أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-10-2017
35107
التاريخ: 27-10-2017
22605
التاريخ: 31-10-2017
6978
التاريخ: 31-10-2017
12609
|
قال تعالى : {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُو أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } [القلم : 1 - 16].
{ن} اختلفوا في معناه فقيل هو اسم من أسماء السورة مثل حم و ص وما أشبه ذلك وقد ذكرنا ذلك مع غيره من الأقوال في مفتتح سورة البقرة وقيل هو الحوت الذي عليه الأرضون عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي وقيل هو حرف من حروف الرحمن في رواية أخرى عن ابن عباس وقيل هو الدواة عن الحسن وقتادة والضحاك وقيل نون لوح من نور وروي مرفوعا إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وقيل هو نهر في الجنة قال الله له كن مدادا فجمد وكان أبيض من اللبن وأحلى من الشهد ثم قال للقلم اكتب فكتب القلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وقيل المراد به الحوت في البحر وهومن آيات الله إذ خلقها في الماء فإذا فارق الماء مات كما أن حيوان البر إذا خالط الماء مات {والقلم} الذي يكتب به أقسم الله به لمنافع الخلق فيه إذ هو أحد لساني الإنسان يؤدي عنه ما في جنانه ويبلغ البعيد عنه ما يبلغ القريب بلسانه وبه تحفظ أحكام الدين وبه تستقيم أمور العالمين وقد قيل إن البيان بيانان بيان اللسان وبيان البنان وبيان اللسان تدرسه الأعوام وبيان الأقلام باق على مر الأيام وقيل إن قوام أمور الدين والدنيا بشيئين القلم والسيف و السيف تحت القلم وقد نظمه بعض الشعراء وأحسن فيما قال :
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت *** له الرقاب ودانت حذره الأمم
فالموت والموت شيء لا يغالبه *** ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت *** إن السيوف لها مذ أرهفت خدم(2)
{وما يسطرون} أي وما يكتبه الملائكة مما يوحى إليهم وما يكتبونه من أعمال بني آدم فكان القسم بالقلم وما يسطر بالقلم وقيل إن ما مصدرية وتقديره والقلم وسطرهم فيكون القسم بالكتابة وعلى القول الأول يكون القسم بالمكتوب {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} هو جواب القسم ومعناه لست يا محمد بمجنون بنعمة ربك كما تقول ما أنت بنعمة ربك بجاهل وجاز تقديم معمولها به الباء لأنها زائدة مؤكدة وتقديره انتفى عنك الجنون بنعمة ربك وقيل هو كما يقال ما أنت بمجنون بحمد الله وقيل معناه بما أنعم عليك ربك من كمال العقل والنبوة والحكمة لست بمجنون أي لا يكون مجنونا من أنعمنا عليه بهذه النعم وقيل معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك كما يقال سبحانك اللهم وبحمدك أي والحمد لك وهذا تقرير لنفي الجنون عنه وقالوا إن هذا جواب لقول المشركين يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون {وإن لك} يا محمد {لأجرا} أي ثوابا من الله على قيامك بالنبوة وتحملك أعباء الرسالة {غير ممنون} أي غير مقطوع وهو ثواب الجنة يعني لا تبال بكلامهم مع ما لك عند الله من الثواب الدائم والأجر العظيم وقيل غير ممنون أي لا يمن به عليك عن أبي مسلم والمعنى غير مكدر بالمن الذي يقطع عن لزوم الشكر فقد قيل المنة تكدر الصنيعة وقال ابن عباس ليس من نبي إلا وله مثل أجر من آمن به ودخل في دينه.
ثم وصف سبحانه نبيه (صلى الله عليه واله وسلم)) فقال {وإنك} يا محمد {لعلى خلق عظيم} أي على دين عظيم وهو دين الإسلام عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقيل معناه إنك متخلق بأخلاق الإسلام وعلى طبع كريم وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب وإنما سمي خلقا لأنه يصير كالخلقة فيه فأما ما طبع عليه من الآداب فإنه الخيم فالخلق هو الطبع المكتسب والخيم هو الطبع الغريزي وقيل الخلق العظيم الصبر على الحق وسعة البذل وتدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح والرفق والمداراة وتحمل المكاره في الدعاء إلى الله سبحانه والتجاوز والعفو وبذل الجهد في نصرة المؤمنين وترك الحسد والحرص ونحو ذلك عن الجبائي وقالت عائشة كان خلق النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ما تضمنه العشر الأول من سورة المؤمنين ومن مدحه الله سبحانه بأنه على خلق عظيم فليس وراء مدحه مدح وقيل سمي خلقه عظيما لأنه عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق وقيل لأنه امتثل تأديب الله سبحانه إياه بقوله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}.
وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ويعضده ما روي عنه قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وقال أدبني ربي فأحسن تأديبي وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار)) وعن أبي الدرداء قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن)) وعن الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال ((أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا الموطؤن أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وأبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الإخوان الملتمسون للبراء العثرات))(3).
{فستبصر ويبصرون} أي فسترى يا محمد ويرون يعني الذين رموه بالجنون {بأيكم المفتون} أي أيكم المجنون الذي فتن بالجنون أ أنت أم هم وقيل بأيكم الفتنة وهو الجنون يريد أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين كذبوك وتركوا دينك لا بك وقيل معناه فستعلم ويعلمون في أي الفريقين المجنون الذي فتنة الشيطان ثم أخبر سبحانه أنه عالم بالفريقين فقال {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} الذي هو سبيل الحق وعدل عنه وجار عن السلوك فيه {وهو أعلم بالمهتدين} إليه العالمين بموجبه فيجازي كلا بما يستحقه ويستوجبه.
أخبرنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني رحمه الله قال حدثنا الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال حدثنا أبوعبد الله الشيرازي قال حدثنا أبوبكر الجرجاني قال حدثنا أبو أحمد البصري قال حدثني عمرو بن محمد بن تركي قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن شعيب عن عمرو ابن شمر عن دلهم بن صالح عن الضحاك بن مزاحم قال : لما رأت قريش تقديم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) عليا (عليه السلام) وإعظامه له نالوا من علي وقالوا قد افتتن به محمد فأنزل الله تعالى {ن والقلم وما يسطرون} قسم أقسم الله به {ما أنت} يا محمد {بنعمة ربك بمجنون} {وإنك لعلى خلق عظيم} يعني القرآن إلى قوله {بمن ضل عن سبيله} وهم النفر الذين قالوا ما قالوا وهو أعلم بالمهتدين علي ابن أبي طالب (عليه السلام).
ثم قال سبحانه للنبي (صلى الله عليه واله وسلم)) {فلا تطع المكذبين} بتوحيد الله عز وجل الجاحدين لنبوتك ولا تجبهم إلى ما يلتمسون منك ولا توافقهم فيما يريدون {ودوا لوتدهن فيدهنون} أي ود هؤلاء الكفار أن تلين لهم في دينك فيلينون في دينهم شبه التليين في الدين بتليين الدهن عن ابن عباس وقيل معناه ودوا لو تكفر فيكفرون عن الضحاك وعطاء وابن عباس في رواية أخرى وقيل معناه ودوا لوتركن إلى عبادة الأصنام فيمالؤونك والإدهان الجريان في ظاهر الحال على المقاربة مع إضمار العداوة وهو مثل النفاق وقيل ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك عن الحسن.
ثم قال {ولا تطع} يا محمد {كل حلاف} أي كثير الحلف بالباطل لقلة مبالاته بالكذب {مهين} فعيل من المهانة وهي القلة في الرأي والتمييز وقيل ذليل عند الله تعالى وعند الناس وقيل كذاب لأن من عرف بالكذب كان ذليلا حقيرا عن ابن عباس وقيل يعني الوليد بن المغيرة قال عرض على النبي (صلى الله عليه واله وسلم)) المال ليرجع عن دينه وقيل يعني الأخنس ابن شريق عن عطاء وقيل يعني الأسود بن عبد يغوث عن مجاهد {هماز} أي وقاع في الناس مغتاب عن ابن عباس {مشاء بنميم} أي قتات يسعى بالنميمة ويفسد بين الناس ويضرب بعضهم على بعض {مناع للخير} أي بخيل بالمال وقيل مناع عشيرته عن الإسلام بأن يقول من دخل دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا عن ابن عباس {معتد} أي مجاوز عن الحق غشوم ظلوم عن قتادة {أثيم} أي آثم فاجر فاعل ما يأثم به وقيل معتد في فعله أثيم في معتقده وقيل معتد في ظلم غيره أثيم في ظلم نفسه {عتل بعد ذلك} أي هو عتل مع كونه مناعا للخير معتديا أثيما وهو الفاحش السيئ الخلق روي ذلك في خبر مرفوع وقيل هو القوي في كفره عن عكرمة وقيل الجافي الشديد الخصومة بالباطل عن الكلبي وقيل الأكول المنوع عن الخليل وقيل هو الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب ومنه قول الشاعر :
فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه *** ببطن الشري مثلب الفنيق المسدم(4)
{زنيم} أي دعي ملصق إلى قوم ليس منهم في النسب قال الشاعر :
زنيم تداعاه الرجال تداعيا *** كما زيد في عرض الأديم الأكارع(5)
وقيل هو الذي له علامة في الشر وهو معروف بذلك فإذا ذكر بالشر سبق القلب إليه كما أن العنز يعرف بين الأغنام بالزنمة في عنقه عن الشعبي وقيل هو الهجين المعروف بالشر عن سعيد بن جبير وقيل هو الذي لا أصل له عن علي (عليه السلام) وقيل هو المعروف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها عن عكرمة وروي أنه سأل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) عن العتل الزنيم فقال هو الشديد الخلق الشحيح الأكول الشروب الواجد للطعام والشراب الظلوم للناس الرحيب الجوف وعن شداد ابن أوس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)) ((لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم)) قلت فما الجواظ قال ((كل جماع مناع)) قلت فما الجعظري قال ((الفظ الغليظ)) قلت فما العتل الزنيم قال ((كل رحيب الجوف سيء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم)) قال ابن قتيبة لا نعلم أن الله وصف أحدا وبلغ من ذكر عيوبه ما بلغ من ذكر عيوب الوليد بن المغيرة لأنه وصف بالحلف والمهانة والعيب للناس والمشي بالنمائم والبخل والظلم والإثم والجفاء والدعوة فالحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
{أن كان ذا مال وبنين} أي لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين يعني لماله وبنيه عن الزجاج والفراء ومن قرأ بالاستفهام فلا بد أن يكون صلة ما بعده لأن الاستفهام لا يتقدم عليه ما كان في حيزه فيكون المعنى أ لأن كان ذا مال وبنين يجحد آياتنا أي جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال الكفر ب آياتنا وهو قوله {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} أي أحاديث الأوائل التي سطرت وكتبت لا أصل لها ثم أوعده سبحانه فقال {سنسمه على الخرطوم} أي سنسمه يوم القيامة بسمة تشوه خلقته فيعرف من رآه أنه من أهل النار وإنما خص الأنف لأن الإنسان يعرف بوجهه والأنف وسط الوجه وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون شمخ فلان بأنفه وأرغم الله أنفه وحمي فلان أنفه وقيل معناه سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم وجائز أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)) فيخص من التشويه بما يتبين به من غيره كما كانت عداوته للرسول عداوة يتبين بها من غيره عن الزجاج وقال الفراء الخرطوم قد خص بالسمة لأنه في مذهب الوجه فإن بعض الوجه يؤدي عن الكل وقيل إن المعنى سنخطمه بالسيف في القتال حتى يبقى أثره ففعل ذلك يوم بدر عن ابن عباس وقيل سنعلمه بشين يبقى على الأبد عن قتادة وقال القتيبي العرب تقول قد وسمه ميسم سوء يريدون ألصق به عارا لا يفارقه لأن السمة لا تنمحق ولا يعفو أثرها وقد ألحق الله بمن ذكر عارا لا يفارقه بما وسمه به من العيوب التي هي كالوسم في الوجه وقيل إن الخرطوم الخمر فالمعنى سنسمه على شرب الخمر قال الشاعر :
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه *** ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص84-90.
2- برى القلم : شقه . وأرهف السيف رققه.
3- يعني : يتفحصون حتى يقفوا على عثرة للبريء.
4- قائلته : امرأة من طيء . والشرى : جبل في دياطيء معروف بكثرة السباع والاسود . والفنيق : الفحل المكرم والمسدم : الذي جعل على فمه الكمام.
5- نسبه في (اللسان) الى خطيم التميمي . وحكى عن بعض انه نسبه الى حسان . وروايته ((زيادة)) مكان ((تداعيا)) والظاهر ان المراد من الاديم في البيت : الجلد دبغ او لم يدبغ . والاكارع : القوائم من الدابة ، وقد ورد في بيت حسان ايضا في هجائه لقوم من كعب سرقوا درعا قال :
فان تذكروا كعبا اذا ما نسبتم *** فهل من اديم ليس فيه أكارعه))
يقول : انتم من كعب بمنزلة الاركاع من الاديم ، ولا أديم ليس فيه أكارع . فلا يضر كعبا انتسابكم اليهم ، اذ هم الراس وانتم الاذناب ويُقال للسفلة من الناس ايضا الاكارع ، تشبيها بقوائم الدابة .
{ن} هذه مثل غيرها من الحروف التي افتتح بها السور ، وتكلمنا عنها في أول سورة البقرة . وقال قائل : هي الحوت . وثان : الدواة . وثالث : المداد . وقال رابع : هي نون الرحمن . وذهب جماعة من الصوفية إلى أنها النفس . وكل هذه الأقوال تفتقر إلى دليل . . واختلفوا في القلم ما هو المراد منه ؟ . قال البعض :
هو القلم الذي كتب به على اللوح المحفوظ . وقال آخرون : المراد به كل قلم دون استثناء لأن الألف واللام فيه للجنس ، وهي تفيد الشمول والعموم . وهذا هو الظاهر على أن لا يكون القلم مرادا لذاته ، بل وسيلة للكتابة كما يومئ قوله تعالى : {وما يَسْطُرُونَ} أي يكتبون ، وعليه يكون القلم كناية عن أدوات الكتابة أيا كان نوعها مما وجد بالفعل ، أو سيوجد في المستقبل القريب أو البعيد وأشرنا إلى طرف من فوائد البيان عند تفسير {عَلَّمَهُ الْبَيانَ} في أول سورة الرحمن . . على ان الحديث عن منافع البيان تماما كالحديث عن منافع الماء والضياء .
{ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . الخطاب لمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) . . ولا أحد يظن الجنون بمحمد إلا مجنون . . والذين وصفوه بذلك أرادوا أن له جنيا يوحي إليه ، كما كانوا يزعمون بأن لكل شاعر جنيا يعلمه الشعر ، ويومئ إلى هذا قوله تعالى حكاية عنهم : {ويَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ} - 36 الصافات .
{وإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي دائم غير مقطوع . . وبديهة ان الأجر يقاس بنتائج الأعمال وآثارها ، ولا تزال آثار محمد ودعوته وعظمته قائمة إلى اليوم في شرق الأرض وغربها ، وستبقى إلى آخر يوم ، فلا بدع إذا ظفر من ربه بالعقبى الدائمة ، والكرامة الخالدة .
{وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . ما وصف سبحانه أحدا من رسله بهذا الوصف إلا محمدا ، ويتلخص معناه بقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) : {أدبني ربي فأحسن تأديبي} أي ان اللَّه قد اتجه بأخلاق محمد (صلى الله عليه واله وسلم) إلى نفس الهدف الذي خلقها اللَّه من أجله . وأيضا ما أقسم اللَّه بحياة إنسان إلا بحياة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ، وذلك حيث يقول عز من قائل : {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} - 72 الحجر .
أما وصف محمد (صلى الله عليه واله وسلم) بخاتم النبيين فمعناه ان محمدا بلغ من صفات الكمال أقصى ما يصل إليه إنسان . . ومستحيل أن يأتي من بعده من هو أفضل منه ، أو يأتي بشريعة أفضل من شريعته ، بل لا يضارعه مخلوق من الأولين والآخرين ، والى ذلك يومئ قوله (صلى الله عليه واله وسلم) : {أنا سيد الناس ولا فخر} ومن أجل هذا ختمت به النبوات وبشريعته الشرائع ، قال ابن عربي في الفتوحات ما معناه : ان اللَّه خلق الخلق أصنافا ، وجعل من كل صنف أخيارا ، ومن الأخيار الصفوة ، وهم الأنبياء ، ومن الأنبياء الخلاصة ، وهم أولو العزم ، ومن الخلاصة خلاصتها وهو محمد الذي لا يكاثر ولا يقاوم .
{فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} . هذا تهديد ووعيد ومعناه عما قريب يتبين لك ولأعدائك يا محمد انهم أولى الناس بوصف الجهل والضلال والجنون ، وانك أعلى الناس عقلا وأعظمهم خلقا ، وأكرمهم عند اللَّه {إِنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُو أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . اللَّه يعلم يا محمد مكانك من العظمة والهداية ومكان خصومك من الضلالة والغواية ، وأمامهم الحساب والجزاء .
وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية 17 من سورة الأنعام ج 3 ص 253 {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} . حاول المشركون بكل سبيل أن يثنوا الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) عن دعوته ، وأغروه بالجاه والمال فأبى ، وتمنوا لو صانعهم في شيء مما يريدون ، فنهاه اللَّه عن ذلك ، والقصد من النهي أن ييأسوا ويعلموا انه لا هوادة ولا مساومة على طاعة اللَّه وأمره . . ويشبه هذا النهي قولك لمن يساومك على دينك : لقد نهاني اللَّه عن ذلك ، وأنت تريد ان ييأس منك .
{وَدُّوا لَوتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} . تمنى المشركون ان يتنازل الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) عن بعض ما يدعوهم إليه ، ويستجيبوا بدورهم لبعض ما نهاهم عنه ولومن باب المداهنة والمداراة كي تنتهي المعركة بين الطرفين ، ويتم الصلح على انصاف الحلول ، ويدل السياق على ان الذي اقترح المداهنة يتصف بالأوصاف التي أشار إليها سبحانه بقوله : {ولا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} يكثر من الأيمان بلا سبب موجب {مهين} حقير {هماز} يكثر الطعن في اعراض الناس {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} يمشي بالنميمة والوشاية ، والنمام هو الذي يضرب الناس بعضهم ببعض بنقل الأحاديث {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} لا يفعله ويمنع الناس من فعله {معتد} على حقوق الآخرين {أثيم} كثير الذنوب والآثام {عتل} فظ غليظ {بعد ذلك} وفوق هذه الأوصاف هو{زنيم} دعيّ لا يعرف له نسب . وهذه الرذائل هي أقصى ما يتصوره العقل .
وذكر كثير من المفسرين ان المقصود بهذه الخصال الملعونة هو الوليد بن المغيرة ، وكان من عتاة قريش ، وفي سعة من المال ، وكثرة من الأولاد ، كما قال تعالى : {أَنْ كانَ ذا مالٍ وبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ} . وقال المفسرون :
ان هذه الآية تعليل للنهي عن طاعة هذا اللعين . . والأقرب إلى الصواب والسياق أن تكون تعليلا لاتصاف المكذب بتلك الصفات الملعونة ، وان الذي جرأه عليها وعلى القول بأن القرآن أساطير وأباطيل هو اعتزازه بأمواله وأولاده كما قال تعالى :
{كَلَّا إِنَّ الإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} - 6 العلق فكيف إذا كان مع الغنى قوة في المال والأهل .
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} السمة العلامة ، والخرطوم الأنف ، وتكني به العرب عن العزة والمذلة أيضا ، فيقولون عن العزيز : له أنف أشم ، وعن الذليل :
أنفه في التراب ، المعنى ان اللَّه سبحانه سيخزي هذا الطاغية الذي أخذته العزة بأمواله وأولاده ، ويذله مدى الدهر ، ويلعنه على كل لسان بما سجله عليه في كتابه ، ويفضحه في الآخرة أمام الاشهاد بسواد الوجه وغيره من العلامات التي تعكس آثامه ومخازيه .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص386-389.
السورة تعزى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إثر ما رماه المشركون بالجنون وتطيب نفسه بالوعد الجميل والشكر على خلقه العظيم وتنهاه نهيا بالغا عن طاعتهم ومداهنتهم، وتأمره أمرا أكيدا بالصبر لحكم ربه.
وسياق آياتها على الجملة سياق مكي، ونقل عن ابن عباس وقتادة أن صدرها إلى قوله: سنسمه على الخرطوم - ست عشرة آية - مكي، وما بعده إلى قوله: {لو كانوا يعلمون - سبع عشرة آية - مدني، وما بعده إلى قوله: {يكتبون - خمس عشرة آية - مكي، وما بعده إلى آخر السورة - أربع آيات مدني.
ولا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة {إنا بلوناهم - إلى قوله – لو كانوا يعلمون} فإنها أشبه بالمدنية منها بالمكية.
قوله تعالى: {ن} تقدم الكلام في الحروف المقطعة التي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى.
قوله تعالى: {والقلم وما يسطرون} القلم معروف، والسطر بالفتح فالسكون وربما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصف من الكتابة، ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف وسطر فلان كذا كتب سطرا سطرا.
أقسم سبحانه بالقلم وما يسطرون به وظاهر السياق أن المراد بذلك مطلق القلم ومطلق ما يسطرون به وهو المكتوب فإن القلم وما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهية التي اهتدى إليها الإنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار والمعاني المستكنة في الضمائر، وبه يتيسر للإنسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجابا.
وقد امتن الله سبحانه على الإنسان بهدايته إليهما وتعليمهما له فقال في الكلام {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4] وقال في القلم: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5].
فإقسامه تعالى بالقلم وما يسطرون إقسام بالنعمة، وقد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنه رحمة ونعمة كالسماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار إلى غير ذلك حتى التين والزيتون.
وقيل: {ما} في قوله: {وما يسطرون} مصدرية والمراد به الكتابة.
وقيل: المراد بالقلم القلم الأعلى الذي في الحديث أنه أول ما خلق الله وبما يسطرون ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون واحتمل أيضا أن يكون الجمع في {يسطرون} للتعظيم لا للتكثير وهوكما ترى، واحتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ واحتمل أن يكون المراد بالقلم وما يسطرون أصحاب القلم ومسطوراتهم وهي احتمالات واهية.
قوله تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} مقسم عليه والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والباء في {بنعمة} للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة – أو مع النعمة - التي أنعمها عليك ربك.
والسياق يؤيد أن المراد بهذه النعمة النبوة فإن دليل النبوة يدفع عن النبي كل اختلال عقلي حتى تستقيم الهداية الإلهية اللازمة في نظام الحياة الإنسانية، والآية ترد ما رموه به من الجنون كما يحكي عنهم في آخر السورة {ويقولون إنه لمجنون}.
وقيل: المراد بالنعمة فصاحته (صلى الله عليه وآله وسلم) وعقله الكامل وسيرته المرضية وبراءته من كل عيب واتصافه بكل مكرمة فظهور هذه الصفات فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينافي حصول الجنون فيه وما قدمناه أقطع حجة والآية وما يتلوها كما ترى تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطييب لنفسه الشريفة وتأييد له كما أن فيها تكذيبا لقولهم.
قوله تعالى: {وإن لك لأجرا غير ممنون} الممنون من المن بمعنى القطع يقال: منه لسير منا إذا قطعه وأضعفه لا من المنة بمعنى تثقيل النعمة قولا.
والمراد بالأجر أجر الرسالة عند الله سبحانه، وفيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن له على تحمل رسالة الله أجرا غير مقطوع وليس يذهب سدى.
وربما أخذ المن بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه ويكدر عيشه بتقريب أن ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقه عليه تعالى فلا منه عليه وهو غير سديد فإن كل عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته وصفاته وأعماله فما يعطيه العبد من ذلك فهو موهبة وعطية وما يملكه العبد من ذلك فإنما يملكه بتمليك الله وهو المالك لما ملكه من قبل ومن بعد فهو تفضل منه تعالى ولئن سمى ما يعطيه بإزاء العمل أجرا وسمى ما بينه وبين عبده من مبادلة العمل والأجر معاملة فذلك تفضل آخر فلله سبحانه المنة على جميع خلقه والرسول ومن دونه فيه سواء.
قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} الخلق هو الملكة النفسانية التي تصدر عنها الأفعال بسهولة وينقسم إلى الفضيلة وهي الممدوحة كالعفة والشجاعة، والرذيلة وهي المذمومة كالشره والجبن لكنه إذا أطلق فهم منه الخلق الحسن.
قال الراغب: والخلق - بفتح الخاء - والخلق - بضم الخاء - في الأصل واحد كالشرب والشرب والصرم و الصرم لكن خص الخلق - بالفتح - بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق - بالضم - بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} انتهى.
والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والإغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك، وقد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومما تقدم يظهر أن ما قيل: إن المراد بالخلق الدين وهو الإسلام غير مستقيم إلا بالرجوع إلى ما تقدم.
قوله تعالى: {فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون} تقريع على محصل ما تقدم أي فإذا لم تكن مجنونا بل متلبسا بالنبوة ومتخلقا بالخلق ولك عظيم الأجر من ربك فسيظهر أمر دعوتك وينكشف على الأبصار والبصائر من المفتون بالجنون أنت أو المكذبون الرامون لك بالجنون.
وقيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له ولهم في الدنيا أوفي الآخرة؟ الآية تقبل الحمل على كل منها.
ولكل قائل، ولا مانع من الجمع فإن الله تعالى أظهر نبيه عليهم ودينه على دينهم، ورفع ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) ومحا أثرهم في الدنيا وسيذوقون وبال أمرهم غدا ويعلمون أن الله هو الحق المبين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون.
وقوله: {بأيكم المفتون} الباء زائدة للصلة، والمفتون اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون وفقدان العقل، والمعنى: فستبصر ويبصرون أيكم المفتون المبتلى بالجنون؟ أنت أم هم؟.
وقيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول وميسور ومعسور في قولهم: ليس له معقول، وخذ ميسوره، ودع معسوره، والباء في {بأيكم} بمعنى في والمعنى: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين الفتنة.
قوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} لما أفيد بما تقدم من القول إن هناك ضلالا واهتداء، وأشير إلى أن الرامين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنون هم المفتونون الضالون وسيظهر أمرهم وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهتد وكان ذلك ببيان من الله سبحانه أكد ذلك بأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين لأن السبيل سبيله وهو أعلم بمن هو في سبيله ومن ليس فيه وإليه أمر الهداية.
قوله تعالى : {فلا تطع المكذبين} تفريع على المحصل من معنى الآيات السابقة وفي المكذبين معنى العهد والمراد بالطاعة مطلق الموافقة عملا أو قولا، والمعنى: فإذا كان هؤلاء المكذبون لك مفتونين ضالين فلا تطعهم.
قوله تعالى: {ودوا لوتدهن فيدهنون} الإدهان من الدهن يراد به التليين أي ود وأحب هؤلاء المكذبون أن تلينهم بالاقتراب منهم في دينك فيلينوك بالاقتراب منك في دينهم، ومحصله أنهم ودوا أن تصالحهم ويصالحوك على أن يتسامح كل منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنهم عرضوا عليه أن يكف عن ذكر آلهتهم فيكفوا عنه وعن ربه.
وبما تقدم ظهر أن متعلق مودتهم مجموع {لوتدهن فيدهنون} وأن الفاء في {فيدهنون} للتفريع لا للسببية.
قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين - إلى قوله - زنيم} الحلاف كثير الحلف، ولازم كثرة الحلف والإقسام في كل يسير وخطير وحق وباطل أن لا يحترم الحالف شيئا مما يقسم به، وإذا كان حلفه بالله فهولا يستشعر عظمة الله عز اسمه وكفى به رذيلة.
والمهين من المهانة بمعنى الحقارة والمراد به حقارة الرأي، وقيل: هو المكثار في الشر، وقيل: هو الكذاب.
والهماز مبالغة من الهمز والمراد به العياب والطعان، وقيل: الطعان بالعين والإشارة وقيل: كثير الاغتياب.
والمشاء بنميم النميم: السعاية والإفساد، والمشاء به هو نقال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.
والمناع للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الذي ينال أهله.
والمعتدي من الاعتداء وهو المجاوزة للحد ظلما.
والأثيم هو الذي كثر إثمه حتى استقر فيه من غير زوال والإثم هو العمل السيئ الذي يبطيء الخير.
والعتل بضمتين هو الفظ الغليظ الطبع، وفسر بالفاحش السيئ الخلق، وبالجافي الشديد الخصومة بالباطل، وبالأكول المنوع للغير، وبالذي يعتل الناس ويجرهم إلى حبس أو عذاب.
والزنيم هو الذي لا أصل له، وقيل: هو الدعي الملحق بقوم وليس منهم، وقيل: هو المعروف باللؤم، وقيل: هو الذي له علامة في الشر يعرف بها وإذا ذكر الشر سبق هو إلى الذهن، والمعاني متقاربة.
فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممن كان يدعو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطاعة والمداهنة، وهي جماع الرذائل.
وقوله: {عتل بعد ذلك زنيم} معناه أنه بعد ما ذكر من مثالبه و رذائله عتل زنيم قيل: وفيه دلالة على أن هاتين الرذيلتين أشد معايبه.
والظاهر أن فيه إشارة إلى أن له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحق ولو أغمض عن تلك الصفات فإنه فظ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشري فليطرد ولا يطع في قول ولا يتبع في فعل.
قوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين} الظاهر أنه بتقدير لام التعليل وهو متعلق بفعل محصل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا وكذا لأن كان ذا مال وبنين فبطر بذلك وكفر بنعمة الله وتلبس بكل رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته ويصلح نفسه، فالآية في إفادة الذم والتهكم تجري مجرى قوله: {أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك}.
وقيل: إنه متعلق بقوله السابق {لا تطع}، والمعنى: لا تطعه لكونه ذا مال وبنين أي لا يحملك كونه ذا مال وبنين على طاعته، والمعنى المتقدم أقرب وأوسع.
قيل: ولا يجوز تعلقه بقوله: {قال} في الشرطية التالية لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله عند النحاة.
قوله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} الأساطير جمع أسطورة وهي القصة الخرافية، والآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق: {لا تطع}.
قوله تعالى: {سنسمه على الخرطوم} الوسم والسمة وضع العلامة، والخرطوم الأنف، وقيل: إن في إطلاق الخرطوم على أنفه وإنما يطلق في الفيل والخنزير تهكما، وفي الآية وعيد على عداوته الشديدة لله ورسوله وما نزله على رسوله.
والظاهر أن الوسم على الأنف أريد به نهاية إذلاله بذلة ظاهرة يعرفه بها كل من رآه فإن الأنف مما يظهر فيه العزة والذلة كما يقال: شمخ فلان بأنفه وحمي فلان أنفه وأرغمت أنفه وجدع أنفه.
والظاهر أن الوسم على الخرطوم مما سيقع يوم القيامة لا في الدنيا وإن تكلف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.
قوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة - إلى قوله - كالصريم البلاء الاختبار وإصابة المصيبة، والصرم قطع الثمار من الأشجار، والاستثناء عزل البعض من حكم الكل وأيضا الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول وذلك أن الأصل فيه الاستثناء فالأصل في قولك: أخرج غدا إن شاء الله هو أخرج غدا إلا أن يشاء الله أن لا أخرج، والطائف العذاب الذي يأتي بالليل، والصريم الشجر المقطوع ثمره، وقيل: الليل الأسود، وقيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل وهولا ينبت شيئا ولا يفيد فائدة.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص324-329.
عجبا لأخلاقك السامية :
هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف ( ن ) حيث يقول تعالى : {ن} .
وقد تحدثنا مرات عديدة حول الحروف المقطعة ، خصوصا في بداية سورة ( البقرة ) و ( آل عمران ) و ( الأعراف ) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أن ( ن ) هنا تخفيف لكلمة ( الرحمن ) فهي إشارة لذلك . كما أن البعض الآخر فسرها بمعنى ( اللوح ) أو ( الدواة ) أو ( نهر في الجنة ) إلا أن كل تلك الأقوال ليس لها دليل واضح .
وبناء على هذا فإن الحرف المقطع هنا لا يختلف عن تفسير بقية الحروف المقطعة والتي أشرنا إليها سابقا .
ثم يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهم المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى : {والقلم وما يسطرون} .
كم هو قسم عجيب ؟ وقد يتصور أن القسم هنا يتعلق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب - أو شيء يشبه ذلك - وبقليل من مادة سوداء ، ثم السطور التي تكتب وتخط على صفحة صغيرة من الورق .
إلا أننا حينما نتأمل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إن تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية . . كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، مما كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان . . وكان ذلك بواسطة ( القلم ).
لقد قسمت حياة الإنسان إلى عصرين : ( عصر التأريخ ) و ( عصر ما قبل التأريخ ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخط واستطاع أن يدون قصة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عندما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودون للآخرين ما توصل إليه ( وما يسطرون ) تخليدا لماضيه.
وتتضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أن هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإن عددهم في كل مكة - التي تمثل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز - لم يتجاوز ال ( 20 ) شخصا . ولذا فإن القسم ب ( القلم ) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصة.
والرائع هنا أن الآيات الأولى التي نزلت على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ( جبل النور ) أو ( غار حراء ) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حيث يقول تعالى :
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] .
والأروع من ذلك كله أن هذه الكلمات كانت تنطلق من فم شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قط ، وهذا دليل أيضا على أن ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي .
وذكر بعض المفسرين أن كلمة ( القلم ) هنا يقصد بها : ( القلم الذي تخط به ملائكة الله العظام الوحي السماوي ) ، ( أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر ) ، ولكن من الواضح أن للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبين مصاديقها .
كما أن لجملة {ما يسطرون} مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر (2) .
ثم يتطرق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى : {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} .
إن الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلا فأين هم من كل تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك ؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوة ومقام العصمة . . . إن الذين يتهمون صاحب هذا العقل الجبار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إن ابتعادهم عن دليل الهداية وموجه البشرية لهو الحمق بعينه .
ثم يضيف تعالى بعد ذلك : {وإن لك لأجرا غير ممنون} أي غير منقطع ، ولم لا يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل ؟
" ممنون " من مادة ( من ) بمعنى ( القطع ) ويعني الأجر والجزاء المستمر الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إن أصل هذا المعنى مأخوذ من " المنة " ، بلحاظ أن المنة توجب قطع النعمة .
وقال البعض أيضا : إن المقصود من غير ممنون هو أن الله تعالى لم تكن لديه منة مقابل هذا الأجر العظيم . إلا أن التفسير الأول أنسب .
وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذلك بقوله تعالى :
{وإنك لعلى خلق عظيم} .
تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أولا فيما يدعو إليه ، ثم يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.
عندما دعوت - يا رسول الله - الناس لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاءا بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحار على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد .
نعم لقد كنت مركزا للحب ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك ؟
" خلق " من مادة ( الخلقة ) بمعنى الصفات التي لا تنفك عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان .
وفسر البعض الخلق العظيم للنبي ب ( الصبر في طريق الحق ، وكثرة البذل والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغل والحرص . . ، وبالرغم من أن جميع هذه الصفات كانت متجسدة في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا أن الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا .
وفسر الخلق العظيم أيضا ب ( القرآن الكريم ) أو ( مبدأ الإسلام ) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه .
وعلى كل حال فإن تأصل هذا ( الخلق العظيم ) في شخصية الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التهم التي تنسب من
قبل الأعداء إليه .
ثم يضيف سبحانه بقوله : {فستبصر ويبصرون} .
{بأيكم المفتون} أي من منكم هو المجنون (3) .
" مفتون " : اسم مفعول من ( الفتنة ) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون .
نعم ، إنهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلا أن للناس عقلا وإدراكا ، يقيمون به التعاليم التي يتلقونها منك ، ثم يؤمنون بها ويتعلمونها تدريجيا ، وعندئذ تتضح الحقائق أمامهم ، وهي أن هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئ عز وجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم .
كما أن مواقفك وتحركاتك المستقبلية المقرونة بالتقدم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكد بصورة أعمق أنك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأن هؤلاء الأقزام الخفافيش هم المجانين ، لأنهم تصدوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثلة بالحق الإلهي والرسالة المحمدية .
ومن الطبيعي فإن هذه الحقائق ستتوضح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبين الأمور وتظهر الحقيقة .
وللتأكيد على المفهوم المتقدم يقول سبحانه مرة أخرى : {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} .
وبلحاظ معرفة البارئ عز وجل بسبيل الحق وبمن سلكه ومن جانبه وتخلف أو انحرف عنه ، فإنه يطمئن رسوله الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أما أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية .
وجاء في حديث مسند أن قريشا حينما رأت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقدم الإمام
علي ( عليه السلام ) على الآخرين ويجله ويعظمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالوا : ( لقد فتن محمد به ) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله : {ن والقلم} وأقسم بذلك ، وإنك يا محمد غير مفتون ومجنون حتى قوله تعالى : {إن ربك هو أعلم بمن ضل
عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتهامات ، كما أنه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام علي ( عليه السلام ) (4) .
وقوله تعالى : {فلا تطع المكذبين ( 8 ) ودوا لو تدهن فيدهنون ( 9 ) ولا تطع كل حلاف مهين ( 10 ) هماز مشاء بنميم ( 11 ) مناع للخير معتد أثيم ( 12 ) عتل بعد ذلك زنيم ( 13 ) أن كان ذا مال وبنين ( 14 ) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ( 15 ) سنسمه على الخرطوم }
اجتنب أصحاب هذه الصفات :
بعد أن تعرضت الآيات السابقة إلى الأخلاق السامية لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، تلتها الآيات أعلاه مستعرضة أخلاق أعدائه ليتضح لنا الفرق بين الأخلاقيتين ، وذلك من خلال المقارنة بينهما .
يقول تعالى في البداية : {فلا تطع المكذبين} .
إنهم أناس ضالون ، ويدفعون الآخرين للتكبر على الله ورسوله ، وينهونهم عن قبول مبدأ الهداية ، وقد استهانوا ، واستخفوا بقيم الحق ، وإن الطاعة والاستجابة لهؤلاء سوف لن تكون نتيجتها إلا الضلال والخسران .
ثم يشير تعالى إلى جهد هؤلاء المتواصل في إقناع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمصالحتهم والإعراض عن آلهتهم وضلالهم فيقول : {ودوا لو تدهن فيدهنون} .
إن من أمانيهم ورغبتهم أن تلين وتنعطف باتجاههم ، وتغض الطرف عن تكليفك الرسالي من أجلهم .
ونقل المفسرون أن هذه الآيات نزلت حينما دعا رؤساء مكة وساداتها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للسير على نهج أجدادهم في الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وقد نهى الله تعالى رسوله الكريم عن الاستجابة لهم وإطاعتهم (5) .
ونقل البعض الآخر أن ( الوليد بن المغيرة ) وكان أحد زعماء الشرك قد عرض على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أموالا طائلة ، وحلف أنه سيعطيها ل ( محمد ) إذا تخلى عن مبدئه ودينه (6) .
والذي يستفاد من لحن الآيات - بصورة واضحة - ومما جاء في التواريخ ، أن المشركين الذين أعمى الله بصيرتهم ، عندما شاهدوا التقدم السريع للإسلام وانتشاره ، حاولوا إعطاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعض المكاسب في مقابل تقديم تنازلات مماثلة ، في محاولة لترتيب نوع من الصلح معه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وهذا هو منهج أهل الباطل - دائما - في الظروف والأحوال التي يشعرون فيها أنهم سيخسرون كل شيء ويفقدون مواقفهم ، لذا فإنهم اقترحوا عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إعطاءه أموالا طائلة ، كما اقترحوا تزويجه بأجمل بناتهم ، كما عرضوا عليه جاها ومقاما وملكا بارزا ، وما إلى ذلك من أمور كانوا متعلقين بها ومتفاعلين معها ومتهالكين عليها ، ويقيسون الرسول بقياسها " .
إلا أن القرآن الكريم حذر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرارا من مغبة إبداء أي تعاطف مع عروضهم واقتراحاتهم الماكرة وأكد على عدم مداهنة أهل الباطل أبدا .
كما جاء في قوله تعالى : {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
" يدهنون " من مادة ( مداهنة ) مأخوذة في الأصل ( الدهن ) وتستعمل الكلمة في مثل هذه الموارد بمعنى إظهار اللين والمرونة ، وفي الغالب يستعمل هذا التعبير في مجال إظهار اللين والميل المذموم كما في حالة النفاق .
ثم ينهى سبحانه مرة أخرى عن اتباعهم وطاعتهم ، حيث يسرد الصفات الذميمة لهم ، والتي كل واحدة منها يمكن أن تكون وحدها سببا للابتعاد عنه والصدود عن الاستجابة لهم .
يقول تعالى : {ولا تطع كل حلاف مهين} .
تقال كلمة " حلاف " على الشخص الكثير الحلف ، والذي يحلف على كل صغيرة وكبيرة ، وهذا النموذج في الغالب لا يتسم بالصدق ، ولذا يحاول أن يطمئن الآخرين بصدقه من خلال الحلف والقسم .
" مهين " من ( المهانة ) بمعنى الحقارة والضعة ، وفسرها البعض بأنها تعني الأشرار أو الجهلة أو الكاذبين .
ثم يضيف عز وجل : {هماز مشاء بنميم} .
" هماز " من مادة ( همز ) ، ( على وزن رمز ) ويعني : الغيبة واستقصاء عيوب الآخرين .
" مشاء بنميم " تطلق على الشخص الذي يمشي بين الناس بإيجاد الإفساد والفرقة ، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم ( ومما يجدر الالتفات إليه أن هذين الوصفين وردا بصيغة المبالغة ، والتي تحكي غاية الإصرار في العمل والاستمرار بهذه الممارسات القبيحة ) .
ثم يسرد تعالى أوصافا أخرى لهم ، حيث يقول في خامس وسادس وسابع صفة ذميمة لأخلاقهم : {مناع للخير معتد أثيم} .
ومن صفاتهم أيضا أنهم ليسوا فقط مجانبين لعمل الخير ، ولا يسعون في سبيله ، ولا يساهمون في إشاعته والعون عليه . . بل إنهم يقفون سدا أمام أي ممارسة تدعو إليه ، ويمنعون كل جهد في الخير للآخرين ، وبالإضافة إلى ذلك فإنهم متجاوزون لكل السنن والحقوق التي منحها الله عز وجل لكل إنسان مما تلطف به من خيرات وبركات عليه .
وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب ، محتطبون للآثام ، بحيث أصبح الذنب والإثم جزءا من شخصياتهم وطباعهم التي هي مناعة للخير ، معتدية وآثمة .
وأخيرا يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى : {عتل بعد ذلك زنيم} .
" عتل " كما يقول الراغب في المفردات : تطلق على الشخص الذي يأكل كثيرا ويحاول أن يستحوذ على كل شيء ، ويمنع الآخرين منه .
وفسر البعض الآخر كلمة ( عتل ) بمعنى الإنسان السيء الطبع والخلق ، الذي تتمثل فيه الخشونة والحقد ، أو الإنسان سيء الخلق عديم الحياء .
" زنيم " تطلق على الشخص المجهول النسب ، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له معهم ، وهي في الأصل من ( زنمة ) ، ( على وزن عظمة ) وتقال للجزء المتدلي من اذن الغنم ، فكأنها ليست من الاذن مع أنها متصلة بها .
والتعبير بشكل عام إشارة إلى أن هاتين الصفتين هما أشد قبحا وضعة من الصفات السابقة كما استفاد ذلك بعض المفسرين .
وخلاصة البحث أن الله تعالى قد أوضح السمات الأساسية للمكذبين ، وبين صفاتهم القبيحة وأخلاقهم الذميمة بشكل لا نظير له في القرآن بأجمعه ، وبهذه الصورة يوضح لنا أن الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن ، وعارضوا الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانوا من أخس الناس وأكثرهم كذبا وانحطاطا وخسة ، فهم يتتبعون عيوب الآخرين ، نمامون ، معتدون ، آثمون ، ليس لهم أصل ونسب ، وفي الحقيقة أننا لا نتوقع أن يقف بوجه النور الرسالي إلا أمثال هؤلاء الأشرار .
ويحذر سبحانه في الآية اللاحقة من الاستجابة لهم والتعامل معهم بسبب كثرة أموالهم وأولادهم : بقوله : {أن كان ذا مال وبنين} .
ومما لا شك فيه أن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبدا ، وهذه الآيات ما هي إلا تأكيد على هذا المعنى ، كي يكون خطه الرسالي وطريقته العملية واضحة
للجميع ، ولن تنفع جميع الإغراءات المادية في عدوله عن مهمته الرسالية .
وبناء على هذا فإن الجملة أعلاه تأتي تكملة للآية الكريمة : {ولا تطع كل حلاف مهين} .
إلا أن البعض اعتبر ذلك بيانا وعلة لظهور هذه الصفات السلبية ، حيث الغرور الناشئ من الثروة وكثرة الأولاد جرهم ودفعهم إلى مثل هذه الرذائل الأخلاقية .
ولهذا يمكن ملاحظة هذه الصفات في الكثير من الأغنياء والمقتدرين غير المؤمنين . إلا أن لحن الآيات يتناسب مع التفسير الأول أكثر ، ولهذا اختاره أغلب المفسرين .
وتوضح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية المريضة إزاء الآيات الإلهية ، حيث يقول تعالى : {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} .
وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات الله عز وجل ، فيضل ويغوى ويدعو الآخرين للغي والضلال ، ولهذا يجب عدم الاستجابة لهؤلاء وعدم السماع لهم في مثل هذه الأمور ، والإعراض عنهم وعدم طاعتهم ، وهذا تأكيد للنهي عن طاعتهم الذي تعرضت إليه الآيات السابقة .
وتوضح لنا آخر آية - من هذه الآيات - مفردة من مفردات الجزاء الذي سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه : {سنسمه على الخرطوم} .
وهذا التعبير كاشف ومعبر عن سوء النهاية المذلة لهؤلاء ، إذ جاء التعبير أولا بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط ، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم .
وثانيا : أن الأنف في لغة العرب غالبا ما يستعمل كناية عن العزة والعظمة ، كما يقال للفارس حين إذلاله : مرغوا أنفه بالتراب ، كناية عن زوال عزته .
وثالثا : أن وضع العلامة تكون عادة للحيوانات فقط ، بل حتى بالنسبة إلى الحيوانات فإنها لا تعلم في وجوهها - خصوصا أنوفها - أضف إلى ذلك أن الإسلام قد نهى عن مثل هذا العمل .
ومع كل ما تقدم تأتي الآية الكريمة ببيان معبر واف وواضح أن الله تعالى سيذل هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجبا بذواتهم ، المتمادين في عنادهم وإصرارهم على الباطل ، وتجاوزهم على الرسول والرسالة . . سيذلهم بتلك الصورة التي تحدثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع .
إن التاريخ الإسلامي ينقل لنا كثيرا من صور الإذلال والامتهان لأمثال هذه المجموعة المخالفة للحق المعاندة في ضلالها ، المكابرة في تمسكها بالباطل ، بالرغم من تقدم الرسالة الإسلامية وقوتها وانتصاراتها ، كما أن فضيحتهم في الآخرة ستكون أدهى وأمر .
قال بعض المفسرين : إن أكثر آيات هذه السورة كان يقصد بها ( الوليد بن المغيرة ) أحد رموز الشرك الذي واجه الإسلام وتعرض لرسوله الأمين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إلا أن من المسلم به أن هذا القصد ، لا يمنع من تصميم وتوسعة مفهوم الآيات الكريمة وشموليته (7) .
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص341-355.
2 - اعتبر البعض أن ( ما ) في ( ما يسطرون ) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنها ( موصولة ) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : ( ما يسطرونه ) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى ( اللوح ) أو ( القرطاس ) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير ( ما يسطرون فيه ) كما اعتبر البعض ( ما ) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلا أن المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر .
3 - ( الباء ) في ( بأيكم ) زائدة و ( أيكم ) مفعول للفعلين السابقين .
4 - مجمع البيان ، ج 10 ، ص 334 ، ( نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنة ) .
5 - الفخر الرازي ، ج 30 ، ص 85 ، والمراغي ، ج 29 ، ص 31 .
6 - تفسير القرطبي ، ج 1 ، ص 6710 .
7 - قال البعض : إن وضع العلامة على الأنف قد تحقق عمليا في غزوة بدر ، حيث وجهت ضربات إلى أنوف بعض سادات
الكفر وكبرائهم ، وقد بقيت آثارها على أنوفهم ، وإذا كان المقصود في ذلك ( الوليد بن المغيرة ) فقد توفي بذل قبل غزوة بدر .
وجاء في الخطبة المعروفة للإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) في مسجد الشام قوله : " أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى
قالوا : لا إله إلا الله " يقصد الإمام علي ( عليه السلام ) بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 138 .
إن لهذا التعبير وبلحاظ ما جاء في الآية مورد البحث ، حيث يقول تعالى : ( سنسمه على الخرطوم ) دلالة في غاية اللطف
والروعة ، حيث يرينا أن الإرادة الإلهية قد تحققت على يد عبده المخلص علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|