Logo

بمختلف الألوان
في وطنٍ تئنُّ روحه من ثِقل الأيام، وتتوقُّ أجياله إلى فجرٍ يمحو ظلام اليأس، انبعث نورٌ من قلب مدينة مقدسة، نورٌ يملأ الوطن ضياءً، وأيدٍ أمينة تعانق آماله واحلامه. سطع نور العتبة العباسية المقدسة، التي لطالما كانت مَوئِلاً للعلم والمعرفة، لتتجاوز دورها الديني وتصبح حاضنة حقيقية للطاقات الشابة،... المزيد
أخر المواضيع


مرحبا بكَ زائرنا العزيز
نتمنى أن تكون في تمام الصحة والعافية

تحذير! هل انت متأكد من حذف هذا المقال مع الردود عليه ؟
الخطاب الحسيني المهدوي والعلاقة بين الشهادة والانتظار في مشروع الإصلاح الإلهي

منذ 4 شهور
في 2025/07/05م
عدد المشاهدات :1620
المقدمة: الخطاب الحسيني والمهدوي ليسا خطابين منفصلين، بل هما خيطان متكاملان في نسيج النهضة الإلهية، يمثل الأول قمة الفداء والثبات على الحق، ويمثل الثاني قمة الرجاء والتمكين للمستقبل الموعود. فكربلاء ليست مجرد واقعة تاريخية، بل هي خطاب حيّ، يتجدد كل يوم في ضمير الأمة، ويحمل في أعماقه وعدًا إلهيًا بخروج مصلحٍ يعيد الأمور إلى نصابها. وهذا ما يجعل الخطاب الحسيني حاملاً لمضامين مهدوية، والعكس صحيح، فالمهدي المنتظر (عج) هو ثمرة من ثمار كربلاء، والمنتظر الحقيقي لا يُمكنه إلا أن يكون حسينيًا في نهجه وموقفه.
أولًا: البعد الرسالي في الخطاب الحسيني
لم يكن خروج الإمام الحسين عليه السلام خروجَ طالبِ سلطة أو ناقمٍ على حكمٍ شخصي، بل كان انبعاثًا إلهيًّا في لحظةٍ فارقة من تاريخ الأمة، هدفه الأسمى إصلاح الانحراف الذي أصاب جسد الأمة الإسلامية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. وقد عبّر الإمام عن مشروعه بوضوح حين قال: إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي
(بحار الأنوار، ج44، ص329).
فالخطاب الحسيني، في جوهره، هو خطاب نهضوي رسالي، لا يكتفي بالتحذير من الانحراف، بل يسعى إلى إحياء الضمير الإنساني، وإعادة الناس إلى منبع الهداية، عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحمّل الثمن الأغلى: الدم الطاهر.
وقد قال عليه السلام، في لحظة وعي حاسمة، مخاطبًا وجدان الأمة:ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًّا
(بحار الأنوار، ج44 ص 381).
هذه الصيحة ليست فقط تشخيصًا للواقع، بل هي أيضًا دعوة إلى التحرك، وتحمل المسؤولية، واختيار الموقع في المعادلة بين الحق والباطل.
وهكذا، فإن الخطاب الحسيني ليس لحظة ثورة فحسب، بل هو تأسيس لنهجٍ إصلاحي ممتد، يُعدّ الأمة لقبول القيادة الإلهية الكبرى التي تتمثل في ظهور الإمام المهدي المنتظر (عج)، الذي سيُتمّم هذا المشروع، ويحقق الأمل الذي بدأ في كربلاء.
إن دم الحسين (ع) هو أول صيحةٍ في معركة الإصلاح الأخيرة، وصدى هذا الدم باقٍ في ضمير كل مؤمنٍ يُمهّد للظهور، ويهيّئ نفسه ليكون من أنصار صاحب الأمر. ولهذا فإن الخطاب الحسيني يحمل بُعدًا مهدويًا مستترًا، يُذكّر الأمة دومًا أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بالشهادة، ويكتمل بالظهور.

ثانيًا: الانتظار في ظلّ الدم الحسيني
حين سال دم الحسين عليه السلام على تراب كربلاء، لم يكن ذلك مجرد حادثة مأساوية، بل كان بداية حركةٍ تنتظر نهايتها الموعودة في يد الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف . لقد شكّلت كربلاء نقطة تحوّل في وعي الأمة، لا سيما عند أولئك الذين أدركوا أن دماء الطف ليست نهايةً، بل بداية عهدٍ جديد من الوعي والمسؤولية والتكليف.
الانتظار في المفهوم الإسلامي ليس حالًا من الترقب السلبي أو التمنّي الكسول، بل هو موقف حسيني دائم، قائم على البصيرة، والتكليف، والاستعداد للقيام. فالمنتظر الحقيقي هو من يعيش روح كربلاء في كل لحظة، ويهيّئ نفسه ليكون ممن ينصر المهدي كما نصر أصحاب الحسين إمامهم، بل كما في بعض الروايات: أفضل من أصحاب الحسين في بعض المقامات.
قال الإمام الصادق عليه السلام:من سرّه أن يكون من أصحاب القائم، فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق، وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه...
(الغيبة للنعماني، ص200).
هذا الحديث الشريف يُبرز الترابط بين الورع، وحسن الخُلق، والانتظار الواعي، ويؤسس لفهم أن الانتظار هو سلوك حياتي، لا حالة وجدانية عابرة.
والسؤال هنا: لماذا يشترط الإمام أن يكون المنتظر عاملًا بورعٍ ومحاسن أخلاق
لأن جوهر الانتظار هو تجسيدٌ حيّ للقيم الحسينية التي ضحّى من أجلها الإمام الحسين، أي: العدل، والصدق، والحرية، والكرامة، والإصلاح.فالمنتظر بلا موقف، كالباكي على الحسين بلا التزام؛ كلاهما لا يفهمان معنى الدم الطاهر الذي أُريق في كربلاء. إذ إنّ كل لحظة نعيشها منتظرين، يجب أن تكون مغموسة بروح كربلاء، وإلا فإننا نخون دم الحسين، ونخذل نداء المهدي.
وبهذا الفهم، يُصبح الانتظار امتدادًا للشهادة، والدم الحسيني هو الذي يمنح الانتظار معناً ثوريًا حيًّا. ومن دون هذا الدم، يتحوّل الانتظار إلى فكرة خافتة، ومن دون الانتظار، يفقد الدم الحسيني أفقه المستقبلي.
إنّ كربلاء مهّدت للظهور، كما يمهّد الدعاء للبزوغ، وكما يمهّد العدل للتمكين. وما بين الدم والزمن، يبقى المنتظر الحسيني واقفًا كالجبل، يربط بين الماضي والمستقبل، ويجسّد الخطاب الحسيني المهدوي بكل إخلاص.
️البعد الاجتماعي للانتظار الحسيني
الانتظار ليس تجربة فردية يعيشها الإنسان في خلده أو وجدانه فحسب، بل هو مشروع اجتماعي يُسهم في بناء جماعة مؤمنة، تحمل همّ الإصلاح، وتسعى إلى تهيئة الأرض للظهور. فكما أن شهادة الحسين (عليه السلام) لم تكن مشروعًا شخصيًا، بل صرخةً لإحياء الأمة، كذلك الانتظار لا يكون حقيقيًا إلا حين يترك أثرًا في الواقع الاجتماعي للأمة.

فالمنتظر الحسيني:لا يكتفي بإصلاح نفسه، بل يعمل على إصلاح مجتمعه.
لا ينكفئ في زاوية التديّن الفردي، بل ينزل إلى ميدان العمل، والنصح، والتكافل، والتعليم، والتزكية، والعدالة الاجتماعية.
يسعى إلى تكوين بيئة مهدوية، قاعدتها الأخلاق، وعدالتها التوزيع، وهدفها الاستعداد لنصرة القائم عليه السلام.
وقد ورد في دعاء العهد المبارك، الذي يُقرأ صباحًا من قبل المنتظرين:اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه، والذابين عنه، والمسارعين إليه في قضاء حوائجه، والممتثلين لأوامره...
فهل يمكن أن يكون الإنسان من أنصار المهدي، دون أن يكون عنصرًا فعّالًا في المجتمع
إن الخطاب الحسيني المهدوي يُطالب المنتظر أن يتحوّل إلى لبنة في بناء المجتمع العادل وأن يكون شعلةً في محاربة الفساد، وسندًا للضعفاء، وجسرًا يوصل الناس من زمن الظلم إلى عهد الظهور.
وهذا البعد الاجتماعي للانتظار يجعلنا نعيد فهم كثير من مفاهيمنا الدينية:فـ"التكافل" ليس إحسانًا، بل هو واجب تمهيدي.و"التعليم" ليس وظيفة، بل سلاح ضد الجهل الذي يؤخر الظهور. و"الدعاء للفرج" ليس تعويذة، بل عهد على العمل لأجل ذلك الفرج.

ثالثًا: الخطاب المهدوي امتدادٌ للخطاب الحسيني
الخطاب المهدوي ليس خطابًا معزولًا أو مفصولًا عن الخطاب الحسيني، بل هو استمرارية حيّة لمشروع الإصلاح الذي بدأه الإمام الحسين عليه السلام بدمائه الطاهرة في كربلاء. فكل منهما يمثل مرحلة من مراحل نهضة واحدة، تكمل بعضها البعض في مسيرة الأمة نحو تحقيق العدل الإلهي الكامل.

1. الاستمرارية التاريخية:بعد أن ألقى الحسين (ع) بنفسه في معركة الحق والباطل، ترك للأمة رسالة قوية واضحة: أن التضحية في سبيل الحق هي الطريق الوحيد للإصلاح الحقيقي. هذا الخطاب لم يتوقف عند كربلاء، بل ظل حيًا في ضمير الأمة، ينتقل من جيل إلى جيل، ينتظر قائدًا يكمّل به المشروع الذي انطلق على يد الحسين (ع).

الإمام المهدي (عج) هو هذا القائد الموعود، الذي سيُتمّم رسالة الحسين ويُحقق العدل الذي تأسس على دماءه. فالخطاب المهدوي هو صدى الخطاب الحسيني، لكنه يأتي في زمن يختلف فيه الواقع من حيث الظلم والفساد والانتظار.

2. تكامل الشهادة والتمكين:الخطاب الحسيني يركّز على الشهادة كمرحلة فداء وتأسيس، وعلى الثبات على المبادئ مهما كانت التضحيات. أما الخطاب المهدوي، فيتحدث عن التمكين والقيادة الفعلية لإقامة العدل وإنهاء الظلم.
بمعنى آخر: الحسين (ع) يمثل البذرة التي تزرع الدم في الأرض والمهدي (عج) يمثل الشجرة التي تُثمر وتنمو لتعطي الحياة والعدل. بدون شهادة الحسين، لا وجود لشرعية الانتظار والتمكين. وبدون الانتظار والعمل المهدوي، تبقى شهادة الحسين ناقصة، لا تكتمل في واقع ملموس.
3. الأبعاد الروحية والفكرية:الخطاب المهدوي يُكمل الخطاب الحسيني بتوفير أفق أوسع للرجاء، فبينما كان الخطاب الحسيني يبرز في زمن استبداد وظلم، يعلن رفضه بالدم، فإن الخطاب المهدوي يحمل وعد الفرج والعدل الكامل.
كما أن الانتظار ليس حالة سكون، بل هو موقف روحي وفكري يدعو إلى اليقظة الدائمة والاستعداد والعمل على الأرض، وهو تكريس لفكرة أن الأمة ليست ضحية للظروف، بل شريك في بناء التاريخ.
4. الواقع المعاصر وتحدياته:في زمننا المعاصر، يجد الإنسان المؤمن نفسه يعيش بين إرث شهادة الحسين، وواقع الانتظار المهدوي الذي يتطلب منه العمل والتمكين على المستويات الفردية والاجتماعية والسياسية.
الخطاب المهدوي، بهذا الشكل، لا يُعتبر مجرد فكرة مستقبلية بحتة، بل هو نداء للحركة الآن، للتحرر من الظلم وبناء مجتمع يرتكز على القيم الإلهية.

رابعًا: ملامح الخطاب الحسيني المهدوي في الوعي المعاصر
الخطاب الحسيني المهدوي، الذي ينبع من تجربة الإمام الحسين عليه السلام وامتداد مشروعه الإصلاحي، يشكل عموداً أساسياً في وعي الأمة الإسلامية اليوم، خصوصاً في المجتمعات التي تعيش حالة انتظار حقيقي للإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف). وفي ظل التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يشهدها العالم المعاصر، فقد شهد هذا الخطاب تطورات جوهرية انعكست على فهم الناس لدورهم في الحياة. لم يعد الخطاب الحسيني محصوراً في التعبير عن الحزن والأسى على واقعة كربلاء فقط، بل أصبح منطلقاً للوعي الحي والتحرك العملي، حيث ينتقل المؤمن من حالة التأثر العاطفي إلى حالة الفهم النقدي والالتزام العملي. فذكرى عاشوراء اليوم لا تمثل مجرد استذكار تاريخي، بل هي درس حي في كيفية مواجهة الظلم وإعادة بناء المجتمع على أسس العدل والحق. ويعيد الوعي المعاصر قراءة مفاهيم الشهادة والانتظار ليصبح واضحاً أن الشهادة لا تقتصر على الموت الجسدي في ميدان القتال فقط، بل تشمل الشهادة الحياتية في العمل والإصلاح والتغيير المجتمعي، وأن الانتظار هو انتظار نشط يستلزم استعداداً دائماً وتحلياً بالصبر والمثابرة والعمل على تهيئة الأرضية المناسبة لظهور الإمام المهدي (عج). في مواجهة تعقيدات العصر، يركز الخطاب الحسيني المهدوي على بناء شخصية الإنسان المؤمن المتزنة والقوية، القادرة على مواجهة تحديات الحياة بثبات وإيمان، من خلال تزكية النفس، والسعي المستمر للعلم والمعرفة، والانخراط الفاعل في المجتمع وتحمل المسؤولية الوطنية والاجتماعية. كما يؤكد الخطاب أن الإصلاح ليس مسؤولية فردية فحسب، بل هو واجب جماعي يفرض تنظيم الجهود الفردية والجماعية، والتعاون والتكافل بين المؤمنين لتهيئة المجتمع لاستقبال القيادة الإلهية، والعمل على محاربة الفساد بكافة أشكاله، والسعي لتحقيق العدالة الشاملة. يرفض الخطاب كل أشكال الظلم والفساد، ويرى في مواجهتها فرضاً دينياً وأخلاقياً يدعو إلى نقد السلطات الظالمة ودعم القضايا العادلة ومناصرة المستضعفين، ويبرز في الوقت ذاته انفتاح الخطاب على القيم الإنسانية العالمية مثل حقوق الإنسان والحرية والكرامة والسلام، معتبرًا إياها جزءًا لا يتجزأ من مشروع الإصلاح الإلهي، مما يزيد من جاذبيته وانتشاره في أوساط الشعوب اليوم. في النهاية، يبقى الخطاب الحسيني المهدوي ينبوعاً متجدداً في كل حركة إصلاحية ومقاومة للظلم، وفي كل دعوة لإعادة بناء الإنسان والمجتمع وفق منهج الحق والعدل الإلهي، فهو جسر يربط بين تاريخ الأمة وحاضرها، وبين الألم والأمل، وبين واقع الظلم والفرج المنتظر، ليقود الأمة نحو مستقبل مشرق تتحقق فيه بشارة الإمام المهدي (عج) بالعدل والرحمة.
إن من أبرز معالم هذا الخطاب اليوم:
1. التحريض على الوعي لا على العاطفة فقط، فالحسين لا يريد باكين فقط، بل عاملين في مشروعه.
2. تحويل الانتظار إلى نهضة: فالمهدوية ليست انتظار ساعة، بل صناعة مجتمع.
3. تحقيق العدل الإلهي الذي نادى به الحسين بدمه، ويقيمه المهدي بيده.
4. ربط الشعائر بالمسؤولية: فالزيارة واللطم والبكاء، وسائل توعية، لا مجرد طقوس.

خامسًا: خطاب الزهراء (ع) أنموذجًا جامعًا يُعتبر خطاب السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام من أبلغ الخطابات التي جمعت بين الرفض الصريح للظلم، والدعوة إلى الإصلاح الشامل، والتعبير عن المبادئ العقدية والأخلاقية التي يُبنى عليها مشروع الإصلاح الإسلامي الحقيقي. فهو خطاب جامع ينطلق من عمق التجربة الشخصية والألم الجماعي، ويتناول قضايا الأمة على كافة المستويات: السياسية، والاجتماعية، والروحية.
في هذا الخطاب تتجلى معالم الخطاب الحسيني المهدوي، حيث توفرت فيه كل عناصر القوة والوعي والمسؤولية التي تحفز الأمة على الاستنهاض والانتفاض في وجه الظلم والفساد، وتحض على التمسك بالحق والعدل. إذ كانت فاطمة الزهراء (ع) صوت الحق والضمير الحي، الذي ينادي بالعدل ويواجه الظلم بحزم ووعي عميق، محافظًا على الثوابت العقدية ومبادئ الإسلام السمحة.
لقد أظهرت في خطبها قدرة فائقة على التعبير عن الحقائق ببلاغة جمعت بين الحكمة والرؤية الثاقبة، ووجهت من خلالها رسالة واضحة للأمة، تؤكد على ضرورة التمسك بالعدل، وعدم السكوت عن الظلم، ودعت إلى الإصلاح الحقيقي الذي يستند إلى قيم الإيمان والتقوى.
كما يبرز في خطابها البُعد الروحي العميق، حيث تربط بين النضال السياسي والاجتماعي وبين الإيمان بالله والثقة بوعد الله بالعدل والفرج، مما يجعل خطابها نموذجًا متكاملاً يُلهم الأجيال في طريق الإصلاح والانتظار الواعي.

في الوعي المعاصر، يستمر خطاب الزهراء (ع) كمرآة تعكس ضرورة التوازن بين الموقف الحازم من الظلم والعمل الإيجابي والبناء، ويدعو إلى الوحدة والتكاتف في مواجهة التحديات، مع التمسك بالقيم الروحية والأخلاقية التي تشكل الأساس المتين للمشروع المهدوي.

سادسًا: دور الخطاب الحسيني المهدوي في بناء الوعي الجماعي في الأمة الإسلامية، فهو يذكرها بقضيتها المركزية التي لم تنتهِ بعد، ويحثها على التمسك بالوحدة والعمل المشترك نحو الإصلاح والنهضة. دم الحسين عليه السلام، الذي سال في كربلاء، ليس فقط شهادة فردية، بل نقطة انطلاق لوعي جماعي يُعيد تشكيل الأمة على أسس الحق والعدل.
القرآن الكريم يوجه الأمة إلى الوحدة والتلاحم، حيث يقول سبحانه:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)،
والخطاب الحسيني المهدوي ينفذ هذا الأمر الإلهي، فهو يدعو المؤمنين لأن يكونوا كالجسد الواحد، يتكاتفون ضد الظلم والفساد، ويعملون على إحياء القيم الإسلامية الحقة.

كما يُبرز القرآن أن المؤمنين إخوة، وقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: 10)،
وهذه الأخوة الحقة لا تتحقق إلا بالعمل الجماعي والتعاون على البر والتقوى، وهو ما يجسده الخطاب الحسيني المهدوي في توصياته وتحفيزه على اللاحم. عن سيف بن عميرة قال حدثني من سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول سئل رسول الله صلى الله عليه وآله من أحب الناس إلى الله قال أنفع الناس للناس
(جامع أحاديث الشيعة ج ١٦ - الصفحة ١٧٥)
مما يؤكد أن بناء الوعي الجماعي يتطلب من كل فرد أن يكون عنصرًا فعالاً في خدمة مجتمعه، لا مجرد متفرج.
وفي حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميته جاهلية
(بحار الأنوار ج ٢٣ - الصفحة ٧٨)،
يُشير هذا الحديث إلى أهمية الارتباط بالقيادة الإلهية، أي الإمام المهدي (عج)، كركيزة لبناء الوعي الجماعي والاستعداد لظهوره.

الخطاب الحسيني المهدوي يشدد على الصبر والثبات، كما جاء في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200)،
فالانتظار ليس خمولاً بل هو صبر مليء باليقظة والعمل، يرفض التفرقة والانقسامات التي تضعف الأمة.
ويؤكد الإمام المهدي المنتظر (عج) في الروايات أنه سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا، وهذا يتطلب من المؤمنين أن يكونوا واعين وجاهزين، وهو ما يزرعه الخطاب الحسيني في النفوس.
الخطاب الحسيني المهدوي في عصرنا يحث الأمة على تجاوز حالة الانكفاء الذاتي أو التذمر السلبي، ويدعو إلى التفاعل الإيجابي مع الواقع، من خلال بناء مجتمعات متماسكة تحمل قيم العدل، الرحمة، والتضحية في سبيل الله، مع التمسك بحبل الله المتين الذي أمر به في القرآن.
وهكذا يصبح الخطاب الحسيني المهدوي ليس فقط رسالة تاريخية، بل برنامجًا عمليًا لبناء أمة مؤمنة، واعية، متماسكة، تعمل معًا بجد واجتهاد لتهيئة الأرضية لظهور الإمام المهدي (عج)، وتحقيق العدل الإلهي في أوسع نطاق.

خاتمة:الخطاب الحسيني المهدوي هو نداء الثورة والانتظار، نداء الدم والعدل، نداء الإصلاح والتمكين. من لا يفهم الحسين، لا يمكنه أن ينتظر المهدي، ومن لا يعيش المهدوية سلوكًا، لم يفهم كربلاء. إننا أمام خطابٍ يتحدّى الصمت، ويزرع في كل قلب حسيني أملاً لا ينطفئ:
{سيعود صاحب الزمان، ليأخذ بثأر جده، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا} .

إنني أرى في الخطاب الحسيني المهدوي - منهجًا متكاملاً لبناء الإنسان الإلهي-، الإنسان الذي لا يُمكنه أن يفصل بين دم الحسين وراية القائم، ولا بين حرارة الشهادة ووهج الانتظار. من لم يتربَّ في مدرسة كربلاء، لن يكون جديرًا بالقيام مع صاحب الزمان.
إن الخطاب الحسيني ليس فقط دمعة وعزاء، بل هو مدرسة تربوية تفتح طريق الاستعداد للظهور المقدس، وتوقظ في داخل كل إنسان مسؤوليته تجاه الإصلاح، تمامًا كما قال الإمام الحسين عليه السلام: إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا..
وهذه الكلمات يجب أن تكون شعارًا لكل منتظرٍ حقيقي.
أما الخطاب المهدوي، فهو وعدٌ بالعدل بعد طول الظلم، وهو امتدادٌ صادق لذلك النداء الذي أطلقه الحسين في كربلاء: هل من ناصرٍ ينصرنا-، والذي نردُّ عليه اليوم بقلوبنا وسلوكنا: لبيك يا حسين، لبيك يا مهدي
إنني أعتقد أن كل مؤمن يعيش في زمن الغيبة، مسؤول عن حمل هذا الخطاب، ونقله إلى العالم، بلسان الوعي، وسلوك الصدق، ودمع الانتظار، وعمل الإصلاح. فبذلك فقط، نكون ممن يفكر في الإمام، فيفكر الإمام فيهم... كما قال العارف الشيخ بهجت (قدس سره):إن الإمام المهدي يُفكّر فيمَن يُفكّر فيه.
للنشر : مجلة أقلام بمختلف الألوان
الكاتب: الشيخ أحمد عباس الساعدي
موسم محرم الحرام 1447 هـ / 2025 م

اعضاء معجبون بهذا

حين يسقط القناع: قراءة نفسية في تغيّر الصديق الطيّب
بقلم الكاتب : حنين ضياء عبدالوهاب الربيعي
كان يبدو صديقًا حقيقيًا، قريبًا للروح، تتحدث إليه فيفهمك دون أن تشرح كثيرًا. عاش بينك زمنًا من المودّة والصدق الظاهري، حتى ظننت أن صداقتكما من النوع الذي لا يتبدّل. لكنك كنتَ مخدوعًا أو بالأحرى كنت ترى الوجه الذي أراد أن يُريك إياه. فجأة تغيّر. صار يتصرف بسوء، يتحدث عنك في غيابك، يذكرك بأقبح الكلام،... المزيد
المزيد من المقالات الإجتماعية

المزيد من المقالات الثقافية

كان اسمها (زينب)  ويقال إن للإنسان نصيبا من اسمه،وهي كذلك،ترتدي الخُلق وتنطق... المزيد
ونحنُ في المشتاةِ ندعو الجَفَلَىٰ لا تُرى الآدِبَ فينا يُنتَقَرُ طرفة بن العبد... المزيد
مازلتُ غريقا في جيبِ الذكرياتِ المُرّةِ، أحاولُ أن أخمدها قليلا ؛لكنّ رأسها... المزيد
رُوَّادُ الولاء : شعراء أضاءوا بالحقِّ فطُمِسَ نورُهم لطالما تهادت على بساط... المزيد
في قريةٍ صغيرةٍ محاطةٍ بجبالٍ شاهقة، عاش رجلٌ يدعى هشام، معروفٌ بحكمته وطيب قلبه،... المزيد
في فضاءات القصيدة العراقية، ينهض فالح حسون الدراجي كصرحٍ شعريٍّ نادر، يُجسّد... المزيد
في زاوية السوق، جلس رجل أشيب، يضم كفيه الفارغتين إلى صدره كمن يحمي كنزًا لا يُرى. كان اسمه...
حين نتحدث عن الأجناس الأدبية التي تتصدر المشهد الثقافي العربي عامة، والعراقي خاصة، نُشَخِّص...
في رحاب الكاظمية المقدسة، وُلد جابر بن جليل كرم البديري الكاظمي عام 1956، ليكون نجمًا متألقًا...
كان يتذمر،والشكوی تضحك في فمه كيف يعلِّمني صبيٌّ علی كلٍّتلميذٌ صغير  وسأعيد تربيته أنا...


منذ 3 ايام
2025/11/16
احلفكم بالله ايها المحللون والاعلاميون اتركوا المنتخب العراقي وشأنه ولا تضعوا...
منذ 3 ايام
2025/11/16
سلسلة مفاهيم في الفيزياء الجزء السادس والسبعون: كون داخل الكون: العوالم المتعددة...
منذ 3 ايام
2025/11/16
منذ سنوات برزت ظاهرة من قبل بعض جماهير الاندية الكبيرة ضد نادي الزوراء وانتشرت...
رشفات
( مَن صبر أُعطي التأييد من الله )