حالة البلاد قبل تولي بطليموس الخامس عرش الملك
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 17 ــ 27
2025-11-11
40
كان آخر ما ذكرناه في الجزء السابق من هذه الموسوعة أن «بطليموس الرابع» أصبح في آخر أيامه مسلوب الإرادة خاضعًا لسلطان أسرة «أجاتوكليس» التي ضربت الرقم القياسي في فني الدعارة والخلاعة، والواقع أن «أجاتوكليس» وأخته «أجاتوكليا» هما اللذان كانا يقبضان على زمام الحكم في داخل البلاد وخارجها، يعاونهما في ذلك وزيره الماكر «سوسيبيوس» الذي كان الضلع الكبير في السياسة والحرب وحياكة المؤامرات على كل من كان يَشْتَمُّ منه رائحة أية قوة أو نفوذ في البلاد مهما كانت علاقته مع بطليموس، والواقع أنه هو الذي ساعد على قتل الملكة «أرسنوي» بعد أن وضعت ذكرًا أصبح وريثًا للعرش، ومن ثم خاف «سوسيبيوس» نفوذها في المستقبل عندما تصبح وصية على ابنها بعد وفاة والده، وهكذا نجد أن إعلان موت «بطليموس الرابع» وزوجه «أرسنوي الثالثة» — التي لم تكن مريضة — كان يحيطه الشك والغموض، كما شرحنا ذلك من قبل في الجزء الخامس عشر من هذه الموسوعة، وكان هذا الحادث الغريب بل الفريد في بابه في تاريخ البطالمة سببًا في هياج الشعب الإسكندري، غير أن «أجاتوكليس» استطاع تهدئة الثائرين عليه وعلى أسرته وعلى «سوسيبيوس» إلى حين، وفي تلك الأثناء تُوفي «سوسيبيوس» بالشيخوخة، وهو الذي — كما ذكرنا آنفًا — قد ارتكب جرائم فظيعة طوال مدة وزارته. وعلى أية حال فإنه بعد موت هذا الأثيم خلا الجو لزميله «أجاتوكليس» وأسرته.
وتدل كل الظواهر على أن أسرة «أجاتوكليس» هذه قد أصبحت الحاكمة في البلاد دون منازع باسم الطفل «بطليموس الخامس» وهو الذي عُرف فيما بعد باسم «إبيفانس» — الظاهر. وقد توصل «أجاتوكليس» إلى القبض على زمام الأمور في داخل البلاد بما بذله من مال وفير في سبيل ذلك، فقد حدثنا المؤرخ المعاصر لهذا الملك وهو «بوليبيوس» في هذا الصدد فاستمع لما يقول: إن «أجاتوكليس» بعد أن وارى رفات الملك «بطليموس الرابع» وزوجه «أرسنوي الثالثة» في المدافن الملكية أمر بوقف الحداد، ثم وزع أولًا على الجنود مرتب شهرين كاملين؛ وذلك لأنه كان مقتنعًا بأن قوة المال لدى السواد الأعظم من الناس كفيلة بمحو ما في نفوسهم من بغضاء وكراهية، وبعد أن هدأت النفوس بهذه الكيفية بين رجال الجيش أملى عليهم صيغة اليمين الذي كانوا قد تعودوا حلفه عند إعلان تولي ملك جديد عرش الملك. أما خطوته الثانية التي دبرها لسلامة الأحوال في الداخل؛ فكانت تدل على بعد النظر، وآية ذلك أنه أبعد «فيلامون» الذي كان قد أخذ على نفسه الإشراف على قتل الملكة «أرسنوي الثالثة» فعينه حاكمًا على إقليم «لوبيا» أو بعبارة أخرى «كرنيقا»، أما الملك الطفل فقد وكل أمر تنشئته والعناية به لأمه «أونانتا» وكانت امرأة جبارة، ولأخته «أجاتوكليا» حظية الملك السابق المفضلة.
بعد ذلك فكر في أن يعمل على أن يصفو له الجو تمامًا من كل من يخاف شره أو خيانته، ومن ثم أرسل «بيلوبس» Pelops بن «بيلوبس» إلى آسيا على زعم أن يكون على مقربة من الملك «أنتيوكوس الثالث»، وذلك لأجل أن يطلب إليه اتباع سبيل الود والمصافاة مع مصر، وألا يخرق حرمة الاتفاقات التي كان قد أوثقت عراها مع والد الطفل الذي يتربع على العرش الآن. هذا ونرى «أجاتوكليس» بعد ذلك يرسل «بطليموس» بن «سوسيبيوس» إلى «فيليب» ملك مقدونيا؛ ليطلب إليه أن يمد يد المساعدة لمصر إذا ما هاجمها «أنتيوكوس» خارقًا بذلك حرمة المعاهدات المبرمة بينه وبين مليكها السابق. هذا، ويقال إنه كلف كذلك بإتمام مسألة الزواج، غير أن العبارة التي جاءت عن هذا الزواج غامضة؛ وذلك لأن «بطليموس» لم يكن وقتئذ في سن الزواج من جهة، هذا إلى أن «فيليب» من جهة أخرى لم تُعرف له ابنة لتتزوج، يضاف إلى ذلك أن «أجاتوكليس» أرسل «بطليموس» ابن «أجيساركوس» Agesarcos إلى مجلس شيوخ الرومان، وأومأ إليه بألا يتعجل إتمام المأمورية التي كُلف بها؛ بل أفهمه أنه عندما يستقر به المقام في بلاد اليونان في طريقه ويقابل هناك الأهل والأصدقاء عليه أن يبقى هناك.
والواقع أن «أجاتوكليس» كان يقصد من إبعاد هؤلاء الشخصيات هو لأجل أن يتخلص من جميع أولئك الرجال البارزين الذين كان يخشى معارضتهم؛ وذلك لأنهم كانوا يعرفون مخازيه. وقد كان آخر من أبعده عنه «سكوباس» الأتولي، فقد أرسله إلى بلاد الإغريق بحجة تجنيد جنود مرتزقين، وفعلًا زوده بكمية كبيرة من الذهب لدفع أجور المجندين مقدمًا، وكان «أجاتوكليس» قد اتخذ هذا القرار لسببين: أولهما: أنه كان قد عزم على أن يستخدم هؤلاء الجنود الجدد لمحاربة «أنتيوكوس» ملك السليوكيين، والسبب الآخر: هو أنه أراد أن يرسل الجنود المرتزقين القدامى المرابطين في الإسكندرية — وكان يخشى بأسهم — إلى المعاقل التي في داخل البلاد المصرية أو إلى المستعمرات. أما الجنود المرتزقون الجدد؛ فكان يرمي إلى استخدامهم في حاميات المدينة ليكونوا حرسًا للقصر الملكي وللملك نفسه، وكان يخيل إليه أن رجالًا مثل هؤلاء المرتزقين الجدد لا بد أن يكونوا طوع بنانه؛ لأنهم سيتقاضون أجورهم منه مباشرة، وفي الوقت نفسه لم يكونوا على علم بالأحداث التي سبقت مجيئهم، وعلى ذلك لن يتدخلوا في شيء، وظن أنهم سيضعون كل آمالهم فيه، وبذلك يكونون له أعوانًا مطيعين، وعلى استعداد لحمايته إذا قام الأهلون بثورة عليه، وبهذا يعيدون له النظام وينفذون كل ما يأمرهم به.
والواقع أن «أجاتوكليس» كانت لديه أسباب وجيهة تدعوه للشك واتخاذ الحيطة من أولئك الذين كانوا حوله سواء أكانوا من عظماء القوم أم من صغارهم، وبعبارة أخرى: كان يعيش في جو ملؤه الخوف والرعب، ومن أجل ذلك بث عيونه في كل مكان، ولا ريب في أن رجال شرطته كانوا كلهم بصرًا وسمعًا لكشف ما قد يُحاك من مؤامرات حوله، فمن ذلك أن فردًا يُدعى «دينون» Dinon1 وهو من الذين اشتركوا في جريمة قتل الملكة «أرسنوي الثالثة»، نراه بدلًا من أن يظهر إخلاصه لسيده «أجاتوكليس» قد أخذ يدلي لكل من هب ودب بأسرار مفزعة عن تلك الجريمة أقضت مضجع «أجاتوكليس»، ومن أجل ذلك أمر بإعدامه في الحال، وكان هذا العمل بلا نزاع أعدل حكم بين مظالمه. غير أن «أجاتوكليس» — لسوء حظه — لم يَكْتَفِ بالقضاء على شركائه في الجرائم التي ارتكبها بل تخطى ذلك، وكانت عادته في مقاومة الرأي العام قد جعلته ينسى ما كان يجب أن يكون عليه من حزم وحذر، وكان كل ما يُشاع عنه وقتئذ ينحصر في ألوان تهتكه وخلاعته ومغامراته مع النسوة المتزوجات والمخطوبات والعذارى، فقد دنس الكثيرات منهن بهتك أعراضهن، هذا فضلًا عن شهرته بالكبرياء والصلف، مما أدى به إلى الإفراط والتفاني في الموبقات، ومع ذلك نجد أن القوم لم يجدوا بدًّا من كم أفواههم والصبر على تحمل مظالمه وشروره، إلى أن يقيض الله لهم الرجل الذي يكون عنده من الشجاعة والإقدام؛ ليتكلم فيعبر عن شعور القوم.2 والواقع أن الشعب كان على استعداد للترحيب بأي شخصية تخلصه من هذا الطاغية، وكان ظهور مثل هذه الشخصية متوقعًا، ولم يمض طويل زمن حتى ظهر الرجل المرتقب وهو «تليبوليموس» Telepolimus، وقد كان قبل الآن في زوايا الإهمال مبعدًا أيام حياة الملك «فيلوباتور»، وكان عليه أن يقوم بقيادة فرقة الجنود في إحدى جهات القطر، ثم غضب عليه، ومن ثم عاد إلى الحياة الحرة، غير أن حياة الجندية كانت في دمه كما كان فضلًا عن ذلك مغرمًا بالمناورات — كما يقول المؤرخ «بوليبيوس». وعلى أثر موت «فيلوباتور» ظهر أن الغضب عليه كان سبب في جعله محبوبًا بين أفراد الشعب، يُضاف إلى ذلك أن مصر وقتئذ كانت مهددة بالغزو من قبل ملك سوريا «أنتيوكوس الثالث».
ومن أجل ذلك أصبح «تليبوليموس» الرجل الذي تحتاج إليه البلاد لحمايتها من هذه الناحية، ولذلك لم ير «أجاتوكليس» بدًّا من إرساله إلى «بلوز» الواقع على الحدود — الفرما — للإشراف على تخوم مصر هناك، وهي المكان الذي كان ينتظر منه الهجوم على مصر، وقد كان «أجاتوكليس» يأمل من وراء ذلك أن ينهمك هذا القائد في شئون «سوريا»؛ وبذلك يبتعد عن مجريات الأمور في الإسكندرية، وألا يكون له ضلع فيها، غير أن خطر قرب «تليبوليموس» من بلاط الإسكندرية وإبعاده عنه — كما ظن «أجاتوكليس» — كان ضربًا من الأوهام؛ إذ برهنت الحوادث التي تلت على أن إعطاءه القيادة في «بلوز» كان ينطوي على نفس الخطر الذي كان ينجم لو كان في الإسكندرية؛ وذلك أنه على بعده قد قام بمعارضة «أجاتوكليس»، وعمل على استمالة الجنود الذين تحت إمرته إلى جانبه بإقامة الولائم لهم، ودعوتهم لمشاركته في مائدته دون أي تحفظ، لدرجة أنه كان يشرب في حضرتهم نخب مزين الولائم والعازف على العود والحلاقة، كما شرب في صحة الغلام الحظي الذي كان وهو لا يزال فتيًّا يصب الخمر للملك، هذا وكان بعد انتهاء حفلات معاقرة بنت الحان يباح كل شيء من أنواع الموبقات والمتع الجسدية، وعندما علم «أجاتوكليس» بما كان يدبره له هذا القائد حاول أن يسبقه فينصب حبائله التي يفسد بها عليه مؤامرته، وكان أول مكيدة دبرها له أن نشر شائعة مفادها أن «تليبوليموس» على وشك أن يخون بلاده ومليكه، وأنه سيسلم حكومة مصر إلى يد «أنتيوكوس». غير أن هذه المكيدة لم تلق قبولًا حسنًا عند الشعب المصري الذي كان يعلم أن «أجاتوكليس» كان يخاف منافسة هذا القائد له، ومن أجل ذلك افترى عليه هذه الفرية، فزادت في حب الشعب له، هذا وكان «أجاتوكليس» في تلك الفترة في وجل، وقد أراد أن يتأكد على الأقل من ولاء جنود حامية الإسكندرية في حالة قيام الشعب بثورة عليه، ومن أجل ذلك أخذ يناشد وطنية الجنود المقدونيين وإخلاصهم للملك الطفل الذي اضطرته خطورة الموقف أن يعرضه بين يديه أمامهم وهو يبكي مستدرًّا بذلك عطفهم، غير أن هذا المشهد الذي أراد به «أجاتوكليس» هو وأخته «أجاتوكليا» — مربية الملك المزعومة — استدرار عطف الجنود والشعب معًا؛ قد أخطأ المرمى، وكان من جراء ذلك أن استهزأ بهما الشعب، وصرخ في وجهيهما صرخة غضب وسخط. يضاف إلى ذلك أن «أجاتوكليس» قد قوبل بنفس السخرية من فرق الجنود الآخرين عندما كان يريد أن يستميل كل فرقة على حدة، وكانت الطامة الكبرى أن بعض جنود حاميات المديريات الكبيرة وهم الذين كان قد وضعهم فيها بعد أن أجلاهم عن الإسكندرية؛ قد عادوا بكثرة إلى الإسكندرية، وحرضوا أصدقاءهم وأقاربهم على «أجاتوكليس» وبطانته؛ بسبب ما أصاب مصر من بؤس وتعاسة؛ ومن ثم عقدوا العزم على ألا يتركوا البلاد تُهان على أيدي طغمة من الناس بلغت بهم الحقارة والدناءة إلى هذا الحد المخزي المشين. ولما رأى القائد «تليبوليموس» أن الأمور قد تطورت إلى هذا الحد كان هو من جانبه قد اتخذ للموقف عدته؛ فجوع أهالي الإسكندرية بمنع المئونة عنها، وذلك ليسرع في تعجيل قيام الثورة التي كانت على وشك الانفجار.
ومن سخرية القدر أن «أجاتوكليس» نفسه قد عمل على تقريب اندلاع نار هذه الثورة؛ وذلك بما ارتكبه من أعمال العنف والظلم؛ فمن ذلك أنه كان يرغب في أن تكون في يديه رهائن من بين أعدائه، فأمر بالقبض على «دانايس» Danaes حماه «تليبوليموس»؛ ثم حرر قائمة بأشخاص آخرين ليقبض عليهم. يضاف إلى ذلك أنه قد شك في أن القائد «موراجين» Moeragene كان على اتصال في الخفاء مع «تليبوليموس» وأنه يتآمر كذلك مع قريبه «أداوس» Adaeos حاكم مدينة «بوبسطه»، ومن ثم أمر بالقبض عليه على أن يُعذَّب حتى تُنتزَع منه الاعترافات التي تدل على الجريمة المنشودة.
وقد كان هذا الحادث الأخير الشرارة الأولى التي أشعلت نار الثورة في البلاد، وقد أفلت «موراجين» في اللحظة الأخيرة التي كان سيُقَدَّم فيها إلى آلة التعذيب، وذلك أنه انتهز فرصة الارتباك والفوضى التي كانت سائدة في القصر وولى هاربًا عاري الجسم كما وضعته أمه، وملتجئًا إلى الجنود المقدونيين الذين كان سرادقهم مُقامًا على مسافة قريبة من القصر الملكي.
والواقع أن هؤلاء الجنود لم يكتفوا بإجارته؛ بل أهاج مشاعرهم هذا العمل الوحشي، ونادوا بحمل السلاح لمحاربة «أجاتوكليس» الفاسق اللعين. ولم تَمْضِ إلا برهة قصيرة حتى كان كل الأجناد في ثورة عارمة، وقد حذا سكان مدينة الإسكندرية حذوهم حتى انتشرت الثورة في كل أنحائها.
هذا، ويصف لنا المؤرخ «بوليبيوس» الذي نتتبع خطاه في كتابة تاريخ هذه الفترة من تاريخ أرض الكنانة — لأنه يُعَدُّ مصدرنا الرئيسي تقريبًا — بشيء من المتعة — الفظائع الخارجة عن حد المألوف التي ارتكبها الإسكندريون ورجال الجيش في اليوم التالي لقيام الثورة. ومن المدهش أن «أجاتوكليس» كان قد صادر أثناء الليل منشورًا وجهه «تليبوليموس» لجنوده، وبعد ذلك عكف على إغراق مخاوفه وهمومه في شرب الخمر واللهو غير حاسب حساب ما يجري من أحداث في أنحاء المدينة التي كانت تعجُّ بالثائرين، وفي أثناء ذلك كانت أمه «أونانتا» قد ملأ قلبها الخوف والفزع، ومن ثم أسرعت إلى «تسموقورنيون»، معبد الإلهة «ديمتر»؛ حيث كان يُحْتَفَلُ بالتضحية السنوية، ونجدها قد خاطبت هناك الآلهة متضرعة واليأس يغمرها، وبعد ذلك جلست عند قاعدة المذبح. وفي خلال ذلك تأمل نسوة البلاط هذا الحزن الذي كان يغمرها في سكون وبدون إظهار أي ألم، غير أن بعضهن ممن كن لا يعرفن ما قدره لها الغيب اقتربن منها يعزينها ويواسينها.
وهؤلاء النسوة كن قريبات «بوليكراتيس» الذي كان آنذاك حاكم قبرص، غير أن «أونانتا» التفتت إليهن في غضب وحنق وصاحت قائلة: المارقات! إني أعرف سر صلواتكن الخفية الخبيثة، ولكن أقسم بحياة الآلهة ستأكلونن لحم أبنائكن. ثم أمرت الخدم بضربهن بالسياط، وعندئذ ولت النسوة الأدبار رافعات أيديهن للآلهة قاذفات من أفواههن اللعنات على «أونانتا».
وعلى أية حال نجد «أجاتوكليس» في نهاية الأمر يخرج من غفوته وتقاعسه ويتنبه للخطر الذي كان محدقًا به، فنراه ومعه كل أقاربه أي كبار موظفي البلاد عدا «فيلامون» يذهبون توًّا إلى جوار الملك، ويقودونه إلى قاعة عمد كانت توصل بين القصر الملكي والمسرح، وكان «أجاتوكليس» وقتئذ مزمعًا الفرار من هذا المنفذ، وإلا فإنه كان عليه أن يقيم المتاريس خلف ثلاثة الأبواب الضخمة القائمة في محور البهو، وقد اتضح له أن الهرب كان أمرًا غير ممكن؛ وذلك لأن القصر كان كجزيرة تتلاطم على جوانبها الأمواج الهائجة من الثائرين، فقد كان يحتوي على جمهور من الناس الذين احتشدوا فيه حتى درج السلم؛ بل وحتى أسقف المنازل في الأماكن المجاورة، وكل أولئك كانوا يطلبون رؤية الملك. غير أنه حتى طلوع الفجر لم يظهر الملك الذي كان يطالب به الشعب. وعلى أثر ذلك اجتاح الجنود المقدونيون قاعة المجلس الكبرى، وعندما عرفوا المكان الذي فيه مليك البلاد هشموا أبواب الدهليز الأول، وعندما وصلوا إلى البوابة الثانية طلبوا رؤية الملك بأصوات مرتفعة. وقد طلب «أجاتوكليس» عندما رأى نفسه في خطر مداهم من الجنود الذين كانوا قد حوصروا معه أن يذهبوا إلى الجنود المقدونيين ويخبروهم على لسانه بأنه مستعد لأن ينزل عن وصايته على الملك وعن كل سلطته وجميع ألقابه وما ملكت يداه مقابل منحه الحياة وما يقيم به أوده، وأنه عندما يعود إلى زمرة الشعب فلن يكون في مقدوره — حتى لو أراد — إلحاق أي أذى بأي إنسان.
في هول هذا الموقف أراد أحد الأجناد — بعد شيء من التردد — أن يلعب دور الحكم، وهو «أريستومنيس» Arestomenes الأكاراني، غير أنه لسوء حظه عندما أراد أن يقوم بدوره هذا لم ينج من أيدي الشعب الثائر إلا بأعجوبة؛ إذ قد أمره الثوار بالانصراف وألا يعود ثانية إلا والملك معه، أما الجنود المقدونيون فإنهم بعد أن صرفوا هذا الوسيط هاجموا الباب الثاني واقتحموه، وعندما رأى «أجاتوكليس» اشتداد حنق المقدونيين عليه ذهب لينظر إليهم من خلف القضبان وهو يتضرع إليهم بكلتا يديه.
وفي تلك الأثناء أخذت أخته «أجاتوكليا» تتوسل إليهم بكل الطرق التي تستدر العطف حتى إنها كشفت عن ثدييها اللتين أرضعت منهما الملك، وكل ما كانت ترجوه من هذه التضرعات والتوسلات هو النجاة بحياتها، وفي نهاية الأمر لما لم يجد «أجاتوكليس» وأخته فائدة من توسلاتهما وانتحاباتهما، وأن ذلك لم يغير شيئًا في موقفهما قررا إرسال الملك مع الجنود للشعب، وفي الحال استولى الجنود المقدونيون على الملك، ووضعوه على صهوة جواد، وقادوه إلى الاستاد — الملعب العام. وعندما شاهده الشعب الثائر انطلقت صيحاته إلى عنان السماء، وقوبل بالتصفيق من كل مكان. وبعد ذلك أُنزل الملك الطفل من على صهوة الجواد، وأُجلس على عرش الملك. والواقع أن مجموع الثوار قد ارتسمت على وجوههم سيما الفرح والحزن في آن واحد؛ فقد فرحوا لأنهم استردوا مليكهم من أيدي طغمة فاسدة، وحزنوا لأنه لم يُقبض بعد على أولئك المجرمين الذين عاثوا في الأرض فسادًا لكي يُوقع عليهم ما يستحقون من عذاب؛ ومن ثم كانت تتعالى صيحات مستمرة من بين مجموع الثوار مطالبة بوجوب سوق كل أولئك المجرمين الذين ارتكبوا هذه الفظائع والآثام، وعرضهم على مرأى من الشعب، وقد كاد اليوم أن ينتهي ولم يكن لدى الشعب هدف إلا الحصول على المجرمين؛ ليصبوا عليهم جام غضبهم وسخطهم.
وفي تلك اللحظة الرهيبة ظهر «سوسيبيوس» الصغير ابن الوزير «سوسيبيوس» وكان وقتئذ قائد الجيش، وحسمًا للموقف وتهدئة للخواطر اتخذ قرارًا في صالح الكل؛ وذلك أن هذا القائد لما رأى أن لا وسيلة لتهدئة غليان نفوس الشعب — هذا بالإضافة إلى أن الملك الصبي كان مرتبكًا لما كان يحدث حوله من رجال حاشيته، ولم يكن قد تعود رؤيتهم من قبل، كما أنه لم يشهد من قبل صخب الجمهور وهياجه — سأل الملك إذا كان يقبل تسليم أولئك الذين نغصوا حياته وقتلوا والدته لتهدئة السخط العام، ولما أومأ الملك بالرضى قال «سوسيبيوس» لبعض الجنود الذين كانوا حوله بأن يلعنوا الإرادة الملكية، وعلى إثر ذلك صاحب «سوسيبيوس» الملك الطفل إلى بيته هو وكان قريبا جدًّا من القصر الملكي؛ وذلك ليعيد له طمأنينته وقواه.
هذا، ولم يكد أمر الملك يُعلن حتى دوت صيحات الفرح وتعالت الهتافات، وفي خلال تلك الفترة كان «أجاتوكليس» وأخته «أجاتوكليا» منزويين في عقر دارهما، ولكن لم تكد تُعلن الإرادة الملكية حتى أخذ الجنود يبحثون عنهما من تلقاء أنفسهم أو بتحريض من الشعب الثائر، ولم يمض طويل زمن حتى وقعت حادثة محزنة كانت البداية لمذبحةٍ مريعة أودت بحياة «أجاتوكليس» ومن كان في ركابه من الذين عاثوا في الأرض فسادًا؛ وذلك أن أحد أتباع «أجاتوكليس» الموالين له ويدعى «فيلون» Philon ظهر في الاستاد — الملعب العام — وهو مخمور، وعندما رأى الشعب في حالة هياج صاح قائلًا: إذا سحب «أجاتوكليس» نفسه من هذا الموقف فإن القوم سيندمون كما حدث ذلك من قبل، ولم يكد «فيلون» ينتهي من جملته هذه حتى أخذ بعض المتجمهرين يسبونه، كما أخذ بعضهم الآخر يطوحون به في عنف، ولكنه عندما أبدى مقاومته للشعب الثائر؛ فإنهم مزقوا عباءته ثم طعنوه بحربة. هذا ولم يكد أفراد الشعب يشاهدونه يُجَرُّ مضرجًا في دمائه في هذا المكان وسط عاصفة من السخط حتى استولت عليهم شهوة حب سفك الدماء، وكانوا ينتظرون تلك اللحظة بفارغ الصبر ليصبوا جام غضبهم على تلك الضحايا التي كانوا ينتظرون وصولها. ولم تمض برهة حتى وصل «أجاتوكليس» زعيم أولئك الأوغاد مُصفَّدًا في السلاسل والأغلال، ولم يكد يمثل أمام الشعب حتى انقض عليه بعض الثوار، وطعنوه بحرابهم في الحال، والواقع أن قتلته قد قدموا له خدمة عظيمة؛ وذلك أنه بدلًا من أن يلقى النهاية التي كان يجب أن يلقاها أمثاله من تعذيب وتنكيل فإنه مات بطعنة حربة وحسب، ثم جيء من بعده بالقائد «نيكون» وهو أحد أقارب «أجاتوكليس» ثم سيقت بعده «أجاتوكليا» عارية الجسم ومعها أخواتها وكل أفراد أسرتها، وقُضي عليهم جميعًا، وأخيرًا جاء دور الفاجرة «أونانتا» أم «أجاتوكليس» فسيقت عارية على صهوة جواد إلى مصيرها المحتوم. وهكذا رأينا كل هؤلاء التعساء الأوغاد قد قُدموا إلى الشعب لينتقم منهم. والواقع أن فريقًا من الثوار كانوا ينهشونهم بأنيابهم، وفريقًا آخر يطعنونهم برؤوس الأسنة، وآخرون منهم كانت تقتلع أعينهم من محاجرها. وعندما كانت تخر منهم ضحية صريعة كانوا يقطعونها إربًا إربًا. وهكذا مُزِّقَ كل هؤلاء المجرمين بهذه الصورة البشعة، ولا غرابة في ذلك؛ فإن قسوة المصريين عند إثارة حفيظتهم وغضبهم كانت فظيعة إلى درجة الوحشية، وخلال تلك المذبحة الدامية قامت طائفة النسوة اللائي كن الصديقات المخلصات للملكة «أرسنوي الثالثة» وقصدن بيت «فيلامون» الذي كان له ضلع كبير في تدبير مؤامرة قتل الملكة، وكان وقتئذ قد أعلن وصوله من «سيريني» إلى الإسكندرية منذ ثلاثة أيام، ومن ثم أسرعن إلى بيته وهجمن عليه وقتلنه رجمًا بالحجارة وضربًا بالعصي، ثم قضين على ابنه الذي كان لا يزال طفلًا غيظًا وحنقًا عليه، وأخيرًا جرت امرأة «فيلامون» عارية الجسد إلى قارعة الطريق حيث ذُبحت. وهكذا كانت نهاية «أجاتوكليس» وأخته «أجاتوكليا» وأمهما «أونانتا»، وكل الأسرة، ومن كان في ركابها من المجرمين «عام 202 ق.م».3
ومما سبق نشاهد أن غضب الشعب قد طوَّح دفعة واحدة بكل أولئك الأفراد دون أن ينتظر الوصول إلى معرفة من كانت تقع عليه المسئولية من بين أولئك الأوغاد الذين كانوا ملتفين حول العرش في عهد الملك السابق.
على أننا من جهة أخرى نرى أن «تليبوليموس» الذي مجد الملكية قد أُسندت إليه الوصاية على الملك، أو بعبارة أخرى: أصبح المربي للملك الصبي «بطليموس الخامس»، وهو الذي خف بجيشه الذي كان يرابط به على الحدود في «بلوز» إلى الإسكندرية، وقد أتى ليحل محل «أجاتوكليس» بطبيعة الحال؛ لأنه كان وراء كل التدابير التي أُحكمت للقضاء على «أجاتوكليس» وأسرته.
ويحدثنا «بوليبيوس» — مؤرخ هذه الفترة ومعاصرها — أن الوصي الجديد على العرش كان لا يزال في ميعة الشباب صاحب شمم وإباء وشجاعة وإقدام، كما كان مشهودًا له بحسن القيادة، وعلى أية حال فإن منصبه الجديد كان مدعاة إلى أن ينسب إليه الملتفون حوله كل ضروب الفطنة والذكاء وينفوا في الوقت نفسه عنه كل نقيصة أو رذيلة. والواقع أن هؤلاء الذين مجدوه من إخوانه لم يفقهوا إلا فيما بعد بأنه رجل غر مخدوع بنفسه وقح منكب على الألعاب والتمتع بأجساد الغواني، ومما زاد الطين بلة أنه قد برهن على أنه إداري فاشل قصير النظر في تصريف شئون الدولة؛ فقد برهنت الحوادث على أنه كان متعودًا على إفلاس خزانة الدولة؛ وذلك بأن يأخذ منها ملء يديه ليرضي أصدقاءه ومالقيه وقواده، والظاهر أن «تليبوليموس» لم يُعْطِ نفسه كل سلطة الوصي في بادئ أمره؛ فمن ذلك أنه وَكَّلَ أمر حراسة الحاشية الملكية وما يتبعها وكذلك حراسة الملك نفسه إلى «سوسيبيوس» الصغير الذي قام بعمله بكل حزم وكرامة، غير أنه بعد فترة قصيرة أخذت العلاقات تسوء بين الوصي وبين رجال البلاط الذين لم يرغبوا في الانخراط في سلك الرجال الذين كانوا يملقون «تليبوليموس» ويكيلون له الثناء جزافًا؛ ومن ثم نرى أنه في حين كان الوصي يضيع وقته في لعب الكرة والمبارزة، وإقامة الولائم مع أصدقائه، والانهماك في ميدان اللهو والخلاعة؛ نجد أن الساخطين عليه ينهالون عليه بالنقد والتقريع، ثم أخذوا في الواقع يوازنون بين خلاعته وإسرافه وبين استقامة «سوسيبيوس» ومحافظته على كرامته وحسن سمعته.
وفي خلال تلك الفترة كان «بطليموس» أخو «سوسيبيوس» قد عاد من مقدونيا حيث كان قد أرسله «أجاتوكليس» في رسالة خاصة — كما ذكرنا آنفا — وقد حاول «بطليموس» هذا إثر عودته إحداث انقلاب صغير خاص بالوصي الذي كان يقظًا، هذا مع العلم أن «بطليموس» لم يكن قد حصل على شيء ما من «فيليب الخامس» ملك مقدونيا لمساعدة مصر على عدوهما «أنتيوكوس الثالث»؛ بل نجد أنه في مدة إقامته في «بلا» عاصمة مقدونيا قد اختلط بشباب البلاط هناك، وظهر بمظهر الفخفخة والأناقة، هذا فضلًا عن أنه كان معجبًا بنفسه قبل سفره، والواقع أنه كان قد تسلط عليه الغرور بسبب المكانة التي كان قد وصل إليها بوساطة والده الوزير «سوسيبيوس» الكبير، وقد خُيل إليه أنه قد بلغ مبلغ الرجال منذ أن قام برحلته هذه إلى مقدونيا واتصل بالمقدونيين الحقيقيين، ومن ثم رأى — بعد أن عاش بينهم — أن مقدونيِّي الإسكندرية كانوا لا يزالون عبيدًا مخبولين. والواقع أن «تليبوليموس» عندما رأى ما عليه «بطليموس» من غرور وكبرياء، ذلك بالإضافة إلى المؤامرات الدنيئة التي كان يدبرها «سوسيبيوس» مع مناهضه لإقصائه عن وصاية الملك؛ أخذ في إظهار احتقاره له، غير أنه في نهاية الأمر عندما علم أن «سوسيبيوس» تآمر عليه في اجتماع سري، وأن أعداءه قد اجترءوا في غيبته على اتهامه علنًا بأنه قد أساء إدارة البلاد؛ فإن هذا المسلك حز في نفسه، ومن ثم جمع مجلس الدولة، وأعلن في خطبة ألقاها أنه إذا كان خصومه سيغتابونه ويذمونه فيما بينهم فإنه لا بد عازم على اتهامهم علنًا في مواجهتهم. وبعد خطبته الرنانة هذه أمام المجلس استرد الوصي خاتم المالية من «سوسيبيوس» وحفظه عنده، ومنذ تلك اللحظة كانت كل شئون الدولة في يديه.
هذا، ولما أصبح «تليبوليموس» دكتاتورًا على البلاد على الرغم من أنه لم يَمْضِ على ذلك طويل زمن رأى تدهور شعبيته ونهايته في أعين الذين كانوا يناصرونه ويؤازرونه ويفخر بهم.
ومما يُؤْسَفُ له جد الأسف أن هذا القائد الشجاع لم يبحث أبدًا عن الفرصة التي يمكنه بها استعراض شجاعته في ميدان القتال؛ بل تقبل بسهولة بالغة نصيبه من المصائب التي حلت بالسياسة المصرية في داخل البلاد وخارجها.
والواقع أن الحوادث كانت تجري سراعًا خارج مصر مما أدى إلى ضياع ممتلكاتها التي كانت مفخرة ملوك البطالمة، ولقد كان من السهل عليه أن يتنبأ بها، ومع ذلك فإنها قد باغتته وهو في غفلة من أمره.
............................................
- راجع: Polyb., XV, 8–11.
- راجع: Polyb., XV, 25 a, 12–18.
- راجع: Polyb., XV, 31–83.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة