قال تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام : 115] هناك ميل عام الى ان (كلمة ربّك) هنا هي الدعوة الاسلاميّة.
الاتمام دليل الكمال.
الاتمام رحلة بدأت من الصدق وأضحت بالعدل، أو هو مسيرة من السماء الى الارض، فالصدق مقترب مفهومي يدل على المصدريّة المطلقة لهذه الكلمة المقدسة، والعدل مقترب مادّي يدلّ على استقامة الحياة ان انضبطت بالكلمة ذاتها، ف «عدلا وصدقا» مركب إشاري يلقي الضوء على مسيرة هذا الاتمام، وانه مزيج من هذا التلاون بين السماء والارض، فالصدق خلو من التناقض في متن النص، والعدل خلو من التناقض في صحيح تفاعله على الهامش، ان العدل هنا هو صدى للصدق في مرحلة التطبيق.
{لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ....}
يذهب الكثيرون الى ان المعنى : لا مغيّر لاحكامه!! وهذا التفسير بارد جدا.
انّ هذا المقطع يتصل بعمليّة الاتمام الذي بدأت به الآية الشريفة، ومفاده البعيد انتفاء البديل أو انتفاء النص الصادق والعادل في قبال الدعوة الاسلامية العزيزة(1), فالاسلام هو الدين الذي استوعب العقيدة والشريعة والاخلاق على اتم مستوى من الطرح، وهو الدين المفتوح لاستيعاب كل طاقة، وبهذا ينتفي الدين البديل، فالكلمة هي الاسلام بعنوانه العريض، والكلمات هي تفاصيل هذا الدين الخاتم، واكبر شاهد على كون المقصود هو انتفاء البديل الآية التي تليها، اذ يقول تعالى : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [الأنعام : 116] ، كما ان الآية السابقة عليها تلقي باسبابها الى هذا المعنى الجذري، ففي الانعام الآية 114 يقول تعالى : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام : 114] ، وعليه فان قوله تعالى {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ}، ينصرف الى استحالة النص الصادق العادل بعد النص الاسلامي، وليس المعنى تبديل الأحكام بالمعنى الشائع الساذج، فان التحذير من طاعة الآخر بعد توفر النص الصادق والعادل انما هو تحذير من اختيار النص البديل باعتبار انّه ليس تحويلا ولا كفوءا باي حال من الاحوال، وابتغاء غير اللّه بعد تفصيل الكتاب هو ارتماء في احضان نص غامض، مبهم، متناقض، ينطوي على شيء من الباطل أو هو الباطل برمته.
2- وفي هذا المسار يمكن ان ندرج قوله تعالى : { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 40]
{كَلِمَةُ اللَّهِ ...} استئنافية، ومن الضروري ان لا تنعطف على {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} في تناكر القطيعة وتتجذر المفاصلة والمعاندة، واعتقد ان (كلمة اللّه) هنا الاسلام، فنجاة رسول اللّه من المؤامرة انما تمثل علو الاسلام في الارض وقيامه شاخصا بعقيدته وشريعته {وكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الشرك، وهذا التعاقب او التوالي الذي ينطوي على تناظر على خط الظفر بالمستقبل يؤكد معركة عقيدية وتنافسا ذا صبغة فكريّة، والذين كفروا من جهة ومحمد من جهة اخرى هم روافع هذه المعركة وآلياتها التنفيذية، ومحمد يجسد آليّة القدر الذي اذا انثلم، تتوقف مسيرة التاريخ باتجاه الهدف الخير، كقيمة مركّزة ومفصلة، فعملا بالاستئناف ومراعاة للتناظر على خط المنافسة، واستخراجا لدور النبي بلحاظ الرسالة، كل ذلك يشجع على اعتبار (الكلمة) في الآية انما هي الدعوة الاسلامية، واهم ما في هذه الدعوة الزكية هو (التوحيد)، وقد استعملت (الكلمة) في هذا المعنى.
قال تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 64]
والآية الشريفة فسّرت معنى (الكلمة) في بيانها وهي التوحيد الخالص المطلق الذي يشكل جوهر الدعوة الاسلامية قال تعالى : {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف : 28] .
قالوا في التفسير، ان الكلمة الباقية هي قول إبراهيم عليه السلام {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف : 26] .
3- قال تعالى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف : 158]
قال في مجمع البيان (يؤمن بكلماته من الكتب المتقدمة والوحي والقرآن)، وهذا المعنى على امتداد استخدام الكلمة في معنى الاسلام والتوحيد. ان :
1- الاسلام.
2- التوحيد.
3- القرآن.
ثلاث مفردات متكافئة ومتعادلة، تتبادل القدرة على الترادف الى درجة الانصهار الذاتي الكامل، فلا ضرر ان تكون (الكلمة) عنوانا لكل مفردة، وقد اضيفت الكلمة في هذه الاستعمالات الى اللّه أو أهم صفة من صفاته (الرب)، لتعطي لها صفة الواقع الاصيل، وتنفي امكانية النص المقابل للاصالة والثبات، وبهذا هي غير قابلة للتحريف والتبديل.
________________________________
(1) وسيأتي طرح اعمق في النظرات التالية.