المصائب لا تأتي فرادى.. فأوروبا تلك القارة العجوز التي وجدت نفسها في خضم صراع دبلوماسي وعسكري واقتصادي وأزمة طاقة غير مسبوقة نتيجة الأزمة الروسية الأوكرانية، لم تكد أن تلملم شتات نفسها، حتى ضربتها أسوأ موجة جفاف منذ 500 عام، أدت إلى انخفاض مستوى المياه في البحيرات والأنهار بما يهدد إمدادات مياه الري والشرب والشحن النهري، بالإضافة إلى جفاف الأراضي الزراعية وهو ما يكلفها مزيدا من الخسائر الاقتصادية.
الجفاف الذي يصيب الأنهار في أوروبا يسبب اضطرابات قوية في حركة التجارة عبر الأنهار، والتي تعد عنصرا مهما للنقل بين الدول الأوروبية، وتسهم بنحو 80 مليار دولار في اقتصاد منطقة اليورو، بحسب بيانات هيئة "يوروستات"، وهو مبلغ قد تفقده ميزانية دول الاتحاد الأوروبي إذا ما توقفت حركة النقل عبر الأنهار والقنوات المائية بالمنطقة.
وفي هذا السياق، قال مستشار التحرير في منصة الطاقة، أنس الحجي، في مقابلة مع برنامج "عالم الطاقة" على قناة "سكاي نيوز عربية" إن مشكلة الجفاف في أوروبا كبيرة جدا، وإنها على المدى الطويل، قد تكون أخطر من أزمة الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات المرتبطة بها.
"أوروبا الآن في مأزق كبير بسبب الجفاف، وقد يكون هذا المأزق أكبر بكثير من مأزق الحرب الروسية الأو كرانية"، بحسب ما قاله الحجي.
وأضاف الحجي: "السياسيون في أوروبا قد يمكنهم التعامل مع بوتن، لكن لا يمكنهم التعامل مع الجفاف، فمشكلة أوروبا مع روسيا بخصوص أوكرانيا والعقوبات، هي في النهاية قرار سياسي، ويمكن أن يتغير، أو حتى أن يتقبل السياسيون الوضع الجديد، لكن لا يمكن للسياسين أن يتعاملوا مع الجفاف".
وعن أبرز التحديات التي تواجهها أوروبا بسبب الجفاف، قال الحجي، إن "كل المنتجات النفطية تنقل داخل أوروبا عبر الأنهار.. فإذا جفت هذه الأنهار كيف سينقلونها؟".
وأضاف أن "الأمر الثاني أن هناك عدة دول تعتمد على توليد الكهرباء من الطاقة الكهرومائية، وقد انخفض مستوى السدود بشكل كبير في الوقت الحالي، وهو ما يعني أنه سيتم استخدام الغاز لتعويض هذا النقص، وهذا الأمر سيكون بشكل خاص في النرويج".
وأوضح: "إذا استخدمت النرويج الغاز لتعويض نقص الكهرباء الناتج عن انخفاض مستوى السدود، فهذا يعني أن هذا الغاز لن يذهب إلى أوروبا، وبريطانيا نفس الشيء".
وتواجه الدول الأوروبية أزمة كبيرة في توفير الغاز، بعد تقليص روسيا إمداداتها، على خلفية العقوبات المفروضة عليها إثر عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
وأقرت دول الاتحاد الأوروبي خفضا طوعيا في استهلاك الغاز بنسبة 15 بالمئة من أجل السماح بزيادة مخزوناتها قبل دخول فصل الشتاء، لكن مع ذلك يتوقع الخبراء أن تشهد أوروبا شتاء قاسيا، وارتفاعا في فواتير التدفئة.
وجاءت أزمة الجفاف، في وقت كانت أوروبا تنوي الاعتماد بشكل كبير على الممرات المائية كجزء من جهودها لمكافحة التغير المناخي وتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، إذ كانت تستهدف المفوضية الأوروبية زيادة النقل عبر الممرات المائية بنحو 25 بالمئة بحلول 2030.
كما يبدو أن معاناة ألمانيا من أزمة نقص الغاز نتيجة الأزمة الأوكرانية قد تتضاعف، إذ أن صعوبة النقل النهري قد تعيق حركة نقل الفحم إليها، ما قد يهدد خطة الحكومة الألمانية لإعادة تشغيل محطات توليد الكهرباء باستخدام الفحم. فنهر الراين بألمانيا، يمثل شريان حياة بقلب أوروبا، وقد انخفض منسوبه بما يهدد الإمدادات الحيوية لألمانيا وحركة السفن.
وفي فرنسا، فإن درجات الحرارة المرتفعة بالأنهار، جعلت من مياه نهري "رون" و"غارون" دافئة لدرجة باتت لا تسمح بتبريد المفاعلات النووية بشكل فعال، أما نهر "بو" في إيطاليا فقد شهد انخفاضا كبيرا بمنسوب المياه فيه، فبات غير كاف لري حقول الأرز.
أما نهر الدانوب، والذي يشق طريقه عبر مساحة 1800 ميل بين وسط أوروبا والبحر الأسود، يجف هو الآخر، مما يعيق حركة تجارة الحبوب وغيرها.
وفي بريطانيا.. جفت منابع نهر التايمز على نحو لم تشهده البلاد من قبل، وأعلنت الحكومة يوم الجمعة الماضي، أن أجزاء من جنوب ووسط وشرق إنجلترا انتقلت رسميا إلى حالة الجفاف، بعد فترة طويلة من الطقس الحار والجاف الذي تشهده القارة الأوروبية.
ويعزو العلماء الجفاف الذي تشهده أوروبا إلى التغيرات المناخية التي أدت إلى تراجع تساقط الثلج وارتفاع منسوب استهلاك النباتات للماء نتيجة انخفاض خصوبة الأرض. وبدأت بعض الحكومات اتخاذ إجراءات لمواجهة شح المياه، ففرنسا على سبيل المثال حظرت استخدام المياه لغسيل السيارات أو ري الحدائق المنزلية وأغلقت مرافق الاستحمام في الشواطئ.