تحدَّثنا فيما سبق عن صيغ العقود الديموطيقية في العهد الذي سبق العهد البطلمي بشيء من الإيجاز، وقد لاحظنا أن المصري كان يراعي في كتابة هذه العقود الدقة والإيضاح بدرجة لا تجعل هناك مجالًا للشك أو الإبهام، غير أنه على مرِّ الزمن قد تطورت صيغ هذه العقود، واتجهت نحو الكمال من حيث الدقة في التعبير، لدرجة أن القارئ تستولي عليه السآمة والملل من كثرة التأكيدات والتكرار التي كان يُثقَل بها العقد، ولن نكون مبالغين إذا قررنا هنا أن المصري في عهد البطالمة قد بلغ من الحذر والدقة في تحرير العقود درجة لم يبلغها أحد من قبل أو من بعد، ولعمري فإن السبب في ذلك قد يكون منشؤه آتٍ عن تجارب غش وخداع مرت به، ووقع في أحابيلها، وأدت به إلى أن يأخذ لكل أمر عُدَّته في مختلف الوثائق التي تُبرَم بين الفريقين المتعاقدين، وقد كان من جرَّاء ذلك أنه قد وفَّر على نفسه متاعب كثيرة كانت تحتاج إلى إقامة دعاوى أمام القضاء، وسنحاول أن نحلل موادَّ هذه الوثائق أو العقود على حسب النظام الذي وضعه المصري، والواقع أنه بعد درس الوثائق الديموطيقية التي عُثِر عليها في طيبة اتضح أنه كانت هناك صيغة تكاد تكون ثابتة مع الصيغ القانونية التي نراها في الطرز المختلفة للعقد، والعقد في أكمل صورة له يمكن تقسيمه ستة أقسام هي:
(1) التاريخ.
(2) الطرفان المتعاقدان.
(3) صلب العقد نفسه، ويحتوي على:
(أ) الصيغة الافتتاحية.
(ب) موضوع العقد.
(جـ) الصيغة القانونية.
(د) المصادقة.
(4) المسجل.
(5) الشهود.
(6) تأشيرة بالإغريقية تدل على أن الوثيقة قد سُجِّلت بوساطة موظفين من الإغريق.
وهذه الأقسام هي التي سرنا على هديها عند ترجمة الوثائق، وذلك تسهيلًا لفهمها دون عناء، وسنتحدث عن هذه الأقسام ببعض التفصيل، وسيرى القارئ أن هذه الوثائق — كما وُجِدت في العهد البطلمي — تتفق في كثير من النقاط مع العقود التي لا زلنا نراها تُحرَّر بأيدي كتبة من أهل القرى الذين ربما كانوا منحدرين من أصلاب أولئك الذين دوَّنوا هذه الوثائق الديموطيقية، وبخاصة الكتبة الأقباط الذين نشاهدهم يقومون بهذه الوظيفة في العِزَب والكُفُور والقرى … وحتى في البلدان الصغيرة، وقد أخذوا طبعًا في الانقراض شيئًا فشيئًا.
التاريخ: يحتوي التاريخ في أكمل صورة له في الوثيقة أو العقد البطلمي على ثلاث نقاط.
أولًا: تُذكَر السنة التي كان يحكم فيها الملك عند كتابة الوثيقة، وكذلك الشهر واليوم، ولكن أحيانًا تُذكَر السنة والشهر دون ذكر اليوم، وقد ظن بعض علماء الديموطيقية أنه عند إغفال ذكر اليوم يكون المقصود أول يوم في الشهر، غير أن هذا الزعم ليس إلا مجرد نظرية (1)، وقد اعتاد مترجمو هذه الوثائق ذكر الشهر القبطي، غير أن المصري قد اتبع في التوقيت الأصلي؛ أي ذكر الفصل، ثم الشهر بالرقم. مثال ذلك: فصل الصيف الشهر الأول … وهكذا، وأحيانًا نجد في بعض الوثائق ذكر الشهر المصري، وما يقابله في الأشهر المقدونية.
يأتي بعد التاريخ اسم الملك الفرعون، والنعوت التي كان يُوصَف بها إذا كان له نعوت، وكذلك زوجه ونعوتها.
