أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-2-2017
13829
التاريخ: 15-2-2017
3917
التاريخ: 15-2-2017
6348
التاريخ: 15-2-2017
6676
|
قال تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة : 261 - 263] .
{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} قيل تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة وقيل تقديره مثل الذين ينفقون كمثل زارع حبة وسبيل الله هو الجهاد وغيره من أبواب البر كلها على ما تقدم بيانه فالآية عامة في النفقة في جميع ذلك وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) واختاره أبو علي الجبائي وقيل هي خاصة بالإنفاق في الجهاد فأما غيره من الطاعات فإنما يجزي بالواحد عشرة أمثالها {كمثل حبة أنبتت} أي أخرجت {سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} يعني أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف .
ومتى قيل هل رأى في سنبلة مائة حبة حتى يضرب المثل بها فجوابه أن ذلك متصور وإن لم ير كقول أمرئ القيس :
(ومسنونة زرق (2) كأنياب أغوال ) وقوله تعالى {طلعها كأنه رءوس الشياطين} وأيضا فقد رأى ذلك في الجاورس ونحوه .
{والله يضاعف لمن يشاء} أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء وقيل معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء وروي عن ابن عمر أنه قال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) رب زد أمتي فنزل قوله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة قال رب زد أمتي فنزل {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} وقوله {والله واسع} أي واسع القدرة لا يضيق عنه ما شاء من الزيادة وقيل واسع الرحمة لا يضيق عن المضاعفة {عليم} بما يستحق الزيادة عن ابن زيد وقيل عليم بما كان من النفقة وبنية المنفق وما يقصده من الإنفاق .
ولما أمر الله تعالى بالإنفاق عقبه ببيان كيفية الإنفاق فقال {الذين ينفقون} أي يخرجون {أموالهم في سبيل الله} وقد تقدم بيانه {ثم لا يتبعون ما أنفقوا} أي نفقاتهم {منا} أي منة على المعطى {ولا أذى} له والمن هو أن يقول له أ لم أعطك كذا أ لم أحسن إليك أ لم أغنك ونحوها والأذى أن يقول أراحني الله منك ومن ابتلائي بك ويحتمل أن يكون معنى الأذى أن يعبس وجهه عليه أو يتعبه أو يؤذيه فيما يدفعه إليه أو يصرفه في بعض أشغاله بسبب إنفاقه عليه فكل هذا من المن والأذى الذي يكدر الصنيعة وينغص النعمة ويبطل الأجر والمثوبة .
وقوله {لهم أجرهم عند ربهم} إلى آخره قد مر تفسيره وقيل معناه لهم جزاء أعمالهم عند ربهم وإنما قال {عند ربهم} لتكون النفس أسكن إليه وأوثق به لأن ما عنده لا يخاف عليه فوت ولا نقص {ولا خوف عليهم} من فوت الأجر ونقصانه يوم القيامة {ولا هم يحزنون} لفوته ونقصانه .
وفي هذه الآية دلالة على أنه يصح الوعد بشرط لأن مفهوم الكلام أن تقديره في المعنى إن لم يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى فلهم من الأجر كذا والوعد إذا كان مشروطا فمتى لم يحصل الشرط لم يحصل استحقاق الثواب وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال (المنان بما يعطي لا يكلمه الله ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم) .
{قول معروف} أي كلام حسن جميل لا وجه فيه من وجوه القبح يرد به السائل وقيل معناه دعاء صالح نحو أن يقول صنع الله بك وأغناك الله عن المسألة وأوسع الله عليك الرزق وأشباه ذلك وقيل معناه عدة حسنة وقيل قول في إصلاح ذات البين عن الضحاك {ومغفرة } قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه سلامة من المعصية لأن حالها كحال المغفرة في الأمان من العقوبة عن الجبائي ( وثانيها ) أن معناه ستر على السائل وسؤاله ( وثالثها ) أن معناه عفو المسئول عن ظلم السائل عن الحسن وعلى هذا فيكون ظلم السائل أن يسأل في غير وقته أو يلحف في سؤاله أو يسيء الأدب بأن يفتح الباب أو يدخل الدار بغير إذن فالعفو عن ظلمه « خير من صدقة يتبعها أذى » وإنما صار القول المعروف والعفو عن الظلم خيرا من الصدقة التي يتبعها أذى لأن صاحب هذه الصدقة لا يحصل على خير لا على عين ماله في دنياه ولا على ثوابه في عقباه والقول بالمعروف والعفو طاعتان يستحق الثواب عليهما وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين إما بذل يسير أو رد جميل فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون كيف صنيعكم فيما خولكم الله تعالى {والله غني} عن صدقاتكم وعن جميع طاعاتكم لم يأمركم بها ولا بشيء منها لحاجة منه إليها وإنما أمركم بها ودعاكم إليها لحاجتكم إلى ثوابها { حليم } لا يعاجلكم بالعقوبة وقيل لا يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته ولو وقع هاهنا موقع حليم حميد أو عليم لم يحسن .
_____________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص180-183 .
2- اي : الرماح ذات السنان التي لونها الزرقة .
من تتبع آيات القرآن ، وتدبر معانيها يجد انها تهتم بأصول ثلاثة : بث الدعوة الاسلامية ، والجهاد ، وانفاق المال في سبيل اللَّه ، ذلك ان لهذه الأصول أعظم الأثر في تدعيم الإسلام وانتشاره ، ولذا حث عليها بشتى أساليب الترغيب والترهيب ، وتقدم العديد من آيات الحث على الجهاد وبذل المال ، ويأتي كثير غيرها ، وأمامنا الآن أكثر من عشر آيات في البذل والإنفاق . . منها تعد المنفق بالتعويض سبعمائة ضعف ، أو تزيد ، ومنها تنهاه عن اتباع الصدقة بالمن والأذى ، ومنها تأمره أن يكون العطاء خالصا لوجه اللَّه ومنها أن يكون من طيب الكسب وحلاله ،
لا من خبيثه وحرامه ، إلى غير ذلك (2) .
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ } . تساءل المفسرون : كيف ضرب اللَّه مثلا بحبة تنتج هذا الانتاج ، مع العلم بأنه لا وجود لها ؟ وبعضهم أجاب بأن المثال كناية عن الكثرة ، لا تعبيرا عن الواقع ، وقال آخر : انه مجرد فرض أريد منه أن العاقل إذا علم ان بذرته تعود عليه بسبعمائة ضعف يقدم ولا يحجم .
وليس من شك ان المفسرين استبعدوا هذا المثال ، لأنهم قاسوا الزراعة من حيث هي على الزراعة في العصر الذي عاشوا فيه ، حيث لا وسيلة إليها سوى الثور والحمار ، والمعول والمسحاة ، ولو كانوا في هذا العصر لم يروا في مثال اللَّه أية غرابة بعد ان دخل العلم إلى كل شيء ، واستعملت أدواته في الزراعة ، وفي كل مظهر من مظاهر الحياة .
هذا وان عطاء ربك لا ينضب ، ولا تحصيه كثرة ، ولا يضيق على من يرتضي من عباده ، فالسبعمائة ضعف ليست حدا أعلى لفضله وعطائه ، ولذا قال : {واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ } . وكما تقبل ال 700 ضعف الزيادة فإنها تقبل النقصان أيضا . . حيث يراعى حال الباذل ، ومورد الشيء المبذول . . فرب درهم واحد ممن يحتاج إليه يكون أعظم أجرا عند اللَّه من ألف ممن هو في غنى عنها . . وأيضا درهم واحد يبذل في إعلاء شأن الحق ، والتربية على الدين والأخلاق ، أو يبذل في إسعاد الناس ، وخلاصهم من الظلم والفقر ، هذا الدرهم الواحد الذي يبقى أثره ، ويدوم نفعه زمنا طويلا أفضل مليون مرة من ألوف تعطى لمن ينفقها على ترف أبنائه ، وأزواج بناته .
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا ولا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } . للمن معان في اللغة ، منها الانعام ، يقال : أنعم اللَّه عليك ، أي منّ عليك . ويقال : اللَّه المنان ، أي المنعم ، ومنها القطع ، قال تعالى : { وإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع ، ومنها اظهار الصنيعة والفضل ، وهو المراد هنا ، قال صاحب مجمع البيان : المنّ أن تقول له : ألم أعطك ؟ ألم أحسن إليك ؟ والأذى أن تقول : أراحني اللَّه منك ، ومن ابتلائي بك .
والمعنى ان الإنفاق والبذل الذي يعوضه اللَّه أضعافا هو الذي يتجه للَّه وحده ، لا للشهرة والمظاهر ، ولا يخدش شعور انسان ، لأن هذا يكدر الصنيعة ، وينغص النعمة ، ويبطل الثواب .
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ومَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً } . القول المعروف هو الكلام الذي تقبله القلوب ، ولا تنكره ، والمراد بالمغفرة هنا أن يتسامح المسؤول مع السائل إذا ألحّ بالسؤال ، أوفاه بالبذاءة والوقاحة إذا ردّ بغير مقصوده ، كما هو شأن بعض السائلين . . والمعنى ان مقابلة السائل بكلمة طيبة ، والصبر عليه أفضل عند اللَّه من العطاء مع الإيذاء بسوء المقابلة . . وفي الحديث عن النبي ( صلى الله عليه واله ) انه قال : (إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته ، حتى يفرغ منها ، ثم ردوا عليه بوقار ولين ، إما بذل يسير ، واما رد جميل) .
{واللَّهُ غَنِيٌّ } . عن جميع الصدقات والطاعات ، ونحن الفقراء إلى عنايته ولطفه وثوابه .
( حَلِيمٌ ) . لا يعاجل بالعقوبة في هذه الحياة ، وانما يؤخر العاصي ليوم لا ريب فيه .
________________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص411-413 .
2- قال بعض المفسرين الجدد : ان هذه الآيات {تضع النظام الاقتصادي} . . والحقيقة انها أبعد ما تكون عنه ، لأن النظام الاقتصادي يرتكز أولا وقبل كل شيء على تحديد وسائل الانتاج ، وتعيين أربابها ، وهذه الآيات وغيرها لم تتعرض لشيء من ذلك . . وإنما حثت الأغنياء أن يبذلوا من أموالهم في سبيل اللَّه .
سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان أمر الإنفاق ، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنها نزلت دفعه واحدة ، وهي تحث المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى ، فتضرب أولا مثلا لزيادته ونموه عند الله سبحانه : واحد بسبعمائة ، وربما زاد على ذلك بإذن الله ، وثانيا مثلا لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلا للإنفاق رياء لا لوجه الله ، وأنه لا ينمو نماء ولا يثمر أثرا ، وتنهى عن الإنفاق بالمن والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره ، ثم تأمر بأن يكون الإنفاق من طيب المال لا من خبيثه بخلا وشحا ، ثم تعين المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله ، ثم تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله .
وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق ، وتبين أولا وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس ، وثانيا صورة عمله وكيفيته وهو أن لا يتعقبه المن والأذى ، وثالثا وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيبا لا خبيثا ، ورابعا نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيرا أحصر في سبيل الله ، وخامسا ما له من عظيم الأجر عاجلا وآجلا .
كلام في الإنفاق
الإنفاق من أعظم ما يهتم بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسل إليه بأنحاء التوسل إيجابا وندبا من طريق الزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة ، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك .
وإنما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم ، ليقرب أفقهم من أفق أهل النعمة والثروة ، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس ، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك .
وكان الغرض من ذلك كله إيجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الأجزاء متشابهة الأبعاض ، تحيي ناموس الوحدة والمعاضدة ، وتميت الإرادات المتضادة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد ، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشئونها ، وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الإنسان في العاجل والآجل ، ويعيش به الإنسان في معارف حقة ، وأخلاق فاضلة ، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا ، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة .
ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها ، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة ، ولا يكمل ذلك إلا بالجهات المالية والثروة والقنية ، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق الجبين ، فإنما المؤمنون إخوة ، والأرض لله ، والمال ماله .
وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته (عليه السلام) ونفوذ أمره .
: وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجراها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ يقول : وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا ، والشر فيه إلا إقبالا ، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا ، فهذا أوان قويت عدته وعمت مكيدته وأمكنت فريسته ، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا ؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا ؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ نهج البلاغة ، .
وقد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إن الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض ، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية .
واستيفاء الهوسات النفسانية ، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة ، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب أولي القوة والثروة ، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلا الحرمان ، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس ، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين ، كل يعمل على شاكلته لا يبقى ولا يذر ، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين ، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد ، ونشبت الحرب العالمية الكبرى ، وظهرت الشيوعية ، وهجرت الحقيقة والفضيلة ، وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع و ، هذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنساني ، وما يهدد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع .
ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ، ويذكر أن في رواجه فساد الدنيا وهومن ملاحم القرآن الكريم ، وقد كان جنينا أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيام .
وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [الروم : 30 - 43] ، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن ، سيأتي بيانها إن شاء الله .
وبالجملة هذا هو السبب فيما يتراءى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحث الشديد والتأكيد البالغ في أمره .
قوله تعالى : {مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة} "إلخ" ، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله ، فإن الكلمة في الآية مطلقة ، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله ، وكانت كلمة ، في سبيل الله ، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات ، فإن ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر .
وقد ذكروا أن قوله تعالى : {كمثل حبة أنبتت} "إلخ" ، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت "إلخ" ، فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر .
وهذا الكلام وإن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعة في القرآن كقوله تعالى : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } [البقرة : 171] ، فإنه مثل من يدعو الكفار لا مثل الكفار ، وقوله تعالى : {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ} [يونس : 24] ، وقوله تعالى : {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } [النور : 35] ، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية : فمثله كمثل صفوان الآية ، وقوله تعالى : {مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة} الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة .
وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز .
توضيحه : أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لأخرى في جهاتها يؤتى بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم : لا ناقة لي ولا جمل ، وقولهم : في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح ، ولذا قيل : إن الأمثال لا تتغير ، وكقولنا : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، وهي قصة مفروضة خيالية .
والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى : {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } [إبراهيم : 26] ، وقوله تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة : 5] ، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل وهو الذي نسميه مادة التمثيل ، وإنما جيء بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الأخير مثال الإنفاق والحبة فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمائة حبة وإنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة .
وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه ، وما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام القصة لأن الغرض من التمثيل حاصل بذلك ، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمرا ووجدانه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه ، فهو هو بوجه وليس به بوجه ، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن .
قوله تعالى : {أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} ، السنبل معروف وهو على فنعل ، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لأنه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الأغلفة .
ومن أسخف الإشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مائة حبة ، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونه في الخارج فالأمثال التخيلية أكثر من أن تعد وتحصى ، على أن اشتمال السنبلة على مائة حبة وإنبات الحبة الواحدة سبعمائة حبة ليس بعزيز الوجود .
قوله تعالى : {والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} ، أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة : 245] ، فأطلق الكثرة ولم يقيدها بعدد معين .
وقيل : إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمائة ضعف غاية ما تدل عليه الآية ، وفيه أن الجملة على هذا يقع موقع التعليل ، وحق الكلام فيه حينئذ أن يصدر بأن كقوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر : 61] ، وأمثال ذلك .
من حيث الأثر والفائدة ، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة والاستقامة ، وعي في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها ، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهرا ، لكن الخلقة إنما جهز الإنسان بالبصر ليميز به الأشياء ضوءا ولونا وقربا وبعدا فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه ، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه ، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أولا كدا وتعبا لا يتحمل عادة ، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير ، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الأعضاء الآخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع ، وعاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المئات والألوف بما يورث من إصلاح حال الغير ، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه ، وإيجاد المحبة في قلبه ، وحسن الذكر في لسانه ، والنشاط في عمله ، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة ، ولا سيما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو ذلك ، فهذا حال الإنفاق .
وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلف ، فإن الإنفاق لولم يكن لوجه الله لم يكن إلا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره ، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه ، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه ، ربما أورث في نفس الفقير أثرا سيئا ، وربما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى ، لكن الإنفاق الذي لا يراد به إلا وجه الله ولا يبتغي فيه إلا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلا الجميل ولا يتعقبه إلا الخير .
قوله تعالى : {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى} "إلخ" ، الاتباع اللحوق والإلحاق ، قال تعالى : {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } [الشعراء : 60] ، أي لحقوهم ، وقال تعالى : {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص : 42] ، أي ألحقناهم .
والمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه : أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك ، والأصل في معناه على ما قيل القطع ، ومنه قوله تعالى : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [فصلت : 8] ، أي غير مقطوع ، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير ، والخوف توقع الضرر ، والحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع .
قوله تعالى : {قول معروف ومغفرة خير من صدقة} "إلخ" المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة ، ويختلف باختلاف الموارد ، والأصل في معنى المغفرة هو الستر ، والغنى مقابل الحاجة والفقر ، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل .
وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسئول عنه ، والستر والصفح إذا شفع سؤاله بما يسوؤه وهما خير من صدقة يتبعها أذى ، فإن أذى المنفق للمنفق عليه يدل على عظم إنفاقه والمال الذي أنفقه في عينه ، وتأثره عما يسوؤه من السؤال ، وهما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن ، فإن المؤمن متخلق بأخلاق الله ، والله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به ، حليم لا يتعجل في المؤاخذة على السيئة ، ولا يغضب عند كل جهالة ، وهذا معنى ختم الآية بقوله : {والله غني حليم} .
___________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص325-330 .
الإنفاق وترشيد الشخصيّة :
تعتبر مسألة الإنفاق إحدى أهمّ المسائل التي أكدّ عليها الإسلام والقرآن الكريم ، والآية أعلاه هي أوّل آية في مجموعة الآيات الكريمة من سورة البقرة التي تتحدّث عن الإنفاق ، ولعلّ ذكرها بعد الآيات المتعلّقة بالمعاد من جهة أنّ أحد الأسباب المهمّة للنجاة في الآخرة هو الإنفاق في سبيل الله . وذهب البعض إلى أنّ الآيات لها إرتباط بآيات الجهاد المذكورة قبل آيات المعاد والتوحيد في هذه السورة .
تقول الآية الشريفة : {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة} فيكون المجموع المتحصّل من حبّة واحدة سبعمائة حبّة ، وتضيف الآية بأنّ ثواب هؤلاء لا ينحصر بذلك {والله يضاعف لمن يشاء} .
وذلك بإختلاف النيّات ومقدار الأخلاص في العمل وفي كفيّته وكميّته . ولا عجب في هذا الثواب الجزيل لأنّ رحمة الله تعالى واسعة وقدرته شاملة وهو مطّلع على كلّ شيء {والله واسع عليم} .
ويرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الإنفاق في الآية أعلاه هو الإنفاق للجهاد في سبيل الله فقط لأنّ هذ الآية في الواقع تأكيدٌ لما مرّ في الآيات التي تحدّثت عن قصة عزير وإبراهيم وطالوت ، ولكنّ الإنصاف أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك ومجرّد إرتباطها بالآيات السابقة لا يمكن أن يكون دليلاً على تخصيص هذه الآية والآيات التالية لأنّ عبارة (في سبيل الله)لها مدلول واسع يشمل كلّ مصارف الخير ، مضافاً إلى أنّ الآيات التالية أيضاً ورد فيها بحث الإنفاق بسورة مستقلّة ، وقد إشير كذلك في الروايات الإسلامية إلى عموم معنى الإنفاق في هذه الآية (2) .
والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تشبّه الأشخاص الذين ينفقون في سبيل الله بالبذرة المباركة التي تزرع في أرض خصبة في حين أنّ التشبيه عادةً يجب أن يكون بين الإنفاق نفسه والبذرة أي أعمالهم لا أنفسهم ، ولذلك ذهب الكثير من المفسّرين أنّ في الآية حذفٌ مثل كلمة (صدقات) قبل كلمة (الذين ينفقون) أو كلمة (زارع) قبل كلمة الحبّة وأمثال ذلك .
ولكن ليس هناك أي دليل على وجود الحذف والتقدير في هذه الآية ، بل إنّ تشبيه المنفقين بحبّات كثيرة البركة تشبيه رائع وعميق وكأنّ القرآن يريد أن يقول : إنّ عمل كلّ إنسان إنعكاس لوجوده ، وكلّما إتّسع العمل إتّسع في الواقع وجود ذلك الإنسان .
وبعبارة اُخرى : أنّ القرآن لا يفصل عمل الإنسان عن وجوده ، بل يرى أنّهما مظهران مختلفان لحقيقة واحدة ، ووجهان لعملة واحدة ، لذلك فإنّ آية قابلة للتفسير من دون أن نفترض فيها حذفاً وتقديراً ، فالآية إشارة إلى حقيقة أنّ شخصية الإنسان الصالح تنمو وتكبر معنويّاً بأعماله الصالحة ، فمثل هؤلاء المنفقين كمثل البذور الكثيرة الثمر التي تمدّ جذورها واغصانها إلى جميع الجهات وتفيض ببركتها على كلّ الأرجاء .
والخلاصة أنّه في كلّ مورد للتشبيه مضافاً إلى وجود أداة التشبيه لابدّ من وجود ثلاثة اُمور اُخرى :
المشبّه ، والمشبّه به ، ووجه التشبيه ، ففي هذا المورد المشبّه هو الإنسان المنفق ، والمشبّه به هو البذور الكثيرة البركة ، ووجه التشبيه هو النمو والرشد ، ونحن نعتقد أنّ الإنسان المنفق ينمو ويرشد معنويّاً وإجتماعيّاً من خلال عمله ذاك ولا يحتاج إلى أيّ تقدير حينئذ .
وشبيه هذا المعنى ورد كذلك في الآية 265 من هذه السورة ، وهناك بحث بين المفسّرين في التعبير بقوله {أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبّة} حيث أشارت الآية إلى أنّ حبّة واحدة تصير سبعمائة حبّة أو أكثر ، وأنّ هذا التشبيه لا وجود خارجي له فهو تشبيه فرضي (لأنّ حبّة الحنطة لا تبلغ في موسم الحصاد سبعمائة حبّة أبداً) أو أنّ المقصود هو نوعٌ خاصّ من الحبوب (كالدخن) التي تعطي هذا القدر من الناتج ، ويلفت النظر أنّ الصحف كتبت أخيراً أنّ بعض مزارع القمح أنتجت في السنوات الممطرة سنابل طويلة يحمل بعضها نحواً من اربعمائة آلاف حبّة ، وهذا يدلّ على أنّ تشبيه القرآن واقعي وحقيقي .
جملة (يضاعف) من مادّة (ضعف) ويعني مقدار المرتين أو المرّات وبالنظر إلى ما ذكرنا آنفاً من وجود حبوب تعطي عدّة آلاف من المحصول نعرف بأنّ هذا التشبيه هو تشبيه واقعيّ أيضاً .
الإنفاق المقبول :
الآية السابقة بيّنت أهميّة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام ، ولكن في هذه الآية بيّنت بعض شرائط هذا الإنفاق (ويستفاد ضمناً من عبارات هذه الآية أنّ الإنفاق هنا لا يختصّ بالإنفاق في الجهاد) .
تقول الآية {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا . . . ولا هم يحزنون}(3) .
يستفاد بوضوح من هذه الآية أنّ الإنفاق في سبيل الله لا يكون مقبولاً عند الله تعالى إذا تبعته المنّة وما يوجب الأذى والألم للمعوزين والمحتاجين ، وعليه فإنّ من ينفق ماله في سبيل الله ولكنّه يمنّ به على من ينفق عليه ، أو ينفقه بشكل يوجب الأذى للآخرين فإنّه في الحقيقة يحبط ثوابه وأجره بعمله هذا .
إنّ ما يثير الإهتمام أكثر في هذه الآية هو أنّ القرآن لا يعتبر رأسمال الإنسان في الحياة مقتصراً على رأس المال المادّي ، بل يحسب حساب رؤوس الأموال المعنوية والإجتماعية أيضاً .
إنّ من يعطي شيئاً لأحد ويمنّ عليه بهِ أو يقوم بما يثير الألم في نفس المعطي له ويجرح عواطفه فإنّه لا يكون قد أعطاه شيئاً في الواقع ، لأنّه إذا كان قد أعطاه رأسمال ، فإنّه قد أخذ منه رأسمال أيضاً ، بل لعلّ المنّة التي يمنّ بها عليه ونظرة التحقير التي ينظر بها إليه ذات أضرار باهضة يفوق ثمنها ما أنفقه من مال .
إذا لم ينل أمثال هؤلاء الأشخاص أيّ ثواب على إنفاقهم هذا فهو أمر طبيعي وعادل . وقد يصحّ القول إنّ هؤلاء في كثير من الأحوال هم المدينون لا الدائنون لأنّ كرامة الإنسان أغلى بكثير من أيّ مال وثروة .
ولاحظ في الآية إنّ كلمتي المنّ والأذى مسبوقتان بـ (ثمّ) التي تفيد التراخي ، أي وجود فتره زمنية بين فعلين . فيكون معنى الآية : إنّ الذين ينفقون ، وبعد ذلك لا يمنّون على أحد ولا يؤذون أحداً يكون ثوابهم محفوظاً عند الله . ويعني هذا ضرورة الابتعاد عن المنّ والأذى لا في حالة الإنفاق فحسب ، بل عليه أن لا يمنّ عليه في أوقات تالية عن طريق تذكير المنفق عليه بالإنفاق ، وهذا دليل على الدقّة المتناهية التي يبتغيها الإسلام من الخدمات الإسلامية الخالصة .
لابدّ من القول إنّ المنّ والأذى اللذين يحبطان قبول الإنفاق لا يختصّان بالإنفاق على الفقراء فقط ، بل تجنّبهما لازم في جميع الأعمال العامّة والإجتماعية كالجهاد في سبيل الله والأعمال ذات المنفعة العامّة التي تتطلّب بذل المال .
{لهم أجرهم عند ربّهم} .
تطمئن هذه الآية المنفقين أنّ أجرهم محفوظ عند الله لكي يواصلوا هذا الطريق بثقة ويقين . فما كان عند الله باق ولا ينقص منه شيء ، بل أنّ عبارة (ربّهم) قد تشير إلى أن الله تعالى سيزيد في أجرهم وثوابهم .
{ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
سبق أن قلنا إنّ الخوف يكون من المستقبل ، والحزن على ما مضى . وعليه فإنّ المنفقين بعلمهم أنّ جزاءهم محفوظ عند الله لن ينتابهم الخوف من يوم البعث الآتي ، ولا هم يحسّون بالحزن على ما أنفقوه في سبيل الله .
وذهب البعض إلى أنّه لا خوف من الفقر والحقد والبخل والغبن وأمثال ذلك ولا حزن على ما أنفقوا في سبيل الله .
وفي الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثمّ آذاه بالكلام أومنّ عليه فقد أبطل صدقته» (4) فالشخص الذي ينفق في سبيل الله ولم يرتكب مثل هذه الأعمال بعد ذلك لا يخشى بطلان إنفاقه ، والمفاهيم الإسلامية تؤكّد دقّة الشريعة المقدّسة في هذا المجال بحيث أنّ بعض العلماء الأقدمون قالوا : (أنّك إذا تصدّقت على شخص وتعلم أنّك إذا سلّمت عليه سيصعب عليه ذلك فيتذكر صدقتك عليه فلا تسلّم عليه) (5) .
الكلمة الطيبة أفضل من الصدقة مع المنّة :
هذه الآية تكمّل ما بحثته الآية السابقة في مجال ترك المنّة والأذى عند الإنفاق والتصدّق فتقول : إنّ الكلمة الطيّبة للسائلين والمحتاجين والصفح عن أذاهم أفضل من الصدقة التي يتبعها الأذى {قولٌ معروفٌ ومغفرة خيرٌ من صدقة يتبعها أذىً} .
ويجب أن يكون معلوماً أنّ ما تنفقوه في سبيل الله فهو في الواقع ذخيرةٌ لكم لإنقاذكم ونجاتكم لأنّ الله تعالى غير محتاج إليكم وإلى أموالكم وحليم في مقابل جهالاتكم {والله غنيّ حليم} .
_________________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص115-122 .
2ـ «الطبرسي» في مجمع البيان بعد أن يذكر المفهوم الآية معناً واسعاً يقول : وهو المروي عن أبي عبدالله (عليه السلام) .
3 ـ «مَنَّ» بمعنى حجر الميزان المعروف ثمّ اُطلقت على النعم المهمّة التي يلاحظ فيها الجانب العملي «ومنن الله تعالى من هذا القبيل» وإن كان الملحوظ فيها الجانب اللفظي كانت قبيحة جدّاً وفي الآية أعلاه وردت بهذا المعنى الثاني .
4 ـ تفسير البرهان : ج 1 ص 253 ح 1 .
5 ـ تفسير روح الجنان : ج 2 ص 364 .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|