عام الحزن
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص199-203
2025-10-28
36
كان عام الحزن نفس العام الذي خرج فيه من الشعب بعد حصار استمر ثلاثة أعوام اشرف هو ومن معه من الرجال والنساء والأطفال على الموت جوعا ، وكان أشد ما يؤذيه ويحز في نفسه صراخ الأطفال من الجوع وهو لا يستطيع ان يجلب لهم خيرا أو يدفع عنهم شرا ، ولكن وجود عمه وكافله والمحامي عنه كان يخفف عنه من آلامه ، لأنه كان يعزيه ويسليه ويشد من عزيمته ويؤثره على نفسه وأولاده ، وهو يعلم أن قريشا مهما بلغ بها الحقد لن تستطيع ان تنال منه ما تريد ما دام أبو طالب سلام اللّه عليه حيا في هذه الدنيا .
لقد رآه في احرج الظروف التي مرت عليه يفديه بأولاده فيأمرهم ان يناموا على فراشه ويأخذ بيده إلى فراشهم خوفا من أن يغتاله أحد وإذا حاول أحد من المشركين ان يقوم بعمل من هذا النوع فنفسه طيبة بأن يكون أعز أولاده عليه فداء لابن أخيه .
لقد كان محمد يشاهد كل ذلك فتخف عنه آلامه ويطمئن على مسيرة الدعوة ، فإذا رجع إلى بيته وجد فيه خديجة زوجته الوفية الصادقة في ايمانها ووفائها فتستقبله بقلبها وببشاشتها لتهون عليه الشدائد ، ويرى فيها الزوجة التي شاركته المصائب والآلام لم تتزعزع ولو لحظة واحدة بل بذلت له ثراءها الواسع وكل ما تملك من جاه ومال لإنجاح دعوته .
في العام العاشر من مبعثه الذي سماه هو نفسه عام الحزن ، وفي شهر رمضان من ذلك العام كما يرجح جماعة من المؤرخين اشتكى أبو طالب بعد ان تخطى الثمانين ، واخذ المرض يفتك به وشعر بدنو اجله ، ولكن المرض على وطأته لم يشغله عن محمد رسول اللّه ، وبات يفكر فيه لا بأوجاعه ولا بقواه المنهارة ، وأيقن ان قريشا سوف تستبيح من محمد بعد وفاته ، ما لم تكن تستطيعه في حياته ، فلم تشغله اوجاعه وآلامه عن ترغيب قريش في الاسلام ودعوتهم إليه وقد اجتمعوا حوله لعيادته ، فقال لهم : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد واتبعتم امره فأطيعوه تنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم ولكنهم كعادتهم لم يسمعوا قوله ، ولم يقبلوا نصيحته .
ورجعوا إليه في اليوم الثاني وقد ألح عليه المرض وأشرف على نهايته فقالوا يا أبا طالب : انك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى ، فضع حدا للخصام بيننا وبين ابن أخيك فخذ له منا ، وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه ، ويدعنا وديننا وندعه ودينه ، فقال لهم النبي ( ص ) وكان حاضرا ملازما لعمه : اعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ، فقال أبو جهل : نعم وأبيك وعشر كلمات لا كلمة واحدة ، قال تقولون : لا إله إلا اللّه وتخلعون ما تعبدون من دونه ، فقالوا أتريد ان تجعل الآلهة إلها واحدا ، ثم قال بعضهم لبعض : واللّه ان هذا الرجل لا يعطيكم شيئا مما تريدون .
واشتد المرض بأبي طالب ، وبينما رسول اللّه قد انصرف في حاجة له وإذا بالناعي قد أقبل إليه يخبره بوفاته فمضى مسرعا إلى البيت الذي هو فيه فمسح جبينه الأيمن والأيسر كما كان هو يمسح جبينه ، ثم قال : رحمك اللّه يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا فجزاك اللّه عني وعن الاسلام خير جزاء العاملين المجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم وكل ما يملكون ، ثم بكى وأبكى من كان معه حول أبي طالب .
لقد أحس أعداء محمد بالانفراج ساعة موته ، وكانوا من قبل يحسبون له الف حساب وحساب .
لقد بكى محمد ويحق له ان يبكي لأن أبا طالب كان له أبا حين فقد أباه وعضدا وناصرا حين احتاج إلى الناصر والمعين ، ودافع عنه كيد قريش وجميع محاولاتها التي كانت تعدها لكي تبلغ منه ما تريد خلال عشر سنوات خلت لمبعثه ، وها هي الرسالة التي ناصرها أبو طالب بلسانه ويده وسيفه وجاهه وجميع ما يملك ، واستطاعت بواسطته ان تتسلق أسوار مكة وهضابها لتشيع وتنتشر بين قبائل الحجاز ، وتنطلق منها إلى ارجاء الدنيا الواسعة ، لقد أصبحت قريش تخطط لها من جديد ، ومن يدري ما ذا يحدث غدا بعدك يا أبا طالب .
لقد بكى محمد واستعاد إلى ذاكرته في تلك اللحظات جميع تلك المواقف التي وقفها أبو طالب منذ كان صبيا إلى تلك المرحلة من حياته .
تذكره وهو يقدمه على جميع أولاده في صباه ، ويوم تعلق بزمام ناقته وقد أراد ان يذهب في تجارة له إلى بلاد الشام وهو يقول له : إلى من تكلني ولا أب لي ولا أم ألجأ إليهما وهو يقول له ، والدموع تتقاطر من عينيه واللّه لا اكلك إلى غيري ثم مد يده وجذبه إلى صدره يشمه وأردفه خلفه ، وأقسم انه لا يفارقه أبدا ، وتذكر حديث الراهب مع عمه وكيف استولى الفزع على عمه وفضل ان يعود به سالما إلى مكة ، تاركا كل مغنم تجره عليه تلك الرحلة إلى الشام ، ثم تذكر وتذكر ، ومضى يتذكر مواقفه مع المشركين يوم جاءه ذات يوم وهو ملطخ بالفرث والدم ، فقام واشتمل على السيف ومعه غلامه حتى اتى الكعبة وجبابرة قريش جلوس إلى جانبها فلما رأوه أحسوا بالشر ، فقال لهم : واللّه لئن قام أحد منكم ظللته بسيفي وامر غلامه ان يلطخ بالفرث والدم وجوههم وثيابهم واحدا بعد واحد . وتذكره يوم كان في الشعب محصورا مع بني هاشم كيف كان يحرسه في الليل والنهار مخافة ان يتسلل أحد المشركين إلى الشعب ويغتاله ، وقد وزع بني هاشم على منافذ الشعب وحصن بهم حدوده ، وتذكره يوم كان يضجعه في فراشه لكي يراه الناس وهو على فراش النوم ، فإذا ذهب كل انسان إلى فراشه وأوى إلى مضجعه وهدأ الشعب في سكون الليل وسكون النوم اقبل عليه واخذه بيده إلى فراش آخر وأضجع على فراشه أحد ولده حتى إذا حدث أحد نفسه بشر لا يصاب بأذى ، وتزاحمت الذكريات في ذهنه في تلك اللحظات وهو مسجى بين يديه ، وظل يتذكره طيلة حياته وبخاصة عندما تشتد قريش عليه ، ولقد قال بعد ذلك :
واللّه ما نالت قريش مني شيئا أكرهه الا بعد موت أبي طالب . لقد بكاه محمد وأبكى من كان حوله ومضى إلى بيته مهموما يبكي فوجد اليد التي كانت تمسح دموعه وتشاطره آلامه واحزانه ترتعد تحت وطأة المرض ، وسقطت ميتة بعد أبي طالب بأشهر قليلة أو أيام قليلة حسب اختلاف الروايات في ذلك ، وفقد محمد ( ص ) خلال اشهر وأيام عمه الذي رباه ونصره وضرب المثل الأعلى في التضحية والنصرة والرعاية خلال أربعين عاما أو تزيد ، وزوجته التي بذلت له مالها وواسته في جميع الخطوب والنكبات ، وكانت تود ان تتحمل عنه كل شيء ليسلم لرسالته ، وشعر محمد ان المسرات تتخلى عنه وان بهاء الحياة يعود ادكن مظلما .
وجلس يبكي إلى جانبها ويبكي معه من في البيت ، وأصحابه من حوله يحاولون ان يخففوا عنه آلامه واحزانه .
هاتان الفاجعتان الاليمتان في اشهر معدودات أو أيام معدودات كل واحدة منهما على انفرادها تكفي لأن تترك أقوى النفوس كليمة مضعضعة فكيف وقد اجتمعتا على محمد ( ص ) في عام واحد ، وأخصامه ينتظرون تلك اللحظات .
ولكن محمدا ( ص ) بالرغم من وطأة تلك النكبة واثرها العميق في نفسه مضى في طريقه وتابع سيرته ، وجدت قريش في ايذائه والتنكيل بأصحابه ، وكان من أيسر أنواع الأذى الذي أنزلته به بعد ان فقد عمه ان مر عليه أحد سفهاء قريش كما جاء في رواية الطبري فاغترف بكلتا يديه من التراب والأوساخ وألقاها على وجهه ورأسه ، فدخل بيته والتراب قد لطخ وجهه ورأسه ، فقامت إليه ابنته فاطمة ( ع ) وكانت أصغر بناته وجعلت تغسل التراب عن رأسه وتبكي وهي حديثة عهد بتلك الفاجعة الأليمة التي تجرع أبوها مرارتها .
وكان بكاؤها موجعا لقلبه ونفسه والتفت إليها وعيناها تهمى بالدموع ومسح رأسها بكلتا يديه وقال لها : لا تبكي يا بنية فإن اللّه مانع إياك وناصره على أعداء دينه ورسالته .
الاكثر قراءة في حاله بعد البعثة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة