الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين أبي القاسم محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين وبعد.
السلام على مَن وُلد في هذا الشهر المبارك، شهر شعبان، شهر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم): الحسين والسجاد والمهدي والعباس وعلي الأكبر (صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين).
السلام على الإمامين موسى الكاظِم ومحمد الجواد ورحمة الله وبركاته.
تحدث التاريخ كثيراً عن صور الكرم والجود، وصور النجدة والشجاعة، وصور الإيثار والتضحية، وصور النبوغ بالعلم والمعرفة وغيرها من الصفات الحسنة. وكان أحسنَ مصادقيها وأجلاها، وما يزال، شخص الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). فقد اختاره الله تعالى ليكون آخر أنبيائه وخاتم رسله. ولما كان النبي أو الرسول أو الوصي من أفضل المعادن وأصفى الأرواح وأنقاها وأكثر الناس استعداداً لتحمل القيادة فيتعاهده الله تعالى برعايته حتى تكون سيرته النفسية والعملية صافية لا يشوبها ظل أو كدر كما قال تعالى لنبيه موسى بن عمران (عليه السلام): (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي). وهكذا هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد انتخب الله تعالى له أوصياء وخلفاء من بعده فعيّنهم ونصبهم على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) اثني عشر خليفة من أهل بيته، أولهم علي بن أبي طالب(عليه السلام) ومن ثم أتبعه بمن يتبعه حتى بلغ عهد آخرهم القائم (عجل الله فرجه الشريف) الممتد وقته إلى قيام يوم الدين، ينتمون إلى شجرة أنبيائه وأمنائه. ثم إن النبي أو الرسول أو الإمام ليس نتاج نفسه وذاته بل هو محصول شموخ وراثي عالٍ ونتاج إنساني متحضر نحو الأعلى، وكما عبّر عن ذلك القرآن الكريم بقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ). وذرية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) صفوة الخلق وخيرة هذه الأمة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم المعصومون والمطهرون من الرجس بكل أنواعه، وجعل لهم المقامات العالية، والدرجات الرفيعة، لهم ما لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلا النبوة، وأمر الناس بطاعتهم، بل قرن طاعتهم بطاعته جلّ وعلى، فهم القدوة والأسوة، أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم حجة. كما إن الأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء هم محط التبرك والتوسل والطريق الذي يؤدي بالعباد إلى أقرب وأقوم السبل إلى الله تعالى، فهم أبواب الله تعالى الذي منه يُؤتى، فضلاً عن إنهم من عظماء الأمة وقادتها.
ومن علامات ترقي الأمم الاحتفاء بعظمائها، ونحن أمة الإسلام قد كثر عظماؤها ورموزها، ولذا وجب علينا الاحتفاء بذكراهم امتثالاً لأمر الله تعالى في إقامة الشعائر التي هي من تقوى القلوب، والتزاماً بحديث الإمام الصادق (عليه السلام) عندما قال للفضيل عن المجالس التي يذكرون بها أهل البيت (عليهم السلام): (إن تلك المجالس أُحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا). إن ارتباط الأمة بقادتها تكون على مستويات، أفضلها وأكملها هو المستوى الذي يعيش الفرد بكل مشاعره وأحاسيسه مع قادته ورموزه الموصلة إلى الله تعالى. الإمام الحسين (عليه السلام) ثالث الأوصياء وخامس أصحاب الكساء، وأحد أصحاب آية المباهلة وآية الإطعام وآية التطهير، وشخصيته امتداد لشخصية سيد الأنبياء وسيد الأوصياء (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولا غرو أن الإمام الحسين (عليه السلام) هو الشجرة المباركة نفسها والشعاع من تلك الأنوار اللامعة في دنيا الإنسانية، والإمام الحسين (عليه السلام) صار نهجاً وقيمة وقوة إنسانية عظمى، وفضيلة من فضائل الدين الحنيف، وهو الكلمة المهمة التي ترسخت في أذهان الأمة وضميرها. الإمام الحسين (عليه السلام) هو القلب الكبير الذي استوعب معاناة الأمة من أدناها إلى أقصاها، وسعى في إصلاح أحوالها. وعندما يتطلب الأمر أن يقدم الفداء لا يتوانى في تقديم كل ما يمتلك من أنفسٍ وأموال، فيقدّم الأبناء والإخوة والأقارب والأحباب والأصحاب، ثم يقدم نفسه الشريفة قرباناً على مذبح الشهادة، ليبقى جرحاً في قلب كل مؤمن يشرب أخلاق الطف وما جرى فيها ويقتدي بشمم الأخلاق الحميدة التي جسدها الإمام وأصحابه (صلوات الله عليهم أجمعين) على صعيد كربلاء.
أما صاحب الذكرى الثانية فهو الامام الرابع علي بن الحسين(عليه السلام) والذي كانت ولادته في الخامس من شعبان عام 38هجرية، وقد رافقت حياته الشريفة جملة من الأحداث المروعة وأشدها ألماً، وهو طريح المرض يرى قتل أبيه وأهل بيته في أبشع صورة عرفتها الإنسانية. ولو تأملنا بعض الشيء من حياته لوجدناها مملوءة بالحزن والأسى، حيث نشأ في بيت النبوة ومهبط الوحي في البيت الذي تحمل أقسى ما يتصور من الألم والمحن والمصائب في سبيل الله. ومع نعومة أظفاره استقبل المصائب والرزايا، وهذا لم يثن من عزيمته فانطلق بمهمته في الدفاع عن الدين وأهله فوقف ذلك الصلب الشديد بوجه طغاة عصره، وتحدى عمر بن سعد وعبيد الله بن زياد ثم يزيد بن معاوية، وأثار حفيظة أهل الشام بخطبته الرائعة في المسجد الأموي وبحضور يزيد بن معاوية مما أدى إلى انقلاب ذلك الجمع الشامت إلى مؤيد ونصير. ولولا تدارك الطاغية الموقف لحدث ما لم يخطر ببال أعداء الله. في هذا الجو المحموم والمجتمع المهزوم انطلق(عليه السلام) في مجتمع لم يثبت على ثوابت الإيمان الحقيقية وابتعد عن الحق وأهله وبتفاوت ودرجات، فصال وجال وكر ثم كر وليس معه في الأمة إلا ثلاثة حتى سار بالأمة إلى النجاة. ونحن لسنا بصدد التعرض لسيرته الشريفة أو التعرف على بعض مفردات سيرته الشريفة والوقوف على الوقائع التاريخية ولا سرد لطرف من القصص والأحداث، بل غرضنا أن يعرف المسلم خصوصاً، والإنسان عموماً، الحقيقة الإسلامية فإنها بمجموعها متجسدة في حياته الشريفة.
أما في الرابع من شهر شعبان فقد عمت الفرحة البيت العلوي وهم يستقبلون وليدهم الجديد والبشرى تحف البيت ثم يُقلدُ الأب وليده أوسمة العزة والكرامة بألقاب تفرد بها مثل ( النصير، والحامي، وصاحب الراية، وصاحب الجود، و...). ومن ذلك اليوم ارتسمت الخطوط العامة لحياته وأهدافها، فنشأ نشأةً صالحةً كريمةً قلما يظفر بها إنسان. فقد نشأ في ظلال أبيه (عليه السلام) رائد العدالة الاجتماعية وأخويه سبطي هذه الأمة وسيدي شباب أهل الجنة (عليهما السلام). ولا غرابة أن يصفه الإمام الصادق(عليه السلام) بنفاذ البصيرة، ونفاذ البصيرة منبعثة من سداد الرأي وأصالة الفكر، ولا يتصف بها إلا من صفت ذاته وخلصت سريرته ولم يكن لدواعي الهوى والغرور سلطان عليه. ثم إن من تعرّف على سيرته وجد أن المواقف التي مر بها أبو الفضل (عليه السلام) قد شابهت مواقف أبيه سيد الوصيين (عليه السلام)، فهو رمز التضحية والبطولة والعطاء والفداء. فكم نرى الامام علي (عليه السلام) عند النظر الى ولده العباس(عليه السلام)، وما أجمل الصور التي صدرت عن أبيه (عليه السلام) وتكررت فيه، فسلام الله عليه.
ونحن في هذه الأيام نعيش ذكرى الولادات الميمونة، ولادة خامس أنوار الهداية الربانية الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وذكرى ولادة الامام الرابع علي بن الحسين(عليه السلام) وذكرى ولادة أبي الفضل العباس بن علي (عليه السلام)، فصار لزاماً علينا أن نوجه مشاعرنا وأحاسيسنا صوب أصحاب هذه المناسبات التي تتجدد كل عام ولتخلد على مر العصور والأزمان.
أتوجه بالشكر والثناء إليكم حضورنا الأفاضل على تشريفكم بالحضور، وإلى خدمِ الإمامين الجوادين (عليهما السلام) الذين هيّئوا متطلبات إقامة هذا الحفل، ومن هذا المكان المقدّس ندعو اللهَ سبحانه أن يرحمَ العبادَ والبلاد، ويرحمَ الشهداءَ السعداء ويُعين أهليهم على ما هم فيه، ويمنَّ على الجرحى والمرضى بالشفاءِ العاجل، ويردَّ النازحين إلى مساكنِهم، ويعمَّ بلدَنا الأمن والأمانِ إنه سميعٌ مجيبٌ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ على محمدٍ وآلِ محمدٍ الطيبين الطاهرين.