وأخيرًا تُذكَر أسماء الكهنة والكاهنات الذين كانوا يُعيَّنون سنويًّا، وتسمى باسمهم السنة، وهذه الكهانة أسَّسها البطالمة في المدينتين الإغريقيتين؛ وهما الإسكندرية و«بطولمايس» وذلك ليكونوا قوة توازن النفوذ السياسي الذي يكان يتمتع به الكهنة المصريون، وقد أسس «بطليموس الثاني» كهنة الإسكندر الأكبر، وكهنة الإلهين الأخوين المتحابين، وكاهنة «أرسنوي» محبة أخيها، وهي المعروفة بحاملة السلة الذهبية (كانيفور)، وهؤلاء الكهنة قد ازدادوا طوال العهد البطلمي؛ وذلك لأن كل ملك كان يُنصِّب عند تولِّيه العرش كاهنًا له وكاهنة للملك، ومما يجب التنويه عنه هنا أنه في الوثائق الديموطيقية البطلمية المبكرة كان يُذكَر فقط أسماء كهنة الإسكندر الأكبر، ولكن منذ عهد «بطليموس الرابع» فيلوباتور كانت تضاف أسماء كهنة البطالمة الذين سبقوه، وهؤلاء الكهنة كانوا بطبيعة الحال من أصل إغريقي، وعلى ذلك كانت تُكتَب أسماؤهم بحروف ديموطيقية بقدر المستطاع، ولما كانت كتابة هذه الأسماء تُسبِّب بعض الصعوبة فإنه كان يُهمَل ذكر الأسماء، ويُكتَفى بالإشارة إليها أحيانًا؛ فنجد مثلًا في وثيقةٍ أن الكاهن قد بدأ — كما هو المعتاد — بذكر سنة الحكم، واسم الملك، واسم كاهن الإسكندر، ثم يقول بعد ذلك: «وباقي كتابة بروتوكول الإسكندرية.» والمقصود هنا بكلمة بروتوكول كل المادة الافتتاحية التي تشمل: التاريخ، والأسماء الملكية، وأسماء الكهنة الحوليين.
وفي وثيقة أخرى بالمتحف المصري (2) No. 50149 نجد أن الكاتب بدلًا من ذكر الكهنة الحوليين اكتفى بقوله: و«الكهنة والكاهنات.» ولم يعلم أن أهمية ذكر هؤلاء الكهنة والكاهنات كان عظيمًا جدًّا للتأريخ في الوثائق الناقصة التي ضاع منها اسم الملك، وقد اهتم مؤرخو الأحداث بوضع قوائم لهؤلاء الكهنة والكاهنات الحوليين، فكان أول من وضع قائمة بذلك هو المؤرخ بلومان (3) عام 1912، ثم أكملها بقدر المستطاع سير «هربرت تومسون»؛ وبذلك أصبح في مقدور الباحثين في تاريخ البطالمة أن يضعوا تواريخ محددة بدلًا من الحدس والتخمين بطرق أخرى كالخط (4) الذي كُتِبت به الوثيقة.
ومما يطيب ذِكرُه هنا أن هذه الطريقة في التأريخ بحوليات الكهنة والكاهنات في العهد البطلمي كان قد سبق إليها الآشوريون، وذلك في عهد الملك «أداد نيراري الثاني» (909–889ق.م) إذ اتفق أنه منذ عهده قد بدأت قائمة «اللمو» أو الحكام الحوليين تُحفَظ في سجلات في سنين متتالية دون حذف حتى نهاية الإمبراطورية الآشورية، وتفسير ذلك: أن موظفًا كبيرًا — بما في ذلك الملك نفسه — كان يعين مرة في خلال حياته؛ ليخدم لمدة عام واحد بوصفه «لمو»، وكلمة «لمو» تقابل في الإغريقية كلمة Eponym أي الذي يطلق اسمه على شيء، ومن ثَم نشأت القوائم الحولية التي تحتوي على أسماء «لمو» وقد أُطلِق عليها قوانين «لمو» (راجع مصر القديمة الجزء الحادي عشر).
وأخيرًا يُلحَظ أن الأوراق البردية الإغريقية كانت تحتوي على عدد كبير من الكهنة والكاهنات الحوليين أكثر مما وجد في الأوراق الديموطيقية، وسبب ذلك — كما قلنا — صعوبة نقل الأسماء الإغريقية إلى الديموطيقية؛ وعلى أية حال فإن ما وجد في كل من الأوراق الإغريقية والديموطيقية يكمل بعضه بعضًا.
الطرفان المتعاقدان: لقد حرص المصري كلَّ الحرص على إظهار شخصية كل من المتعاقدين بصورة لا تقبل الجدل؛ ومن أجل ذلك جرت العادة ذِكْر اسم كل من الطرفين مع ذكر اسمَيْ والديه، فيقال: فلان ابن فلان وأمه هي فلانة، يقول لفلان ابن فلان وأمه هي فلانة؛ هذا بالإضافة إلى ذكر وظيفة كلٍّ من الطرفين أو حرفته، وفي بعض الأحيان كان يُذكَر الواحد منهم بالاسم المشهور به.
هذا ونجد في الوثائق الديموطيقية المبكرة أن النموذج المتَّبَع كان واحدًا؛ ولكن منذ عهد الملك «أحمس الثاني» وما بعده نجد أن اسم الأب والأم يذكران باستمرار في كل من الطرفين.
وربما كان السبب في ذلك هو أن كلًّا من المتعاقدين كان يحمل نفس الاسم، وفي عهد البطالمة نجد أن الأطراف المتعاقدة تميَّز بوظائفهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم كما كانت الحال في العهد الأول في النصوص الديموطيقية، أو الهيراطيقية الشاذة، ونجد كثيرًا أنه كان يضاف لأحد الطرفين لقبه الذي كان يُنادَى به بين عشيرته.
ويُلحَظ كذلك في هذه الوثائق أن جنسية المتعاقدين من غير المصريين كانت تُذكَر فيقال فلان الإغريقي، أو الإغريقي المولود في مصر، أو الكوشي أو الفارسي المولود في أرض الكنانة، وحتى في الوثائق التي ترجع إلى أصل طيبي نجد المصري الذي ينسب إلى هذه المدينة كان زيادة في الدقة يوضح أصله بنسبة نفسه إليها، أو إلى أية بلدة جاء منها، فيقال: فلان الطيبي أو الأسواني أو الأشموني، وهذه نسب نسمع بها في أيامنا كثيرًا، فيقال: فلان المنصوري أو الفيومي.
أما في الوثائق التي ترجع إلى عصر البطالمة المتأخر فنصادف كثيرًا أوصافًا تحدِّد الأطراف المتعاقدة، وتنطبق في عهدنا على أوصاف التشبيه الذي يحدث في أيامنا عند استخراج بطاقة الشخصية ففي ورقة في «برلين» (5) نقرأ أن أحد الطرفين المتعاقدين وُصِف بأنه يبلغ من العمر أربعين عامًا، وأنه قوي أسود اللون أعور، وعلى جبينه ندبة، وفي ورقة أخرى في متحف «برلين» كذلك (6) وُصِفت امرأة بأنها تبلغ من العمر 33 عامًا، متوسطة القامة، لونها لون الشهد، وشعرها طويل.
وقد لوحظ أنه عندما كان الطرف الأول يحتوي على أكثر من شخص واحد فإنه بعد ذكر أسمائهم وذكر أسماء آبائهم وأمهاتهم تأتي عبارة تدل على أنهم على تفاهم تام في موضوع العقد، فيقال إنهم يتحدثون «بفم واحد».
وعندما كانت توجد صلة قرابة بين الطرفين المتعاقدين فإن هذه القرابة كانت تُذكَر، ويستمر الطرف الأول يخاطب الطرف الثاني بقرابته له في صلب العقد، وهذه الصلة يكون التعبير عنها سهلًا ميسورًا عندما تكون بين الأبناء والبنات والإخوة والأخوات؛ ولكن تصبح صعبة عندما تتعدَّى القرابة ذلك، ويرجع السبب في ذلك إلى أنه لا توجد في اللغة الديموطيقية ألفاظ تعبر عن ابن العم والعم أو العمة أو بنت العمة وابن الأخ (كما هي الحال كذلك في معظم الأحيان في اللغة العربية)، ومن ثَم فإن التعبير عن القرابة يصبح معقَّدًا في صلب العقد عندما تكون هناك إشارة لغير الطرفين المتعاقدين؛ مثال ذلك أنه يقال في مثل هذه العقود: أختي بنت أمي أي أختي من أمي، وبنت أخي الأكبر أي بنت أخي، وابن أخت والدي = ابن الخال، وكذلك يقال والد والدي = جدي، وفلان أكبر أولاد أختي الصغرى من والدي = ابن الأخت، وهكذا فإنه على الرغم من أن هذه التعابير تخدش الأذن بالنسبة لنا، فإنها كانت من الضرورة بمكان لفهم الوثيقة، وصحة شرعيتها.
صلب العقد: يأتي بعد ذكر الطرفين المتعاقدين نفس مادة العقد، وما تحتويه من نقاط أساسية، وهذه النقاط يمكن ترتيبها كالآتي:
اولا: الصيغة الافتتاحية: وتختلف في ألفاظها على حسب طبيعة العقد، والموضوع الذي يتناوله، وإن كانت بعض العقود على الرغم من اختلاف موضوعاتها تُفتتَح بنفس العبارة، وعلى أية حال تنحصر موضوعات العقود الدالة على كُنْهها في أصناف العقود التالية:
أولًا: عقد اتفاق ببيع: ويُعبَر عن الصيغة الافتتاحية فيه هكذا: لقد دفعتَ لي مبلغ كذا، أو قد جعلتَ قلبي يرضى بقطعة النقد (الفضة) مقابل كذا (وهنا يُذكَر العقار المباع)، وهذه الصيغة نجدها في العقود الخاصة ببيع العقار المنقول والثابت.
ثانيًا: عقد تنازل، ويبتدئ بالكلمات التالية: «لقد نزلت لك عن حقي فيما يخص كذا.»
ثالثًا: عقد رهن: مقابل شيء يعادل قيمة المبلغ الذي حُرِّرت من أجله الرهنية، ويبتدئ بالكلمات التالية: إن لك عندي كذا قطعًا من الفضة (أي إني مدين لك بكذا) وذلك مقابل النقود التي تسلمتها منك، وإني سأردها لك في تاريخ معين، وإذا لم أردها في نفس التاريخ فعندئذٍ تكون قد جعلت قلبي يتفق على الثمن نقدًا، وهو الخاص بالرهن كذا (يقصد هنا أنه أصبح لا حق له في الشيء المرهون، وقد رضي الراهن بالنزول عن الشيء المرهون).
رابعًا: عقد هبة أو تقسيم، ويبتدئ بالكلمات التالية: لقد وهبتك ملكي كذا.
خامسًا: عقد قسمة: ويبتدئ هكذا: لقد قسمتُ معك وتقاسمتَ معي.
سادسًا: عقد اعتراف بتسليم نصيب، ويبتدئ بالكلمات التالية: إني راضٍ بنصيبي كذا، وهو الذي خصَّني من كذا.
سابعًا: عقد سلفية نقود أو غلة أو نبيذ … أو غير ذلك، ويُفْتتَح هكذا في سلفية النقد: «إني مدين لك.» وفي سلفية القمح مثلًا: لقد استلفت منك كذا إردبًا من القمح أو الشعير، وربحها محسوب فيها عليَّ باسم الغلة التي أعطيتها.
هذا وقد تطورت عقود السلفية إلى ارتباط بشروط لا بد من الوفاء بها، مثال ذلك عند إقامة مبنى بين جارين يكون فيه أحد الطرفين قد ارتبط بتنفيذ شرط للطرف الثاني، فيقول في ذلك الطرف الأول: إني مسئول أمامك عن كذا، وقد يكون الارتباط خاص بدفع ضرائب للمشرف على الجبَّانة مثلًا، فيبتدئ العقد في هذه الحالة بالكلمات التالية: إني مسئول أمامك بألَّا أسبِّب لك خسارة في موضوع كذا.
ثامنًا: عقد تعهد بإعادة شيء مُعار (= إعارة)، وفي مثل هذه الحالة يبتدئ العقد بالكلمات التالية: إني راضٍ باللوحة التي أخذتها من يد فلان، وهي التي أعارها لي بمقتضى اتفاق في عام كذا، وليس لي حق عليك فيما يتعلق بهذه اللوحة المدوَّنة أعلاه.
تاسعًا: عقود إيجار الأطيان وغيرها: وعقود الإيجار تُبْرَم إما لإيجار أراضٍ أو إيجار بيوت أو وظائف كهنة، ويبتدئ العقد في مثل هذه الحالات بالكلمات التالية: لقد أجَّرت لي بيتك مثلًا، أو لقد أجَّرت لك أراضٍ، أو لقد أجَّرت منك أرضك، أو وظيفتك الكهانية … إلخ.
ولما كان موضوع إيجار الأطيان يُعَد من الأمور البالغة الأهمية في مصر بوجه عام منذ أقدم العهود، فإنه لا بد لنا بهذه المناسبة أن نقف قليلًا، ونتحدث عن هذا الموضوع ببعض التفصيل، وبخاصة عندما نعلم أن مصر منذ أقدم عهودها كانت بلادًا زراعية.
والواقع أنه ليس هناك أمة من بين أمم العالم ينطبق عليها بحق أن الزراعة كانت أساس كل ثقافتها مثل مصر الفرعونية، وهذا الحكم يكون له منزلة بالغة الأهمية عندما نقرنه بطبيعة تربتها المنوَّعة، وليس لدينا أي شك في أن مصر تتألف من شريط ضيق من الأرض الميسرة للزراعة، وهي وإن كان المطر لا يسقط في وسط الصحراء التي تُكَنِّفها من الجانبين فإنها مع ذلك تُروَى من ماء نهرٍ مستوٍ منسوب مائه منخفض بالنسبة لمستوى منسوب الصحراء لدرجة أن ريَّها يكاد يكون من الأمور المستحيلة أثناء مدة طويلة من السنة، ومن ثَم فإن هذه البقعة من العالم تبدو في ظاهرها بأنها ليست بالمكان الذي يكون أكثر من غيره مناسبةً لقيام حضارة عظيمة فيه، ومع ذلك فقد أصبح موطن مدنية غاية في العظمة والضخامة والسؤدد.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن طبيعة التربة والنهر والمناخ قد ساعدت على زراعة تلك البقعة، وكذلك وهبتها في الوقت نفسه طبيعتها الخاصة بها المنقطعة القرين، وذلك لأنه فضلًا عما أحدثته الزراعة من تطوُّر اقتصادي مركب، قد قامت فيها حكومة وطيدة ثابتة الأركان؛ فنهر النيل وفيضانه السنوي المنظم على البلاد قد شكَّل بطبيعة الحال تفكير القوم وسلوكهم في مجمل مظاهرهم الحيوية بصورة عامة، ولا غرابة في ذلك فإن نهر النيل قد ربط أجزاء هذه البلاد المستطيلة الشكل المترامية الأطراف بعضها ببعض بوصفه طريقًا من طرق النقل الممتازة، ولما كان فيضان هذا النهر قد يصبح خطرًا إذا زاد عن حدِّه، أو نقص في ارتفاعه عما تحتاج إليه البلاد من ماء، فإنه مع ذلك لم يكن في الوقت نفسه موردًا فيَّاضًا طوال العام لسدِّ حاجة أرض الكنانة؛ مما دعا إلى جعل تكاتف المجتمع المصري وتآزره سويًّا من الأمور الملحَّة لحفظ كيان البلاد وسيرها إلى الأمام، ومن ثَم نشأت الحاجة إلى الشروع في عمل أنظمة للريِّ أخذت تزداد على مرِّ الأيام والدهور حتى آخر مرحلة يقوم بها رجال الثورة، وهو السد العالي الذي يُعَد آخر مظهر من مظاهر تكاتُف الشعب في حفظ كيان أرض وادي النيل وساكنيه، ومن جهة أخرى نرى أن حكومة البلاد كانت تتمتع بحكومة تلائمها وقتئذٍ، وهي ملكية مطلقة؛ وذلك لأجل أن تبقى على كيانها من حيث كل ما هي في حاجة إليه، يُضاف إلى ذلك أن وظائف هذه الحكومة التي كانت تسير على هديها في تلك الفترة قد حتَّمت استخدام الأرض بطرق مفيدة إلى أبعد حدٍّ؛ لأن الزراعة كانت المورد الرئيسي لثروة البلاد.
وتدل المصادر التي في متناولنا حتى الآن على أن تربة مصر نظريًّا كانت ملك الفرعون في كلِّ عصور التاريخ المصري القديم … والواقع أننا نجد في دراساتنا للتاريخ المصري أشرافًا، ورجال بلاط، وجنودًا كانوا أحيانًا يحصلون على هبات ضخمة من الأرض من الفرعون مكافأةً لهم على أعمالٍ قاموا بها، أو لأسباب أخرى. على أن مثل هذه الهبات كان من الممكن استردادها إذا قضت الأحوال بذلك، ومن ثَم لم تكن تعد ملكًا لأصحابها، ولكن في الوقت نفسه كان من المستطاع أن تُباع أو تورث، وعلى أية حال كان هناك جزء كبير من أرض مصر بقي ضِياعًا للملك، وكان يديره عملاؤه، وكان أكبر ملاك للأرض في مصر بعد الفرعون، وبخاصة في الدولة الحديثة هي المؤسسات الدينية الكبيرة؛ أي معابد الدولة الخاصة بالآلهة العظام (7)، وبخاصة الإله آمون، والإله «بتاح» والإله «رع».
ومما يُؤسَف له جد الأسف أننا لم نعرف حتى الآن موقف الأفراد الذين كانوا مرتبطين بالأرض أشد الارتباط، وأعني بذلك المزارعين، والمصدر الوحيد الذي أماط لنا اللِّثام بعض الشيء عن موقف المزارع بالنسبة للأرض المنزرعة هو ما جاء في ورقة «فلبور»، وقد تحدَّثنا عما ورد فيها من حقائق جديدة في الجزء الثامن «مصر القديمة»(8)، وسيجد الباحث في محتويات هذه الورقة أشياء جديدة بالنسبة لملكية الأرض، وكيفية زرعها، والضرائب التي كانت تُجبَى منها، وعلى أية حال تدل شواهد الأحوال على أنه لم يكن يوجد شبه احتمال في الأزمات التاريخية لا يُشعِر بأنه كانت توجد أية جماعة كبيرة من صغار الملاك الذين كانوا يملكون قطع أرض يزرعونها لحسابهم قبل العهد المتأخر من الدولة الحديثة؛ أي عندما نَمَت على ما يظهر طائفة صغار الملاك والمؤاجرين، كما يُشاهَد ذلك في الإيجارات التي تجدها مدوَّنة منذ العهد الساوي. فقد كان المؤجرون يملكون قطعًا من الأرض يزرعها عبيد وعمال ومأجورون.
والظاهر أن الطبقات الدنيا كان معظمها مأجورين يعملون بصفة مستديمة في ضِياع الفرعون، والأغنياء، والمعابد أيضًا (هؤلاء يُسمَّون في عصرنا الحديث «التملية»).
والصورة الاتباعية التي يمكن استخلاصها من المُزارِع في الدولة القديمة وما بعدها هي التي حصلنا عليها من مناظر قبور الأغنياء، وهي التي تمثل لنا صورة الفلاح العامل في أملاك الفرعون، وضِياع الأغنياء، والظاهر منها أن حظَّ هذا الفلاح العامل الكادح كان يسير على حسب خطوطٍ رسمها أصحاب الضِياع، وما لهم من قوة مادية من حيث الثراء والجاه. على أن ما وصل إلينا من وصفٍ تقليدي عن حظِّ الفلاح، وإن كان قد بولغ في تصوير شقائه وتعاسته عندما كان يُقرَن في كتاباتهم بالكاتب الذي كان يتمتع بميزات خاصة في هذا العصر، فإنه كان ينعم ببعض الاستقلال، والواقع أنه كان — لسوء طالعه — عليه أن يهتم بما عساه أن يقع من أخطار الأوبئة، ونمو الأعشاب الطفيلية التي كانت تلتهم غذاء زراعته، وكذلك كان عليه أن يحسب حساب اللصوص، وما قد يحدث من قلة المحصول عندما يباغته الكاتب لتسجيل ضريبة المحصول وجمعه منه في آنٍ واحد، وكذلك كان عليه أن يهتم بالغرامة التي كان يفرضها المشرف على الماشية التي نَفَقت في مزرعته.
والواقع أن الفلاح كان مكلفًا في بعض الأحيان بزرع حقول كثيرة لا قِبَل له بزرعها، كما كان في الوقت نفسه مسئولًا عن دفع ضرائبها، والظاهر أن اختياره لمقدار مساحة الأرض التي كان سيزرعها كان محدودًا، كما كان نوع هذه الأرض، وصنف البذرة التي كان سيبذرها معيَّنًا أيضًا. هذا فضلًا عن أن الضرائب التي كانت تُفرَض عليه فوق طاقته، وكان لا بد من دفعها، ومما تجدر الإشارة إليه بالنسبة لمهنة الفلاح الكادح التي كان لا يحسد عليها صاحبها أن عبارة: «يوضع فلاحًا في ضيعة المعبد.» مثلًا كانت تُعَد عقابًا على جريمة اقترفها أي فرد خالف بعض نصوص الأشياء المحرمة في المنشور الذي أصدره «سيتي الأول» حوالي عام 1300ق.م وهو المنشور المعروف باسم «منشور نوري» وكان عقاب المجرم بعد وصفه فلاحًا جَدْع أنفه، وقَطْع أذنيه (9).
ولا نزاع في أن معلوماتنا عن الحالة القضائية والاقتصادية بالنسبة للمزارع المصري القديم ضئيلة إلى حدٍّ بعيد بطبيعة الحال، وذلك لعدم وجود براهين مباشرة في متناولنا في هذا الصدد؛ فمثلًا ليس لدينا اتفاقات زراعية، أو عقود إيجار أرض من العهد الفرعوني قبل الوثائق التي وصلت إلينا من القرن السادس قبل الميلاد؛ يُضاف إلى ذلك أنه لم يصل إلينا وصف ملكية زراعية أو عقد إيجار أرض من العصور المصرية القديمة كالتي نجدها في «بابل» من مجموعة عقود إيجارات هذه البلاد التي كُشِف عنها. على أن عدم وجود مثل هذه الاتفاقات أو العقود من العصور المصرية القديمة الأولى لا يعني أنها كانت لم تحدث فعلًا، أو لم تكن موجودة في هذه العهود، ومن المحتمل أنها كانت موجودة غير أنها لم تكن سائدة بوجه عام، أو قد حدثت كثيرًا بصورة مُحسَّة، والواقع مع كل ذلك أن الغالبية العظمى بين المزارعين المصريين كانت علاقتهم بأسيادهم أصحاب الضياع لا تحتاج إلى إبرام عقد اتفاق بين الطرفين، ولا غرابة في ذلك فإنه على حسب ما وصل إلينا من معلومات مدوَّنة لا توجد إلا وثيقة واحدة من بين الوثائق التي يرجع تاريخها إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد يُشتَمُّ منها رائحة أنها كانت بمثابة عقد إيجار، وهذه الوثيقة هي عبارة عن خطاب يرجع تاريخه للأسرة الواحدة والعشرين (1085–950ق.م) ويُفهَم من مغزاه أن كاتبه قد أخبر من قبل مؤاجر أرض من مؤاجريه أنه لا يمكنه زراعة بعض أطيانه، وعندما عاد كاتب الرسالة إلى بيته قالت له زوجه بألَّا يستولي على الأرض من المستأجر، بل يجب عليه أن يتركه يستمر في زراعتها. هذا ولا نعرف لماذا نصحت له زوجه — وهي ربة البيت كما يسميها في رسالته — بهذه النصيحة، ولماذا قبل نصيحتها في الحال؟ وعلى أية حال نعلم أنه عندما وصلت الرسالة عاد المستأجر إلى زراعة الأرض، وأزال ما فيها من أعشاب ضارَّة، وزرع منها جزءًا خضرًا. هذا ولم يذكر لنا شيئًا عن الشروط التي كانت تُزرَع بها هذه الأرض، ومن المهم على أية حال أن نفهم أن المستأجر كان قد نصح بشدة أن يستعمل الرسالة إذا اعترض عليه في زرع هذه الأرض بمثابة شاهد عدل عند الحاجة.
..................................................
1- Glanville, Ibid. P. XXVII. Note 4.
2- Spiegelberg. Cat. Gen. No. 50, 129.
3- Die demotischen Eponymendatierungen in A.E.Z. 50, 19 and Pauly Wissowa-Kroll. S.V. Hereis
4- Eponymous priests under the Ptolemies in Studies presented to Griffith. P. 16–37
5- Berlin. 5507.
6- Berlin. 3119.
7- راجع مصر القديمة الجزء السابع.
8- راجع مصر القديمة الجزء 8.
9- راجع مصر القديمة الجزء السادس.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة