لقد أيقنت قريش بعد المراحل التي مرت بها مع الدعوة الاسلامية ان جميع ما قامت به من صنوف الأذى والتعذيب ومن جهود لمحاربة هذا الخارج عليها وعلى دينها ودين الآباء والأجداد لم يحل ولن يحول بين الناس وبين الذي يدعو إليه محمد بن عبد اللّه ، فالمسلمون يزدادون يوما بعد يوم ، وأصبحوا قوة لا يمكن مكافحتها الا بحرب أهلية قد يكون خطرها على قريش واتباعها أشد من خطرها على المسلمين ، فما من بيت الا وفيه من امن بها أو هو على وشك الايمان بها ، وقد امتد خطرها إلى خارج الحجاز إلى الحبشة في جوار ملك رحيم فتح لهم قلبه وصدره وأتاح لهم ان يقولوا ما يشاؤون ويفعلوا ما يريدون والعرب على اتصال دائم ببلاد الأحباش ، فما ذا يصنعون بعد ان أحاط بهم خطر محمد وأصحابه ، وبعد ان باءت جميع محاولاتهم للحد منها بالفشل .
وبعد تفكير طويل من زعمائهم اتفقوا على تجربة جديدة وهي الحصار الاقتصادي وستكون نتيجتها حسب تقديرهم أحد أمرين لا ثالث لهما ، اما رجوع محمد إليهم مهادنا ، واما القضاء عليه وعلى من معه من الهاشميين والاتباع جوعا وعطشا من غير أن يكونوا مطالبين بدمه ودم أتباعه ، فاتفقوا على ذلك وكتبوا كتابا تعاقدوا فيه ان لا يناكحوا بني هاشم ولا ينكحوا منهم ولا يتعاملوا معهم بشيء بيعا وشراء مهما كان نوعه ، ولا يجتمعوا معهم على امر من الأمور ، ووقع على الصحيفة أربعون رجلا من وجوه قريش وعلقوها في الكعبة وحصروهم في شعب أبي طالب أول المحرم من السنة السابعة لبعثة النبي ( ص ) .
ودخل بنو هاشم الشعب بكاملهم مسلمهم وكافرهم عدا أبي لهب وأبي سفيان الحارث بن عبد المطلب ، وانحاز إليهم بنو المطلب بن عبد مناف ، وكانوا أكثر من أربعين رجلا عدا نسائهم وأطفالهم وحصن أبو طالب الشعب وتولى حراسته في الليل والنهار هو والحمزة وغيرهما من بني هاشم مخافة ان يتسلل أحد من سفهاء مكة إلى محمد ويغتاله على حين غفلة من قومه ، وكانت قريش تظن ظنا قويا ان هذه التجربة السلبية بما تنطوي عليه من تجويع ومقاطعة كاملة ستكون أقوى اثرا من سياستهم الأولى سياسة التعذيب والتنكيل .
وأقامت قريش على حصارها سنتين أو ثلاثا كما يدعي المؤرخون ، كانت ترجو من خلالها ان هذه المقاطعة التي لا تطاق إذا لم تغير من موقف محمد ( ص ) فلا أقل من أنها تنتهي إلى اعتزال قومه إياه .
ولكن محمدا الذي اختاره اللّه لرسالته لم يغير منه هذا الموقف شيئا ، وازداد تصميما على المضي فيها معتصما بحبل اللّه سبحانه صابرا على ما أحاط به وبقومه ولم يزد أهله والذين اتبعوه الا تمسكا به وتصميما على الذود عنه وعن رسالته .
وظل المسلمون في شعب أبي طالب يقاسون الجوع والحرمان لا يخرجون منه الا في أيام الموسم ، موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في شهر ذي الحجة ، ولا يصل إليهم الا ما كان يأتيهم سرا من أناس كانوا مرغمين على مجاراة قريش كهشام بن عمرو أحد بني عامر الذي كان يأتي بالبعير بعد البعير ليلا محملا بأنواع الطعام والتمر إلى فم الشعب ، فإذا انتهى به إلى ذلك المكان نزع عنه خطامه وضربه على جنبيه فيدخل الشعب بما عليه ولكن تلك الصلات البسيطة لم تكن لتكفيهم فأكلوا الأعشاب وورق الأشجار حتى لم يتركوا شيئا من نبات الأرض الا وأكلوه ، ولكن الصبيان لم تصبر وكانت تتصارخ من الجوع ، وذلك أشد ما كان يحز في نفس النبي ويؤلمه .
وجاء في كتب السيرة ان أبا جهل التقى بحكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي مع رسول اللّه ( ص ) في الشعب ، فتعلق به وقال أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ، واللّه لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك في مكة ، فجاءه أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد ، فقال ما لك وله : فقال إنه يحمل الطعام إلى بني هاشم ، فقال له أبو البختري طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه ان يأتيها بطعامها خلّ سبيل الرجل ، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البختري لحي بعير وضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا ، ومضى الغلام بالطعام حتى أوصله لأصحابه .
وجاء في تاريخ ابن كثير ان قريشا لم تترك طعاما في مكة الا واشتروه مخافة ان يشتري منه بنو هاشم أو يشتريه أحد لهم يريدون بذلك ان يموت محمد وأتباعه جوعا .
وأضاف إلى ذلك ابن كثير في تاريخه ان أبا طالب كان إذا اخذ الناس مضاجعهم امر رسول اللّه فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك جميع من في الشعب ، فإذا نام الناس امر أحد بنيه أو اخوته فاضطجعوا على فراش رسول اللّه ، وامر رسول اللّه ان يأتي بعض فرشهم فينام عليها محافظة على سلامته ، وحتى لو قدر لأحد ان يحاول اغتياله يصيب أحد ولده ويسلم النبي ( ص ) .
وجاء في شرح النهج انه قرأ في أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب ان أبا طالب ( ع ) كان إذا رأى رسول اللّه ( ص ) أحيانا يبكي ويقول إذا رأيته ذكرت أخي وكان عبد اللّه أخاه لأمه وأبيه ، وأضاف إلى ذلك أنه كثيرا ما كان يخاف عليه البيات فكان يقيمه ليلا من منامه ويضجع ابنه عليا مكانه ، فقال له علي ( ع ) يا أبت اني مقتول لا محالة فقال له أبو طالب :
اصبرن يا بني فالصبر احجى * كل حي مصيره لشعوب
قد أمرنا بالصبر وهو شديد * لفداء الحبيب وابن الحبيب
ان تصبك المنون فالنبل تبرى * فمصيب منها وغير مصيب
فأجابه علي ( ع ) :
أتأمرني بالصبر في نصر احمد * وو اللّه ما قلت الذي قلت جازعا
ولكنني أحبت ان ترى نصرتي * وتعلم اني لم أزل لك طائعا
سأسعى لوجه اللّه في نصر احمد * نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا[1]
ولما كان على رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي وسواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم ، وأول من سعى في نقض الاتفاق وفك الحصار عن الهاشميين هشام بن عمرو الذي كان يرسل إليهم بالطعام في جوف الليل وهو ابن أخ لنضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه ، ومشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي وأمه عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال يا زهير : لقد رضيت ان تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء واخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم اما واني احلف باللّه لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه ابدا .
فقال ويحك يا هشام فما ذا اصنع انما انا رجل واحد ، واللّه لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها ، فقال انا ذلك الرجل الذي يساعدك على نقضها إذا كنت جادا في هذا الأمر ، فقال له زهير ابغنا رجلا ثالثا ، فذهب هشام إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، فقال له : يا مطعم لقد رضيت في أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ، اما واللّه لئن امكنتموهم من ذلك لتجدنهم إليها منكم سراعا ، قال له ويحك فما ذا اصنع انما أنا رجل واحد ، قال قد وجدت ثانيا انا أساعدك على ذلك ، قال ابغنا ثالثا ، قال قد فعلت : هو زهير بن أبي أميّة ، قال ابغنا رابعا ، فذهب إلى أبي البختري بن هشام ، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي ، فقال وهل أحد يعين على ذلك قال نعم : هو زهير بن أبي أميّة ، والمطعم بن عدي وانا معك ، قال ابغنا خامسا فذهب إلى زمعة بن المطلب بن أسد فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم ، فقال له وهل على هذا الأمر الذي تدعو إليه من أحد قال نعم وسمى له القوم فتواعدوا حطم الحجون ليلا بأعلى مكة فاجتمعوا هناك واجمع امرهم وتعاقدوا على نقض الصحيفة ، وقال لهم زهير بن أبي أميّة : انا اؤيدكم وأكون أول من يتكلم .
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أميّة وعليه حلة فطاف بالبيت سبعا ، ثم اقبل على الناس ، فقال لهم : يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم واللّه لا اقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ، فقال له أبو جهل : وكان في ناحية من نواحي المسجد كذبت واللّه لا تشق فقال له زمعة بن الأسود : أنت واللّه أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت ، وقال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى بما كتب فيها ولا نقر به ، وقال لهم المطعم بن عدي صدقتما وكذب من قال غير ذلك ونبرأ إلى اللّه منها ومما كتب فيها ، وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل تشاوروا فيه بغير هذا المكان .
وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد اكلتها الا اسم اللّه .
وجاء في سيرة ابن هشام ان رسول اللّه ( ص ) قال لأبي طالب : يا عم ان ربي اللّه قد سلط الأرضة على صحيفة قريش ، فلم تدع اسما هو للّه الا أثبتته فيها ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان ، فقال اربك أخبرك بهذا ؟
قال نعم .
فخرج أبو طالب إلى قريش وقال : يا معشر قريش ان ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلم صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها ، وان يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي ، فقال .
القوم بأجمعهم : رضينا وتعاقدوا على ذلك ، ثم جاءوا بالصحيفة ونظروها فإذا هي كما قال رسول اللّه ( ص ) فزادهم ذلك شرا وعنادا فصنع الرهط في نقضها ما صنعوا كما ذكرنا .
وانتهى امر الصحيفة وما جاء فيها بعد موقف هؤلاء الذين أبت نفوسهم الكريمة هذه القطيعة التي كادت ان تقضي على الهاشميين واتباعهم من الجوع والحرمان ، وعاد محمد ومن معه من الشعب بعد تمزيق الصحيفة واستأنف دعوته في مكة ومع القبائل التي تقصدها في اشهر الحج والأشهر الحرم ، وساء قريشا ان محمدا بدأ يجتمع بالوافدين إلى مكة من مختلف انحاء الحجاز ويدعوهم إلى الاسلام بعد ان يقرأ عليهم من القرآن ، وخافوا ان يأخذهم سحر بيانه فيخرجوا من مكة دعاة لدينه فاجتمع جماعة منهم إلى الوليد بن المغيرة يتشاورون ما ذا يقولون للعرب في محمد وبيانه وقرآنه ، فاقترح بعضهم وصفه بالكهانة ، ورفض الوليد هذا الرأي لأن محمدا لا يتكلم بزمزمة الكاهن وسجعه ، واقترح آخرون ان يتهموه بالجنون ، وآخرون بالسحر ، والوليد لم يرتأ شيئا من ذلك ، واختار لهم ان يقولوا للناس : انه ساحر في بيانه يفرق بين المرء وزوجته ، وبين الانسان وأخيه .
وانطلقت قريش في الموسم تحذر الناس من الاستماع إليه والاصغاء لقوله حتى لا يصيبهم ما أصاب المكيين من الانقسام ووجدوا ان دعوتهم هذه لم تفلح فلجئوا إلى أسلوب آخر وهو الحديث عن الأمم السابقة وعباداتها وآرائها في الكون والخير والشر ، ووجدوا شيئا من ذلك عند النضر بن الحارث ، وكان قد وفد على الحيرة واختلط بالفرس وملوكها وتعلم منها اخبار الملوك وآراء الفرس في الكون والخير والشر ونحو ذلك ، فأعدته قريش لأن يجتمع بالناس في الموسم وغيره ويحدثهم بذلك في مقابل محمد وأحاديثه عن الأمم والجنة والنار ، فأخذ كلما جلس محمد في مجلس يدعو فيه إلى اللّه ويحذرهم مما أصاب السابقين باعراضهم عن رسله وتعاليمهم ، كلما جلس محمد في مجلس وحدث بهذا النوع من الأحاديث جاء النضر وجلس يحدث ويقص على قريش اخبار الفرس وأديانهم وتاريخ ملوكهم وحروبهم ثم يقول للناس : أترون محمدا يحدثكم بأحسن من هذه الأحاديث ، أليس هو يتلو من أساطير الأولين وانا اتلو منها ، أترون محمدا يستحق النبوة بذلك وقريش تذيع أحاديثه وأساطيره بين الأعراب ووفود الحجاج في الموسم لتصرف بذلك الناس عن دعوة محمد ( ص ) .
ولكن دعاية كهذه وأمثالها مهما كان نوعها ومهما أوتي القائمون عليها من المقدرة والبيان ، لم يكن في مقدورها ان تقاوم دعوة محمد وسحر بيانه وايمانه العميق بما يدعو إليه ولم يكن لدعوة محمد ( ص ) تلك الآثار المدهشة ، لأنه كان يحدث عن أساطير الأولين واخبار الماضين ، بل كان لها اثرها على النفوس والعقول ، لأنها تدعو إلى دين يسمو بالنفس الانسانية إلى الذروة لتتصل بالوجود كله صلة خير ومعروف ورحمة ، ولتتصل باللّه سبحانه عن طريق التقوى والعمل الصالح وحب الخير لجميع الناس وإحقاق الحق وإقامة العدل والنهي عن المنكر والفحشاء والبغي .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ( سورة النحل 90 ) .
فأين من ذلك أحاديث الفرس وعباداتها للنار والكواكب واخبارها تلك التي أرادت بها قريش ان تحارب دعوة محمد ( ص ) .
وما كانت أحاديث القرآن الكريم المنزل على محمد ( ص ) عن الأمم الماضية واخبارها وأديانها الا ليذكرهم وينذرهم بأنهم إذا اصروا على عنادهم وضلالهم فاللّه لهم بالمرصاد كما كان لغيرهم ممن كانوا أشد بأسا وأكثر عددا وعدة .
وعلى اي الأحوال فإن دعاية قريش ووسائلها المختلفة في التشويش والتضليل على الدعوة لم تنفعها شيئا كما تؤكد ذلك كتب التاريخ والسيرة .
فلقد جاء فيها ان الطفيل بن عمرو الدوسي قدم مكة وكان رجلا شريفا في قومه وشاعرا معروفا ، فخافت قريش ان يتأثر بدعوة محمد ويرجع إلى قومه داعيا إليها ، فمشى إليه جماعة منهم فحذروه من محمد وسحر بيانه الذي يفرق بين المرء وأهله وأظهروا خوفهم عليه وعلى قومه ان يفسدهم كما أفسد قريشا ، وقالوا له : اننا نرى من الخير لك ولقومك ان لا تكلم هذا الرجل ولا تسمع لأحاديثه .
وكان لهذا التحذير ردود فعل في نفس الدوسي دفعته إلى الاجتماع بمحمد ( ص ) ليستمع إلى بيانه الساحر ومدى تأثيره السريع على النفوس والعقول ، لا سيما وان الدوسي من الشعراء ، والشعراء يؤخذون بحسن البيان ويسيطر عليهم أكثر من أي شيء آخر ، وظلت صورة النبي ماثلة في نفسه إلى أن ذهب يوما إلى الكعبة ومحمد يوم ذاك في جانب من جوانبها يناجي ربه ، فسمع الطفيل بعض حديثه ، وقال في نفسه : واثكل أمي ، واللّه اني لرجل لبيب وشاعر لا يخفى علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني ان اسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان حسنا قبلته وان كان قبيحا تركته ، وانتظر محمدا ان يذهب لبيته ليمضي معه ويسمع منه على بعد من أعين الناس .
ولما مضى محمد ( ص ) تبعه الدوسي إلى بيته واظهر له امره وما دار في نفسه ، فتلا عليه النبي ( ص ) شيئا من القرآن وهو صامت لا يتكلم ، وبمجرد ان انتهى النبي ( ص ) اعلن اسلامه ورجع إلى قومه يدعوهم إلى الاسلام ، فاستجاب له فريق وامتنع الباقون ، ولكنه بقي مصرا على موقفه يدعوهم إلى الاسلام بالحاح وحماسة حتى اسلم أكثرهم .
ولم يكن الدوسي الا واحدا من العشرات الذين كانوا يدخلون مكة مشركين متعصبين لشركهم وأصنامهم ، وقريش بدعاياتها وعنادها تحذر وتخوف من محمد ودعوته ، ولكنهم كانوا إذا اجتمعوا إليه عادوا مسلمين يدعون إلى الاسلام بقلوب مطمئنة إلى تلك التعاليم التي تملأ وجدانهم وتدعو إلى العدل والمساواة والخير لجميع الناس .
ولقد حدث الرواة ان وفدا من النصارى مؤلفا من عشرين رجلا أوفدهم قومهم ليستطلعوا لهم اخبار محمد بن عبد اللّه الذي ذاع خبره في جميع انحاء الجزيرة وحتى في خارجها ، فلما اجتمعوا إليه واستمعوا لحديثه استجابوا لدعوته وخرجوا من بيته مسلمين مصدقين فاعترضتهم قريش وسبتهم ، وقالت لهم : خيبكم اللّه من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر هذا الرجل ، فلم يطمئن مجلسكم عنده حتى أسلمتم وفارقتم دينكم وصدقتموه بما يقول .
فلم يثنهم ذلك عن الاسلام بل زادهم ايمانا واصرارا على متابعته والدعوة إلى شريعته .
ولقد بلغ من امر الدعوة ان أشد اخصامها عداء لها وأكثرهم ايذاء لصاحبها وأتباعه كأبي سفيان بن حرب وأبي جهل بن هشام والأخنس بن شريق كانوا يتشوقون للاستماع من محمد وتعترضهم أفكار حول صحة دعواه ، فخرجوا إليه كل على انفراد من حيث لا يعلم الآخر ، وكان محمد ( ص ) يقوم الليل الا قليلا يناجي ربه ويرتل بعض الآيات من القرآن بهدوء وسكينة يستمعون إليه ، ولا يعلم أحد منهم بمكان صاحبه فسيطر عليهم وظلوا يستمعون إليه حتى الفجر ، وبعد ان تفرقوا جمعهم الطريق من حيث لا يقصدون ، وعرف كل واحد منهم بما كان من الآخر وتواصوا على أن لا يعودوا لمثل ذلك حتى لا يراهم الناس فيضعف موقفهم العدائي من محمد وأصحابه .
فلما كانت الليلة الثانية شعر كل واحد منهم انه منساق بدون اختياره إلى المكان الذي كان فيه في الليلة السابقة ليقضي ليله يستمع فيه إلى مناجاة محمد وترتيله للقرآن كما صنع بالأمس ، وذهبوا كل بمفرده ، وتلاقوا في رجوعهم من حيث لا يقصدون وتلاوموا .
ومع ذلك فقد عادوا في الليلة الثالثة ، ولكنهم بعد ان تلاقوا في هذه المرة لم يكتف كل واحد بلوم الآخر بل تعاهدوا على أن لا يعودوا لمثلها ابدا ، وترك ما سمعوه من محمد ( ص ) اثرا في نفوسهم ، ولكن كيف يستجيبون لمحمد ويؤمنون بدعوته وهي لا تفرق بين ذوي الجاه والمال والسادة وبين الفقراء والمستضعفين والعبيد الا بطهارة النفس والعمل الصالح ، وتخاطب الناس جميعا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ( سورة الحجرات 13 ) .
فإذا تعصب أبو سفيان وغيره من جبابرة قريش لدين آبائهم ونظامهم القديم الذي منحهم الجاه والسلطان ، فليس ذلك ايمانا منهم بحق يحتويه ، بل لأنه أفاء عليهم من بسطة المال والجاه ما جعلهم يحاربون كل شيء لأجله ، ويصبون على من يحاول ان يحول بينهم وبينه كل أنواع العذاب صبا .
وليس أدل على ذلك مما رواه المحدثون عن الأخنس بن شريق انه ذهب إلى أبي جهل في بيته بعد ان استمع هو وأبو سفيان وأبو جهل لمحمد في الليالي الثلاث ، فقال : ما رأيك يا ابا الحكم فيما سمعناه من محمد بالأمس ، فأجابه أبو جهل بقوله : ما ذا سمعت ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف اطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه واللّه لا نؤمن به ابدا ولا نصدقه فيما يقول .
[1] شرح النهج ج 3 ص 310 .
الاكثر قراءة في حاله بعد البعثة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة