النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
هجرة المسلمين إلى الحبشة
المؤلف: الشيخ علي الكوراني
المصدر: السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام
الجزء والصفحة: ج1، ص403-417
2024-09-15
464
1 . ملاحظات حول الهجرة
أ . كان السفر والهجرة طبيعياً عند المكيين ، فحياتهم متقومة بالسفر إلى اليمن والشام ومصر ، خاصة بعد أن صار الطريق آمناً وأسس هاشم « رحمه الله » رحلة الصيف والشتاء وأكملها ابنه عبد المطلب « رحمه الله » فعقدا اتفاقيات مع القبائل والدول لتأمين قوافل قريش وسلامتها . فمن ضاقت عليه مكة هاجر إلى الجزيرة أو الشام أو الحبشة . قال ابن خلدون : 2 / 2 / 8 : « وكان قريش يتعاهدونها « الحبشة » بالتجارة فيحمدونها » .
ب . قال في الصحيح من السيرة : 3 / 123 : « نرجح أنه لم يكن سوى هجرة واحدة للجميع ، عليها جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، الذي لم يكن غيره من بني هاشم ، فلم يكن ثمة هجرتان . . . وذلك بدليل الرسالة التي وجهها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) إلى ملك الحبشة مع عمرو بن أمية الضمري والتي جاء فيها : قد بعثت إليكم ابن عمي جعفر بن أبي طالب معه نفر من المسلمين ، فإذا جاؤوك فأقرهم . . إلخ . » .
أقول : وهو المتعين ، ويدل عليه أيضاً أن الهجرة التي كان أميرها جعفر كان فيها أكثر من ثمانين مسلماً ، واستمرت بضع عشرة سنة . أما الذين ذهبوا إلى الحبشة قبلها فكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، سافروا في شهر رجب وأقاموا شهر شعبان ورمضان ورجعوا في شوال ! الطبري : 2 / 68 ، الطبقات : 1 / 206 ، الإمتاع : 1 / 37 ، عيون الأثر : 1 / 157 ، سبل الهدى : 2 / 366 ، فتح الباري :
7 / 143 والسيرة الحلبية : 2 / 9 .
فهذه سفرة قصيرة للتجارة ! ولعلهم سموها هجرة من أجل عثمان الذي كان فيها ليجعلوه أول المهاجرين ، مع أنه لم يتعرض لتعذيب أو ضغط !
وقد ردَّ في الصحيح : 3 / 123 مقولتهم بأن عثمان أول المهاجرين ، وقال إنه عثمان بن مظعون الجمحي « رحمه الله » . ولعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسله لاستكشاف الوضع لتهجير المضطهدين إليها ، فقد كان ابن مظعون من حواريي النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
قال ابن هشام : 1 / 214 : « فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة . . وكان عليهم عثمان بن مظعون » .
وقد اتفق الرواة على أن ما سموه « الهجرة الأولى » كانت في شهر رجب في السنة الخامسة للهجرة وأنهم رجعوا بعد شهرين . وهم : عثمان بن عفان وامرأته بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو ربيبته ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، والزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة ، وأبو سبرة بن أبي رهم ، وسهيل بن بيضاء .
وكانت هجرة جعفر وأصحابه في نفس السنة بعد الحج ، مع بداية محاصرة قريش لبني هاشم في الشعب ، أو قبلها بقليل ، وهي الهجرة الوحيدة .
ج . من أصح روايات الهجرة إلى الحبشة ما رواه السنة والشيعة عن أم سلمة ( عليها السلام ) قالت : « لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفتنوا ، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم ، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم وكان رسول الله في منعة من قومه وعمه ، لا يصل إليه شئ مما يكره مما ينال أصحابه ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده ، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه ، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها ، فنزلنا بخير دار إلى خير جار ، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلماً .
فلما رأت قريش أن قد أصبنا داراً وأمناً ، أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم ، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا ولبطارقته ، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا هيؤوا له هدية على ذي حدة ، وقالوا لهما إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموه فيهم ثم ادفعوا إليه هداياه ، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا !
فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته وكلموه وقالوا له : إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم ، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل ، فقالوا : نفعل ثم قدما إلى النجاشي هداياه ، وكان أحب ما يهدى اليه من مكة الأدم « الجلود » . فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له : أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه وقد لجؤوا إلى بلادك ، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم ، فهم أعلى بهم عيناً .
فقالت بطارقته : صدقوا أيها الملك ، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عيناً ، فإنهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك ! فغضب ثم قال : لا لعمرو الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم ، وأنظر ما أمرهم ؟ قوم لجؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري ، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أخلِّ بينهم وبينهم ولم أنعمهم عيناً !
فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ، ولم يكن شئ أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم ! فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا : ماذا تقولون ؟ فقالوا : وماذا نقول ؟ نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا ، وما جاء به نبينا ( صلى الله عليه وآله ) كائن في ذلك ما كان !
فلما دخلوا عليه كان الذي كلمه منهم جعفر بن أبي طالب فقال له النجاشي : ما هذا الدين الذي أنتم عليه ، فارقتم دين قومكم ، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية ، فما هذا الدين ؟ فقال جعفر : أيها الملك ، كنا قوماً على الشرك نعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار ، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها ، لا نحل شيئاً ولا نحرمه ! فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته ، فدعانا إلى أن نعبدالله وحده لا شريك له ، ونصل الرحم ونحسن الجوار ، ونصلي ونصوم ولا نعبد غيره . فقال : هل معك شئ مما جاء به ؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله .
فقال له جعفر : نعم ، قال : هلم فاتل عليَّ ما جاء به فقرأعليه صدراً من كهيعص ! فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم ثم قال : إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى ! إنطلقوا راشدين ، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عيناً ! فخرجا من عنده ، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة ،
فقال له عمرو بن العاص : والله لآتينه غداً بما أستأصل به خضراءهم ! لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد ! فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين : لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا ، فإن لهم رحماً ولهم حقاً . فقال : والله لأفعلن ! فلما كان الغد دخل عليه فقال : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، فأرسل إليهم فسلهم عنه ، فبعث إليهم ولم ينزل بنا مثلها ، فقال بعضنا لبعض : ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه ؟ فقالوا : نقول والله الذي قاله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه ! فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر : نقول هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول ! فدلى النجاشي يده إلى الأرض ، فأخذ عويداً بين أصبعيه فقال : ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود ! فتناخرت بطارقته فقال : وإن تناخرتم والله ! إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم الآمنون - ومن سبكم غُرِّم « ثلاثاً » ! ما أحب أن لي دبيراً وأني آذيت رجلاً منكم - والدبير بلسانهم الذهب - ! فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه ، ولا أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه . ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها ، واخرجا من بلادي !
فخرجا مقبوحين ، مردود عليهما ما جاءا به ! فأقمنا مع خير جار في خير دار ، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ، فوالله ما علمنا حزناً قط كان أشد منه فرقاً أن يظهر ذلك الملك عليه ، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرف ، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي ، فخرج إليه سائراً ، فقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعضهم لبعض : مَن رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون ؟ فقال الزبير : وكان من أحدثهم سناً : أنا ، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى جنب التقاء الناس ، فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله ، وظهر النجاشي عليه ، فجاءنا الزبير فجعل يلمح الينا بردائه ويقول : ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشي ! فوالله ما علمنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي .
قالت : ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . ذخائر العقبى / 209 ، ابن إسحاق : 4 / 193 ، ابن هشام : 1 / 224 ، الخرائج : 1 / 133 ، عن ابن مسعود ( ( رحمه الله ) ) مختصراً .
ورواه في إعلام الورى : 1 / 115 ، وفيه احتجاج جعفر : « فقال : أيها الملك سلهم أنحن عبيد لهم ؟ قال عمرو : لا ، بل أحرار كرام . قال : فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها ؟ قال : لا ، ما لنا عليهم ديون . قال : فلهم في أعناقنا دماء يطالبوننا بذحولها ؟ قال عمرو بن العاص : لا ، ما لنا في أعناقهم دماء ولانطالبهم بذحول .
قال : فما تريدون منا ؟ قال عمرو : خالفونا في ديننا ودين آبائنا ، وسبوا آلهتنا ، وأفسدوا شباننا ، وفرقوا جماعتنا ، فردهم إلينا ليجتمع أمرنا . فقال جعفر : أيها الملك خالفناهم لنبي بعثه الله فينا ، أمرنا بخلع الأنداد ، وترك الإستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ، وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حلها ، والزنا والربا والميتة والدم ، وأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي . فقال النجاشي : بهذا بعث الله عيسى بن مريم » .
د . أرسلت قريش ابن العاص مرتين إلى النجاشي ، وكتب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبو طالب ( رحمه الله ) إلى النجاشي . كما في مكاتيب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : 1 / 430 :
« بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده ونفخه ، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني فتؤمن بي ، وبالذي جاءني فإني رسول الله ، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين ، فإذا جاؤوك فأقر ودع التجبر ، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل ، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا ، والسلام على من اتبع الهدى » .
وذكر أن النجاشي اسم لملك الحبشة كقيصر وكسرى ، واسم ذلك النجاشي أصحمة ومعناه : عطية . ثم روى كتاب أبي طالب « رحمه الله » إلى النجاشي ، وفيه :
تعلَّمْ مليك الحبْش أن محمداً * نبيٌّ كموسى والمسيح بن مريمِ
أتى بالهدى مثل الذي أتيا به * وكل بأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلونه في كتابكم * بصدق حديث لا حديث المرجِّمِ
فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا * فإن طريق الحق ليس بمظلم
وإنك ما يأتيك منا عصابة * بفضلك إلا أرجعوا بالتكرم »
وذكر مصادره : ابن هشام : 1 / 357 ، الحاكم : 2 / 623 ، البحار : 35 / 163 و 18 / 418 ، ابن أبي الحديد : 14 / 75 ، المناقب لابن شهرآشوب : 1 / 62 وطبعة / 44 ، الغدير : 7 / 331 وإعلام الورى : 30 و 55 .
وروى الأحمدي أيضاً 2 / 448 ، أن النجاشي أسلم على يد جعفر وكتب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
« بسم الله الرحمن الرحيم . إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر . سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته ، من الذي لا إله إلا هو ، الذي هداني للإسلام ، بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى ، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً « عرق التمرة » إنه كما قلت ، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه ، فأشهد أنك رسول الله صادق مصدق ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك ، وأسلمت على يديه لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر ، فإني لا أملك إلا نفسي ، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله ، فإني أشهد أن ما تقول حق ، والسلام عليك يا رسول الله » .
وكان سفر ابن العاص بعد هجرتهم مباشرة ، ففي ذخائر العقبى / 213 ، عن ابن مسعود : « أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشاً فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد » .
وقال القمي : 1 / 176 : « فلما بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة » وقال دحلان في سيرته : 1 / 417 : « كان لعمرو بن العاص هجرتان إلى الحبشة في شأن المهاجرين على ما يذكره التاريخ : أحدهما مع عمارة في بدء الهجرة ، والثاني مع عبد الله بن ربيعة بعد بدر ورجع خائباً خاسراً » .
وقال ابن هشام : 1 / 221 : « قال أبو طالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتاً للنجاشي يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم » :
ألا ليت شعري كيف في الناس جعفرٌ * وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نال أفعال النجاشي جعفرا * وأصحابه أم عاق ذلك شاغب
تعلم أبيت اللعن إنك ماجد * كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلم بأن الله زادك بسطة * وأسباب خير كلها بك لازب
فإنك فيض ذو سجال غزيرة * ينال الأعادي نفعها والأقارب »
وجاء في مناظرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع ابن العاص قوله ( عليه السلام ) : « وأما أنت يا عمرو الشاني اللعين الأبتر . . . ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من عدوه أشدهم له عداوة وأشدهم له تكذيباً ! ثم كنت في أصحاب السفينة الذين أتوا النجاشي في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين فحاق المكر السئ بك ، وجعل جدك الأسفل ، وأبطل أمنيتك وخيب سعيك ، وأكذب أحدوثتك وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا » . الإحتجاج : 1 / 415 .
ه - . وكتم النجاشي إسلامه عن بطارقته ووزرائه خوفاً من معارضيه ومن هرقل ، أما الرسالة التي حملها اليه الضمري من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكانت في السنة السادسة عندما راسل ملوك العالم . « الطبقات 1 / 207 » وهي غير رسالته التي أرسلها اليه بيد جعفر .
و . كانت الحبشة أو أثيوبيا ، قاعدة حكم إفريقيا للروم ، وكانت تدار من مصر ، وقد نشر الرومان فيها المسيحية ، وتعاظمت قوة الحبشة حتى احتلت اليمن وبنى أبرهة الحبشي حاكم اليمن من قبل الروم كنيسة في صنعاء ، ليصرف إليها العرب بدل الكعبة ، وقصد بجيشه مكة ليهدم الكعبة ، فكانت قصة أصحاب الفيل عام ولادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وبعد جيش الفيل بسنتين تمكن سيف بن ذي يزن بمساعدة الفرس من تحرير اليمن من الحبشة ، فضعفت دولة الحبشة ونشب فيها الصراع الداخلي ثم حكمها النجاشي أصحمة ، وكان عاقلاً عادلاً فأوقف تدهور الدولة .
وبعد وفاة النجاشي عاد الصراع الداخلي وضاقت الأمور على أهل الحبشة فأرسلوا إلى ابن النجاشي وكان أرسله والده إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، يطلبون منه العودة لتتويجه عليهم فلم يقبل ، لأنهم أرادوا منه أن يرجع عن الإسلام !
وتقدم قول النجاشي في رسالته إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر ، فإني لا أملك إلا نفسي ، وإن شئت أن آتيك فعلت » .
وهذا يدل على أن وزراءه رؤساء القبائل الذين سماهم الروم بطارقة ، لم يستجيبوا له ، وأنه كان يتقيهم ، فعرض على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يترك ملك الحبشة ويأتيه ، فأمره أن يبقى ، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يبقى عنده ويساعده .
أما ابنه « أرها » الذي أرسله فيبدو أنه أبو نيزر وكيل علي ( عليه السلام ) في استنباط عيون ينبع ، وقد سمى أكبرها باسمه : « عين أبي نيزر » .
قال الحموي في معجم البلدان : 4 / 175 : « عين أبي نيزر . . روى يونس عن محمد بن إسحاق بن يسار أن أبا نيزر الذي تنسب إليه العين هو مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ابناً للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون ، لصلبه ، وأن علياً وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه ، مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه . وذكروا أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد موت النجاشي ، وأنهم أرسلوا وفداً منهم إلى أبي نيزر وهو مع علي ليملكوه عليهم ويتوجوه ولا يختلفوا عليه ، فأبى وقال : ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله علي بالإسلام ! قال : وكان أبو نيزر من أطول الناس قامة وأحسنهم وجهاً ، وقال : ولم يكن لونه كألوان الحبشة ولكنه إذا رأيته قلت هذا رجل عربي . . . قال المبرد . . . كان أبو نيزر من أبناء بعض الملوك الأعاجم ، قال : وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي فرغب في الإسلام صغيراً فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان معه في بيوته ، فلما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صار مع فاطمة وولدها رضي الله عنهم » .
وفي سيرة ابن إسحاق : 4 / 202 : « رأيت أبا نيزر بن النجاشي ، فما رأيت رجلاً قط عربياً ولا عجمياً ، أعظم ولا أطول ولا أوسم منه . . الخ . » . ولانقبل قولهم إن علياً ( عليه السلام ) اشتراه كغلام ، بل أرسله والده لنصرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكان حليفه ، ثم حليف علي ( عليه السلام ) .
ز . روت المصادر مراسلات بين النبي ( صلى الله عليه وآله ) والنجاشي ، وأنه كان بينهما هدايا متبادلة فمن ذلك : « أهدى النجاشي إلى رسول الله قارورة من غالية ، وكان أول من عمل له الغالية » . عمدة القاري : 13 / 168 .
« أهدى ملك الروم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جبة سندس فبعث بها إلى جعفر ، وقال أعطها إلى أخيك النجاشي » . لسان العرب : 10 / 343 ، الطبقات : 1 / 456 وأبو داود : 2 / 258 .
« أهدى النجاشي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بغلة فكان يركبها » . عيون الأثر : 2 / 411 .
« أهدى له النجاشي خفين أسودين ساذجين فلبسهما . وأهدى له خاتماً من ذهب فدعا أمامة ابنة ابنته زينب فقال : تحلي بهذا يا بنية » . المناقب : 1 / 147
وابن ماجة : 1 / 182 .
أرسل النجاشي مع جعفر : « بقدح من غالية وقطيفة منسوجة بالذهب هدية إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقدم جعفر والنبي بأرض خيبر ، فأتاه بالقدح من الغالية والقطيفة فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . فمد أصحاب النبي أعناقهم إليها ، فقال النبي : يا علي خذ هذه القطيفة إليك . فأخذها علي وأمهل حتى قدم إلى المدينة فانطلق إلى البقيع وهو سوق المدينة ، فأمر صائغاً ففصل القطيفة سلكاً سلكاً فباع الذهب وكان ألف مثقال ففرقه علي في فقراء المهاجرين والأنصار ، ثم رجع إلى منزله ، ولم يبق له من الذهب قليل ولا كثير » . دلائل الإمامة / 144 .
وأهدى له النجاشي حربة : « فكان بلال يحملها بين يديه يوم العيد ، ويخرج بها في أسفاره فتركز بين يديه يصلي إليها . ويقولون هي التي تحمل المؤذنون بين يدي الخلفاء » . « المناقب : 1 / 147 » . وصارت الحربة في رواياتهم ثلاثة للزبير وعمر وعلي ! « فأما حربة علي فهلكت ، وأما حربة عمر فصارت إلى أهله ، وأما الحربة التي أمسك لنفسه ، فهي التي يمشي بها مع الامام يوم العيد » . تاريخ المدينة : 1 / 139 .
وأهدى له النجاشي حلة مثل العباءة فأعطاها لعلي ( عليه السلام ) وكان يصلي فيها فجاءه سائل ، فطرح الحلة إليه وأومى بيده أن احملها . حلية الأبرار : 2 / 279 .
وبعث له النبي ( صلى الله عليه وآله ) عوذة للصداع يضعها في قلنسوته . مكارم الأخلاق / 403 .
وأهدى النجاشي إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذات مرة ، زنجبيلاً . الجرح والتعديل : 6 / 228 .
وعندما ارتد المهاجر عبيد الله بن جحش ، بعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى النجاشي أن يخطب له زوجته رملة بنت أبي سفيان ، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص وخطبها النجاشي : « ومهرها أربعة آلاف ، ثم جهزها من عنده ، فبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة وجهازها كله من عند النجاشي » . البيهقي : 7 / 232 .
« لما تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أم سلمة قال لها إني أهديت إلى النجاشي أواقاً من مسك وحلة وإني لا أراه إلا قد مات ، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد ، فإذا ردت فهي لك . . فكان كما قال ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما ردت إليه الهدية أعطى كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك وأعطى سائره أم سلمة » . كبير الطبراني : 25 / 81 .
وفي الخصال / 359 ، عن الإمام الرضا عن آبائه « عليهم السلام » : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما أتاه جبرئيل بنعي النجاشي بكى بكاء حزين عليه وقال : إن أخاكم أصحمة - وهو اسم النجاشي - مات ، ثم خرج إلى الجبانة وصلى عليه ، وكبر سبعاً فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازته ، وهو بالحبشة » .
وفي المناقب : 1 / 93 : « فقالت المنافقون في ذلك ! فجاءت الأخبار من كل جانب أنه مات في ذلك اليوم في تلك الساعةوما علم هرقل بموته إلا من تجار رأوا المدينة » .
ح . دوَّن الرواة أسماء المهاجرين ، ورووا أخبارهم في المهجر ، وذكرت الروايات أن بعضهم رجع وشارك مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في معركة بدر وغيرها ، كعمار وابن مسعود ، وبعضهم كان يسافر إلى اليمن للتجارة ، كخالد بن سعيد بن العاص ، الذي أتى للنبي ( صلى الله عليه وآله ) من جرش بآلة حرب تشبه المنجنيق . إمتاع الأسماع : 2 / 21 .
قال في الطبقات : 1 / 207 : « فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي بأحسن جوار ، فلما سمعوا بمهاجر رسول الله إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ومن النساء ثماني نسوة ، فمات منهم رجلان بمكة ، وحبس بمكة سبعة نفر . وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً » .
وأبقى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جعفراً إلى السنة السابعة مع بضعة عشرمهاجر حتى أحضره وأنهى الهجرة « كان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلاً » . ابن هشام : 3 / 818 .
ط . اخترع القرشيون قصة الغرانيق والآيات الشيطانية فافتروا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قرأ سورة النجم في المسجد ، وأضاف إليها آيات ألقاها عليه الشيطان ومدح فيها أصنام قريش ، فوصفها بقوله : « تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى » ! وروتها مصادرهم بكثرة ، وقال بخاري : 2 / 32 : « قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه وقال : يكفيني هذا » ! ورواها في أربعة مواضع : 2 / 32 ، 4 / 239 ، 5 / 7 ، 6 / 52 !
وانفتح خيال رواة السلطة بأن المشركين فرحوا يومها باعتراف محمد ( صلى الله عليه وآله ) بآلهة قريش وسجد لها ! وأضافوا أن المسلمين المهاجرين في الحبشة سمعوا بالخبر فرجعوا إلى مكة ، لكنهم وجدوا أن جبرئيل نزل ووبخ النبي ( صلى الله عليه وآله ) فعادوا !
وصارت هذه الفرية مادة للمستشرقين فبنوا عليها طعنهم بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وكتبوا كتاب « الآيات الشيطانية » ! وقد بحثنا ذلك في كتاب : ألف سؤال وإشكال : 1 / 136 .
2 . دور جعفر بن أبي طالب ( ( رحمه الله ) ) المميز في الحبشة
1 . لم يكن جعفر بن أبي طالب ( رحمه الله ) بحاجة إلى الهجرة ، لأنه مع شجاعته ، محمي من أبيه وعشيرته ، بل هو يحمي ويجير . كما أن إدارة أمور المهاجرين يمكن أن يقوم بها أحدهم ، وفيهم شخصيات كخالد بن سعيد بن العاص . وإنما أرسله النبي ( صلى الله عليه وآله ) معهم وأبقاه في الحبشة إلى السنة السابعة لإدارة جبهة الروم في الدعوة ، وكانت الحبشة قاعدة الروم في إفريقيا ، وهذا يفسر قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن جعفر إنه في جهاد لله بأرض الحبشة ! ففي تفسير القمي : 1 / 264 : « نظر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان له سبعون سنة ، فقال عبيدة : أما لو كان عمك حياً لعلم أني أولى بما قال منه ! قال : وأي أعمامي تعني ؟ قال : أبو طالب ، حيث يقول :
كذبتم وبيت الله نُبْزي محمداً * ولما نطاعنْ دونه ونناضل
وننصره حتى نُصَرَّعَ حوله * ونذهلَ عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد لله بأرض الحبشة ؟ ! فقال : يا رسول الله أسخطت عليَّ في هذه الحالة ؟ فقال : ما سخطت عليك ، ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك » !
وهذا يكشف عن مكانة أبي طالب « رحمه الله » عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقد تأذى لمجرد تعريض ابن عمه عبيدة به وتفضيله نفسه عليه ، مع أنه جاهد وقطعت رجله ثم استشهد ! ومع ذلك قال له لاتؤذني في عمي ولا تفضل نفسك عليه ، فقد نصرني أكثر منك في حياته ، وهاهما ولداه ينصراني أكثر منك ، هذا علي كالليث بين يدي الله ورسوله ، وذاك جعفر في أرض الحبشة كل أوقاته جهاد لله تعالى !
فقد كان جعفر إذن في مهمة جهاد ، يرعى شؤون المهاجرين ونشاطهم ، ويوجه النجاشي في علاقته مع الروم وسياسته الداخلية مع البطارقة وهم ملوك الحبشة في مناطقهم ، وكانت الحبشة تمتد من اليمن إلى حدود مصر ، وتشمل السودان !
وكان جعفر يزور البطارقة ويدعوهم إلى الإسلام ، وجاء منهم بوفد إلى مكة للقاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومشاهدة معجزاته ، ولم تجرأ قريش على التعرض له ولضيوفه !
ففي تفسير القمي : 1 / 176 : « ولد للنجاشي ابن فسماه محمداً . وبعث إليه « إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) » بثياب وطيب وفرس ، وبعث ثلاثين رجلاً من القسيسين فقال لهم : أنظروا إلى كلامه والى مقعده ومشربه ومصلاه ، فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن . . . فلما سمعوا ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي ، فأخبروه خبر رسول الله ، وقرأوا عليه ما قرأ عليهم ، فبكى النجاشي وبكى القسيسون » .
وفي تفسير الطبري : 7 / 4 ، في قوله تعالى : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى . قال : « هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة » .
ثم روى الطبري أن النجاشي بعث إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « اثني عشر رجلاً من الحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهباناً ينظرون إليه ويسألونه ، فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسيِنَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لايَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشي ، فهاجر النجاشي معهم ، فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله والمسلمون واستغفروا له » .
وفي تفسير القرطبي : 13 / 296 : « قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وهم أربعون رجلاً ، قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة ، وثمانية نفر أقبلوا من الشام وكانوا أئمة النصارى : منهم بحيراء الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع . كذا سماهم الماوردي » .
وقال ابن إسحاق : 4 / 199 : « ثم قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريباً من ذلك من النصارى حين ظهر خبره في الحبشة ، فوجدوه في المسجد فجلسوا اليه فكلموه وساءلوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عما أرادوا ، دعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الله وتلي عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره .
فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا : خيبكم الله من ركب ! بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبرالرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ؟ !
ما نعلم ركباً أحمق منكم ! أو كما قالوا لهم . فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا نألو أنفسنا خيراً » !
ثم روى ابن إسحاق ، أن النجاشي بعث إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) اثني عشر رجلاً يسألونه ويأتونه بخبره ، فقرأ عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القرآن فبكوا وكان فيهم سبعة رهبان وخمسة قسيسين أو خمسة رهبان وسبعة قسيسين ، ففيهم أنزل الله : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ . . » . ونحوه القرطبي : 6 / 255 ، ابن كثير : 3 / 405
وابن هشام : 1 / 263 .
« وهذا يدل على عدة وفود رتب سفرهم إلى مكة جعفر وعلي ( عليه السلام ) والنجاشي وكان مجئ وفود القساوسة تحدياً كبيراً لقريش ، خاصة وأنهم التقوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) في المسجد وأسلموا على يده ، واعترضهم أبو جهل فأجابه القساوسة فسكت ، ولو قام بعمل ضدهم لحماهم جعفر وعلي « عليهما السلام » ، لأنهم ضيوف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبني هاشم !
كما تشير هذه الروايات وغيرها إلى أن جعفراً « رحمه الله » أتى بوفود علماء النصارى من الحبشة ونجران والشام ، والتقوا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأسلم عدد منهم !
كما ورد أن علياً ( عليه السلام ) سافر مرة إلى الحبشة مع جعفر ، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرسله في مهمات خاصة غير معلنة . روى في المناقب : 1 / 289 ، عن ابن عباس قال : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنصار : نزلت في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سبق الناس كلهم بالإيمان ، وصلى إلى القبلتين ، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان ، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة ، ومن الحبشة إلى المدينة » . ومعناه أن هجرة علي ( عليه السلام ) كانت مع جعفر في إحدى رجعاته من الحبشة إلى مكة .
2 . تدل أحاديث جعفر في الحبشة على أنه أحدث تياراً للدخول في الإسلام ، في قساوسة الحبشة والجزيرة والشام ومصر ، ولا بد أن يكون إسلامهم مؤثراً على أتباعهم ، وبه نفسر ردة فعل الروم القوية ضد النجاشي وضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لكنهم كانوا مشغولين بمعاركهم مع الفرس في سوريا وفلسطين ومصر .
كما نقرأ في الحبشة عن ثورة لخصوم النجاشي من وراء النيل لإسقاط حكمه ، وكانت حركتهم قوية ، وجيشهم كبيراً كما وصفته أم سلمة ، وقد طلب المهاجرون من النجاشي أن يقاتلوا معه ، فلم يقبل . الحاكم : 2 / 300 .
وفي السيرة الحلبية : 3 / 301 أن عمرو بن العاص أخبر جيفر بن الجلندي ملك عُمان بإسلام النجاشي فسأله : « فكيف صنع قومه بملكه ؟ قلت : أقروه واتبعوه . قال : والأساقفة أي رؤساء النصرانية والرهبان ؟ قلت : نعم . قال أنظر يا عمرو ما تقول ! إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له أي أكثر فضيحة من كذب ! قلت : وما كذبت وما نستحله في ديننا . ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي » !
والظاهر أن النجاشي لم يعلن إسلامه إلا في نطاق محدود ، وأن هرقل عرف بإسلامه ، لكنه كان مشغولاً بحربه للفرس ، ثم حرك ضد النجاشي من استطاع من الملوك « البطارقة » فقاتلوا النجاشي فنصره الله عليهم !
ثم وضع هرقل بعد انتصاره على الفرس خطة للقضاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كما يأتي في حرب مؤتة وتبوك .