ضياع ممتلكات مصر في الخارج
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 27 ــ 31
2025-11-11
35
لم يتنبأ السفير المأفون «بطليموس» الذي عاد من مقدونيا بشيء — على ما يُظن — مما كان يدور بين «فيليب الخامس» ملك مقدونيا وبين «أنتيوكوس الثالث» ملك سوريا، ولا شك في أن «أجاتوكليس» كان يتوقع الهجوم على أملاك مصر في «سوريا الجوفاء» من قبل «أنتيوكوس» غير أنه كان يمني نفسه بالأمل الكاذب في أن يجعل ملك مقدونيا حليفًا له على ملك «سوريا»، غير أنه في خلال هذه الفترة كان كل من ملك مقدونيا وملك سوريا يطمع في مد سلطانه على حساب ممتلكات مصر؛ ومن ثم كان كل منهما يعد مصر فريسة له، وأنهما سيقسمانها فيما بينهما إذا وصلا إلى اتفاق على ذلك. وفي ذلك يحدثنا المؤرخ «بوليبيوس»(1) بشيء من الغرابة؛ فاستمع لما يقوله: «إنه لمن المدهش أن «بطليموس الرابع» عندما كان حيًّا كان في مقدوره أن يستغني عن مساعدة «فيليب الخامس» «وأنتيوكوس الثالث»، وكانا هما من جانبيهما مستعدين لمساعدته، ولكن بعد أن حضرته الوفاة تاركًا وراءه طفلًا صغيرًا؛ فإنه كان من واجبهما أن يعملا على مساعدته للبقاء على عرش والده، غير أننا نجد أن كلًّا منهما في هذا الظرف يشجع صاحبه على الإسراع في تقسيم ممتلكات هذا الطفل فيما بينهما والقضاء على ملكه جملة، والواقع أن مثلهما في ذلك كمثل السمك الذي من نوع واحد يأكل الكبير منه الصغير.» ولا شك في أن «بوليبيوس» لم يكن مبالغًا في تمثيله هذا من حيث شره هذين العاهلين.
والواقع أنه كان من الصعب عليهما أن يتفاهما فيما بينهما على تقسيم مصر نفسها، ولا نزاع في أن ما كان يريده كل منهما في قرارة نفسه، وما يمكن أن يكون أساسًا لقيام محالفة حقيقية فيما بينهما هو تقسيم أملاك البطالمة خارج حدود مصر، وذلك على أساس أن يأخذ كل منهما ما كان في متناوله، وعلى هذا المبدأ كان يستولي «فيليب» على إقليم «تراقيا» الذي كان — على ما يُظن — قد بدأ يستحوذ عليه لنفسه في عام 204ق.م، وفي عام 201ق.م استولى أسطوله على «ساموس» كما قام بغزو إقليم «كاريا». أما «أنتيوكوس» فكان مقصده الاستيلاء على «سوريا الجوفاء» و«فنيقيا»، وقيل كذلك: إن هذين العاهلين قد تعاهدا سويا على القيام بحملة بالتبادل؛ فيقوم «فيليب» مع «أنتيوكوس» بغزو مصر وقبرص من جهة، وكذلك يقوم «أنتيوكوس» «وفيليب» بحملة على سيريني «لوبيا» وجزر «سيكلاديز» و«إيونيا». غير أن هذا النبأ ليس مؤكدًا. وعلى أية حال فإن هذه الخطة قد عزيت إليهما، ولم يكن هناك في حقيقة الأمر حاجة إلى أن يساعد الواحد منهما الآخر بضم جيشهما سويًّا لتنفيذ خطتهما، فقد كان يكفي أن يسيرا في وقت واحد لملاقاة الجيوش المصرية، وهذا في الواقع ما تم.
وقد برهنت الأحوال على أن «فيليب» كان دائمًا شاكي السلاح مترقبًا دائمًا الفرص، ومن ثم كان هو السابق في الاستعداد لخوض غمار الحرب؛ فقد رأيناه منذ عام 202ق.م ينقض على «تراقيا» دون إعلان سابق للحرب، وذلك في حين كان القراصنة الذين في خدمته — وهم الذين كان على رأسهم «ديسارق» Decearque الآتولي — قد أشعلوا النار في جزر «سيكلاديز» وأسالوا فيها الدماء، وكذلك عملوا بالمثل في المدن النهرية التي على الدردنيل Hellespont. وعلى ذلك فإن عملاء مصر لما رأوا أنها قد هجرتهم ولم تمد إليهم يد المساعدة لم يروا بدًّا من الالتجاء إلى الحلف «الآتولي» لحمايتهم، ومن ثم نجد أن «ليزيماكيا» Lysimachia و«كالسيدوين» Chalcedoine قد وكلا أمر الدفاع عنهما لقواد آتوليين (2). وقد كان من جراء تدخل أعداء «فيليب» الأبديين أن اشتد حنقه على هذه البلاد، وشدد عليها الخناق؛ فسقطت «ليزيماكيا» في قبضته، ثم تلتها «برينيت» Perinethe، ومن بعدها «كالسيدوين». يُضَاف إلى ذلك أن أخاه «بروسياس» قد ساعده على الاستيلاء على «سيوس» Cios، ثم إنه في عودته فتح «تاسوس» Thasos، وبذلك نقض الميثاق الذي كان قد أخذه على نفسه لأهالي «تاسوس» هذه وهو أن يمنحهم استقلالهم التام. وعلى أية حال فإن هذا العاهل قد أظهر في كل أعماله سوء النية، هذا فضلًا عن أنه كان رجلًا قاسي القلب خائنًا.
وقد قام في العام التالي كما ذكرنا من قبل — 201ق.م — بتجهيز أسطول عظيم، وكان أول ما استولى عليه هو جزيرة «ساموس» التي كانت تُعد أهم الممتلكات المصرية عند ساحل آسيا الصغرى، وتدل الظواهر على أن «ساموس» قد استسلمت دون امتشاق الحسام.
وبعد ذلك نرى أن «فيليب» ولى وجهه شطر «خيوس» فجأة ظنًّا منه أنه سيستولي عليها على حين غفلة من أهلها، ولكن المدينة قاومته وطلبت النجدة من مصر، غير أن الأخيرة لم تنصفها؛ ويرجع السبب في ذلك إلى أن الدسائس في البلاط الإسكندري قد شغلت بال الحكومة. وبعد ذلك جاء دور «رودس»، وكان أهلها بعد أن احتجوا عبئًا على تعدي هذا القرصان الذي لا ضمير عنده ولا قانون يردعه عن النهب والسلب؛ بل كان فوق ذلك من ديدنه أن يبيع من يقهرهم بيع السلع، والقضاء على حريتهم، ومن ثم فإن أهالي «رودس» قد وطدوا العزم وعقدوا النية في آخر الأمر على أن يدافعوا عن مصالحهم وحريتهم بالسلاح مستعينين في ذلك بالضمير الدولي وقتئذٍ، وفي أثناء ذلك كانوا قد ضموا إلى جانبهم بالتحالف «خيوس» و«سيزيق» و«بيزنطة»، وأخيرًا «أتالوس» ملك «برجام»، وفعلًا توجه أسطولا «رودس» و«برجام» لفك حصار «خيوس».
هذا، ولما كان «فيليب» يحاول وقتئذ استرداد جزيرة «ساموس»، فإن «أتالوس» هاجمه ومعه أمير البحر الروديسي المسمى «تيو فيلسكوس» Theophelescos في المضيق الذي يكون بين «خيوس» وساحل «آسيا الصغرى» رأس «أرجينون» Argenon، وقد هُزم في هذه البقعة الأسطول المقدوني بعد أن خسر خسارة عارمة في العتاد، غير أن «أتالوس» عندما رأى نفسه قد انفصل عن سائر أسطوله اضطر إلى الالتجاء إلى «إرتراي» Erythrae.
ولما كان القائد الروديسي قد جُرح أثناء المعركة جرحًا مميتًا فإن «فيليب» لما علم بذلك ادعى لنفسه النصر في المعركة، ومن المحتمل أنه قد بقي على أثر ذلك المسيطر على ميدان المعركة، وعلى أية حال فإنه قد أخذ لنفسه بالثأر في الحال في «لادي» Lade الواقعة أمام «ميليتوس»، وليس من شك في أن الخطأ الذي ارتكبه كل من «أتالوس» والروديسيين كان انفصالهما عن بعضهما البعض. وكان لا بد إذن أن الأسطول الروديسي قد تحمل عبء كل الصدمة في موقعة «لادي»(3)، فقد انتصر «فيليب» في هذه البقعة، وعندما سمع أهالي «ميليتوس» بهذا النصر دب في نفوسهم الرعب، ومن ثم هبوا بفتح أبواب مدينتهم للقاهر المنتصر.
أما «فيليب» فإنه قد اكتفى بما أظهروه من ولاء له، ومن أجل ذلك لم يضع حامية من جنوده هناك، ويحدثنا المؤرخ «بوليبيوس» عن نتائج نصر المقدونيين الذي كان حاسمًا، فيقول: إنه بعد موقعة «لادي» وتقهقر الروديسيين انسحبوا من ميدان القتال كلية، وبذلك كان في مقدور «فيليب» أن يزحف على الإسكندرية دون معارض يقف في وجهه.
والواقع أن هذه الحقيقة تُعتبر برهانًا مُحَسًّا يظهر بأجلى صورة أن «فيليب» كان يسلك في تصرفاته تصرف الرجل الأحمق (4)، ومن أجل ذلك فإنه ليس هناك ما يُحمد عليه «فيليب» من كسب نتيجة لانتصاره في هاتين الموقعتين السالفتي الذكر.
لم ينتهز «فيليب» حقًّا الفرصة التي كانت سانحة أمامه للهجوم على مصر التي كانت في الواقع لقمة سائغة أمامه؛ بل بدلًا من ذلك انقض هذا الأحمق بوحشية على بلاد «برجام» فحرق وخرب كل ما اعترضه في طريقه، غير أن كل أعماله هذه كانت عبثًا؛ لأنه لم يستطع بعد كل أعمال التخريب التي ارتكبها أن يستولي على مدينة «برجام» العاصمة، كما لم يستطع أن يجعل «أتالوس» يخرج من معقله الحصين فيها لملاقاته وجهًا لوجه. وأخيرًا عندما وجود أن المؤن قد شحت لديه ليستمر في الحصار فإنه اضطر إلى أن ينكص على عقبيه خائبًا مخذولًا، وبعد ذلك نراه يزحف على إقليم «كاريا» مشيعًا فيه الدمار والنهب قاصدًا خرابه لإطعام جيشه الذي كان في مسغبة، ومن ثم كان يعيش عيشة الذئاب، وقد تقدم في زحفه على هذا المنوال حتى وصل إلى «بيري» Perée «وكرسونيز» Chresonese الروديسية (5).
وعلى أية حال كانت خسارة مصر عظيمة؛ إذ لم يبق تحت سلطانها في تلك اللحظة من كل أملاكها في «آسيا الصغرى» إلا «أفيسوس» Ephesus ومع ذلك فإن «فيليب» لم يكن أخطر أعداء مصر؛ وذلك لأنه لما أخذ في مهاجمة كل العالم في وقت واحد، فإنه أثار حول تصرفاته ضجة من الغضب والسخط عليه وصلت أصداؤها في نهاية الأمر بسرعة إلى «روما».
والظاهر أن «أتالوس» ملك «برجام» كان قد رأى وقتئذ أن من واجبه أن يستنجد بالرومان حلفائه منذ عشرة أعوام مضت، ولكن مما يؤسف له أنه في الوقت نفسه قد قبل التحالف مع الروديسيين الذين كانوا لا يميلون إلى تدخل الجمهورية الرومانية في شئونهم، وعلى أية حال وجدنا أن المفوضين الروديسيين قد انضموا إلى مفوضي «برجام» ليذهبوا سويًّا إلى مجلس الشيوخ الروماني ليستنكروا أعمال «فيليب» العدوانية في بلاد آسيا الصغرى. هذا وقد تقابل رجال الوفدين في «روما» مع وفدين آخرين؛ أحدهما «أثيني» والآخر «آتولي»، وكانا يحملان من جانبهم شكاياتهم من «فيليب»، وكان الأثينيون قد أوغروا صدر الأكارمانيين Acarmanian مما جعلهم يغزون بلادهم بسبب حادث سخيف، يتلخص في أنه عند احتفال الإغريق بعيد الشعائر العظيم — سبتمبر عام 201ق.م — قتل الإغريق شابين من الأكارمانيين الذين لم يكونوا يعرفون القواعد الدينية الإغريقية لهذا العيد، ومن ثم فإنهم اقتحموا معبد «إليوسيس» Eleusis — الخاص بالإلهة «ديميتر» — دون أن يدربوا على أصوله، وعلى أثر ذلك طلب «الأكارمانيون» إلى الملك «فيليب» أن يساعدهم على الأخذ بالثأر لمواطنيهما. وفي تلك الفترة كانت الفرصة مواتية لدى الرومان ليطالبوا المقدونيين الحساب على تحزبهم لجانب «هنيبال» أثناء حروبهم معه، والواقع أن «روما» في تلك الفترة لم تكن تنظر إلى أن أخطر العدوين المتحالفين على مصر هو أكثرهما توحشًا وقسوة؛ بل كان الذي أكثرهما مناوأة لها، وفي تلك اللحظة أخذت حكومة الإسكندرية تشعر بأنها قد أصبحت في أمان بسبب العاصفة التي كانت تهب متجمعة على رأس «فيليب» من كل الجهات، ومن أجل ذلك لم يكن أمامها إلا أن تترك الأمور تجري في أعنتها.
............................................
1- راجع: Polyb., XV, 2.
2- راجع: Polyb., XVIII, 3, 11 sqq, XV, 23, 8 sqq.
3- راجع: Polyb., XVI, 15, 6 cf Hanssouiliier Milet pp. 140, 140.
4- راجع: Polyb., XVI, 1a; T Livy, XXXI, 14.
5- راجع: Polyb., XVI, 24, 4.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة