أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-5-2017
1096
التاريخ: 11-5-2017
457
التاريخ: 12-5-2017
460
التاريخ: 12-5-2017
534
|
قال تعالى : {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُومَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف : 21 - 28] .
قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {واذكر} يا محمد لقومك أهل مكة {أخا عاد} يعني هودا {إذ أنذر قومه} أي خوفهم بالله تعالى ودعاهم إلى طاعته {بالأحقاف} وهو واد بين عمان ومهرة عن ابن عباس وقيل رمال فيما بين عمان إلى حضرموت عن ابن إسحاق وقيل رمال مشرفة على البحر بالشحر (2) من اليمن عن قتادة وقيل أرض خلالها رمال عن الحسن {وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} أي وقد مضت الرسل من قبل هود (عليه السلام) ومن بعده {ألا تعبدوا إلا الله} أي بأن لا تعبدوا والمعنى إني لم أبعث قبل هود ولا بعده إلا بالأمر بعبادة الله وحده وهذا اعتراض كلام وقع بين إنذار هود وكلامه لقومه .
ثم عاد إلى كلام هود لقومه فقال {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} وتقدير الكلام إذ أنذر قومه بالأحقاف فقال {إني أخاف عليكم} الآية ثم حكى ما أجاب به قومه بقوله {قالوا أ جئتنا} يا هود {لتأفكنا} أي لتلفتنا وتصرفنا {عن آلهتنا} أي عن عبادة آلهتنا {فأتنا بما تعدنا} من العذاب {إن كنت من الصادقين} أن العذاب نازل بنا {قال} هود {إنما العلم عند الله} هو يعلم متى يأتيكم العذاب لا أنا {وأبلغكم ما أرسلت به} إليكم أي وأنا أبلغكم ما أمرت بتبليغه إليكم {ولكني أراكم قوما تجهلون} حيث لا تجيبون إلى ما فيه صلاحكم ونجاتكم وتستعجلون العذاب الذي فيه هلاككم وهذا لا يفعله إلا الجاهل بالمنافع والمضار .
{فلما رأوه} أي فلما رأوا ما يوعدون والهاء تعود إلى ما تعدنا في قوله {فأتنا بما تعدنا} {عارضا} أي سحابا يعرض في ناحية من السماء ثم يطبق السماء {مستقبل أوديتهم قالوا} كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا وقالوا {هذا عارض ممطرنا} أي سحاب ممطر إيانا هذا تقديره لأنه نكرة بدلالة أنه صفة لعارض فقال هود (عليه السلام) {بل هوما استعجلتم به} أي ليس هو كما توهمتم بل هو الذي وعدتكم به وطلبتم تعجيله ثم فسره فقال {ريح فيها عذاب أليم} أي هو ريح فيها عذاب مؤلم وقيل بل هو قول الله تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها} أي تهلك كل شيء مرت به من الناس والدواب والأموال واعتزل هود ومن معه في حظيرة لم يصبهم من تلك الريح إلا ما تلين على الجلود وتلتذ به الأنفس وأنها لتمر من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض حتى نرى الظعينة كأنها جرادة عن عمر بن ميمون {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} وما عداها قد هلك ومن قرأ بالتاء فهو على وجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {كذلك} أي مثل ما أهلكنا أهل الأحقاف وجازيناهم بالعذاب {نجزي القوم المجرمين} أي الكافرين الذين يسلكون مسالكهم .
ثم خوف سبحانه كفار مكة وذكر فضل عاد بالأجسام والقوة عليهم فقال {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم} أي في الذي ما مكناكم {فيه} والمعنى في الشيء الذي لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وبسطة الأجسام وطول العمر وكثرة الأموال عن ابن عباس وقتادة وقيل معناه فيما مكناكم فيه وإن مزيدة والمعنى مكناهم من الطاعات وجعلناهم قادرين متمكنين بنصب الأدلة على التوحيد والتمكين من النظر فيها والترغيب والترهيب وإزاحة العلل في جميع ذلك {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة} ثم أخبر سبحانه عن أولئك أنهم أعرضوا عن قبول الحجج والتفكر فيما يدلهم على التوحيد مع ما أعطاهم الله من الحواس الصحيحة التي بها تدرك الأدلة .
{فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء} أي لم ينفعهم جميع ذلك لأنهم لم يعتبروا ذلك ولا استعملوا أبصارهم وأفئدتهم في النظر والتدبر {إذ كانوا يجحدون ب آيات الله} وأدلته {وحاق بهم} أي حل بهم جزاء {ما كانوا به يستهزءؤن ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} معناه ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم وهم قوم هود وكانوا باليمن وقوم صالح بالحجر وقوم لوط على طريقهم إلى الشام {وصرفنا الآيات} تصريف الآيات تصييرها تارة في الإعجاز وتارة في الإهلاك وتارة في التذكير بالنعم وتارة في التذكير بالنقم وتارة في وصف الأبرار ليقتدى بهم وتارة في وصف الفجار ليجتنب مثل فعلهم {لعلهم يرجعون} أي لكي يرجعوا عن الكفر {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة} أي فهلا نصر هؤلاء المهلكين الذين اتخذوهم آلهة وزعموا أنهم يعبدونهم تقربا إلى الله تعالى ثم لم ينصروهم لأن هذا استفهام إنكار {بل ضلوا عنهم} أي ضلت الآلهة وقت الحاجة إليها فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم {وذلك إفكهم} أي اتخاذهم الآلهة دون الله كذبهم وافتراؤهم وهو قوله {وما كانوا يفترون} أي يكذبون من أنها آلهة .
____________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص150-153 .
2- الشحر : ساحل اليمن . وشحر عمان وشِحر عمان : وهو ساحل البحر بين (عمان ، و (عدن) .
ذكر سبحانه قصة هود مع قومه عاد في سورة الأعراف الآية 5 - 72 ج 3 ص 347 وأيضا في سورة هود الآية 0 - 60 ج 4 ص 238 وأيضا في سورة الشعراء الآية 23 - 140 ج 5 ص 508 إلى غير ذلك من الآيات السابقة واللاحقة .
ولذا نوجز هنا ما أمكن اعتمادا على ما سبق .
{واذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقافِ} . اذكر يا محمد لقومك قصة هود مع قومه لعلهم يتعظون ويعتبرون ، وقد كانوا عربا مثل قومك ، وأكثر منهم قوة ومالا ، وكانت ديارهم قريبة من بلد قومك لأنهم سكنوا الأحقاف ، وهي من أرض اليمن المتصلة بالحجاز - كما قيل – { وقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ} . المراد بالنذر الرسل ، وضمير يديه وخلفه يعود إلى هود ، والمعنى اذكر يا محمد لقومك أيضا ان هودا لم يكن أول المرسلين ، ولا هو آخرهم ، بل أرسل اللَّه كثيرين من قبل هود ومن بعده ، وكان ينذر قومه بهذا النداء الذي جاء على لسان كل نبي : {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهً إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ان بقيتم على ما أنتم عليه من الشرك والضلال .
{ قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
أ تريدنا يا هود أن نترك عبادة الأصنام ، ونعبد إلها واحدا . . . ان هذا لشيء عجاب ! . وتهددنا بعذاب عظيم ؟ عجل به ان كان تهديدك حقا وصدقا {قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ولكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} . أمرني ربي أن أنذركم بالعذاب ، فأطعت وأنذرت ، أما متى يقع العذاب ؟ وما هو نوعه ولونه فعلمه عند اللَّه ، ولا أعلم من ذلك شيئا ، ولكني أعلم علم اليقين انكم في غمرة الجهل والضلال {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا} . الهاء في رأوه للعذاب ، وعارضا أي عرض في الأفق ، ومستقبل أوديتهم متوجها إليها ، والمعنى ظنوا العذاب سحابا من الغيث ، ففرحوا به ، وبشر بعضهم بعضا بالخصب والرخاء .
فقال لهم هود أو لسان الحال والواقع : {بَلْ هُومَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها} . رأوا سحابا في الأفق ، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب ، فانخدعوا بالظاهر ، وذهلوا عما وراءه من المخبآت والمفاجئات ، فأخذهم العذاب ، وهم في سكرة من كواذب الأماني والآمال . . . وهذه نهاية من تمادى في غوايته ، وانقاد إلى رغبته { فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ } التي أصبحت قبورا لأجسامهم . والعاقل من اتعظ بهم وبأمثالهم ، وخاف بطش اللَّه عند النعمة والرخاء ، ورجا رحمته عند الشدة والضراء { كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } في الدنيا والآخرة ، أوفي الآخرة فقط على ما توجبه الحكمة البالغة .
{ولَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ } . أهلكنا عادا لما طغوا وبغوا ، وقد كنا أعطيناهم من القوة والمال ما لم نعطكم مثله يا عتاة قريش . . . ألا تخشون أن يصيبكم مثل ما أصاب عادا وغيرهم من الأمم الماضية ؟ . {وجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وأَبْصاراً وأَفْئِدَةً } تماما كما جعلنا لكم {فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أَبْصارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ } لأنهم لم ينتفعوا بشيء منها ، بل كانوا كالمجنون والأبكم والأصم والأعمى فيما يعود إلى التذكير والتحذير . . . فلا يغركم يا أهل مكة ما يعجبكم من أسماعكم وأبصاركم وعقولكم فإنها لا تغني عنكم من شيء إذا نزل بكم العذاب { إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } . جحدوا الحق ودلائله ، وسخروا منه ومن أهله ، وأمعنوا في البغي والضلال ، فكان جزاؤهم الهلاك والدمار .
{ ولَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وصَرَّفْنَا الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . الخطاب في حولكم لمشركي مكة ، والمراد بالقرى أهلها وهم عاد وثمود ومن جاورهم ، وصرفنا الآيات بيّنا لهم أنواعا من الدلائل والعظات ، وأنذرناهم بالأقوال والأفعال كي يتعظوا ويرتدعوا ، فأبوا إلا كفورا ، فحق عليهم العذاب ودمرناهم تدميرا {فَلَولا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً } . عبدوا الأصنام ليقربوهم من اللَّه ، وينقذوهم من بأسه ، ولما نزل بهم العذاب لم تغن الأصنام عنهم شيئا { بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } أضاعوهم ولم يهتدوا إلى مكانهم . . . وفي هذا ما فيه من الزراية والاستخفاف بهم وبأصنامهم { وذلِكَ إِفْكُهُمْ وما كانُوا يَفْتَرُونَ } . ذلك إشارة إلى عدم نجدة الأصنام ، وانها لا تسعف من كان يعبدها ويرجوها وقت الضيق ، والمعنى ان قول المشركين بأن الأصنام شفعاؤنا عند اللَّه ، وتنجينا من عذابه هو إفك وافتراء .
_____________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص51-53 .
لما قسم الناس على قسمين وانتهى الكلام إلى الإنذار عقب ذلك بالإشارة إلى قصتين قصة قوم عاد وهلاكهم ومعها الإشارة إلى هلاك القرى التي حول مكة وقصة إيمان قوم من الجن صرفهم الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستمعوا القرآن فآمنوا ورجعوا إلى قومهم منذرين وإنما أورد القصتين ليعتبر بهما من شاء أن يعتبر منهم ، وهذه الآيات المنقولة تتضمن أولى القصتين .
قوله تعالى : {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} إلخ ، أخو القوم هو المنسوب إليهم من جهة الأب ، والمراد بأخي عاد هود النبي (عليه السلام) ، والأحقاف مسكن قوم عاد والمتيقن أنه في جنوب جزيرة العرب ولا أثر اليوم باقيا منهم ، واختلفوا أين هو؟ فقيل : واد بين عمان ومهرة ، وقيل رمال بين عمان إلى حضرموت ، وقيل : رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن وقيل غير ذلك .
وقوله : {وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} النذر جمع نذير والمراد به الرسول على ما يفيده السياق ، وأما تعميم بعضهم الندر للرسول ونوابهم من العلماء ففي غير محله .
وفسروا {من بين يديه} بالذين كانوا قبله و{من خلفه} بالذين جاءوا بعده ويمكن العكس بأن يكون المراد بالنذر بين يديه من كانوا في زمانه ، ومن خلفه من كان قبله ، والأولى على الأول أن يكون المراد بخلو النذر من بين يديه ومن خلفه أن يكون كناية عن مجيئه إليهم وإنذاره لهم على فترة من الرسل .
وقوله : {ألا تعبدوا إلا الله} تفسير للإنذار وفيه إشارة إلى أن أساس دينه الذي يرجع إليه تفاصيله هو التوحيد .
وقوله : {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} تعليل لدعوتهم إلى التوحيد ، والظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم عذاب الاستئصال لا يوم القيامة يدل على ذلك ما سيأتي من قولهم : {فائتنا بما تعدنا} وقوله : {بل هوما استعجلتم به} والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {قالوا أ جئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} إلخ ، جواب القوم له قبال إنذاره ، وقوله : {لتأفكنا عن آلهتنا} بتضمين الإفك وهو الكذب والفرية معنى الصرف والمعنى : قالوا أ جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا إفكا وافتراء .
وقوله : {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} أمر تعجيزي منهم له زعما منهم أنه (عليه السلام) كاذب في دعواته آفك في إنذاره .
قوله تعالى : {قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به} إلخ ، جواب هود عن قولهم ردا عليهم ، فقوله : {إنما العلم عند الله{ قصر العلم بنزول العذاب فيه تعالى لأنه من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله جل شأنه ، وهو كناية عن أنه (عليه السلام) لا علم له بأنه ما هو؟ ولا كيف هو؟ ولا متى هو؟ ولذلك عقبه بقوله : {وأبلغكم ما أرسلت به{ أي إن الذي حملته وأرسلت به إليكم هو الذي أبلغكموه ولا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو؟ وكيف هو؟ ومتى هو؟ ولا قدرة لي عليه .
وقوله : {ولكني أراكم قوما تجهلون} إضراب عما يدل عليه الكلام من نفيه العلم عن نفسه ، والمعنى : لا علم لي بما تستعجلون به من العذاب ولكني أراكم قوما تجهلون فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم وخيركم من شركم حين تردون دعوة الله وتكذبون بآياته وتستهزءون بما يوعدكم به من العذاب .
قوله تعالى : {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} إلخ ، صفة نزول العذاب إليهم بادىء ظهوره عليهم .
والعارض هو السحاب يعرض في الأفق ثم يطبق السماء وهو صفة العذاب الذي يرجع إليه ضمير {رأوه} المعلوم من السياق ، وقوله : {مستقبل أوديتهم} صفة أخرى له ، والأودية جمع الوادي ، وقوله : {قالوا هذا عارض ممطرنا} أي استبشروا ظنا منهم أنه سحاب عارض ممطر لهم فقالوا : هذا الذي نشاهده سحاب عارض ممطر إيانا .
وقوله : {بل هوما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم{ رد لقولهم : {هذا عارض ممطرنا{ بالإضراب عنه إلى بيان الحقيقة فبين أولا على طريق التهكم أنه العذاب الذي استعجلتم به حين قلتم : {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين{ وزاد في البيان ثانيا بقوله : {ريح فيها عذاب أليم{ .
والكلام من كلامه تعالى وقيل : هو كلام لهود النبي (عليه السلام) .
قوله تعالى : {تدمر كل شيء بإذن ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين} التدمير الإهلاك ، وتعلقه بكل شيء وإن كان يفيد عموم التدمير لكن السياق يخصصه بنحو الإنسان والدواب والأموال ، فالمعنى : أن تلك الريح ريح تهلك كل ما مرت عليه من إنسان ودواب وأموال .
وقوله : {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} بيان لنتيجة نزول العذاب ، وقوله : {كذلك نجزي القوم المجرمين} إعطاء ضابط كلي في مجازاة المجرمين بتشبيه الكلي بالفرد الممثل به والتشبيه في الشدة أي إن سنتنا في جزاء المجرمين على هذا النحو الذي قصصناه من الشدة فهو كقوله تعالى : {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود : 102] .
قوله تعالى : {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه{ إلخ ، موعظة لكفار مكة مستنتجة من القصة .
والتمكين إقرار الشيء وإثباته في المكان ، وهو كناية عن إعطاء القدرة والاستطاعة في التصرف و{ما} في {فيما} موصولة أو موصوفة و{إن} نافية ، والمعنى : ولقد جعلنا قوم هود في الذي - أوفي شيء - ما مكناكم معشر كفار مكة ومن يتلوكم فيه من بسطة الأجسام وقوة الأبدان والبطش الشديد والقدرة القومية .
وقوله : {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة} أي جهزناهم بما يدركون به ما ينفعهم وما يضرهم وهو السمع والأبصار وما يميزون به ما ينفعهم مما يضرهم فيحتالون لجلب النفع ولدفع الضر بما قدروا كما أن لكم ذلك .
وقوله : {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} ما في {فما أغنى} نافية لا استفهامية ، و{إذ} ظرف متعلق بالنفي الذي في قوله : {فما أغنى} .
ومحصل المعنى : أنهم كانوا من التمكن على ما ليس لكم ذلك وكان لهم من أدوات الإدراك والتمييز ما يحتال به الإنسان لدفع المكاره والاتقاء من الحوادث المهلكة المبيدة لكن لم يغن عنهم ولم ينفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئا عند ما جحدوا آيات الله فما الذي يؤمنكم من عذاب الله وأنتم جاحدون لآيات الله .
وقيل : معنى الآية : ولقد مكناهم في الذي أوفي شيء ما مكناكم فيه من القوة والاستطاعة وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ليستعملوها فيما خلقت له ويسمعوا كلمة الحق ويشاهدوا آيات التوحيد ويعتبروا بالتفكر في العبر ، ويستدلوا بالتعقل الصحيح على المبدأ والمعاد فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء حيث لم يستعملوها فيما يوصل إلى معرفة الله سبحانه ، هذا ولعل الذي قدمناه من المعنى أنسب للسياق .
وقد جوزوا في مفردات الآية وجوها لم نوردها لعدم جدوى فيها .
وقد تقدم في نظائر قوله : {سمعا وأبصارا وأفئدة} أن إفراد السمع - والمراد منه الجمع - لمكان مصدريته في الأصل نظير الضيف والقربان والجنب ، قال تعالى : {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } [الذاريات : 24] وقال : {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا } [المائدة : 27] ، وقال : {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا } [المائدة : 6] .
وقوله : {وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} عطف على قوله : {ما أغنى عنهم} إلخ .
قوله تعالى : {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} تذكرة إنذارية متفرعة على العظة التي في قوله : {ولقد مكناهم} إلخ ، فهي معطوفة عليه على ما يفيده السياق لا على قوله : {واذكر أخا عاد} .
وقوله : {وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون} أي وصيرنا الآيات المختلفة من معجزة أيدنا بها الأنبياء ووحي أنزلناه عليهم ونعم رزقناهموها ليتذكروا بها ونقم ابتليناهم بها ليتوبوا وينصرفوا عن ظلمهم لعلهم يرجعون من عبادة غير الله سبحانه إلى عبادته .
والضمير في {لعلهم يرجعون} راجع إلى القرى والمراد بها أهل القرى .
قوله تعالى : {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة} إلخ ، ظاهر السياق أن آلهة مفعول ثان لاتخذوا ومفعوله الأول هو الضمير الراجع إلى الموصول و{قربانا} بمعنى ما يتقرب به ، والكلام مسوق للتهكم ، والمعنى : فلولا نصرهم الذين اتخذوهم آلهة حال كونهم متقربا بهم إلى الله كما كانوا يقولون : {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} .
وقوله : {بل ضلوا عنهم} أي ضل الآلهة عن أهل القرى وانقطعت رابطة الألوهية والعبودية التي كانوا يزعمونها ويرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد والمكاره فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم .
وقوله : {وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} مبتدأ وخبر والإشارة إلى ضلال آلهتهم ، والمراد بالإفك أثر الإفك أو بتقدير مضاف ، و{ما} مصدرية ، والمعنى : وذلك الضلال أثر إفكهم وافترائهم .
ويمكن أن يكون الكلام على صورته من غير تقدير مضاف أو تجوز والإشارة إلى إهلاكهم بعد تصريف الآيات وضلال آلهتهم عند ذلك ، ومحصل المعنى : أن هذا الذي ذكرناه من عاقبة أمرهم هو حقيقة زعمهم أن الآلهة يشفعون لهم ويقربونهم من الله زعمهم الذي أفكوه وافتروه ، والكلام مسوق للتهكم .
____________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص173-177 .
قوم عاد والريح المدمرة :
لما كان القرآن يذكر قضايا كلية ، ثمّ يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها ، ليطبق تلك الكليات . فإنّه هنا يسلك نفس السبيل ، فبعد أن فصل حال المستكبرين المتمردين ، تطرّق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة ، فتقول الآية : {واذكر أخا عاد} .
إنّ التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النّبي العظيم وحرصه على قومه ، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد ـ كما نعلم ـ في مورد عدة أنبياء عظام كانوا إخوة لأقوامهم حريصين رحماء بهم ، لم يبخلوا من أجلهم بأي نوع من الإيثار والتضحية .
ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى علاقة القرابة والرحم بين هؤلاء الأنبياء وأقوامهم .
ثمّ تضيف الآية : {إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} .
«الأحقاف» ـ كما قلنا سابقاً ـ تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة مستطيل أو تعرجات ومنحنيات ، على أثر هبوب العواصف في الصحاري ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ أرض قوم عاد كانت أرضاً حصباء كبيرة .
وذهب البعض أنّها في قلب جزيرة العرب بين نجد والأحساء وحضرموت وعمان (2) .
إلاّ أنّ هذا المعنى يبدو بعيداً ، حيث يظهر من آيات القرآن الأُخرى ـ في سورة الشعراء ـ أنّ قوم عاد كانوا يعيشون في مكان كثير المياه والأشجار الجميلة ، ومثل هذا الحال بعيد جدّاً عن قلب الجزيرة .
وذهب جمع آخر من المفسّرين أنّها في الجزء الجنوبي للجزيرة حول اليمن ، أوفي سواحل بحر العرب (3) .
واحتمل البعض أنّ الأحقاف كانت منطقة في أرض العراق في مناطق كلدة وبابل (4) .
ونقل عن الطبري أنّ الأحقاف اسم جبل في الشام (5) .
لكن يبدو أنّ القول بأنّ هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض اليمن ، هو الأقرب ، بملاحظة ملاءمته المعنى اللغوي للأحقاف ، وبملاحظة أنّ أرضهم كانت غزيرة المياه وفيرة الأشجار ، في نفس الوقت الذي لم تكن فيه بمأمن من العواصف الرملية .
وجملة : {وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا قبله ، بعضهم قريب عهد به ، وهم الذين عبّر عنهم القرآن بـ {من بين يديه} والبعض الآخر تقادمت الفترة الزمنية بينهم وبينه الذين عبّر عنهم بـ (من خلفه) .
أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من هذه الجملة الأنبياء الذين جاؤوا قبل هود وبعده ، فيبدو بعيداً جدّاً ، ولا ينسجم مع جملة : (وقد خلت) التي تعني الزمن الماضي .
ولنرَ الآن ماذا كان محتوى دعوة هذا النّبي العظيم ؟
يقول القرآن الكريم : {ألاّ تعبدوا إلاّ الله} ثمّ هدّدهم بقوله : {إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} .
وبالرغم من أنّ التعبير بـ (يوم عظيم) جاء بمعنى يوم القيامة غالباً ، إلاّ أنّه أطلق أحياناً في آيات القرآن على الأيّام القاسية المرعبة التي مرّت على الأمم ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، لأنّنا نقرأ في متابعة هذه الآيات أنّ قوم عاد قد ابتلوا بعذاب الله في يوم عسر مرعب وانتهى أمرهم .
إلاّ أنّ هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية ، وخاطبوا هوداً : {قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} (6) .
هاتين الجملتين تبيّنان بوضوح مدى انحراف هؤلاء القوم وتعصبهم ، فهم في الجملة الأولى يقولون : إنّ دعوتك كاذبة ، لأنّها تخالف آلهتنا التي تعوَّدنا على عبادتها ، وهي إرث ورثناه عن آبائنا .
ونراهم في الجملة الثّانية يطلبون وقوع العذاب! ذلك العذاب الذي إن نزل بهم فلا رجعة معه مطلقاً ، وأي ذي لب يتمنّى نزول مثل هذا العذاب ، حتى وإن لم يكن لديه يقين بوقوعه؟
إلاّ أنّ هوداً (عليه السلام) قال في ردّه على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون : (قال إنّما العلم عند الله) فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب الإستئصال ، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم ، ولا هو تابع لرغبتي ، بل يجب أن يتمّ الهدف ويتحقق ، ألا وهو إتمام الحجّة عليكم ، فإن حكمته سبحانه تقتضي ذلك .
ثمّ يضيف : {وأبلغكم ما أرسلت به} فهو مهمتي الأساسية ، ومسؤوليتي الرئيسية ، أمّا اتخاذ القرار في شأن طاعة الله وأوامره فهو أمر يتعلق بكم ، وإرادة نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه .
{ولكني أراكم قوماً تجهلون} وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم ، فإنّ الجهل المقترن بالكبر والغرور هو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل الله ، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها . . . ذلك الجهل الذي يحملكم على الإصرار على نزول عذاب الله ليهلككم ، ولوكان لديكم أدنى وعي أو تعقل لكنتم تحتملون ـ على الأقل ـ وجود احتمال إيجابي في مقابل كلّ الإحتمالات السلبية ، والذي إذا ما تحقق فسوف لا يبقى لكم أثر .
وأخيراً لم تؤثر نصائح هود (عليه السلام) المفيدة ، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب أُولئك ، وبدل أن يقبلوا الحق لجّوا في غيّهم وباطلهم ، وتعصبوا له ، وحتى نوح (عليه السلام) كذّبه قومه بهذا الإدعاء الواهي وهو أنّك إن كنت صادقاً فيما تقول فأين عذابك الموعود؟
والآن ، وقد تمّت الحجة بالقدر الكافي ، وأظهر أُولئك عدم أهليتهم للبقاء ، وعدم استحقاقهم للحياة ، فإنّ حكمة الله سبحانه توجب أن يرسل عليهم «عذاب الإستئصال» ، ذلك العذاب الذي يجتث كلّ شيء ولا يبقي ولا يذر .
وفجأة رأوا سحاباً قد ظهر في الأفق ، واتسع بسرعة : {فلمّا رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} (7) .
قال المفسّرون : إنّ المطر انقطع مدّة عن قوم عاد ، وأصبح الهواء حاراً جافاً خانقاً ، فلمّا وقع بصر قوم عاد على السحب المظلمة الواسعة في الأفق البعيد ، وهي تتجه صوبهم فرحوا لذلك جدّاً ، وهبّوا لإستقبالها ، وجاؤوا إلى جوانب الوديان والسهول ومجاري السيول والمياه . ليروا منظر نزول المطر المبارك ليحيوا من جديد ، وتسر بذلك نفوسهم .
لكن ، قيل لهم سريعاً بأنّ هذا ليس سحاباً ممطراً : {بل هوما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} .
والظاهر أنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه ، أو أنّ هوداً لمّا سمع صرخات فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك .
نعم ، إنّها ريح مدمّرة : {تدمر كلّ شيء بأمر ربّها} .
قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من (كل شيء) البشر ودوابهم وأموالهم ، لأنّ الجملة التالية تقول : {فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم} وهذا يوحي بأنّ مساكنهم كانت سالمة ، أمّا هم فقد هلكوا ، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري البعيدة ، أوفي البحر .
وقال البعض : إنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ هذه السحب السوداء هي رياح قوية مغبرة ، إلاّ عندما وصلت قريباً من ديارهم ، ورفعت دوابهم ورعاتهم ـ الذين كانوا في الصحاري المحيطة بهم ـ من الأرض ورمتهم في الهواء ، ورأوا أنّها تقتلع الخيام من مكانها وتلقيها في الهواء حتى كانت تبدو كالجواد !
عندما رأوا ذلك المشهد ، فروا والتجأوا إلى دورهم وأغلقوا الأبواب عليهم ، إلاّ أنّ الأعاصير اقتلعت الأبواب وألقتها على الأرض ـ أو حملتها معها ـ ورمت أجساد هؤلاء بالأحقاف ، وهي الرمال المتحركة .
وجاء في الآية (7) من سورة الحاقة : {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة : 7] وهكذا بقي هؤلاء القوم يئنون تحت تل من الرمال والتراب ، ثمّ أزالت الرياح القوية التراب فظهرت أبدانهم مرّة أُخرى ، فحملتها وألقتها في البحر (8) .
وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة ، وهي أنّ هذا المصير غير مختص بهؤلاء القوم الضالين ، بل : {كذلك نجزي القوم المجرمين} .
وهذا إنذار وتحذير لكلّ المجرمين العصاة ، والكافرين المعاندين الأنانيين ، بأنّكم إن سلكتم هذا الطريق فسوف لن يكون مصيركم أحسن حالاً من هؤلاء ، فإنّه تعالى قد يأمر الرياح بأن تهلككم ، ذات الرياح التي يعبر القرآن الكريم بأنّها : (مبشرات بين يدي رحمته) لأنّ الرياح تتصف بصفة الأمر الإلهي المطلوب منها .
وقد يبدل الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان واطمئنانه ، إلى قبر له بزلزلة شديدة .
وقد يبدّل المطر الذي هو أساس حياة كلّ الكائنات الحية ، إلى سيول جارفة تُغرق كل شيء .
نعم ، إنّه عزَّوجلَّ يجعل جنود الحياة جنود موت وفناء ، وكم هو مؤلم الموت الذي يأتي من سبب الحياة وأساسها؟ خاصّةً إذا كان الأمر كما في قوم هود إذ فرحوا وسروا في البداية ثمّ جاءتهم البطشة ليكون العذاب أشد وآلم .
والطريف أنّه يقول : إنّ هذه الرياح ، هي في الأصل أمواج هوائية لطيفة تتحوّل إعصار يدمّر كلّ شيء بأمر الله (9) .
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ مَكَّنَّهُمْ فِيَما إِن مَكَّنكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَرُهُمْ وَلاَ أَفِئِدَتُهُم مِن شَيْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 26 ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 27 ) فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
لستم بأقوى من قوم عاد أبداً :
إنّ هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب قوم عاد الأليم ، فتخاطب مشركي مكّة وتقول : {ولقد مكّناهم فيما إن مكّناكم فيه} (10) فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية ، وأقدر منكم من ناحية المال والثروة والإمكانات المادية ، فإذا كان بإمكان القوّة الجسمية والمال والثروة والتطور المادي أن تنقذ أحداً من قبضة الجزاء الإلهي ، فكان ينبغي على قوم عاد أن يصمدوا أمام العاصفة ولا يكونوا كالقشة في مهب الرياح ، تتقاذفهم كيف شاءت ولا يبقى من آثارهم إلاّ أطلال مساكنهم!
إنّ هذه الآية شبيهة بما ورد في سورة الفجر في شأن قوم عاد : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر : 6 - 8] .
أوهي نظير ما جاء في الآية (36) من سورة ق : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا } [ق : 36] .
وخلاصة القول : إنّ الذين كانوا أشدّ منكم وأقوى ، عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي ، فكيف بكم إذن؟
ثمّ تضيف الآية : (وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة) (11) فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضاً ، وكانوا يدركون الأُمور جيداً ، وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه ، لكن : {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} (12) وأخيراً : {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} .
نعم ، لقد كان أولئك مجهزين بالوسائل المادية ، وبوسائل إدراك الحقيقة ، إلاّ أنّهم لما كانوا يتعاملون مع آيات الله بمنطق الإستكبار والعناد ، وكانوا يتلقون كلام الأنبياء بالسخرية والإستهزاء ، لم ينفذ نور الحق إلى قلوبهم ، وهذا الكبر والغرور والعداء للحق هو الذي أدى إلى أن لا يستفيدوا ولا يستخدموا وسائل الهداية والمعرفة كالعين والأذن والعقل ، ليجدوا طريق النجاة ويسلكوه ، فكانت عاقبتهم أن ابتلوا بذلك المصير المشؤوم الذي أشارت إليه الآيات السابقة .
فإذا كان أُولئك القوم قد عجزوا عن القيام بأي عمل مع كلّ تلك القدرات والإمكانيات التي كانوا يمتلكونها ، وأصبحت جثثهم الهامدة كالريشة في مهب الرياح تتقاذفهم من كلّ جانب بكلّ مذلة واحتقار ، أولى لكم أن تعتبروا إذ أنتم أضعف منهم وأعجز .
وليس عسيراً على الله تعالى أن يأخذكم بأشد العذاب نتيجة أعمالكم وجرائمكم ، وأن يجعل عوامل حياتكم أسباب فنائكم ، وهذا خطاب لمشركي مكّة ، ولكلّ البشر المغرورين الظالمين العتاة على مر التأريخ ، وفي كلّ الأعصار والأمصار .
وحقاً فإنّ الأمر كما يقول القرآن الكريم ، فلسنا أوّل من وطأ الأرض ، فقد كان قبلنا أقوام كثيرون يعيشون فيها ، ولديهم الكثير من الإمكانيات والقدرات ، فكم هو جميل أن نجعل تأريخ أُولئك مرآة لأنفسنا لنعتبر به ، ولنرى من خلاله مستقبلنا ومصيرنا .
ثمّ تخاطب الآية مشركي مكّة من أجل التأكيد على هذا المعنى ، ولزيادة الموعظة والنصيحة ، فتقول : {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} .
أُولئك الأقوام الذين لا تبعد أوطانهم كثيراً عنكم ، وكان مستقرهم في أطراف جزيرة العرب ، فقوم عاد كانوا يعيشون في أرض الأحقاف في جنوب الجزيرة ، وقوم ثمود في أرض يقال لها «حجر» في شمالها ، وقوم سبأ الذين لاقوا ذلك المصير المؤلم في أرض اليمن ، وقوم شعيب في أرض مدين في طريقكم الشام ، وكان قوم لوط يعيشون في هذه المنطقة ، وابتلوا بأنواع العذاب لكثرة معاصيهم وكفرهم .
لقد كان كلّ قوم من أُولئك عبرة ، وكان كلّ منهم شاهداً ناطقاً معبراً ، يسأل : كيف لا يستيقظ هؤلاء ولا يعون مع كلّ وسائل التوعية هذه؟!
ثمّ تضيف الآية بعد ذلك : {وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون} فتارة أريناهم المعجزات وخوارق العادات ، وأُخرى أنعمنا عليهم ، وثالثة بلوناهم بالبلاء والمصائب ، ورابعة عن طريق وصف الصالحين المحسنين ، وأخرى بوصف المجرمين ، وأخرى وعظناهم بعذاب الإستئصال الذي أهلكنا به الآخرين . إلاّ أنّ الكبر والغرور والعجب لم يدع لهؤلاء سبيلاً إلى الهداية .
وتوبخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة ، وتذمهم بهذا البيان : {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة} (13) .
حقّاً ، إذا كانت هذه آلهة على حق ، فلماذا لا تعين أتباعها وعبادها وتنصرهم في تلك الظروف الحساسة ، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إنّ هذا بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنّون أنّ هذه الآلهة المخترعة هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم وشقائهم .
ثمّ تضيف : {بل ضلوا عنهم} فإنّ هذه الموجودات التي لا قيمة لها ولا أهمية ، والتي ليست مبدأ لأي أثر ، ولا تأتي بأي فائدة ، وهي عند العسر صماء عمياء ، فكيف تستحق الألوهية وتكون أهلاً لها ؟
وأخيراً تقول الآية : {وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} فإنّ هذا الهلاك والشقاء ، وهذا العذاب الأليم ، واختفاء الآلهة وقت الشدّة والعسر ، كان نتيجةً لأكاذيب أُولئك وأوهامهم وافتراءاتهم (14) .
________________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص567-575 .
2- اعلام القران ، ص94 .
3 ـ في ظلال القرآن ، ج7 ، ص420 ، ذيل الآيات مورد البحث .
4 ـ طبقاً لنقل المرحوم الشعراني في هامش تفسير أبي الفتوح الرازي ، المجلد 10 ، صفحة 165 .
5 ـ المصدر السابق .
6 ـ «لتأفكنا» من مادة «إفك» ، أي الكذب والإنحراف عن الحق .
7 ـ «عارض» من مادة (عرض) ، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء ، وربّما كان هذا أحد علامات السحب الممطرة بأنّها تتسع في ذلك الأفق ثمّ تصعد . و«الأودية» جمع واد ، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه .
8 ـ تفسير الكبير ، المجلد 28 ، صفحة 28 ، ذيل الآيات مورد البحث ، وجاء هذا المعنى أيضاً في تفسير القرطبي ، المجلد9 ، صفحة 6026 .
9 ـ «تدمّر» من مادة تدمير ، وهو الإهلاك والإفناء .
10 ـ «إن» في جملة (إن مكّناكم فيه) نافية ولدينا شواهد متعددة من آيات القرآن الكريم وردت في المتن . إلاّ أنّ البعض اعتبرها شرطية ، أو زائدة ولا نرى ذلك صواباً .
11 ـ يجدر الإنتباه إلى أنّ الأبصار والأفئدة وردت بصيغة الجمع ، في حين أنّ السمع قد ورد بصيغة المفرد ، ويمكن أن يكون هذا الإختلاف بسبب أنّ للسمع معنى المصدر ، والمصدر يستعمل دائماً بصيغة المفرد ، أو لوحدة المسموعات أما تفاوت المرئيات والمدركات .
12 ـ من في (من شيء) زائدة وللتأكيد ، أي لم ينفعهم أي شيء .
13 ـ المفعول الأوّل لـ (اتخذوا) محذوف ، و (آلهة) مفعولها الثاني ، و (قرباناً) حال ، والتقدير : اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونهم متقرباً بهم ، ويحتمل أيضاً أن تكون (قرباناً) مفعولاً لأجله . وقد احتملت احتمالات أُخرى في تركيب الآية ، لكنّها لا تستحق الإهتمام .
14 ـ بناءً على هذا فإنّ للآية محذوفاً ، والتقدير : وذلك نتيجة إفكهم . ويحتمل أيضاً أن لا يحتاج الآية إلى محذوف ، وفي هذه الحالة يصبح المعنى : كان هذا كذبهم وافتراءهم ، غير أنّ المعنى الأوّل يبدو هو الأنسب .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|