أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-12-2016
3546
التاريخ: 10-5-2017
12399
التاريخ: 20-2-2017
6650
التاريخ: 10-2-2017
1246
|
قال تعالى : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 144، 145].
{ قد نرى تقلب وجهك } يا محمد { في السماء } لانتظار الوحي في أمر القبلة وقيل في سبب تقليب النبي وجهه في السماء قولان(2).
(أحدهما) أنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس فكان يفعل ذلك انتظارا وتوقعا للموعود كما أن من انتظر شيئا فإنه يجعل بصره إلى الجهة التي يتوقع وروده منها (والثاني) أنه كان يكره قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة وكان لا يسأل الله تعالى ذلك لأنه لا يجوز للأنبياء أن يسألوا الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إلى ذلك فيكون فتنة لقومهم.
واختلف في سبب إرادته تحويل القبلة إلى الكعبة فقيل لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم (عليه السلام) وقبلة آبائه عن ابن عباس وقيل لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا عن مجاهد وقيل إن اليهود قالوا ما دري محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم عن ابن زيد وقيل كانت العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم ليكونوا أحرص على الصلاة إليها وكان (صلى الله عليه وآله وسلّم) حريصا على استدعائهم إلى الدين ويحتمل أن يكون إنما أحب ذلك لجميع هذه الوجوه إذ لا تنافي بينها .
وقوله { فلنولينك قبلة ترضيها } أي فلنصرفنك إلى قبلة تريدها وتحبها وإنما أراد به محبة الطباع لا أنه كان يسخط القبلة الأولى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي حول نفسك نحو المسجد الحرام لأن وجه الشيء نفسه وقيل إنما ذكر الوجه لأن به يظهر التوجه وقال أبو علي الجبائي أراد بالشطر النصف فأمره الله تعالى بالتوجه إلى نصف المسجد الحرام حتى يكون مقابل الكعبة وهذا خطأ لأنه خلاف أقوال المفسرين { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } أي أينما كنتم من الأرض في بر أو بحر أو سهل أو جبل فولوا وجوهكم نحوه فالأول خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل المدينة (والثاني) خطاب لجميع أهل الآفاق ولو اقتصر على الأول لجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم حسب فبين سبحانه أنه قبلة لجميع المصلين في مشارق الأرض ومغاربها .
وذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتابه عن ابن عباس أنه قال البيت كله قبلة وقبلة البيت الباب والبيت قبلة أهل المسجد والمسجد قبلة أهل الحرم والحرم قبلة أهل الأرض كلها وهذا موافق لما قاله أصحابنا أن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق وقوله { وإن الذين أوتوا الكتاب } أراد به علماء اليهود وقيل علماء اليهود والنصارى { ليعلمون أنه الحق من ربهم } أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا وكان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين.
وروي أنهم قالوا عند التحويل ما أمرت بهذا يا محمد وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا ومرة إلى هنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون { وما الله بغافل عما يعملون } أي ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمعاندة ودل هذا على أن المراد بالآية قوم معدودون يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب وعلى أن يظهروا خلاف ما يبطنون فأما الجمع العظيم فلا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب ولا يتأتى فيهم كلهم أن يظهروا خلاف ما يعلمون.
وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس وقال ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة وقال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها وقال جعفر بن مبشر هذا مما نسخ من السنة بالقرآن وهذا هو الأقوى لأنه ليس في القرآن ما يدل على التعبد بالتوجه إلى بيت المقدس ومن قال إنها نسخت قوله فأينما تولوا فثم وجه الله فإن هذه الآية عندنا مخصوصة بالنوافل في حال السفر روي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وليست بمنسوخة.
واختلف الناس في صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى بيت المقدس فقال قوم كان (عليه السلام) يصلي بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى بيت المقدس ثم أعيد إلى الكعبة وقال قوم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها ولا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه وقال قوم بل كان يصلي بمكة وبعد قدومه المدينة إلى بيت المقدس ولم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه وبينها ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة .
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } في الكلام معنى القسم أي والله لئن أتيت الذين أعطوا الكتاب يعني أهل العناد من علماء اليهود والنصارى عن الزجاج والبلخي وقيل المعني به جميع أهل الكتاب عن الحسن وأبي علي { بكل آية } أي بكل حجة ودلالة { ما تبعوا قبلتك } أي لا يجتمعون على اتباع قبلتك على القول الثاني وعلى القول الأول لا يؤمن منهم أحد لأن المعاند لا تنفعه الدلالة وإنما تنفع الجاهل الذي لا يعلم .
{ وما أنت بتابع قبلتهم } في معناه أربعة أقوال (أحدها) أنه رفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تنسخ (وثانيها) أنه على وجه المقابلة لقوله { ما تبعوا قبلتك } كما يقال ما هم بتاركي إنكار الحق وما أنت بتارك الاعتراف به فيكون الذي جر الكلام الثاني هو التقابل للكلام الأول (وثالثها) أن المراد ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم لأن النصارى تتوجه إلى جهة المشرق الموضع الذي ولد فيه عيسى (عليه السلام) واليهود إلى بيت المقدس فبين الله سبحانه أن إرضاء الفريقين محال (ورابعها) أن المراد حسم أطماع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك وظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس.
وقوله { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } في معناه قولان (أحدهما) أنه لا تصير النصارى كلهم يهودا أو تصير اليهود كلهم نصارى أبدا كما لا يتبع جميعهم الإسلام وهذا من الإخبار بالغيب قاله الحسن والسدي (الآخر) أن معناه إسقاط اعتلالهم بأنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب فيما ورثوه عن أنبياء الله وإن بيت المقدس لم يزل كان قبلة الأنبياء فهو أولى بأن يكون قبلة أي فكما جاز أن يخالف بين وجهتيهم للاستصلاح جاز أن يخالف بوجهة ثالثة في زمان آخر للاستصلاح ويحتمل أيضا أن يجري الكلام على الظاهر لأنه لم يثبت أن يهوديا تنصر ولا أن نصرانيا تهود فلا ضرورة بنا إلى العدول عن الظاهر إلى التأويل وهذا قول القاضي.
وقوله { ولئن اتبعت أهواءهم } الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وفيه أربعة أقوال (أولها) أن المراد به غيره من أمته وإن كان الخطاب له والمراد الدلالة على أن الوعيد يستحق باتباع أهوائهم وأن اتباعهم ردة عن الحسن والزجاج (وثانيها) أن المراد أن اتبعت أهواءهم في المداراة لهم حرصا أن يؤمنوا إنك إذا لمن الظالمين لنفسك مع إعلامنا إياك أنهم لا يؤمنون عن الجبائي و(ثالثها) أن معناه الدلالة على فساد مذاهبهم وتبكيتهم(3) بها وأن من تبعهم كان ظالما (ورابعها) أنه على سبيل الزجر عن الركون إليهم ومقاربتهم تقوية لنفسه ومتبعي شريعته ليستمروا على عداوتهم عن القاضي .
{ من بعد ما جاءك من العلم } أي من الآيات والوحي الذي هو طريق العلم وقيل من بعد ما علمت أن الحق ما أنت عليه من القبلة والدين { إنك إذا لمن الظالمين } وقد مضى معناه وهو مثل قوله لئن أشركت ليحبطن عملك وفي هذه الآية دلالة على فساد قول من قال أنه لا يصح الوعيد بشرط وإن من علم الله تعالى أنه يؤمن لا يستحق العقاب أصلا لأن الله تعالى علق الوعيد بشرط يوجب أنه متى حصل الشرط يحصل استحقاق العقاب وفيها دلالة على فساد قول من زعم أن في المقدور لطفا لو فعله الله تعالى بالكافر لآمن لا محالة لقوله إن أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك فعلى قول من قال المراد به المعاند لا ينفعه شيء من الآيات وعلى قول من قال المراد به جميع الكفار فلا لطف لهم أيضا يؤمنون عنده فعلى الوجهين معا يبطل قولهم وفيها دلالة أيضا على أن جميع الكفار لا يؤمنون .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص422-426.
2- وفي النسخ التي عندنا : (وجهان) بدل (قولان).
3- التبكيت : الغلبة بالحجة .
قال صاحب مجمع البيان : (روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام ) انه قال :
تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس ، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ، ثم وجهه اللَّه إلى الكعبة ، وذلك ان اليهود كانوا يعيرون رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، ويقولون له :
أنت تابع لنا ، تصلي إلى قبلتنا ، فاغتم رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) من ذلك غما شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ، ينتظر من اللَّه تعالى أمرا في ذلك ، فلما أصبح وحضر وقت الظهر كان في مسجد بني سالم ، وصلى فيه من الظهر ركعتين ، فنزل عليه جبريل (عليه السلام) فأخذ بعضديه ، وحوله إلى الكعبة ، وأنزل عليه : {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} فصلى ركعتين إلى بيت المقدس ، وركعتين إلى الكعبة ) .
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} . وصف المسجد بالحرام ، حيث يجب تقديسه ، ويحرم هتكه ، والكعبة جزء من المسجد الحرام ، وهو جزء من الحرم الذي يشمل مكة وضواحيها المحددة في كتب الفقه ، باب الحج ، مسألة محرمات الإحرام ، والصيد في الحرم .
والمعروف من طريقة القرآن الكريم ان كل تكليف شرعي موجه بظاهره لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) يدخل فيه عموم المكلفين ، مثل : { وأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ } [هود 114]. ولا يختص التكليف به وحده إلا مع القرينة ، كقوله تعالى : { ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} [ الاسراء 79] . فان لفظة لك تدل على ان هذا التكليف لا يشمل سواه . . وأيضا من طريقة القرآن ان التكليف الموجه إلى المكلفين يدخل فيه محمد (صلى الله عليه واله وسلم) دون أدنى فرق من هذه الجهة بينه وبين غيره ، وعليه فان الأمة داخلة في قوله تعالى : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} .
{وحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . أي أينما كنتم في بحر أوبر أو سهل أو جبل في الشرق أوفي الغرب فعليكم أن تستقبلوا المسجد الحرام بمقدم البدن ، ولا يجوز أن تستدبروه في الصلاة ، أو تضعوه على اليمين أو الشمال . .
وعلى هذا تختلف قبلة المسلمين باختلاف الأقطار ، فقد تكون بالنسبة إلى أهل قطر في الغرب ، والى غيرهم في الشرق ، ومن أجل هذا اهتم المسلمون بأمر القبلة ، ووضعوا علما خاصا يسمى بعلم (سمت القبلة) بخلاف النصارى الذين يلتزمون دائما جهة الشرق ، واليهود جهة الغرب أينما كانوا ، حتى ولو استلزم ذلك ادبارهم لبيت المقدس .
وتسأل : إذا كانت الأمة تدخل في خطاب التكليف الموجه للرسول ، وخطاب التكليف للأمة يشمل الرسول ، فلما ذا الجمع بين الخطابين في آية واحدة ، وموضوع واحد ، وبدون فاصل أيضا ، حيث قال جل من قائل : فولّ - يا محمد - وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم - أيها المسلمون - فولَّوا وجوهكم شطره ؟ .
الجواب : ان التحول كان من الحوادث العظيمة في الإسلام ، كما انه جاء وفقا لرغبة الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) فأراد اللَّه سبحانه أن ينبه إلى ذلك ويؤكده بالتكرار . .
هذا ، إلى ان التكليف هو بالأصالة لمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) لأنه جاء مراعاة لرغبته ، وبالتبع لأمته .
متى يجب استقبال أهل القبلة ؟
الكعبة قبلة لمن هو داخل المسجد الحرام الذي تقع الكعبة فيه ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، أي لأهل مكة وضواحيها ، والحرم أو الجهة التي هو فيها قبلة لأهل المشرق والمغرب .
