لم تحدثنا الوثائق الديموطيقية ولا النقوش التي خلَّفها لنا البطالمة على جدران المعابد حديثًا مباشرًا عن حياة الشعب المصري، والواقع أن كل ما وصل إلينا عن وثائق خطية ومتون منقوشة في هذا الصدد قد جاء عن طريق الاستنباط والاستقراء لهذه النصوص التي وقعت في أيدينا حتى الآن، ولا يزال بعضها لم يُحلَّ، ومن ذلك أمكن أن نؤلِّف مما استُنبط من هذه النصوص صورة قد تقرب من الحقيقة عن بعض بيئات خاصة قد لا ينطبق ما جاء فيها على كل المجتمع المصري من حيث الحياة الاجتماعية أو الحياة الدينية بوجه خاص، وعلى أية حال فإن كل ما نقشه المصري على جدران معابده يتحدث عن عالم الآخرة، وما يحدث فيها، وما يلزم لها من استعداد يأخذ عليه معظم شعوره وتفكيره أثناء حياته الدنيوية. على أن عالم الآخرة عند المصري كان يعد في نظره صورة طبق الأصل من حياته الدنيوية، ولكن في شكل أكبر بهجة ورونقًا، ومن ثَم يمكن أن نعرف الكثير عن حياته في كل عهد حسب الاستعداد الذي كان يقوم به لآخرته.
والواقع أن العهد الديموطيقي الذي نحن بصدده قد ازدهر كثيرًا في عصر البطالمة، وقد وصلت إلينا في خلال حكم ملوكهم عدة وثائق بعضها دينية وبعضها الآخر خاص بالحياة الاجتماعية، وما كان يُجرَى فيها من معاملات؛ ومن ثَم يمكن أن نصل إلى عدد كبير من العادات والأخلاق التي كانت متبعة في هذا العهد بالذات، وأهم مصادر لدينا في هذا الباب هي المصادر الديموطيقية التي عُثِر عليها في الأماكن التي كان يسكن فيها المصريون، أو القريبة منها، وبخاصة في منطقة «طيبة» التي كانت تُعتَبر المركز الديني الممتاز منذ نشأتها حتى نهاية العصر الإغريقي الروماني. غير أن الصورة التي استنبطناها من هذه الوثائق لا تقدم صورة شاملة عن حياة الشعب المصري؛ لأنها قبل كل شيء صورة محلِّيَّة. يضاف إلى ذلك أن الأفراد الذين ذُكِروا في هذه الأوراق البردية البطلمية كان معظمهم من طائفة الكهنة الذين كانوا يعدون وقتئذٍ أعلى طبقة في المجتمع المصري؛ وذلك لأن طبقة الأشراف وأصحاب الإقطاع كان قد قُضي عليها نهائيًّا منذ بداية حكم الإسكندر لمصر، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، والأغلبية الكبيرة من هؤلاء الكهنة كانوا خدمة الإله «آمون» أعظم الآلهة المصريين في تلك الفترة من تاريخ مصر، وكانت قلة منهم في خدمة الإلهة «موت» زوج «آمون» وابنها «خنسو»، وذلك في معبد الكرنك الكبير الذي أخذ البطالمة منذ توليهم حكم البلاد المصرية يجددون ما تهدم منه، أو يزيدون في مبانيه، كما كانوا يتعبدون له في معبدي مدينة «هابو» والدير البحري.
ومما تجدر ملاحظته هنا أن طائفة الكهنة هذه كانت محاطة بطائفة أخرى من خدمة المعابد من أصحاب الحِرَف التي كان لا بد من وجودها داخل المعابد التي كانت تعتبر وحدات تكفي نفسها بنفسها من كل الوجوه لدرجة عظيمة، فكان من بين رجال هذه الطائفة: النجارون، والنقاشون، والصياغ، والنحاسون، والغزالون، وصانعو النسيج، وصناع الشمع، وصانعو الفخار، وضاربو الطوب، والبناؤون، والفلاحون … وغيرهم من أصحاب الحرف الذين لا غنى عنهم لقيام مجتمع كامل.
ولقد عمل الكهنة كل ما في وسعهم على المحافظة على استقلالهم، وحفظ نفوذهم في عهد البطالمة بما كان لديهم من نفوذ عظيم على أفراد الشعب المصري الأصيل من الناحية الدينية، غير أن البطالمة — كما ذكرنا آنفًا — كانت لهم سياسة معينة محددة المعالم في الديار المصرية ترمي إلى قصد واحد بعينه، وهو جمع المال لبناء إمبراطورية شاسعة خارج البلاد المصرية كالتي أقامها تحتمس الثالث، وإن كان هذا الرأي قد عارضه بعض المؤرخين.
وعلى هذا الأساس أخذ ملوك البطالمة بكل ما لديهم من قوة وحِيَل سياسية في العمل على حرمان الكهنة من أملاك المعابد الطائلة، وهي التي كانت عظيمة في طول البلاد وعرضها، هذا إلى أنهم حرموا الكهنة من احتكاراتهم المربحة التي كانوا يتمتعون بها داخل المعابد، وهذه السياسة كانت قد اتُّبعت في العهد الفارسي منذ تولى قمبيز ملك مصر، فقد أنقص دخل الإله «آمون» بصورة مُحسَّة، وقد سار البطالمة على نهج الفرس، وكانت النتيجة أن طائفة الكهنة فقدت كل موارد رزقها الذي كان يبلغ حوالي عشر أرض مصر،1 وفي نهاية الأمر عندما اشترك المصريون الوطنيون في الثورة التي اندلع لهيبها في الوجه القبلي في عهد «بطليموس السادس»، عاقبهم رجال السلطة الإغريقية بقَصْر أعمالهم على الوظائف الصغيرة التي كانت لا تتناول إلا الأعمال الحقيرة، ومع ذلك فإن هؤلاء ظلوا يتطلعون إلى إلههم «آمون» ليمنحهم بعض الأعمال في المعابد، وفي الجبَّانات التي كان هو ربها.
وعلى أية حال فإن البطالمة كانوا لا يريدون مضايقة الكهنة لحد كبير؛ لأنهم كانوا يعرفون أنهم أصحاب النفوذ من الوجهة الدينية في البلاد؛ هذا فضلًا عن أن ملوك البطالمة كانوا يعتنقون الديانة المصرية، وينسبون أنفسهم إلى الآلهة المصرية، وكان أهم ما يعني الكهنة وأتباعهم هو القيام بالأعمال الدينية التي تُعِد الفرد لعالم الآخرة، أو كما يقولون لعالم الخلود، ومن أجل ذلك كانت خدمة الموتى في هذه الأحوال قد أصبحت حرفتهم الرئيسية بعد أن كانوا في الأزمان الفرعونية يشتركون في سياسة البلاد الداخلية والخارجية، وقد كان الميت عند المصريين في هذه الفترة من تاريخهم يحتاج إلى مشرفين أكثر من أي شيء آخر في حياتهم، وذلك بسبب الشعائر الدينية التي كان يتطلبها المتوفَّى حتى يُوارَى في قبره، فمن ذلك: أنه كان يحتاج إلى متعهدين لغسله، ولعملية القطع التي كانت تُجرَى لاستخراج الأحشاء، وغمس المتوفَّى بعد ذلك في النطرون، وتعطيره، وبالاختصار كل ما كان يُتَّخَذ من إجراءات لتحنيط الجسم قبل أن يُسلَّم لطائفة أخرى من الموظفين المستقلين، وهم الذين كان ينحصر عملهم في المحافظة على قبر المتوفَّى خوفًا من سرقة ما كان معه من متاعٍ وضعه معه في قبره، وكذلك لإصلاح ما قد عساه أن يحدث من كوارث طبيعية، ولكن أهم من كل ذلك كان العمل على تقديم القربان لقرين المتوفَّى (كا) وبذلك يخلد ما دامت هذه القرابين تقدم له، ومن أجل ذلك كان يحبس المتوفَّى قبل موته الأوقافَ بعقد خاص، وكانت هذه عادة متبعة منذ أقدم العهود التاريخية المصرية.
وجريًا على ما كان متبعًا في عهود مصر القديمة اقتضى الأمر تأسيس حوانيت للتحنيط، ومساكن للعمال التابعين للجبَّانة، وكل ما تتطلبه شئون المتوفَّى، ولا نزاع في أنه في تلك الفترة التي كان فيها الشعب المصري مغلوبًا على أمره لم يكن صاحب ثراء، ومن أجل ذلك استعمل الجبانات القديمة لهذا الغرض، وبخاصة في الدير البحري، فقد اتخذه هؤلاء العمال مكانًا مختارًا لإقامة معاملهم، كما اتخذوا «دير المدينة» سكنًا لهم، وبعد ذلك احتلوا «مدينة هابو» لنفس الغرض.
ويدل ما لدينا من أوراق ديموطيقية عدة من هذا العهد على أن تحنيط المتوفَّى، ودفنه، والمحافظة عليه في نظر المصري وقتئذٍ كانت لها نفس الأهمية التي كانت لها في العهود الفرعونية البحتة. هذا ونجد أن مادة خاصة في العقود الديموطيقية كانت تضاف إلى بعض الوثائق التي كانت بمثابة وصية خاصة بالطرف الأول من الطرفين المتعاقدين يكلف فيها الطرف الثاني بتحنيطه ودفنه بعد الموت بالطريقة المعتادة. هذا ونفهم من الوثائق التي ترجمناها فيما سبق على أن تكاليف الدفن هي خمس قطع فضة، أي خمس دبنات، وذلك بوجه عام. على أن ما ذكره لنا «هردوت»، وكذلك ما جاء في قصة «ستني» التي ترجمناها فيما سبق، يخالف ذلك؛ ففي هذه القصة نقرأ أن الكاهن الذي أخبر الأمير عن المكان الذي فيه كتاب «تحوت» طلب منه مكافأة له على ذلك مائة قطعة من النقود لدفنه، وكذلك مرتب الكاهنين الذين سيقومان بخدمة قبره.2 هذا ونعلم فيما بعد في سياق القصة أن الأمير نفسه عندما حضره الموت قد حُنِّط على أسلوب تحنيط رجل صاحب جاه وثراء، ولا ريب أن هذه إشارة إلى طرق التحنيط الثلاث التي ذكرها «هردوت» في كتابه، ومن ثم يكون المقصود هنا تكاليف التحنيط البخسة — وهي خمسة دبنات — هو المبلغ الذي يدفعه فرد من عامة الشعب، أي التحنيط الذي من الدرجة الثالثة الذي كان يُعمَل للطبقة الفقيرة من العمال، وأصحاب الحرف، والمزارعين الفقراء.
وقد تحدثنا عن التحنيط بشيء من التفصيل في مصر القديمة الجزء الثاني والجزء التاسع، وقد أوردنا هناك كل الآراء الخاصة بهذا الموضوع، بما في ذلك آراء كتاب الإغريق، ونخص بالذكر منهم «هردوت» و«ديدور الصقلي»، وعلى ضوء هذه الآراء فهمنا أن الألفاظ التي استخدمها كتاب الإغريق لها ما يقابلها في الأوراق الديموطيقية التي عُثِر عليها في جبَّانة «طيبة» من عهد البطالمة. فمن ذلك:
أولًا: الكهنة بستوفورن Pastophoren وهؤلاء كانوا يعدون أعلى طبقة في طائفة صغار الكهنة، على أنهم لم يكونوا موظفين رسمين، ولا يقومون بعملهم بصفة رسمية، وكان لهم بعض المشرفين من ذلك البستوفورس الأكبر،3 وكذلك لهم حانوت للعمل خاص بهم حرا.
وهذا الاسم يعني في الأصل حامل المحراب الذي فيه تمثال الإله في المواكب، والواقع أن البستافوروس قد أخذ في عهد البطالمة يشغل مكانة أخرى تعادل ما نسميه في أيامنا الحانوتي على وجه التقريب، ويُفهَم من مضمون عدة عقود ديموطيقية أن هذا الحانوتي كان يحرر معه عدة عقود خاصة بدفن المتوفَّى، والقيام على رعايته بعد الموت، وكذلك نجد أنه كان له الحق في بيع حق رعايته في المحافظة على القبر، أو تأجير هذا الحق، وكذلك الموميات، والمرتبات، والمعاشات التي كان يتعاقد عليها مع المتوفَّى قبل موته أو مع أهله، وكان هذا الحانوتي يُكلَّف بالخدمات الدينية الخاصة بهذه القبور التي له حق الولاية عليها، وبوجه عام كان هو المكلَّف بمد هذه القبور، وحمايتها من عبث اللصوص والحيوان على السواء.
والمفهوم مما وصل إلينا من الكتَّاب القدامى أن هذا الحانوتي كان هو الشخص الذي كانت أسرة المتوفَّى تتفق معه على كل صغيرة وكبيرة خاصة بفقيدهم، والمحافظة عليه، وعلى قبره في الجبَّانة. فكان هو الذي تجري تحت إشرافه عملية التحنيط، وإقامة الشعائر الدينية كان يقوم بها المحنِّط والمرتل على السواء «خري حبت».
والواقع أن الكاهن المرتل الذي كانت وظيفته في عهد الدولة القديمة تلاوة الصلوات، وتقديم القربان للمتوفَّى قد أصبح في العهود المتأخرة هو المحنِّط، ويرجع السبب في ذلك إلى اطراد زيادة أهمية الشعائر الدينية إذا ما قرنت بالصلوات اليومية التي كانت تقام في المعابد، وذلك على حسب ما كانت تتمثل في نظر رجل الشارع.
ووظيفة «خري حبت» (= المرتل) كما جاءت في الديموطيقية قد مُثِّلت في اللغة الإغريقية بكلمتين مختلفتي المعنى؛ الأولى: «الشاق» أو القاطع، والثانية: معناها المحنِّط الفعلي، والكلمة الأولى: معناها الذي يشق فتحة في الجسم؛ لتُستَخرج منها الأجزاء التي لا بد من إزالتها من الجسم حتى لا يتعفن مثل الأحشاء وغيرها، أما الوظيفة الثانية: فكان يعد فيها المسئول عن إصلاح حالة الجسم وتكفينه. هذا ويقول الأثري «ريفيو»: إن هذا التعبير عن وظيفة الكاهن المرتل قد وجد فقط في «طيبة»، أما في «منف» فإن حامل هذا اللقب قد بقي يؤدي وظيفته الأصلية، وهي وظيفة كهانية لا علاقة لها بالتحنيط.
ثانيًا: الكاهن «وحمو» فإنه كان قد حل محل الكاهن المرتل في العصر الفرعوني المتأخر في الوجه القبلي، وكانت وظيفته موحدة بوظيفة الكاهن المرتل في الوجه البحري، ولم يكن له علاقة ما بالتحنيط، وكان الجسم بعد التحنيط يسلم للدفن، وللمحافظة على بقائه سليمًا بعد تقديم القربان وإقامة الشعائر، وكان الكاهن «وحمو» في الواقع يلعب دورًا هامًّا في الحفل الذي كان يقام «لآمون ممنونيا» Memnonia وذلك عندما كان يصب ماء القربان عند رأس الحفل،4 ومما تجدر ملاحظته هنا أن المرأة كانت أحيانًا تقوم بدور الحانوتي، ومع ذلك لم يصادفنا على أية حال لقب امرأة محنطة في الأوراق الديموطيقية التي كُشِف عنها في طيبة، وذلك على الرغم من وجود هذا اللقب في إحدى أوراق «الفيوم» التي تحدثنا عنها فيما سبق؛ حيث نجد أنها كانت تقوم بالدور الذي كان يقوم به الكاهن «وحمو» في الوجه القبلي، أما في سجل وثائق أسيوط فقد بقي الكاهن «وحمو» يقوم بدور الكاهن المرتل.5
ومما سبق نستخلص أن الألقاب التي كان يحملها هؤلاء الكهنة في جبَّانة «طيبة» كانت كالآتي:
(1) الكاهن «بر-ون» Pastophoros = المتعهد أو الحانوتي، وكان يقوم بعمل كل الترتيبات للتحنيط والدفن.
(2) الكاتب، وكان يعمل الإشارة (؟).
(3) المرتل (= خري حبت) وكانت وظيفته قطع الجسم؛ أي يقطع فتحة في الجنب لإخراج جوف المتوفَّى، وكانت له وظيفة أخرى وهي تحنيط الجسم، وفي هذه الحالة كان يسمى محنِّطًا.
(4) الكاهن «وحمو» Chaochyte وكانت وظيفته صب الماء (سقَّاء) وترتيل الصلوات، وقد وصف لنا ديدور الأشخاص الذين كانوا يقومون بعملية التحنيط والدفن كما يأتي:
«والآن فإن الرجال الذين كانوا يعالجون الأجسام كانوا أصحاب حرف مهرة قد تلقوا معلوماتهم الفنية بمثابة تقليد أسري، وهؤلاء كانوا يضعون أمام أقارب المتوفَّى قائمة أثمان لكل مادة متصلة بالدفن، ثم يسألونهم بأية كيفية يرغبون معالجة الجسم، وعندما يتوصل إلى اتفاق على كل تفصيل، ويكونون قد أخذوا الجثة فإنهم يسلمونها لرجال خُصِّصوا لهذه العملية متمرنين على القيام بها، وأول هؤلاء هو الكاتب الذي كان — عندما تكون الجثة قد وضعت على الأرض — يحدد على الجانب الأيسر مدى القطع الذي سيُشرَط بالمِشْرط، وعندما كان الفرد الذي يسمَّى القاطع يقطع اللحم كما يقضي به القانون بحجر أثيوبي، فإنه بعد ذلك يرخي لساقيه العنان، في حين أن أولئك الحاضرين آنذاك يتطلعون وراءه رامينه بالأحجار، ومكدسين اللعنات عليه، وكأنهم يريدون أن يصبوا اللعنة على رأسه … والرجال الذين يسمون محنطين فإنهم على أية حال يعتبرون مستحقين كل احترام وتعظيم، ويختلطون مع الكهنة، وحتى كانوا يجيئون ويروحون في المعبد دون أي مانع، وذلك بوصفهم غير مدنسين … وبعد معالجة الجثة كانوا يعيدونها لأقارب المتوفَّى …»
وقد جاء في وثيقة محفوظة بالمتحف6 البريطاني أنهم كانوا يعيدون الجثة للكاهن المرتل.
ولا نزاع في أن الوظائف السابق ذكرها هنا كان يرثها الابن عن الأب كما حدَّثنا بذلك «هردوت» كما تدل على ذلك الوثائق المصرية في كل العهود بصفة عامة،7 وقد استمرت الحال على هذا المنوال في عهد البطالمة، يدل على ذلك ما وصل إليه فحص إضمامات البردي التي عُثِر عليها في طيبة خاصة بهؤلاء المتعهدين بالجبانات، ومن يقرأ هذه الإضمامات يفهم منها أن سكان هذه الجهة كانوا يسكنون على الشاطئ الغربي للنيل، وأنهم كانوا يكسبون أرزاقهم من خدمة الموتى، والواقع أن كل مقبرة كانت مصدر رأس مال لكل فرد وجماعة من هؤلاء المتعهدين؛ وذلك لأن كل قبر كان له وقفٌ خاص به يستولي عليه المتعهد إلى الأبد، وهذه الإيرادات التي كانت في يد هؤلاء المتعهدين قد وُصِفت في العقود الديموطيقية بأنها مرتبات الوظائف على وجه التقريب، وقد مر علينا منها أمثلة كثيرة.
ولا نزاع في أن هذه المرتبات كان مصدرها الأوقاف التي كان يحبسها المتوفَّى على قبره قبل مماته؛ لأجل الصرف منها عليه، والمحافظة على بقائه، كما كانت الحال في مصر منذ أقدم العهود.
وهناك مصدر آخر بمثابة إيراد لصاحب القبر الحالي، وذلك من بيع أو إيجار اللوازم التي في القبر، وأخيرًا كان يحصل المتعهد على محصول غير ذلك يأتي إليه عن طريق القربان التي كانت تقدم لكل مومية، وهذه القربات تخصص كالخبز، واللحم، والجعة، والنبيذ، والزيت، والزهور.
ومن ثَم نجد أن الدخل الذي كان مصدره المقابر كان يعد بمثابة ملكية شخصية للمتعهد يمكن أن تورث، أو تُعطَى أعضاء الأسرة، أو أشخاصًا آخرين، أو تؤجر، أو تباع إلى زملاء آخرين من طائفة المتعهدين أي الحانوتية.
هذا وكان في مقدور الحانوتي كذلك أن يقترض نقودًا على مرتبه، وفي مثل هذه الحالة كان عليه أن يذكر أسماء الأشخاص المتوفين الذين كان يأخذ من هباتهم دخله، وهذه الهبات كانت تحتوي على ملكية من الحقل، أو من المعبد أو من البلدة.
ومن المعلومات المضللة التي أوردها «هردوت» في كتابه عن مصر، والتي لا بد من تصحيحها هنا قوله: إنه في وقت ما عندما كان النقد شحيحًا، والمعاملات التجارية عسيرة صدر قانون يقضي بأن يكون في استطاعة المقترض أن يرهن جثة والده لاقتراض المبلغ الذي هو في حاجة إليه؛ وحقيقة الأمر أن المتعهد كان في مقدوره أن يرهن القبر، وموميات أجداده. ولكن لا بد أن نفهم أن الرهن لم يكن منصبًا على الموميات؛ بل على الدخل الذي كان ينتج من الأوقاف المحبوسة على القبر لا على الموميات نفسها. غير أن هناك اعتراض على هذا التفسير؛ إذ جاء في النص رهن «جثة والده» وربما كان التفسير الصحيح لذلك: هو أن ابن المتوفَّى في العهد المصري القديم كان هو الذي يقوم بوظيفة الكاهن الذي كان يرعى كل شئون والده المتوفَّى، وبعبارة أخرى كان له الحق الذي كان يخوَّل للمتعهد، وليس لزامًا أن يكون المتعهد للقبر وكل ما يحتويه أجنبيًّا.
وعلى أية حال فإن الموميات كانت لا قيمة لها للفرد الذي يُقرِض النقود، ولا بد أن ما أورده «هردوت» في هذا الصدد يشير إلى شيء يكسب منه الراهن قوت يومه، وفي هذه الحالة كان الوقف الذي حُبِس على المومية للمحافظة عليها، وهذا الوقف — كما قلنا — كان يحتوي على عقار ثابت، وغير ذلك.
وأخيرًا تدل الوثائق الديموطيقية التي دُوِّنت على البردي، وكذلك على قطع الاستراكا التي يرجع عهدها إلى القرن الثالث قبل الميلاد8 على أنه كانت تحصل ضريبة يدفعها المحنِّط للمشرف على الجبَّانة عن دفن كل متوفى، وهذه الضريبة كان مقدارها نصف قدت، ولكن لا نعلم على وجه التأكيد إن كانت هذه الضريبة هي التي فيما بعد قد سميت رسوم الدفن، ودفعت للمعبد بدلًا من المشرف على الجبَّانة بعد أن رفعت إلى 2/ 3 قدت.9
................................................
1- Foucart Bull. IFAO. Tom. XXIV. P. 27 ff.
2- Griffith Stories, III P. 16; Herod. II 86–8.
3- A.Z. 56. P. 92.
4- راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
5- راجع ما كتبه بلاكمان عن هذا الكاهن JEA, III. P. 26.
6- B.M. 10077 A and B.
7- راجع مصر القديمة الجزء التاسع.
8- Glanville. Cat., P. 15 ff; Mattha Demotic Ostraca.
9- Ibid. P. 64.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة