بيعة العقبة الثانية
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص230-234
2025-10-29
48
لقد جاء في كتب السيرة والتاريخ ان مصعب بن عمير خرج في موسم الحج ومعه جماعة من المشركين والمسلمين لأداء مناسك الحج والاجتماع بالنبي ( ص ) ليعرضوا عليه اسلامهم ويتذاكروا في امر الدعوة ، وكان معهم البراء بن معرور وقد أسلم وارتأى ان يخالف المسلمين في صلاته ، فكانوا يتوجهون إلى بيت المقدس ويتوجه هو إلى جهة الكعبة ، واستمر على ذلك إلى أن اجتمع بالرسول ( ص ) واخبره بما كان يصنع فأمره رسول اللّه ان يتوجه في صلاته حيث يتوجه المسلمون ، واجتمع الوفد بالرسول ( ص ) سرا وتواعدوا ان يجتمعوا بالعقبة في أواسط أيام التشريق ليلا بعد ان ينام الناس حتى لا يعرف بهم أحد فيفسد عليهم امرهم .
وجاء في رواية ابن إسحاق ان كعب بن مالك قال : خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول اللّه ( ص ) بالعقبة من أواسط أيام التشريق ، فلما فرغنا من حجنا وجاءت الليلة التي واعدنا رسول اللّه فيها ومعنا عبد اللّه بن عمر بن حزام وكان من ساداتنا واشرافنا اخذناه معنا ونحن نتكتم عمن معنا من المشركين فتكلمنا معه في الإسلام ودعوناه إليه وأخبرناه باجتماعنا بالرسول فاسلم وحضر معنا بيعة العقبة ونمنا تلك الليلة حتى إذا مضى من الليل الثلث خرجنا من رحالنا نتسلل تسلل القطا حتى لا يحس بنا أحد ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان لا غيرهما نسيبة بنت كعب أمّ عمارة احدى نساء بني مازن من بني النجار ، وأسماء بنت عمرو بن عدي احدى نساء بني سلمه ، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول اللّه ( ص ) حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو على دين قريش ، ولكنه لم يكن يوافقهم على الوقيعة برسول اللّه والغدر به ، وقد أحب ان يرى موقفنا من النبي ويتوثق منه ، فلما جلس النبي ( ص ) وجلسنا حوله كان العباس أول المتكلمين .
فقال يا معشر الخزرج : إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا وانه أبى الا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده .
ثم تكلم رسول اللّه فتلا شيئا من القرآن ودعا إلى اللّه ورغب في الاسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع ازرنا فبايعنا يا رسول اللّه فنحن أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر .
وتكلم بعده أبو الهيثم بن التيهان ، فقال يا رسول اللّه ، ان بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها يعني بذلك اليهود ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم اظهرك اللّه ان ترجع إلى قومك وتدعنا ، فتبسم رسول اللّه ، ثم قال : الدم الدم والهدم الهدم[1]، انا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم .
ثم امرهم رسول اللّه ان يختاروا منهم اثني عشر نقيبا ليمثلوا قومهم ويكونوا هم المسؤولين عنهم تجاه رسول اللّه ، فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
ولما اجتمعوا للبيعة بعد اختيار النقباء قال لهم العباس بن عباد بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون على م تبايعون هذا الرجل ، قالوا نعم ، قال إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون انكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة ، واشرافكم قتل اسلمتموه فمن الآن فهو واللّه خزي الدنيا والآخرة ان فعلتم ، وان كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الاشراف ، فخذوه فهو واللّه خير الدنيا والآخرة .
قالوا فانا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول اللّه ان نحن وفينا بذلك ، قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسط يده وبايعوه على ذلك وكان أول من ضرب على يد رسول اللّه سعد بن زرارة ، وقيل الهيثم بن التيهان ، وتتابع القوم يتسابقون إلى بيعته بقلوب يغمرها الفرح والثقة ، وتمت البيعة وانصرف القوم إلى رحالهم ومن معهم من المشركين لا يعلمون شيئا من امرهم .
وتطاير الخبر إلى مشركي مكة بما جرى للنبي مع الأوس والخزرج فاجتمع وجوه القرشيين واقبلوا إلى الأنصار حيث ينزلون ، فقالوا يا معشر الخزرج لقد بلغنا انكم جئتم إلى صاحبنا محمد لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا ، وانه واللّه ما من حي من العرب ابغض إلينا ان تنشب الحرب بيننا وبينكم ، فأسرع جماعة من مشركي الأوس والخزرج ممن لم يكونوا قد علموا بشيء مما جرى وحلفوا لهم باللّه إنه لم يكن مما يقولون شيء فصدقوا وانصرفوا .
ولما انتهى موسم الحج ورجع الأنصار أيقنت قريش بالأمر فخرج جماعة في طلبهم فأدركوا سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو من بني ساعدة بن كعب وهما من النقباء الاثني عشر ، ولكن المنذر استطاع ان يفلت من القوم واعجزهم امره ، واخذوا سعد بن عبادة فربطوا يديه إلى عنقه وأدخلوه مكة مكتوفا وهم ينهالون عليه بالضرب والشتم .
وحدث سعد فقال : واللّه اني في يد القوم إذ طلع علي نفر من قريش فيهم رجل وضيء ابيض ، فقلت في نفسي ان يكن عند أحد من القوم خير فعسى ان يكون عند هذا ، فلما دنا مني لكمني لكمة شديدة بيده ومضى فيئست من خيرهم ، فو اللّه اني لفي أيديهم يسحبونني آوى إلي رجل منهم ، وقال ويحك : اما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد ، فقلت بلى واللّه لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل تجارته وامنع من أراد ظلمهم ببلادي ، وللحارث بن حرب بن أميّة بن عبد شمس ، قال : ويحك ، فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما من جوار ، فقلت ما أشار به علي وهتفت باسم الرجلين .
وخرج الرجل مسرعا إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة ، فقال لهما : ان رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح ويهتف باسمكما ويدعي ان بينه وبينكما جوارا ، قالا ومن هو : قال سعد بن عبادة قالا صدق واللّه ، انه كان يجير لنا تجارتنا ويمنع أحدا ان يظلم التجار ببلده ، فأقبلا مسرعين وخلصاه من أيدي القرشيين وانطلق إلى المدينة .
ولما رجع الوفد إلى المدينة اظهروا الاسلام ودعوا إليه فأجابهم الكثير من الناس ، وكان عمرو بن الجموح ومعه شيوخ من الأوس والخزرج قد اصروا على شركهم ، وقد اسلم معاذ بن عمرو وبايع رسول اللّه في العقبة ولم يسلم أبوه واتخذ لنفسه صنما في داره من خشب وسماه ( مناة ) كما كان الأشراف يصنعون .
وكان ولده يأتي كل يوم هو وفتيان من الأنصار إلى الصنم فيطرحونه في مكان الجيف والأوساخ ، فإذا أصبح عمر ويقول ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة ، ثم يأخذه ويغسله ويضع عليه الطيب ويرده إلى مكانه في المحل الذي له من داره فإذا كانت الليلة الثانية عاد ولده مع الفتيان وصنعوا به مثل ما كانوا يصنعون ، وتكرر منهم هذا العمل ، وأخيرا جاء عمرو بن الجموح ووضع السيف في عنق الصنم ، وقال له : إذا كان فيك خير فامنع نفسك الليلة فهذا السيف في عنقك ، فلما امسى ونام جاءوا واخذوا منه السيف وربطوا به كلبا ميتا والقوهما في بئر للجيف والأوساخ .
وأصبح عمرو بن الجموح فلم يجد شيئا ومضى يفتش عنه فوجده في البئر منكسرا مقرونا بكلب ميت ، فلما رآه رجع إلى رشده وآمن بمحمد وآله محمد وانشد يخاطب الصنم .
واللّه لو كنت إلها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن
[1] قال ابن قتيبة كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار دمي دمك وهدمي هدمك اي كل ما يجري عليكم يجري علي وذمتنا واحدة ودمنا واحد .
الاكثر قراءة في حاله بعد البعثة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة