كما قال القرآن الكريم في بداية هذه القصّة .
وبغض النظر عن كل هذا ، لو كان المطلوب هو إيجاد الشك والوسوسة في نفوس المتفرجين ، لكانت عودة وسائل السحرة وأدواتهم إلى هيئتها الأولى ـ أيضا ـ قابلة للشك والترديد ، لأنّه من الممكن أن يحتمل أن موسى بارع في السحر براعة كبرى بحيث أنّه استطاع إبطال سحر الآخرين وإعادتها إلى هيئتها الأولى .
بل إن الذي تسبب في أن يعلم الناس بأن عمل موسى أمر خارق للعادة ، وأنّه عمل إلهي تحقق بالاعتماد على القدرة والإلهية المطلقة ، هو أنّه كان في مصر آنذاك مجموعة كبيرة من السحرة الماهرين جدّا ، وكان أساتذه هذا الفن وجوها معروفة في تلك البيئة ، في حين أن موسى الذي لم يكن متصفا بأي واحدة من هذه الصفات ، وكان ـ في الظاهر ـ رجلا مغمورا ، نهض من بين بني إسرائيل ، وأقدم على مثل ذلك العمل الذي عجز أمامه الجميع . ومن هنا علم أن هناك قوة غيّبة تدخلت في عمل موسى ، وأن موسى ليس رجلا عاديا .
وفي هذا الوقت ظهر الحق ، وبطلت أعمالهم المزّيفة {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} . لأنّ عمل موسى كان عملا واقعيا ، وكانت أعمالهم حفنة من الحيل ومن أعمال الشعبذة ، ولا شك أنّه لا يستطيع أي باطل أن يقاوم الحق دائما .
وهذه هي أوّل ضربة توجهت إلى أساس السلطان الفرعوني الجبّار .
ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة : وبهذه الطريقة ظهرت آثار الهزيمة فيهم ، وصاروا جميعا أذلاء : {فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ} .
وبالرغم من أنّ المؤرخين ذكروا في كتب التاريخ قضايا كثيرة حول هذه الواقعة ، ولكن حتّى من دون نقل ما جاء في التواريخ يمكن الحدس أيضا بما حدث في هذه الساعة من اضطراب في الجماهير المتفرجة . . . فجماعة خالفوا بشدّة بحيث أنّهم فرّوا وهربوا ، وأخذ آخرون يصيحون من شدّة الفزع ، وبعض أغمي عليه .
وأخذ فرعون وملأه ينظرون إلى ذلك المشهد مبهوتين مستوحشين ، وقد تحدّرت على وجوههم قطرات العرق من الخجل والفشل ، فأجمعوا يفكرون في مستقبلهم الغامض المبهم ، ولم يدر في خلدهم أنّهم سيواجهون مثل هذا المشهد الرهيب الذي لا يجدون له حلّا .
والضربة الأقوى كانت عند ما تغير مشهد مواجهة السحرة لموسى عليه السلام تغييرا كلّيا ، وذلك عند ما وقع السحرة فجأة على الأرض ساجدين لعظمة الله {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} .
ثمّ نادوا بأعلى صوتهم و {قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ} .
وبذكر هذه الجملة بينوا ـ بصراحة ـ الحقيقة التالية وهي : أنّنا آمنا بربّ هو غير الربّ المختلق ، المصطنع ، إنّه الربّ الحقيقي .
بل لم يكتفوا بلفظة «ربّ العالمين» أيضا ، لأنّ فرعون كان يدعي أنّه ربّ العالمين ، لهذا أضافوا : «ربّ موسى وهارون» حتى يقطعوا الطريق على كل استغلال .
ولم يكن فرعون والملأ يتوقعون هذا الأمر مطلقا ، يعني أنّ الجماعة التي كان يعلّق الجميع آمالهم عليها للقضاء على موسى ودعوته ، أصبحت في الطليعة من المؤمنين بموسى ودعوته ، ووقعوا ساجدين لله أمام أعين الناس عامّة ، وأعلنوا عن تسليمهم المطلق وغير المشروط لدعوة موسى عليه السلام .
على أنّ هذا الموضوع الذي غيّر أناسا بمثل هذه الصورة ، يجب أن لا يكون موضوع استغراب وتعجب ، لأنّ نور الإيمان والتوحيد موجود في جميع القلوب ، ويمكن أن تخفيه بعض الموانع والحجب الاجتماعية مدّة طويلة أو قصيرة ، ولكن عند ما تهب بعض العواصف بين حين وآخر تنزاح تلك الحجب ، ويتجلّى ذلك النور ويأخذ بالأبصار .
وبخاصّة أن السحرة المذكورين كانوا أساتذة مهرة في صناعتهم ، وكانوا أعرف من غيرهم بفنون عملهم ورموز سحرهم ، فكانوا يعرفون ـ جيدا ـ الفرق بين «المعجزة» و«السحر» فالأمر الذي يحتاج الآخرون لمعرفته إلى المطالعة الطويلة والدقة الكبيرة ، كان واضحا عند السحرة وبينا ، بل أوضح وأبين من الشمس في رابعة النهار .
إنّهم مع معرفتهم بفنون ورموز السحر الذي تعلموه طوال سنوات ، عرفوا وأدركوا أن عمل موسى لم يكن يشبه ـ أبدا ـ السحر ، وأنّه لم يكن نابعا من قدرة البشر ، بل كان نابعا من قدرة فوق الطبيعة وفوق البشر ، وبذلك لا مجال للاستغراب والتعجب في اعلانهم إيمانهم بموسى بمثل تلك السرعة والصراحة والشجاعة وعدم الخوف من المستقبل .
وجملة «ألقى السحرة» التي جاءت في صيغة الفعل المبني للمجهول ، شاهد ناطق على الاستقبال البالغ لدعوة موسى وتسليم السحرة المطلق له عليه السلام . يعني أنّ جاذبية موسى كان لها من الأثر القوي البالغ في قلوب ونفوس أولئك السحرة ، بحيث أنّهم سقطوا على الأرض من دون اختيار ، ودفعهم ذلك إلى الإقرار والاعتراف .
- {قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ * وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} [الأعراف : 123-126] .
التّهديدات الفرعونية الجوفاء :
عند ما توجهت ضربة جديدة ـ بانتصار موسى على السحرة وإيمانهم به ـ إلى أركان السلطة الفرعونية ، استوحش فرعون واضطرب بشدّة ورأى أنّه إذا لم يظهر أي ردّ فعل في مقابل هذا المشهد ، فسيؤمن بموسى كل الناس أو أكثرهم ، وستكون السيطرة على الأوضاع غير ممكنة ، لهذا عمد فورا إلى عملين مبتكرين : في البداية وجه اتهاما (لعلّه مرغوب عند السواد من الناس) إلى السحرة ، ثمّ هددهم بأشدّ التهديدات ، ولكن على العكس من توقعات فرعون أظهر السحرة مقاومة عجيبة تجاه هذين الموقفين ، مقاومة أغرقت فرعون وجهازه في تعجب شديد ، وأفشلت جميع خططه . وبهذه الطريقة وجهوا ضربة ثالثة إلى أركان السلطان الفرعوني المتزلزل ، وقد رسمت الآيات اللاحقة هذا المشهد بصورة رائعة .
في البداية يقول : إنّ فرعونا قال للسحرة : هل آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم {قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ؟!
وكأنّ التغيير بـ «به» لأجل تحقير موسى والازدراء به ، وكأنّه بجملة «قبل أن آذن لكم» أراد أن يظهر أنّه يتحرى الحقيقة ويطلب الحق ، فلو كان عمل موسى عليه السلام يتسم بالحقيقة والواقعية لأذنت أنا للناس بأن يؤمنوا به ، ولكن استعجالكم كشفت عن زيفكم ، وأنّ هناك مؤامرة مبيّنة ضد شعب مصر .
وعلى أية حال ، أفادت الجملة أعلاه أنّ فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي أن لا يحق للشعب أن يتصرف أو يعمل أو يقول شيئا من دون إجازته وإذنه ، بل لا يحق لهم أن يفكروا ويؤمنوا بدون أمره وإذنه أيضا!!
وهذه هي أعلى درجات الاستعباد والاستحمار ، أن يكون شعب من الشعوب أسيرا وعبدا بحيث لا يحق له حتى التفكير والإيمان القلبي بأحد أو بعقيدة .
وهذا هو البرنامج الذي يواصله «الاستعمار الجديد» ، يعني أنّ المستعمرين لا يكتفون بالاستعمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، بل يسعون إلى تقوية جذورهم عن طريق الاستعمار الفكري .
وتتجلى مظاهر هذا الاستعباد الفكري في البلاد الشيوعية أكثر فأكثر ، بالحدود المغلقة ، والأسوار الحديدية والرقابة الشديدة المفروضة على كل شيء ، وبخاصّة على الأجهزة الثقافية .
ولكن في البلاد الرأسمالية الغربية التي يظن البعض أنّه لا يوجد استعباد فكري وثقافي على الأقل وأن لكل أحد أن يفكر ويختار بحرية ، يمارس الاستعباد بنحو آخر ، لأنّ الرأسماليين الكبار بتسلّطهم الكامل على الصحف المهمّة ، والإذاعات ، ومحطات التلفزيون ، وجميع سبل الارتباط الجمعي ووسائل الإعلام ، يفرضون على المجتمع أفكارهم وآراءهم في لباس الحرية الفكرية ، ويوجهون المجتمع ـ عن طريق عملية غسيل دماغ واسعة ومستمرة ـ إلى الوجهة التي يريدون ، وهذا بلاء عظيم يعاني منه عصرنا الحاضر .
ثمّ يضيف فرعون قائلا {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها} .
ونظرا إلى الآية (71) من سورة «طه» التي تقول {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} يتّضح أنّ مراد فرعون هو أنّ هناك مؤامرة مدروسة وتواطؤا مبيّنا قد دبرتموه قبل مدّة للسيطرة على أوضاع مصر واستلام زمام السلطة ، لا أنّكم دبرتموه للتو وقبل قليل في لقاء محتمل بينكم وبين موسى .
ومن هنا يتّضح أنّ المراد من «المدينة» هو مجموع القطر المصري ، والألف واللام ألف ولام الجنس ، والمراد من «لتخرجوا منها أهلها» هو تسلط موسى عليه السلام وبني إسرائيل على أوضاع مصر ، وإقصاء حاشية فرعون وأعوانه عن جميع المناصب الحساسة ، أو إبعاد بعضهم إلى النقاط البعيدة من البلاد ، والآية (110) في هذه السورة شاهدة على ذلك أيضا .
وعلى كل حال ، فإنّ هذه التهمة كانت خاوية ومفضوحة ، إلى درجة أنّه لم يكن يقتنع بها إلّا العوام والجهلة من الناس ، لأنّ موسى عليه السلام لم يكن حاضرا في مصر ، ولم يلتق بأحد من السحرة من قبل ، ولو كان أستاذهم وكبيرهم الذي علمهم السحر ، لوجب أن يكون معروفا ومشهورا في جميع الأماكن ، وأن يعرفه أكثر الناس ، وهذه لم تكن أمورا يمكن إخفاؤها وكتمانها ، لأنّ التواطؤ مع أشخاص المنتشرين في شتى مناطق مصر على أمر بهذا القدر من الاهمية غير ممكن عملا .
ثمّ إنّ فرعون هدّدهم بتهديد غامض ولكنّه شديد ومحكم ، إذ قال : {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}!!
وفي الآية اللاحقة بيّن تفاصيل ذلك التهديد الذي هدّد به السحرة فاقسم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم ، إذ قال : {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} .
وفي الحقيقة كان مراده أن يقتلهم بالتعذيب والتنكيل ، ويجعل من هذا المشهد الرهيب درسا للآخرين ، لأن قطع الأيدي والأرجل ، ثمّ الصلب على الشجر أمام الناس ، ومنظر تدفق الدم من أجسامهم وما يرافق هذا من حالات النزع فوق المشانق إلى أن يموتوا ، سيكون عبرة لمن يعتبر (ولا بدّ من ملاحظة أن الصلب في ذلك الزمان لم يكن يتمّ على النحو الذي يتمّ به الآن ، وهو تعليق المشنوق بوضع الحبل في عنقه ، بل كان الحبل يوضع تحت كتفيه حتى لا يموت بسرعة) .
ولعل قطع اليد والرجل من خلاف ، كان لأجل أن هذا العمل يتسبب في أن يموتوا بصورة أبطأ ، ويتحملوا قدرا أكثر من الألم والعذاب .
والجدير بالتأمل أن البرامج التي انتهجها فرعون لمكافحة السحرة الذين آمنوا بموسى ، كانت برامج عامّة في مكافحة الجبارين وتعاملهم الوحشي الرخيص مع أنصار الحق والمنادين به ، فهم من جانب يستخدمون حربة التهمة حتى يزعزعوا مكانة أنصار الحق في نفوس الجماهير ، ومن جانب آخر يتوسلون بسلاح القوة والقهر والتهديد لتحطيم إرادتهم ، ولكن ـ كما نقرأ في ذيل قصّة موسى ـ لم يستطع هذان السلاحان أن يفعلا شيئا في نفوس أنصار الحق ، ولن يفعلا .
لقد قاوم السحرة كلتا حربتي فرعون ، وأجابوه جواب رجل واحد : إنّنا نرجع إلى ربّنا إذن {قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ} .
يعني إذا تحقق تهديدك الثّاني (وهو القتل) فمعناه أنّنا سننال الشهادة في سبيل الدفاع عن الحق ، وهذا لا يوجب ضررا علينا ، ولا ينقصنا شيئا ، بل يعدّ سعادة وفخرا عظيما لنا .
ثمّ إنّهم للردّ على تهمة فرعون ، ولإيضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا المشهد ، واثبات براءتهم من أي ذنب ، قالوا : إنّ الإشكال الوحيد الذي تورده علينا هو أنّنا آمنا بآيات الله وقد جاءتنا {وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا} .
يعني أنّنا لسنا مشاغبين ، ولا متآمرين ، ولا متواطئين ضدك ، وليس إيماننا بموسى يعني أنّنا نريد استلام أزمة الحكم ، ولا أن نخرج أهل هذه البلاد من ديارهم ، وأنت نفسك تعلم أننا لسنا بهذا الصدد ، بل نحن عند ما رأينا الحق وشاهدنا علائمه بوضوح أجبنا داعي الله ولبينا نداءه وآمنا به ، وهذا هو ذنبنا الوحيد في نظرك ليس غير .
وهكذا أظهروا لفرعون بالجملة الأولى أنّهم لا يخافون أي تهديد ، وأنّهم يستقبلون جميع الحوادث والتبعات حتى الشهادة بمنتهى الشهامة . وبالجملة الثّانية ردّوا بصراحة على الاتهامات التي وجهها فرعون إليهم .
إن جملة «تنقم» مشتقة من مادة «نقمة» على وزن «نعمة» وهي في الأصل تعني رفض شيء باللسان أو بالعمل والعقوبة . وعلى هذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون بمعنى إنّ العمل الوحيد الذي تنكره علينا هو أنّنا آمنا ، أو يعني أنّ العقوبة التي تريد أن تعاقبنا بها إنما هو لأجل إيماننا .
ثمّ إنّهم أشاحوا بوجوههم عن فرعون وتوجهوا إلى الله سبحانه ، وطلبوا منه الصبر والاستقامة ، لأنّهم كانوا يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يقاوموا تلك العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه ، لهذا قالوا : {رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} .
والملفت للنظر أنّهم بعبارة {أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً} أظهروا أن الخطر المحدق بهم بلغ الدرجة القصوى ، فأعطنا يا ربّ أنت ـ أيضا ـ آخر درجات الصبر والاستقامة ، لأنّ «أفرغ» من مادة «الإفراغ» بمعنى صبّ السائل من وعاء حتى يفرغ .
الاستقامة الواعية :
يمكن أن يتملك الإنسان عجب شديد عند أوّل اطلاعة على قصّة السحرة في زمان موسى عليه السلام الذين صاروا من المؤمنين الصادقين ، هل يمكن أن يحدث مثل هذا الانقلاب والتحول العميق في الروح الإنسانية في مثل هذه المدّة القصيرة ، بحيث يقطع الشخص كل علاقاته مع الصف المخالف ، ويصير في صف الموافق ، ثمّ يدافع عن عقيدته الجديدة بإصرار وعناد عجيبين إلى درجة أنّه يتجاهل مكانته ومصالحه وحياته جميعا ، ويستقبل الشهادة بشجاعة منقطعة النظير ، وبوجه مستبشر؟
ولكن هذا الاستغراب يتبدد إذا التفتنا إلى هذه النقطة ، وهي أنّ هؤلاء ـ نظرا إلى سوابقهم الكثيرة في علم السحر ـ وقفوا جيدا على عظمة معجزة النّبي موسى عليه السلام وحقانيته ، وسلكوا هذا السبيل عن وعي كامل . . . وهذا الوعي صار منشأ لعشق ملتهب سر بل كل وجودهم وكيانهم ، وهو عشق لا يعرف حدّا وسدّا ، وفوق جميع النوازع والرغبات البشرية .
إنّهم كانوا يعلمون جيدا أي طريق يسلكونه ؟ ولماذا يجاهدون ؟ ومن يكافحون ؟ وأي مستقبل مشرق ينتظر هذا الجهاد العظيم ؟
أجل ، إذا كان الإيمان مقرونا بالوعي الكامل فإنّه ينتهي إلى مثل هذا العشق الملتهب الذي لا يكون هذا التفاني في سبيله مثار للعجب .
ولهذا نرى كيف أن السحرة قالوا بصراحة وشجاعة (كما في سورة طه الآية (72) : {قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا} .
وأخيرا ـ وكما جاء في الرّوايات وكتب التأريخ ـ استقام أولئك الجماعة من السحرة الذين آمنوا بموسى حتى نفّذ فرعون تهديداته ، ومثّل بأجسامهم تمثيلا مروعا ، وصلبهم على جذوع النخل على مقربة من نهر النيل . وهكذا كتبت أسماؤهم مع أحرار التاريخ بأحرف من نور ، وكانوا كما وصفهم المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي : كانوا أوّل النهار كفارا سحرة ، وآخر النهار شهداء وبررة .
ولكن مع الالتفات إلى أنّ مثل هذا الانقلاب والتحول والاستقامة ليس ممكنا إلّا في ظلّ الإمدادات الإلهية ، ومن المسلّم أن كلّ من اختار سلوك طريق الحق ، شملته هذه العنايات الرّبانية ، والإمدادات الإلهية .
__________________________
1 . تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 455-465 .
2 . الخطبة ، 4 .
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
سر جديد ينكشف.. أهرامات الجيزة خدعت أنظار العالم
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|