أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-02-2015
10089
التاريخ: 27-02-2015
1666
التاريخ: 27-03-2015
25770
التاريخ: 27-02-2015
4822
|
اعتمد الخليل في تأصيله لقواعد النحو وإقامة بنيانه على السماع والتعليل والقياس ، والسماع عنده إنما يعني نبعين كبيرين نبع الأخذ عن افواه العرب الخلص الذين يوثق بفصاحتهم ، ومن أجل ذلك رحل الى مواطنهم في الجزيرة يحدثهم ويشافههم ويأخذ عنهم الشعر واللغة ، ويروى ان الكسائي سأله وقد بهره كثرة ما يحفظ من أين أخذت علمك هذا ؟ فأجابه : من بوادي الحجاز ونجد وتهامة (1).
ص46
وهذان النبعان وحدهما هما اللذان يدوران على لسانه فيما نقله عنه تلميذه سيبويه ، ويظهر انه هو الذي ثبت فكره عدم الاستشهاد بالحديث النبوي لأن كثيرين من حملته كانوا من الاعاجم ، وهم لا يوثق بهم في الفصاحة ، واللحن يدخل على ألسنتهم . ونستطيع أن نعرف مدى المادة اللغوية والشعرية التي كان يحملها في صدره برجوعنا الى كتاب سيبويه ، فإن أكثر النقول فيه تُرد إليه ، ولا نجد سيبويه يسجل له قاعدة نحوية أو حكماً نحوياً إلا يروى معهما سيلا من عبارات العرب وأشعارهم ينقله عن لسانه ، وكأننا بإزاء منجم ضخم لا يزال يسيل بكلام العرب وأمثالهم وأبياتهم الشعرية . وكل بيت ومثل وكلمة إنما يراد به أن يكون دليلاً على ما يستنبطه من أصول النحو وقواعده ، فكل حكم نحوي وكل اصل لا يلقى إلقاء ، وإنما يلقى ومعه برهانه من كلام العرب الموثوق به وأشعارهم . فالشواهد عند الخليل هي مدار القاعدة النحوية ، وهي إنما تستنبط من الأمثلة الكثيرة ، إذ لا بد لها من الاطراد على ألسنة العرب ، فإن جاء ما يخالف القاعدة المستنبطة المحكمة كان شاذاً ، ولا بأس بأن يبحث له الخليل عن تأويل على نحو ما مر بنا آنفاً .
وليست المسألة عنده مسألة سماع وشواهد فحسب ، فقد جعله استقراؤه للغة العرب تستقر في نفسه سليقتهم استقراراً مكنه من ضبط القواعد النحوية والصرفية ضبطاً يبهر كل من يقرأ مراجعات سيبويه له ، ويكفي ان نضرب لذلك مثلين ، أما الأول فملاحظته أن إن الشرطية إذا وليها مضارع مجزوم لم يحسن دخول لام اليمين في الجواب ، فلا يقال إن تأتني لأكرمنك ، لأن اللام تعوق إن عن العمل وقد ظهر عملها لا يكون حينئذ ظاهراً فيه ، ولذلك يجوز دخول لام اليمين على جوابها ، فيقال إن أتيتني لأكرمنك . ويعلق الخليل على ذلك بشواهد من القرآن الكريم والشعر ، من مثل الآية : (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) بخلاف قوله جل وعز : (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) لأن إن عملت في فعل الشرط فوجب عملها في الجواب ، ويستدل أيضاً بقول زهير :
ص47
وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالي ولا حرم
فقد توقف عملها في الجواب ، لأن فعل الشرط ماض(2) . والمثل الثاني منع العلم من الصرف إذا كان على وزن فعلان مثلثه الفاء والنون فيه زائدة مثل عثمان وغطفان ، يقول سيبويه : " وسألته عن رجل يسمى دهقان فقال إن سميته من التدهقن فهو مصروف ... وإن جعلته من الدهق لم تصرفه .. وسالته عن رجل يسمى مرانا فقال اصرفه لأن المران إنما سُمي للبنه فهو فعال كما يسمى الحُماض لحموضته وإنما المرافة اللين . وسألته عن رجل يسمى فينانا فقال مصروف لأنه فيعال ، وإنما يريد أن يقول لشعره فنون كأفنان الشجر . وسألته عن ديوان فقال بمنزلة قيراط لانه من دونت . وسألته عن رمان فقال لا اصرفه واحمله على الأكثر اذ لم يكن له معنى يعرف . وسألته عن سعدان والمرجان فقال لا أشك في أن هذه النون زائدة لأنه ليس في الكلام مثل فعلان إلا مضعفاً(3) " .