ويجب استقبال القبلة في الصلاة اليومية ، وركعات الاحتياط ، والأجزاء المنسية من الصلاة ، وسجدتي السهو، ولكل صلاة واجبة بما في ذلك ركعتا الطواف ، والصلاة على الميت ، ويجب الاستقبال أيضا بالميت عند احتضاره ودفنه ، وأيضا عند الذبح والنحر . . أما الصلاة المستحبة فيجب الاستقبال بها حال الاستقرار ، ولا يجب حال المشي والركوب .
أهل القبلة :
أهل القبلة ، وأهل القرآن ، وأهل الشهادتين ، والمسلمون ألفاظ تترادف على معنى واحد ، أما اسم المحمديين فقد اخترعه لنا ، وأطلقه علينا أعداء الإسلام ، يقصدون بذلك اننا أتباع شخص ، لا أهل دين سماوي ، تماما كالبوذيين أتباع بوذا ، والزرادشتيين أتباع زرادشت .
ومهما يكن ، فان الغرض من هذه الفقرة التنبيه على ان الأمة الاسلامية على اختلاف بلادها ، وألوانها ، وألسنتها تجمعها وتوحد بينها أصول واحدة هي أعز وأغلى من حياتها ، لأن المسلمين جميعا يستهينون بالحياة من أجل تلك الأصول ، ولا يستهينون بها من أجل الحياة ، ومن تلك الأصول الايمان باللَّه وكتابه ، وبمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) وسنته ، والصلاة إلى القبلة . . فمن كفّر من يصلي إلى القبلة ، وأخرجه من عداد المسلمين فقد أضعف قوة الإسلام ، وشتت كلمة المسلمين ، وأعان أعداء الدين على الدين ، من حيث يريد ، أولا يريد .
{وإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} . المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، لا خصوص اليهود - كما قيل - لأن اللفظ عام ، ولا دليل على التخصيص . . واختلف المفسرون في ضمير (انه) هل يعود إلى الرسول ، أو إلى المسجد الحرام ، وسبب الاختلاف انه قد تقدم ذكر الرسول في قوله تعالى : { قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } . وأيضا تقدم ذكر المسجد الحرام ، ونميل نحن إلى إعادته إلى المسجد ، لأنه أقرب لفظا إلى الضمير ، والضمير يعود إلى الأقرب ، وعليه يكون المعنى ان أهل الكتاب يعلمون حق العلم بأن إبراهيم (عليه السلام) أبا الأنبياء وكبيرهم هو الذي رفع قواعد البيت ، ولكنهم رفضوه لا لشيء الا لأنه في يد العرب ، وهم سدنته وحماته ، ولولم يكن في يد العرب لكان اليهود والنصارى أسبق الناس إليه ، وأكثرهم تقديسا له .
{ولَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} . فضلا عن اتباع ملتك ، فأعرض عنهم ، حيث لا تجدي معهم حجة ولا منطق بعد ان أعماهم الجهل والتعصب .
(وما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) . ربما طمع بعض أهل الكتاب ان يعود النبي (صلى الله عليه واله وسلم)
إلى القبلة التي كان عليها . . فحسم اللَّه طمعهم بقوله : وما أنت بتابع قبلتهم ، كما حسم أمل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) باتباع قبلته بقوله : ما تبعوا قبلتك .
{وما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} . اليهود يصلون إلى المغرب ، والنصارى إلى المشرق ، ولا تترك طائفة ما هي عليه ، وتتبع الأخرى ، فكيف يتبعون قبلتك يا محمد ؟ . . بل ان بين فرق اليهود بعضها مع بعض ، وبين فرق النصارى كذلك أكثر مما بينهم وبين المسلمين . . والمذابح التي حصلت بين الكاثوليك وبين البروتستانت لا مثيل لفظاعتها في جميع العصور .
{ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
ومحال أن يتبع النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أهواءهم ، لأنه معصوم . . ولكن الغرض من هذا النهي أن يتشدد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في معاملته مع اليهود ، ويتصلب في موقفه منهم ، إذ لا خير في مهادنتهم ، ولا أمل في سلمهم ، ولا تجدي أية محاولة لردعهم عن الكيد والفساد ، لأنهم جبلوا على الشر ، ومعاندة الحق ، والإساءة لمن أحسن إليهم ، وقد مر الكلام في ذلك عند تفسير الآية 120 فقرة ( أعداء الدين والمبدأ ) .
الإسلام وأهل الأديان المتعصبون :
من المعقول جدا أن يختلف العلماء من كل نوع وصنف في مسألة غير دينية ، وبعد التذاكر والتدارس يتفقون على ما كانوا فيه مختلفين - ولقد وقع هذا بالفعل - أما إذا اختلف العلماء من أديان شتى في مسألة دينية فاتفاقهم بحكم المحال ، حتى ولو قام ألف دليل ودليل ، وقد ثبت عند علماء النفس ان تحول الناس عن كيانهم أيسر بكثير من تحولهم عن دينهم . . ذلك ان أكثر الناس يعتمد دينهم على التعصب لدين الآباء والأجداد . . وما عرف عن دين من الأديان انه نعى على تقليد الآباء غير الإسلام . . فلقد استند في تثبيت أصوله إلى العقل وحده .
ومن استعرض آيات القرآن ، والأحاديث النبوية يرى انها تهتم بمتابعة العقل بقدر ما تهتم بالايمان باللَّه ، لأن هذا الايمان لا ينفك أبدا عن الهداية بنور العقل السليم .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص229-232.
قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها}، الآية تدل على أن رسول الله قبل نزول آية القبلة - وهي هذه الآية - كان يقلب وجهه في آفاق السماء، وأن ذلك كان انتظارا منه، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحب أن يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به، لا أنه كان لا يرتضي بيت المقدس قبلة، وحاشا رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: {فلنولينك قبلة ترضيها}، فإن الرضا بشيء لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم، ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، وكشف همه فنزلت الآية، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له (صلى الله عليه وآله وسلم) على اليهود، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عار في استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلا الإطاعة والقبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، مضافا إلى تعيين التكليف، فكانت حجة ورضى.
قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}.
الشطر البعض، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة، وفي قوله تعالى {شطر المسجد الحرام} دون أن يقال: فول وجهك الكعبة، أو يقال: فول وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة، فإنها كانت شطر المسجد الأقصى، وهي الصخرة المعروفة هناك، فبدلت من شطر المسجد الحرام - وهي الكعبة - على أن إضافة الشطر إلى المسجد، وتوصيف المسجد بالحرام يعطي مزايا للحكم، تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام.
وتخصيص رسول الله بالحكم أولا بقوله {فول وجهك}، ثم تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله {وحيث ما كنتم} يؤيد أن القبلة حولت، ورسول الله قائم يصلي في المسجد - والمسلمون معه - فاختص الأمر به، أولا في شخص صلاته ثم عقب الحكم العام الشامل له ولغيره، ولجميع الأوقات والأمكنة .
قوله تعالى: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم}، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام، وأيا ما كان فقوله: {أوتوا الكتاب}، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع، إما مطابقة أو تضمنا، وما الله بغافل عما يعملون من كتمان الحق، واحتكار ما عندهم من العلم.
قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية}، تقريع لهم بالعناد واللجاج، وأن إباءهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم، وعدم تبينه لهم، فإنهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك، بل الباعث لهم على بث الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحق، فلا ينفعهم حجة، ولا يقطع إنكارهم آية، فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم، وما أنت بتابع قبلتهم، لأنك على بينة من ربك، ويمكن أن يكون قوله: وما أنت نهيا في صورة خبر، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى.
قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم، تهديد للنبي}، والمعنى متوجه إلى أمته ، وإشارة إلى أنهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهواءهم وأنهم بذلك ظالمون.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص271-272. .
كل الوجوه شطر الكعبة
ذكرنا أن بيت المقدس كان القبلة الاُولى المؤقتة للمسلمين. والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتظر الأمر الإلهي بتغيير القبلة، خاصة وأن اليهود استغلّوا مسألة اشتراك المسلمين معهم في القبلة، ليوجهوا سهام إعلامهم المضاد للمجموعة المسلمة، مرددين أن المسلمين لا استقلال لهم، وأنهم لا يعرفون معنى القبلة وإنما اقتبسوه منّا، وأن قبولهم قبلتنا يعني اعترافهم بديننا! وأمثال هذه الأقاويل.
الآية تشير إلى هذه المسألة وتقول: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.
ذكرت الرواية ـ كما أشرنا من قبل - أن هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرّسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أن صفوف المسلمين تغيّرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهنّ للرجال وبالعكس. (كان اتجاه بيت المقدس نحو الشمال تقريباً، بينما كان اتجاه الكعبة نحو الجنوب).
من المفيد أن نذكر أنّ تغيير القبلة من علامات نبي الإسلام المذكورة في الكتب السابقة. فقد كان أهل الكتاب على علم بأن النّبي المبعوث (يصلّي إلى القبلتين).
لذلك تضيف الآية: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهمْ}.
أضف إلى ذلك أن دلائل نبوّة رسول الإسلام، تحرره من التأثر بعادات بيئته الإجتماعية، وتركه الكعبة التي كانت موضع تقديس العرب، واتجاهه نحو قبلة أقلية محدودة.
ثم تقول الآية: {وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبي الإسلام، ويستغلون هذه الحادثة لإِثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دليلا على صدق دعوى النّبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، والله ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.
لا يرضون بأيّ ثمن:
مرّ بنا في تفسير الآية السابقة أن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النّبي، بل إنه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد قرأوا عن صلاة النّبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق.
والإنسان، حين لا يواجه المسائل بقناعات مسبقة، يكون مستعداً للتفاهم ولتصحيح تصوراته بالدليل والمنطق، أوعن طريق إراءة المعجزة.
أمّا حينما يكون قد كوّن له رأياً مسبقاً قاطعاً، وخاصّة حين يكون مثل هذا الفرد جاهلا متعصباً، فلا يمكن تغيير رأيه بأي ثمن.
لذلك تقول الآية: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آية مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}.
فلا تتعب نفسك إذن، لأن هؤلاء يأبون الإِستسلام للحق، ولا توجد فيهم روح طلب الحقيقة.
كل الأنبياء واجهوا مثل هؤلاء الأفراد، وهم إمّا أثرياء متنفذون، أو علماء منحرفون، أو جاهلون متعصبون.
ثم تضيف الآية: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ}.
أي إن هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرّة اُخرى قبلة المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.
وهذا التعبير القاطع الحاسم أحد سبل الوقوف بوجه الضجيج المفتعل، ومن الضروري في مثل هذه الظروف أن يعلن الإنسان المسلم أمام الأعداء كلمته صريحة قوية، مؤكداً أنه لا ينثني أمام هذه الإنفعالات.
ثم تقول الآية: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض}.
لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.
ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النّبي ويقول: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمينَ}.
وفي القرآن يكثر مثل هذا اللون من الخطاب التهديدي للنبي بأسلوب القضية الشرطية، والهدف من ذلك ثلاثة أشياء:
الأوّل: أن يعلم الجميع عدم وجود أي تمييز بين النّاس في إطار القوانين الإلهية، وحتى الأنبياء مشمولون بهذه القوانين. ومن هنا فلو صدر عن النّبي ـ على الفرض المحال ـ إنحراف، فسيشمله العقاب الإِلهي، مع استحالة صدور ذلك عن النّبي (بعبارة اُخرى القضية الشرطية لا تدل على تحقق الشرط).
الثّاني: أن يتنبّه النّاس إلى واقعهم، فإذا كان ذلك شأن النّبي، فمن الأولى أن يكونوا هم أيضاً واعين لمسؤولياتهم، وأن لا يستسلموا إطلاقاً لميول الأعداء وضجاتهم المفتعلة.
الثّالث: أن يتّضح عدم قدرة النّبي على تغيير أحكام الله، وعدم إمكان الطلب إليه أن يغير حكماً من الأحكام، فهو عبد أيضاً خاضع لأمر الله تعالى.
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص340-345.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|