حسن الهاشمي
ان وصايا الإمام علي (ع) مدرسة متكاملة لبناء الإنسان: إيمانا، وعقلا، وأخلاقا، وسلوكا، وهي صالحة لكل زمان ومكان، وليست مقتصرة على زمانه عليه السلام فحسب، اذ ان الوجدان الإنساني يتقبّلها بقبول حسن ويتلقّاها المتلقّي برغبة إنسانية جامحة توّاقة الى كل ما هو جديد في العلاقات الإنسانية النموذجية سواء مع الله تعالى او مع سائر بني البشر، ويمكن تلمّس أثرها الفعّال في تكوين المجتمع السعيد في الدارين.
هذا ما أشار اليه ممثل المرجعية الدينية العليا والمتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة سماحة العلّامة السيد أحمد الصافي، وأكد على أهمية تحويل وصايا الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر كنماذج إدارية حديثة لمعالجة التحديات المعاصرة، جاء ذلك أثناء استقبال سماحته رئيس قسم التطوير والتنمية المستدامة في العتبة المقدسة الدكتور محمد حسن جابر يوم الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 م واستماعه إلى شرح مفصّل عن نشاطات القسم وجهوده لتطوير العمل الإداري.
وصايا أمير المؤمنين في تربية الانسان
وأضاف سماحته "واجبنا اليوم هو التفكّر في أقوال أمير المؤمنين (عليه السلام) ووصاياه وجعلها في قوالب إدارية منهجية تناسب مؤسّساتنا المختلفة" مبيّنًا أنّ "وصايا الإمام علي (عليه السلام) وأدعيته تُربّي الإنسان ليكون عبدا صالحا في كل مرحلة من مراحل حياته".
من أروع ما تركه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في تربية الإنسان هي وصاياه القيّمة التي تجمع بين البُعد الإيماني، والأخلاقي، والإنساني، والاجتماعي، ومن أبرز هذه الوصايا:
1ـ وصيته لابنه الإمام الحسن (ع) ان يحب لغيره ما يحب لنفسه: (يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها) نهج البلاغة ج ٢ ص ٤٣. فالمعاني التربوية للوصية زرع قيمة العدل والإنصاف بين أفراد المجتمع، وتربية النفس على الرحمة والاحترام المتبادل.
2ـ وصيته لابنه الإمام الحسن (ع) في تقوى الله وحُسن العمل: (أوصيك بتقوى الله أي بني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله) نهج البلاغة: الكتاب 31. هذا المقطع يعزز صلة الإنسان بالله، وبناء إنسانٍ متوازن روحيا وسلوكيا.
3ـ في العلاقة مع الناس: (خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم ـ غبتم ـ حنوا إليكم) نهج البلاغة: الحكمة ١٠. يبدو واضحا في هذا الحديث الدعوة إلى الخلق الحسن، والعيش بمحبة ورحمة، ونبذ الأنانية والانغلاق.
4ـ في طلب العلم: (يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الانفاق) الأمالي - الشيخ الطوسي - ص ٢٠. - "المال تنقصه النفقة" أي عندما تُنفق من مالك، فإنه ينقص وينخفض عدده، لأن المال بطبيعته محدود، وكلما أنفقت منه، قلّ. "والعلم يزكو على الإنفاق" أما العلم، فحين تنفقه (تعطيه للناس وتُعلّمه)، فإنه لا ينقص، بل يزداد وينمو، ان وصيته لكميل تؤكد على رفع قيمة العلم والمعرفة، وحث الإنسان على التعلم المستمر.
5ـ في صيانة النفس: (قيمة كل امرئ ما يُحسن) من لا يحضره الفقيه: ٤ / ٣٨٩ / ٥٨٣٤. وهو أروع ما قيل في هذا المجال ويعني أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في ما يتقنه ويمتلكه من علم أو مهارة أو عمل، وليس في نسبه أو مظهره الخارجي، هذه الحكمة تُعزز مبدأ أن الفضل والإنسانية يظهران من خلال الأفعال والأعمال الصالحة التي يجيدها ويُقدّمها للآخرين، وهي ربط قيمة الإنسان بما يُتقنه من علم وعمل وخلق، لا بجنسه أو ماله.
الاستفادة من عهد أمير المؤمنين للأشتر في المجال الاداري
وقال سماحته: إنّ "عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر يحتوي على قيم ومضامين إدارية وقيادية فريدة يستفيد منها كل من يعمل في المجال الإداري، وان كُلّ النُظم الإدارية والقيادية في العالم تُعاني من مشاكل في موضع من المواضع، ولدى أمير المؤمنين (عليه السلام) حلول لهذه المشكلات من خلال هذا العهد المبارك".
من جهته قال جابر: أنّ "السيد الصافي رحّب بنجاح القسم في تقديم نسخة أولى لتحويل عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر ليكون نظرية إدارية لها تطبيقها العملي، أو برنامجا تدريبيّا في مجال الإدارة" مؤكّدا "قدّمنا نسخة موسّعة للسيد الصافي للبرنامج التدريبي في مجال الإدارة القيمية التي تستند كليّا على عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر".
عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولّاه مصر يُعدّ من أعظم الوثائق الإدارية والسياسية في التراث الإسلامي، ويُستفاد منه كثيرا في الإدارة الرشيدة والحكم العادل، وإليك أبرز ما يمكن الاستفادة منه إداريا مما جاء في نهج البلاغة: الكتاب ٥٣. في موردنا الذي نسلط الضوء عليه:
1ـ العدالة أساس الحكم: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم) ومن الواضح ان الإدارة الناجحة تُبنى على الرحمة لا القسوة، أما العدل يجب أن يشمل الجميع دون تمييز.
2ـ اختيار الكفاءات: (ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً ولا أثرة) وهذا يؤكد على ضرورة تعيين المسؤولين بناءً على الكفاءة والأمانة، والابتعاد عن المحسوبية والوساطة.
3ـ مراقبة الأداء والمحاسبة: (ثم تفقّد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم) وطالما يتحقق الأداء الجيد في تعزيز الرقابة الإدارية، والمحاسبة العادلة لضمان النزاهة.
4ـ الاهتمام بالفقراء والمستضعفين: (الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم) فالإدارة العادلة تهتم بـ الفئات الضعيفة، وهذا ما يصبّ في تعزيز العدالة الاجتماعية.
5ـ تسهيل أمور الناس: (إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال) وهي دعوة لفتح أبواب المسؤول أمام الناس، ومكافحة البيروقراطية وتعقيد المعاملات.
6ـ احترام الحريات والرأي العام: (ولا تقولنّ إني مؤمَرٌ آمر فأُطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين) الاستبداد مرفوض بأي شكل من الاشكال والقائد الناجح يستمع للناس ويقبل النصح.
يمكن اليوم بناء إدارة معاصرة إنسانية وعادلة من خلال الاستفادة من هذا العهد في اختيار الكوادر، ومراقبة الأداء، وإرساء العدالة الاجتماعية، والتواصل الفعّال مع الناس، ومحاربة الفساد والتمييز، ويمكن اعتبار عهد الإمام علي (ع) للأشتر ليس فقط وثيقة دينية، بل مرجع عالمي في أخلاقيات الحكم والإدارة.
دعاء مكارم الأخلاق والارتقاء بالمستوى القيمي للعتبة
وأضاف جابر إنّه "من ضمن توجيهات سماحة السيد الصافي لقسم التطوير ضرورة اعتماد الأسس الإسلامية في التدريب، باعتبار أنّ الإسلام منهج حياة قدّم مسارات بناء للإنسان في مختلف المجالات، إذ يعمل القسم على تحويل مفاهيم عدد من الأدعية إلى أن تكون برامج تدريبية، وكان على رأس هذه الأدعية، دعاء مكارم الأخلاق، وقد قدّمنا ثلاثة نماذج لتحويل هذا الدعاء ليكون برنامجا تدريبيّا يهدف إلى الارتقاء بالمستوى القيمي لمنتسبي العتبة المقدسة والمتدربين بشكل عام".
دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (عليه السلام) من الصحيفة السجادية يُعد من أسمى النصوص في تهذيب النفس والارتقاء الأخلاقي، ويمكن أن يكون مصدر إلهام للعتبات المقدسة ومؤسساتها في تعزيز القيم والسلوكيات الراقية في العمل والخدمة، ولعل أبرز مضامين الدعاء ودورها في الارتقاء القيمي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1ـ النية الصافية والإخلاص في العمل: (اللهم صلّ على محمد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين) الدعاء يبدأ بطلب كمال الإيمان واليقين، وهي قاعدة لبناء مؤسسة قِيمية راقية.
2ـ العدل والتواضع: (اللهم صلّ على محمد وآله، ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها) وهو تأسيس ثقافة مؤسسية تقوم على العدل، والتواضع، وعدم التفاخر بالمناصب.
3ـ الإحسان للناس وحُسن الخلق: (واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني) "يداً على من ظلمني "أي: قوّة وقدرة وعونا من الله يمكنني من خلالها الدفاع عن نفسي واسترداد حقي ممن اعتدى عليّ، من دون ظلم أو تعدٍّ.
"لساناً على من خاصمني" أي: حجّة واضحة، ومنطق قوي، وكلام حكيم أردّ به على من يجادلني أو يخاصمني، بحيث يُظهر الحق ويُسكت الباطل.
فالمقصود العام من الدعاء لا يطلب الانتقام أو الظلم، بل يطلب من الله أن يُعطي الإنسان القدرة على مواجهة الظلم بالحكمة والقوة المشروعة، وأن يُثبته بالقول الحق عند الجدال، فيكون كلامه مؤثرا وصادقا، فالدعاء يدعو إلى الرد بالحسنى، والصبر على الأذى، والحفاظ على كرامة الآخرين.
4ـ الحلم وضبط النفس: (وهب لي معالي الاخلاق، واعصمني من الفخر) دعوة إلى زرع الحلم، والعقلانية، والابتعاد عن الانفعال والتعالي في إدارة الأزمات.
5ـ الرقابة الذاتية والأمانة: (وَلا تَبْتَلِيَنِي بِالكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ) من أهم أسس العمل في العتبات: التواضع، الشفافية، الأمانة، والخوف من الله في خدمة الزائرين.
الاستفادة من الدعاء في العتبة العباسية المقدسة تكمن في تدريب الموظفين على القيم المستقاة من هذا الدعاء، وإدخال مضامينه في السياسات التربوية والإدارية، وإقامة ندوات روحية وأخلاقية دورية للعاملين، ولا يزال دعاء مكارم الأخلاق هو مشروع لبناء الإنسان الرسالي، وإذا تم تبنّيه في المؤسسات الدينية كوثيقة سلوك، فسيُسهم في ترسيخ ثقافة الخدمة بإخلاص، والارتقاء بمستوى العاملين قيمياً وسلوكياً، وتحقيق بيئة مؤسسية روحانية راقية.
الإدارة الإسلامية نموذج عمل للمؤسسات الناجحة
وتابع جابر "أنّ السيد الصافي يهتم منذ سنوات بإيجاد نموذج يعكس ثقافة الإدارة الإسلامية للعمل به في العتبة المقدسة، باعتبارها نجحت في مشاريع بمجالات أخرى، وصدّرتها كنموذج إلى باقي الجهات والأفراد الآخرين في المجتمع".
نعم، الإدارة الإسلامية تُعد نموذجا عمليا ناجحا يمكن أن تستفيد منه المؤسسات المعاصرة، بما تمثّله من توازن بين الكفاءة والقيم، وهي ليست فقط إدارة للماديات، بل إدارة للإنسان كقيمة عليا في ضوء مبادئ العدل، الأمانة، الشورى، الرحمة، والتكامل بين الفرد والمجتمع، وأبرز ملامح الإدارة الإسلامية كنموذج ناجح:
1ـ العدالة والإنصاف: تقوم الإدارة الإسلامية على مبدأ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) النحل: 90. فهو يضمن حقوق العامل، ويطبق العدالة على الجميع دون تمييز.
2ـ النية والإخلاص في العمل: قال الامام علي: (بحسن النيات تنجح المطالب) غرر الحكم للآمدي: 3703. تعزز الإدارة الإسلامية ثقافة العمل النزيه النابع من الضمير.
3ـ الشورى والتشاركية في القرار: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) الشورى: 38. تبتعد عن الاستبداد، وتُشرك الجميع في صناعة القرار.
4ـ الرقابة الذاتية (تقوى الله): الرقابة ليست فقط إدارية، بل إيمانية، مما يقلل الحاجة للملاحقة المستمرة.
5ـ القدوة الحسنة: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الأحزاب: 21. كما في سيرة النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع)، كان القائد أول الملتزمين بما يطلبه من الناس.
6ـ التحفيز المعنوي والمادي: تقدير الجهود، ومراعاة الاحتياجات النفسية للعاملين، مع الحفاظ على الحوافز المادية.
7ـ إدارة الوقت والإنتاجية: احترام الوقت من القيم الإسلامية، والإدارة الناجحة تُنظم الأولويات وتُحسن الاستغلال.
8ـ البُعد القيمي والروحي: ترسيخ مبادئ مثل الصدق، الأمانة، الحلم، الصبر، مما يرفع منسوب الأخلاق المؤسسية.
الإدارة الإسلامية ليست مجرد نظريات، بل نموذج قابل للتطبيق والنجاح العملي، وعند تبنّي هذا النموذج، خاصة في المؤسسات ذات البعد الديني والاجتماعي، فإنه يُنتج بيئة عمل محفّزة، منضبطة، ومتوازنة بين الإنتاج والقيم، لذلك فهي نموذج رائد للمؤسسات التي تريد النجاح مع الحفاظ على القيم.