وواضح أنه يعتمد في أحكامه على محفوظاته في اللغة ، وهي محفوظات كانت تعينه على معرفته الدقيقة بأصول الألفاظ واشتقاقاتها واستقرائه لمثيلاتها . وكأن اللغة أسلمت له قيادها كي يحكم آراءه ويضبط ما يشاء من قواعد الصرف والنحو جميعاً .
وكان يسند دائما ما يستنبطه من القواعد والأحكام بالعلل التي تصور دقته في فقه الاسرار اللغوية والتركيبية التي استقرت في دخائل العرب من قديم ، وفي ذلك يقول الزبيدي إنه " استنبط من علل النحو ما لم يستنبطه أحد وما لم يسبقه الى مثله سابق " ولفت كثرة ما يورده في النحو من علل بعض معاصريه فسأله أعن العرب أخذت هذه العلل أم أخترعتها من نفسك ؟ فقال : " إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها وعرفت مواقع كلامها وقام في عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها ، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه فإن أكن اصبت العلة فهو الذي التمست ، وإن تكن هناك علة له (أخرى) فمثلى في ذلك مثل رجل
ص48
حكيم دخل دارا محكمة البناء عجيبة النظام والأقسام وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج الائحة ، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال : إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا ..
وجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار ، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل ان يكون علة لذلك ، فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هي أليق مما ذكرته للمعلول فليأت بها " (4).
ونحن نسوق طائفة من تعليلاته التي تأخذ شكل سيول متلاحقة في كتاب سيبويه والكتب النحوية المختلفة ، من ذلك أنه كان يذهب الى ان الإعراب أصل في الأسماء وأن البناء أصل في الأفعال والحروف وأن الطرفين لا يخرجان عن هذا الأصل إلا لعلة ، أما الأسماء فإنها تبنى حين تعرضها علة شبهيها بالحرف . ويعرب الفعل حين يشبه الاسم على نحو ما أعرب وأكتب وكاتب ، وقد ظلت الحروف مبنية لأن شيئاً منها لا يشبه الاسم(5) . ويعلل لعدم دخول الألف واللام على المنادى ، إذ لا يصح ان يقال : " يا الحارث " مثلا ، بل لا بد أن يقال : " يا أيها الحارث " بتوسط أي ، يقول : إن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء من قبيل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة وذلك أن المتكلم إذا قال : " يا رجل فمعناه كمعنى : " يا أيها الرجل " وصار معرفة لأنك أشرت اليه وقصدت قصده واكتفيت بهذا عن الألف واللام وصار كالأسماء التي هي للإشارة نحو هذا وما أشبه ذلك وصار معرفة بغير ألف ولام ، لأنك إنما قصدت قصد شيء بعينه ، وصار هذا بدلا في النداء من الألف واللام واستغنى به عنهما كما استغنيت بقولك : " اضرب " عن " لتضرب " وكما صار المجرور (بالكسرة ) بدلا من التنوين ( اي في حالة الإضافة) وكما صارت الكاف في رأيتك بدلا من رأيت إياك. وإنما يدخلون الألف واللام ليعرفوك شيئاً بعينه
ص49
قد رأيته أو سمعت به ، فإذا قصدوا قصد الشيء بعينه دون غيره وعنوه لم يجعلوه واحداً من أمة فقد استغنوا عن الألف واللام فمن ثم لم يدخلوهما في هذا (أي في اسم الإشارة) ولا في النداء ، ومما يدلك على أن يا رجل معرفة قولك يا لكاع تريد يا لكعاء فصار هذا اسما .. كما صارت حذام ورقاش اسما للمرأة " (6).
ويتوقف سيبويه في حديثه عن الندبة في مثل وازيداه ويا زيداه لينقل عن الخليل أنه لا يصح فيها ان يندب المنكر مثل رجل والمبهم مثل من وهذا مع تعليله لذلك يقول : " وقال الخليل إنما قبح وارجلاه ويارجلاه لأنك أبهمت ألا ترى أنك لو قلت واهذاه كان قبيحاً لأنك إذا ندبت فإنما ينبغي لك أن تتفجع بأعرف الأسماء وان تخص فلا تبهم لأن الندبة على البيان (أي بيان الشخص او الشيء المندوب تفجعاً عليه وحزناً) .. وإنما كرهوا ذلك أنه تفاحش عندهم .. أن يتفجعوا على غير معروف (يريد في مثل : وارجلاه) فكذلك تفاحش عندهم في المبهم (يريد في مثل واهذا) لإبهامه لأنك إذا ندبت تُخبر أنك قد وقعت في عظيم وأصابك جسيم من الأمر فلا ينبغي لك أن تبهم ، وكذلك " وامن في الداراه" في القبح (لأن من مبهمة) وزعم أنه لا يستقبح : " وامن حفر زمزماه" لأن هذا معروف بعينه ، كأن التبيين في الندبة عذر للتفجع ، فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب"(7) . وكان الخليل لا يجيز العطف على الضمير المرفوع مستتراً أو ظاهراً متصلاً ، فلا يقال : " افعل وعبد والله " ولا " فعلت وعبد الله " بل لابد في ذلك من توكيد الضمير أو الإتيان بفاصل مثل " كنتم أنتم وأصحابكم" و " يكتبونه ومن معهم " و " ما كتبنا ولا زملاؤنا " يقول سيبويه : " وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أن هذا الإضمار يبنى عليه الفعل ، فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمراً يغير الفعل عن حاله إذا بعد منه ، وإنما حسنت شركته المنصوب (في مثل كلمته ومحمداً " لأنه لا يغير في الفعل عن حاله التي كان عليها قبل أن يضمر (أي أن الضمير المنصوب ليس كالجزء من الفعل بخلاف ضمير الرفع ) فأشبه المظهر وصار منفصلا عندهم بمنزلة المظهر إذ كان الفعل لا يتغير عن حاله قبل أن تضمر فيه ، وأما فعلت فإنهم قد غيروه عن حاله في الإظهار ، أسكنت فيه اللام ، فكرهوا أن يشرك
ص50
المظهر مضمرا يبنى له الفعل غير بنائه في الإظهار حتى صار (أي ضمير الرفع) كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيت ، فإن نعته (يريد أكدته) حسن أن يشركه المظهر ، وذلك قولك " ذهبت أنت وزيد" وقال الله عز وجل (فاذهب أنت وربك) (واسكن أنت وزجتك الجنة) وذلك أنك لما وصفته (يريد أكدته) حسن الكلام حيث طولته ووكدته . فأنت وأخواتها تقوى المضمر وتصير عوضاً من السكون والتغيير ومن ترك العلامة في مثل ضربَ ن وقال الله عزوجل : (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا) حسن لمكان لا (يريد لوجود فاصل) . ويمضي سيبويه فيقول إنه لا يجوز العطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الخافض ، فلا يجوز مررت به ومحمد، بل لابد من أن يقال مررت به وبمحمد ، وعلل لذلك بأن الضمير شبيه بالتنوين ، لذلك لا يجوز العطف عليه حتى لو أكد ، فلا يجوز مررت به هو ومحمد ، وكأن اتصال الضمير المجرور بجاره أشد من اتصال الفاعل المضمر بفعله . وعقب سيبويه على ذلك بأن هذا قول الخليل(8) . وقد جعلته هذه الدقة في التعليل يتنبه تنبها واسعاً الى مواقع الكلم في العبارات واستعمالاتها الدقيقة ، ونضرب مثلا لذلك تفرقته الدقيقة بين قولك : " هو زيد معروفاً " و " هذا عبد الله منطلقاً " فمعروفاً ومنطلقاً كلاهما حال ، ولكن الحال الأولى مؤكدة ، ولا يأتي وراء هو في الصيغة الأولى إلا مثل هذه الحال المؤكدة مثل " هو الحق بيناً ومعلوماً " ومن اجل ذلك لا يصح أن تقول : " هو زيد منطلقاً " لأن الانطلاق لا يؤكد هوية الشخص وما هيته ، فلا يصلح لأن يكون مؤكداً ، كما تصلح الصفة العامة التي تفيد ملحاً أو تهديداً وما الى ذلك (9).
وعلى نحو ما تسيل على الخليل وتعليلاته في كتاب سيبويه تسيل أقيسته ، ولا نغلو إذا قلنا إنها كانت أهم مادة شاد بها بناء النحو الوطيد ، ومما يصور قوتها عنده ودقتها حواره مع تلميذه ، في رفع المنادى إذا كان مفرداً ونصبه إذا كان مضافاً أو نكرة غير مقصودة وجواز نصب نعت المنادى المفرد ورفعه وتحتم النصب لنعت المنادى المضاف ، وهو يجري على هذا النمط (10).
ص51
" زعم الخليل أنهم نصبوا المضاف نحو ياعبد الله ويا أخانا والنكرة حين قالوا يارجلا صالحا حين طال الكلام كما نصبوا هو قبلك وهو بعدك . ورفعوا المفرد كما رفعوا قبل وبعد موضعهما واحد ، وذلك قولك : يا زيد وياعمرو . وتركوا التنوين في المفرد كما تركوه في قبل . قلتُ : أرأيت قولهم : يا زيد الطويل علام نصبوا الطويل ؟ قال : نصب لأنه صفة لمنصوب ، وقال : وإن شئت كان نصباً على أعني . فقلت : أرأيت الرفع على أي شيء هو إذا قال : يا زيد الطويل ؟ قال : هو صفة لمرفوع . قلت : ألست قد زعمت أن هذا المرفوع في موضع نصب ؟ فلم لا يكون كقوله : لقيته أمس الأحدث ؟ قال : من قبل أن كل اسم مفرد في النداء مرفوع أبداً وليس كل اسم في موضع أمس يكون مجروراً ، فلما اطرد الرفع في كل مفرد في النداء صار عندهم بمنزلة ما يرتفع بالابتداء أو بالفعل ، فجعلوا وصفه إذا كان مفرداً بمنزلته : قلت : أفرأيت قول العرب كلهم :
أزيد أخا ورقاء إن كنت ثائراً فقد عرضت أحسناء حق فخاصم
لأي شيء لم يجز فيه الرفع كما جاز في الطويل (يريد عبارة يا زيد الطويل السابقة) قال : لأن المنادى اذا وصف بالمضاف فهو بمنزلته اذا كان في موضعه ، ولو جاز هذا لقلت : يا اخونا ، تريد أن تجعله في موضع المفرد ، وهذا لحنٌ ، فالمضاف اذا وصف به المنادى فهو بمنزلته اذا ناديته ، لأنه وصف لمنادى في موضع نصب ، كما انتصب حيث كان منادى لأنه في موضع نصب ولم يكن فيه ما كان في (كلمة) الطويل لطوله . وقال الخليل : كأنهم لما أضافوا ردوه الى الأصل كقولك : إن أمسك قد مضى " .
والقطعة زاخرة بالأقيسة القائمة على علة المشابهة ، فالمنادى يشبه " قبل وبعد" ويأخذ لذلك حكمهما ، فهو إذا كان مفرداً رفع وحرم التنوين مثل قبل وبعد اللتين تبنيان على الضم في حال إفرادهما ، وإذا طال إما بالإضافة أو لأنه نكرة غير مقصودة موصوفة نصب كما تنصب قبل وبعد حين تضافان فيقال قبلك وبعدك . وإذا نُعت المنادى المفرد بمفرد جاز في النعت النصب لأن محل هذا
ص52
المنادى المضموم لفظاً النصب ، ولك أن تقول إنه نعت مقطوع بتقدير أعني . ويجوز في هذا النعت الرفع باعتبار لفظ المنادى ، وساغ ذلك لاطراد الرفع في المنادى المفرد اطراده في المبتدأ والفاعل . أما إذا وصف المنادى المفرد بنعت مضاف فإنه يتحتم فيه النصب ولا يجوز الرفع ، لأنه بمنزلته لو كان منادى ، والمنادى المضاف حقه النصب ، فلا يجوز فيه إلا اعتبار المحل المنصوب . ويلاحظ الخليل ملاحظة دقيقة في كلمة أمس فإن أصلها النصب ، وهي تبنى على الكسر إذا كانت مفردة ، فإذا اضيفت ردت الى أصلها من النصب الذي يجري في الظروف .
وكان يبنى القياس على الكثرة المطردة من كلام العرب ، مع نصه دائماً على ما يخالفه، ومحاولته في أكثر الأحيان أن يجد له تأويلاً ، من ذلك أنه كان يرى أن القياس في عطف المعرف بالألف واللام على المنادى المرفوع أن يكون مرفوعاً ، لأنه لو كان هو المنادى لتقدمته أي مثل يا أيها الحارث ورفع معها صفة لها ، لأنها مبهمة يلزمها التفسير ، فصارت هي والحارث بمنزلة اسم واحد كأنك قلت يا حارث (11) ، وبذلك يكون القياس في مثل يا زيد والحارث الضم ، يقول سيبويه : قال الخليل : من قال : يازيد والنضر فنصب فإنما نصب لأن هذا كان من المواضع التي يُرد فيها الشيء الى أصله (أي إذا كان المعطوف مضافاً) فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون : يازيد والنضر ، وقرأ الأعرج : (يا جبال أوبي معه والطير) فرفع ، ويقولون يا عمرو والحارث ن وقال الخليل هو للقياس كأنه قال : ويا حارث "(12) . ومعروف أن الفعل لا يدخله التصغير ، ولكن جاء عن العرب في فعل التعجب : " ما أميلحه " يقول سيبويه : " وسألته عن قول العرب ما أميلحه ، فقال : لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر وإنما تحقر الأسماء ، لأنها توصف بما يعظم ويهون ، والأفعال لا توصف ، فكرهوا أن تكون الأفعال كالأسماء لمخالفتها إياها في أشياء كثيرة ، ولكنهم حقروا هذا اللفظ وإنما يعنون الذي تصفه بالملح ، كأنك قلت مليح شبهوه بالشيء الذي تلفظ به وأنت تعني شيئاً آخر نحو قولك : يطؤهم الطريق
ص53
وصيد عليه يومان ، ونحو هذا كثير في الكلام . وليس شيء من الفعل ولا شيء مما سمى به الفعل يحقر إلا هذا وحده "(13). ووجه المغايرة في قولهم : " يطؤهم الطريق " أن اصلها يطؤهم اهل الطريق أي أن بيوتهم على الطريق فمن جاز فيه رآهم، وأصل " صيد عليه يومان " صيد الصيد في يومين ، فحذف الصيد وأقيم يومين مقامه.
وعلى هذا النحو كان يسجل القياس والشاذ عليه ، محاولاً دائماً أن يجد مخرجاً لما شذ على الأقيسة ، بل كثيراً ما كان يستمد من ذهنه الخصب قياساً له ، من ذلك جمع وجوه مع ذكر شخصين ، يقول سيبويه : " سألت الخليل عن (قولهم) ما أحسن وجوههما ، فقال : لأن الاثنين جميع ، وهذا بمنزلة قول الاثنين : نحن فعلنا "(14) . وواضح أنه قاس جمع الوجوه مع أنهما لاثنين على الضمير الذي يأتي للاثنين والجماعة . ومن ذلك ما رواه ابن جني من أنه سئل عمن يقولون من العرب : " مررت بأخواك وضربت أخواك " معاملين الأسماء المثناة معاملة الأسماء المقصورة ، فقال : هؤلاء قولهم على قياس الذين قالوا في ييأس : ياءس ، أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها ، وقال : ومثله قول العرب من أهل الحجاز : " يا تزن وهم يا تعدون ، فروا من يوتزن ويوتعدون "(15). ومعنى ذلك أنه قاس النطق بالألف في المثنى في موضعي الجر والنصب بالياء على لغة من يبدلون الياء ألفا في بعض المواضع وكذلك من يبدلون الواو ألفاً ، لغرض الخفة والسهولة ، وقد أخرج القياس مخرج التعليل .
ومر بنا أنه في المنهج الذي رسم به العروض والمنهج الذي وضعه لمعجم العين لاحظ في الأول النص على الأوزان المهملة كما لاحظ في الثاني النص على الكلمات غير المستعلمة التي لم تجر على لسان العرب ، وهذا نفسه يلاحظ في بنائه للنحو وأقيسته فقد كان ينص على الشاذ كما أسلفنا آنفاً ، وكان ينص على المهمل من اساليب العرب ، مما لا يدخل في أقيسة لغتهم ، ومر بنا أنه كان ينكر مثل : " هو زيد منطلقاً " ويحمل كتاب سيبويه عنه مادة واسعة من مثل هذا الأسلوب الذي لم يسمع عمن يوثق بعربيتهم، وهي مادة غزيرة ولكن يكفي أن نمثل لها ، فمن ذلك
ص54
أن نراه يعرض للمندوب الموصوف في مثل " وازيد الشاعر " فيقول إنه لا يصح أن يقال الشاعراه لأن الشاعر ليس بمنادى، ولو جاز ذلك لجاز أن تقول : " وازيدا أنت الفارس البطلاه " لأن هذا غير نداء كما أن ذاك غير نداء ، يقول : " وليس هذا مثل وا أمير المؤمنيناه " ولا مثل:"واعبد قيساه" لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد منفرد ، والمضاف إليه هو تمام الاسم ، ولذلك تلحقه ألف الندبة وهاؤها (16) . ومن ذلك نصه على أن كلمة أخر وحدها هي التي تمنع من الصرف للوصفية والعدل دون أخواتها مثل الطول والوسط والكبر والصغر ، لأنهن لا يكن صفة إلا وفيهن الألف واللام ، بخلاف أخر فإنها تجيء صفة بدونهما ، ونراه ينص على أنه لا يقال نسوة صغر ولا هؤلاء نسوة وسط ولا تقول هؤلاء قوم أصاغر ، فكل ذلك لم يأت في اللغة ، أما أخر فقد خالفت هذا الأصل وجاءت صفة للمنكر غير مقترنة بالألف واللام ، ومن ثم تركوا صرفها(17) ، ومن اجل ذلك قال النحاة بعده إنها منعت من الصرف لأنها معدولة عن الأخر ذات الألف واللام .
وفي رأينا أن الخليل وتلميذه سيبويه هما اللذان فتحا باب التمارين غير العملية على مصاريعه ، حيث نرى سيبويه يتوقف في كتابه مراراً ليسأله أستاذه عن تطبيق قاعدة في مثال لم يأت عن العرب . وعمم النحاة ذلك فيما بعد واتسعوا فيه إظهاراً لمهارتهم وقد يكون بعض ذلك لمحاولة تدريب ناشئة النحاة على الدقة في التطبيق ، فمن ذلك ما ذكره سيبويه من أنه سأل الخليل عن رجل سمى " أولو " من قوله عزوجل : (نحن أولو قوةٍ وأولو بأس شديد) أو سمى " ذوو " من قولهم ذوو عزة ، وكيف يجري إعرابهما حسب مواقع الكلام ، فقال : أقول : " هذا ذوون ، وهذا أولون " لأني لم أضف (أي لم أتبعهما المضاف إليه ) وإنما ذهبت النون في الإضافة(18). ومعروف أن كلمة قاض تنون مصروفة هي وما على مثالها ، ويقال سيبويه : " وسألته عن رجل يسمى" يرمى أو أرمي " فقال: أنونه لأنه إذا صار إسماً فهو بمنزلة قاضٍ إذا كان اسم امرأة"(19) وكأن مجيئه
ص55
دالاً على أنثى أو علماً عليها لا يمنع تنوينه ولا صرفه . ويكثر سيبويه كثرة مفرطة من نقل مثل هذه التمارين عن استاذه في علم الصرف ، ويكفي ان نضرب مثلاً لذلك ، يقول : " وسألته كيف ينبغي له أن يقول : أفعلت في القياس من اليوم على من قال : أطولت وأجودت ، فقال : أيمت فتقلب الواو ههنا (ياء) كما قلبتها في أيام ، وكذلك تقلبها في كل موضع تصح فيه ياء أيقنت ، فإذا قلت أفعل ويفعل ومفعل قلت : أووم ، ويووم ، ومووم ، لأن الياء لا يلزمها أن تكون بعدها ياء كفعلت من بعت ، وقد تقع وحدها ، فكما أجريت فيعلت وفوعلت مجرى بيطرت وصومعت كذلك جرى هذا مجرى أيقنت . وإذا قلت أفعل من اليوم قلت أيم كما قلت أيام ، فإذا كسرت على الجمع همزت فقلت أيائم لانها اعتلت ههنا كما اعتلت في سيد ، والياء قد تستثقل مع الواو"(20) .
وواضح من كل ما قدمنا أن الخليل يُعد بحق واضع النحو العربي في صورته المركبة، سواء من حيث عوامله ومعمولاته الظاهرة والمقدرة أو من حيث ما يجري فيه من شواهد ومن علل وأقيسة ، ونص على العبارات المهملة والأخرى الشاذة وإحداث ما سرى فيه من تمارين غير عملية يقصد بها الى التمرين والتدريب ، ومد ذلك في علم الصرف والفقه بأبنية الكلم واشتقاقاتها وتصريفاتها وصورها الممدودة والمقصورة والممالة والمصغرة والمنسوبة وما يداخلها من قلب وإعلال .
____________________
(1) إنباه الرواة 2 / 258 .
(2) الكتاب 1 / 436 .
(3) الكتاب 2 / 11 .
(4) الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص 65 .
(5) الزجاجي ص 77 .
(6) الكتاب 1 / 310 .
(7) الكتاب 1 / 324 .
(8) الكتاب 1/ 389 .
(9) الكتاب 1 / 256 وما بعدها .
(10) الكتاب 1 / 303 .
(11) الكتاب 1 /306 .
(12) الكتاب 1 / 305 .
(13) الكتاب 2 / 135 .
(14) الكتاب 1 / 241 .
(15) الخصائص 2 / 14 والمنصف 1 / 203 .
(16) الكتاب 1 / 323 .
(17) الكتاب 2 / 14 .
(18) الكتاب 2 / 42 .
(19) الكتاب 2 / 58 .
(20) الكتاب 2/ 376 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
مكتب المرجع الديني الأعلى يعزّي باستشهاد عددٍ من المؤمنين في باكستان
|
|
|