مات المنصور، وقام ولده محمد الملقب بـ (المهدي) وبقي في الحكم من سنة ثمان وخمسين ومئة إلى سنة تسع وستين ومئة، وكان أبوه قد أتمّ المهمة، وأنتهى من تنفيذ ما أعده من خطط الأغتيال والفتك بقوى الخير والصلاح ولم ينج منه إلا إثنان: علي بن العباس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فأخذه المهدي وسجنه، ثم دسّ إليه السم، فتفسخ لحمه، وتباينت أعضاؤه (1).

وعيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد توارى من المهدي خوفاً على نفسه. قال أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ/966م): "كان عيسى أفضل من بقي من أهله ديناً، وعلماً، وورعاً، وزهداً، وتقشفاً، وأشدهم بصيرة في أمره ومذهبه، مع علم كثير، ورواية للحديث، وطلبٍ له، صغيره وكبيره" (2) .

هرب عيسى من المهدي، وأختبأ في الكوفة في دار بعض الشيعة، وهو علي ابن صالح، ثم رأى أن يتخذ عملاً يعتاش منه، ولا يكون كلاً على أحد، وكان أهل الكوفة ينقلون الماء من الفرات إلى بيوتهم على الجمال وسائر الحيوانات فأتفق عيسى مع صاحب جمل على أن يستقي على الجمل، ويدفع له كل يوم أجراً معيناً، ويتقوت هو بما يبقى، وهكذا بقي أمداً طويلاً، وهو متنكر، وتزوج امرأة من فقراء الكوفة لا تعرفه هي ولا أهلها (3) .

هذه أمثولة تعبّر عن منهج حكومات الجور والظلم يعاني فيها الطيبون الأخيار ضروب الفواجع والشقاء، ويعيش فيها الخونة والجهلاء آمنين مترفين يجدون كل عون وحماية.

لم يستطع عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله، لم يستطع هذا العالم المخلص المحدّث الورع الزاهد أن يُظهر نفسه في بلد الإسلام، وحاكمه خليفة المسلمين، وعاش خائفاً مستتراً يخدم الناس، وينقل الماء الى البيوت بأجر زهيد، لا لشيء إلا لأنه عالم زاهد يعرف الحق ويعمل به، وأهل الفسق والفجور في دعّةٍ وأمان، تُسهل لهم الأمور، وتغدق عليهم الأموال (4). قال المسعودي: "بسط المهدي يده في العطاء، فأذهب جميع ما خلّفه المنصور" (5) .

__________________

(1) الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، ص 403 .

(2) الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، ص 407 .

(3) ابن سعد، الطبقات الكبرى، جـ 6، ص 375؛ الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 410.

(4) مغنية، محمد جواد، الشيعة والحاكمون، ص 154 .

(5) المسعودي، مروج الذهب، جـ 6، ص 233 .