خروج النبي "ص" إلى الطائف
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص219-226
2025-10-29
49
لما اشتدت قريش على رسول اللّه ( ص ) بعد وفاة عمه أبي طالب ونالت منه ما لم تكن تناله منه في حياته خرج رسول اللّه ( ص ) متخفيا في مكة ومعه علي بن أبي طالب ، وقيل إن زيد بن حارثة كان معهما .
ولما بلغ الطائف اتجه إلى سادة ثقيف وهم اخوة ثلاثة عبد ياليل بن عمرو ، ومسعود بن عمرو وأخوهما حبيب بن عمرو ، وكان عند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس عندهم ثم دعاهم إلى الاسلام وإلى مناصرته في دعوته ، ولما انتهى من حديثه معهم قال له أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة ان كان اللّه أرسلك نبيا ، وقال الآخر : اما وجد اللّه أحدا يرسله غيرك ، وقال الثالث واللّه لا أكلمك ابدا لئن كنت نبيا كما تقول لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت كاذبا على اللّه ما ينبغي لي ان أكلمك ، فقام رسول اللّه بعد ان يئس من خيرهم ، وقال لهم : إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وقد كره ان تسمع قريش بما جرى له معهم فيجرءون عليه .
وظل في الطائف نحوا من عشرة أيام يتجول بين أحيائهم ويدعوهم إلى الاسلام فلم يسمعوا منه ، واغروا به سفهاءهم وعبيدهم حتى اجتمع عليه الناس وقذفوه بالحجارة ، فالتجأ إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه والدماء تسيل من ساقيه وعلي يدافع عنه حتى شج رأسه .
وقيل إن الذي أصيب في رأسه زيد بن حارثة ، فرجع عنه من كان يتبعه من سفهاء ثقيف ، فجلس النبي ( ص ) في جانب من جوانب الحائط في ظل شجرة وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف وغلمانها ، فلما اطمأن في ظل الشجرة وقد انهكه الجهد والأذى من ثقيف وسفهائها قال : اللهم إني اشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهو اني على الناس يا ارحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ان لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه امر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة الا بك .
قال ذلك وابنا ربيعة ينظران إليه والكآبة بادية على وجهه ، وطال تحديقهما به واشفقا لحاله ولما لقيه من أولئك الذين كانوا يطاردونه حتى ادموا ساقيه ، وادموا من معه ، فتحركا اشفاقا عليه ورحمة به وارسلا غلامهما عداس بقطف من عنب فوضعه بين يديه ، فمد إليه يده وقال بسم اللّه ، وجعل يأكل والغلام ينظر إليه مدهوشا ويردد في نفسه ان هذا الكلام لا يقوله أحد من هذه البلاد ، وظل واقفا كالمدهوش وأحس الرسول بشيء يتردد في نفسه ولكنه لا يستطيع ان يبوح به ، فقال له : من اي البلاد أنت وما دينك ، فاجابه الغلام على الفور انا نصراني من أهل نينوى ، فقال له النبي ( ص ) من قرية الرجل الصالح يونس بن متى .
واستغرب عداس ان يكون هذا الغريب الطريد يعرف من أحوال الأمم الماضية والأنبياء السابقين فقال للنبي : وما يدريك بيونس بن متى ، قال له : ذاك أخي انه نبي وانا نبي مثله ، فانكب عداس عليه يقبل رأسه ويديه وقدميه وابنا ربيعة ينظران هذا المشهد كالمذهولين وقال أحدهما للآخر لقد أفسده محمد علينا .
ولما رجع إليهما قالا له : ويلك يا عداس ما الذي أعجبك بهذا الرجل حتى قبلت رأسه ويديه وقدميه احذر ان يصرفك عن دينك ، فإنه خير من دينه ، فقال لهما اني لا اعلم على وجه الأرض خيرا منه : لقد أخبرني عن امر لا يعلمه الا الأنبياء .
وجاء في كتب السيرة والتاريخ ان النبي ( ص ) لما وجد من الأذى في الطائف ما لم يكن يترقبه ، يئس من ثقيف وغيرها من سكان الطائف فاتجه إلى مكة يجر رجليه الداميتين وهو يناشدهم ان يكتموا عليه ما كان منهم حتى لا تشمت به قريش وتمعن في ايذائه من جديد ، وفي طريقه نزل في مكان يدعى نخلة بين الطائفة ومكة ، فقام في جوف الليل يصلي ، فمر به نفر من الجن من أهل نصيبين في اليمن ، وكانوا سبعة كما جاء في رواية ابن إسحاق ، فجلسوا يستمعون لصلاته ودعائه وإلى شيء من القرآن ، فآمنوا به ورجعوا إلى قومهم منذرين ومبشرين بنبوته ، وقد قص اللّه خبرهم فيما نزل من القرآن عليه حيث قال :
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً .
وقدم رسول اللّه مكة وكانت انباء رحلته إلى الطائف قد سبقته إلى مكة فاستعد أعداؤه فيها للقائه بألوان من الأذى لم يعرفها من قبل ، ولكنه قرر ان لا يبالي مهما كان الحال .
وجاء في رواية الطبري انه قبل ان يدخل مكة مر به بعض أهلها ، فقال له رسول اللّه هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها قال نعم : قال ائت الأخنس بن شريق وقل له يقول لك محمد : هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي ، فأتاه وبلغه الرسالة فقال له الأخنس ان الحليف لا يجير على الصريح ، فرجع إلى النبي واخبره بمقالته .
فقال له النبي أتعود ، قال نعم : قال ائت سهيل بن عمرو وقل له ان محمدا يرغب ان يدخل في جوارك ليبلغ رسالته ، فرفض سهيل وقال : ان بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب ، وأخيرا كلفه بأن يذهب إلى المطعم بن عدي ويعرض عليه دخول محمد في جواره ، فوافق المطعم على ذلك ، ودخل محمد مكة ولبس المطعم بن علي سلاحه ومعه بنوه وبنو أخيه ودخلوا المسجد ، فاستقبلهم أبو جهل وقال للمطعم : أمجير أم تابع ، فقال بل مجير ، فقال أبو جهل قد اجرنا من اجرت .
ومضى النبي يتابع دعوته في جوار المطعم ، فجاء يوما إلى الكعبة والمشركون حولها ، فلما رآه أبو جهل ، قال متهكما : هذا نبيكم يا بني عبد مناف ، فقال عتبة بن ربيعة : أما تنكر ان يكون منا نبي أو ملك ، وبلغ حديثهما النبي ( ص ) فأتاهم وقال لعتبة : اما أنت يا عتبة فو اللّه ما حميت للّه ولا لرسوله ، ولكن حميت لأنفك ، واما أنت يا أبا جهل فو اللّه لا يأتي عليك كبير من الدهر حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا ، واما أنتم يا معشر الملأ من قريش فو اللّه لا يأتي عليكم غير قليل من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم له كارهون .
ومضى رسول اللّه يعرض نفسه على القبائل أيام الموسم ويسألهم النصرة ويعرض عليهم الاسلام فيصغي إليه بعضهم ، ولكنه يخشى عدوان قريش فلا يستجيب له ويبتعد البعض الآخر فلا يلقاه .
وجاء في سيرة ابن هشام وتاريخ ابن جرير عن الحسن بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب أنه قال : سمعت ربيعة بن عياد يحدث أبي ويقول : اني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول اللّه ( ص ) يقف على منازل القبائل من العرب ويقول : يا بني فلان اني رسول اللّه إليكم يأمركم ان تتعبدوا إليه ولا تشركوا به شيئا ، وان تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وان تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن اللّه ما بعثني به ، وكان ينتقل من منزل إلى منزل وهو يدعو الناس إلى الايمان باللّه ، وخلفه رجل أحول له غديرتان وعليه حلة عدنية ، فإذا فرغ رسول اللّه ( ص ) من كلامه قال الرجل : يا بني فلان ان هذا الرجل يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بني اقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له ، قال فقلت : يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول : قال هذا عمه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب .
وقد اتفق المؤرخون وكتاب السيرة ان أبا لهب كان قد تفرغ لتكذيب محمد ( ص ) فلا يجلس النبي في مجلس يدعو فيه إلى الاسلام الا ويجد أبا لهب من خلفه يرد عليه ويحذر الناس منه ، بمقدار ما كان أبو طالب متحمسا في نصرة الاسلام والدعوة إليه والدفاع عنه كان أبو لهب متحمسا للأصنام والدفاع عنها وتحريض الناس على ابن أخيه محمد ( ص ) فكان هو وزوجته أم جميل بن حرب من طينة واحدة .
ويعزو بعض المؤلفين حقد أبي لهب على النبي ( ص ) واصراره على تكذيبه ان أمه كانت خزاعية وكانت خزاعة تحقد على بني قصي وبني عبد مناف ، لأنهم قهروا خزاعة وانتزعوا منها سلطتها على الكعبة ، وكان أبو لهب من عنصرين متضادين فهو من طرف الأب يمت إلى عبد مناف ، ومن طرف الأم إلى خزاعة فورث صفات الأدنى من الأبوين .
واما أم جميل التي لم تكن في حقدها على النبي وايذائها له بأقل من زوجها وكانت تسميه مذحجا ولا تدع مجالا للنيل منه والتحريض عليه الا وتسرع إليه ولا نارا للبغضاء والضغينة الا وتنفخ فيها من أنفاسها الخبيثة التي تتقد بالحقد والضغينة فتزيدها اوارا واشتعالا .
وقد شهدت في بيت أبيها ضروبا من المطل والغدر ، فلم تعد تتعرف على غيرهما وتعطلت فيها عاطفة الرحمة والحب ، ولما جاء وقت زواجها لم يكن لها من يضاهيها غير أبي لهب ، فلما التقيا ائتلفا وجعل كل واحد منهما يحث صاحبه على الشر وتسابقا إليه .
واستكبرت أم جميل حين بعث محمد ( ص ) ان تصبح النبوة في بيت جارتها خديجة ، كما استكبر أبو لهب ان تصبح الزعامة والنبوة في بيت أخيه عبد اللّه وكانا قد ظنا ان البيتين بيت أبي لهب وبيت محمد قد تساويا في الشرف والمال ، اما وقد حدثت النبوة ، فهذا ما لا يمكن لأم جميل ان تتحمله ولا لأبي لهب ان يصبر عليه ، وهو خليفة أبي أحيحة سعيد بن العاص في رعاية الأصنام وخدمتها . هذا ومحمد ( ص ) جادّ في امره ، بالرغم من كل ما جرى ويجري ، وما يصنعه أبو لهب من تكذيبه وملاحقته وتحريض الناس عليه .
اما الزوج فينتقل بين وفود الحجاج في أيام الموسم في اثر ابن أخيه محمد ( ص ) ويقول للناس : ان ابن أخي ساحر كذاب لا يغرنكم بسحره ، وأم جميل في البيت وفي الشارع وحلقات النساء والرجال ترقص وتغني : مذمما أبينا ودينه قلينا .
وهكذا شاءت الاقدار لهذين الزوجين ان ينزل بهما قرآن يتلى في كل يوم آلاف المرات وان لا تفارقهما اللعنة إلى يوم الدين .
ومع كل تلك المواقف من عمه وزوجته وطواغيت قريش وسفهائها ، فقد مضى جادا في الدعوة إلى اللّه يتصل بالقبائل والوافدين يعرض عليهم الاسلام وتعاليمه ولا يبالي بما يقال ويسمع من قريش وغيرها .
فقد جاء في كتب السيرة انه قصد قبيلة كليب في منازلهم وتوجه إلى فرع من فروعهم يقال لهم بنو عبد اللّه وقال لهم يا بني عبد اللّه ان اللّه عز وجل قد أحسن اسم أبيكم وقد اخترتكم على من سواكم ، ثم عرض عليهم الاسلام فلم يقبلوا منه ، كما اتجه إلى بني حنيفة فردوه ردا قبيحا عل حد تعبير ابن هشام في سيرته وابن جرير في تاريخه .
وذهب إلى حجاج بني عامر بن صعصعة وعرض عليهم الاسلام ومناصرته فقال له رجل منهم يدعى بحيرة بن فراس بن عبد اللّه بن سلمة ، واللّه لو اني اخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب .
ثم قال له : أرأيت أن نحن بايعناك على امرك ثم اظهرك اللّه على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال له النبي ( ص ) : الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء ، فقال له : أفنستهدف نحورنا للعرب دونك فإذا اظهرك اللّه كان الأمر لغيرنا ، لا حاجة لنا فيك .
فلما رجع بنو عامر رجعوا إلى شيخ لهم قد أدركته السن ، ولم يكن قادرا على أن يأتي معهم الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام الذي دعاهم محمد فيه إلى الاسلام سألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي ودعانا لأن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا ، فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بني عامر هل لها من تلاف ، هل لذناباها من مطلب[1] والذي نفسي بيده ما تقولها إسماعيل قط ، وانها لحق فأين رأيكم كان عنكم .
واستمر النبي لا يدع أحدا من وجوه العرب في أيام الموسم الا وقصده وعرض عليه الاسلام ، ولما وفد إلى مكة أبو الحيسر انس بن رافع ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم اياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، فلما سمع رسول اللّه بهم اتاهم وقال لهم : انا رسول اللّه بعثني إلى العباد ادعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئا وانزل علي الكتاب ، ثم مضى يقص عليهم من تعاليم الاسلام ويتلو عليهم القرآن ، فقال لهم اياس بن معاذ وكان غلاما حدثا : اي قوم ، هذا واللّه خير مما جئتم له ، فأخذ انس بن رافع حفنة من تراب البطحاء وضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا فصمت اياس ولم يرد عليه وقام رسول اللّه ( ص ) من بينهم وانصرفوا راجعين إلى المدينة وكانت وقعة بغاث بين الأوس والخزرج كما جاء في سيرة ابن هشام وغيرها .
وأضاف إلى ذلك ابن هشام انه لم يلبث اياس بن معاذ ان هلك وهو يهلل للّه ويكبره ويسبحه ، فلم يشكوا بأنه مات مسلما متأثرا بالمجلس الذي جمعه بالرسول ( ص ) .
وكان رسول اللّه ( ص ) قد تصدى لوفد من بني عمرو بن عوف فيهم سويد بن صامت وهو شريف في قومه يسمونه الكامل لجلده وشعره ونسبه ، فدعاه رسول اللّه إلى الاسلام ، فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال له النبي ( ص ) : وما الذي معك قال مجلة لقمان ، فقال له رسول اللّه ( ص ) اعرضها علي فعرضها عليه ، فقال ان هذا كلام حسن ، ولكن الذي معي أحسن وأفضل ان معي القرآن انزله اللّه علي هدى ونورا للناس .
ثم تلا عليه رسول اللّه ( ص ) القرآن ودعاه إلى الاسلام فلم ينفر منه وقال إن هذا القول أحسن مما معي ، وانصرف عن النبي ( ص ) ، ولم يلبث ان قتل في حرب كانت بين الأوس والخزرج .
[1] هذا مثل يضرب لما فات من الامر ، وأصله من ذنابى الطائر إذا أفلت من الشرك .
الاكثر قراءة في حاله بعد البعثة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة