أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-11-2016
523
التاريخ: 15-11-2016
572
التاريخ: 15-11-2016
544
التاريخ: 14-7-2019
677
|
[نص الشبهة]
نُسب إلى جماعة من القدماء كذيمقراطيس وأتباعه ، إنكار حاجة الممكن إلى المؤثّر ، وجعلوا كون العالم بالبخت والاتفاق ، وأنكروا أن يكون له صانع أصلاً ، ورأوا أنّ مبادئ الكل أجرام صغار لا تتجزّأ لصغرها وصلابتها ، وأنّها غير متناهية بالعدد ، ومبثوثة في خلاء غير متناهٍ ، وأنّ جوهرها في طبايعها جوهر متشاكل ، وبأشكالها تختلف ، وأنّها دائمة الحركة في الخلاء ، فيتفق أن يتصادم منها جملة ، فتجتمع على هيئة ويكون منها عالم ، وأنّ في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد ، لكن مع ذلك يرون أنّ الأُمور الجزئية ـ مثل الحيوانات والنباتات ـ كائنة لا بحسب الاتّفاق ، بل بحسب أسباب سماوية وأرضية ، وفرقة أخرى منهم ـ كانباذقلس ومَن يجري مجراه ـ لم يقدموا على أن يجعلوا العالم بكلّيته كائناً بالاتفاق ، ولكنّهم جعلوا الكائنات متكوّنةً عن الاسطقسات بالاتّفاق ، وبالجملة فهؤلاء بأجمعهم يجوّزون الحدوث بلا سبب والكون بلا علة (1) .
[جواب الشبهة]
أقول : هل ذميقراطيس ( 460 ق م ) وانباذقلس كانا منكرين للواجب لذاته أم لا ؟ سؤال لا طريق لنا إلى جوابه جزماً . وقد ذكر بانگون (2) ، أنّ الأَوّل ليس بمادي بل كان يعتقد وجود الروح ، وذكر صاحب الأسفار أنّ كلام الثاني ناظر إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهيات ، وذكر غيره أنّ مراده هو إنكار العلة الغائية (3) ، لكن هذه الضلالة الخبيثة ، والجهالة المبطلة حد الإنسانية ، حدثت منذ زمن غير قريب ، فإنّ آحاد الإنسان في أفكارهم ليسوا على مستوىً واحد ، فمنهم مَن هو قاصر ، ومنهم مَن هو متوسط ، ومنهم مَن هو عالٍ ، ولكلّ منها درجات.
هذا من ناحية ، ومن ناحية أُخرى أنّ الحدود المقرّرة في الشرائع السماوية ، كثيراً ما تضاد الشهوات النفسانية ، والميولات الغريزية ، والمخلص من هذا التضاد ، هو البناء على إنكار المبدأ الشاعر القادر لا غير . قال أبيقورس أحد زعماء الماديين: إنّ راحة البال التي تقوم بها سعادة الإنسان ، هي في اضطراب دائم ؛ من جري الريب الواقع من نسبة الإنسان إلى الخليقة وإلى الله (1) ... فهذان السببان ـ أي القصور الفكري والشهوة ـ هما أحدثا هذه البلية الفاجعة .
وما قيل من أنّ المستفاد من أكثر التواريخ ، أنّ تأسيس هذه النظرية الرديئة قبل ميلاد المسيح (عليه السلام ) بستة قرون أو سبعة قرون ، فلعلّه يُقصد به انتشارها واشتهارها ، كما أنّ شدّة ظهورها وكثرة رواجها ، إنّما كانت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بين الغربيين ، فسرت منهم إلى الشرقيين ، ثمّ ضعفت في القرن العشرين ؛ لكشف بطلان ما اعتمدوا عليه في هذه الدعوى .
وأمّا أصل هذا المسلك فله عهد بعيد ، كما ربّما يؤيّد قوله تعالى : ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (2) ، وإن لم يكن بدليل عليه كما لا يخفى.
ثمّ إنّ أساس عقائدهم يتخلّص إلى أصول أربعة . كما قيل :
1 ـ لا موجود في العالم غير المادة وآثارها .
2 ـ العالم مركّب من العلل والمعاليل المادية ، وكلّ شيء يعلّل بعلل مادية .
3 ـ الموجودات بأسرها تؤثّر بعضها في بعضها ، فكلّ منها علّة شيء ومعلول لشيء آخر، وجميع الحوادث في تغيّر وتحوّل، بيد أنّ القدر الجامع بينها ـ يعني المادة ـ أمر أزلي .
4 ـ إنّ الكائنات ـ بشموسها ، وكواكبها ، وأقمارها ، وأراضيها ، وسمواتها ، وجميع جزئياتها ـ معلولة التصادف والاتّفاق ، لا بمعنى أن لا علّة لها ، بل بمعنى اتّحاد العلّة الفاعلية والعلة المادية فيها ، فلا مُوجِد لها إلاّ المادة ، ولا صانع مختار لها أبداً ، فليس لها العلّة الغائية أيضاً.
والحاصل : أنّهم لا ينكرون مبدأ الكائنات ، بل ينكرون شعوره وقدرته وإرادته .
تفتيش وتفنيد :
أمّا الأصل الأَوّل ففيه بحثان :
الأَوّل : في بيان المادة .
والثاني : في بيان انحصار الموجودات بها .
أمّا البحث الأَوّل : فالمعروف عن ديمقراط (3) أنّ المادة هي الجواهر الفردة ، وهي الأجزاء التي لا تتجزّأ ( الأتُم ) ، وليس لها إلاّ أشكال هندسية ، فالعالم عنده مركّب من هذه الذرّات ، التي لها بنظر بعضها إلى بعض حركة دائرة ، وحركة اصطدام مستقيمة (4) ، ويرى أنّ هذه الذرّات يتخلّل بينها فراغ ، خلافاً لأرسطو وأتباعه ، حيث ذهبوا إلى أنّ الجسم شيء واحد متماسك ، يمكننا أن نقسّمه إلى أجزاء منفصلة ، لا أنّه يشتمل سلفاً على أجزاء كذلك (1) .
ثمّ إنّ هذا الذرّات غير مختلفة في حقيقتها ، وما يشاهد من اختلاف آثار الموجودات المتكوّنة منها ، إنّما هو من جهة اختلاف أشكالها ، وأحجامها ، وأمكنتها ، ونظامها ، وأوضاعها ، هذا ولمّا كان الشكل الهندسي متناقضاً لعدم التجزّؤ ، رفضوا شكلها وقالوا : إنّها غير مشكّلة ؛ ولذا قال المحقّقون من أهل العصر : إنّ الجواهر التي نقول بها هي أصغر من جوهر ديمقراط جداً (2) .
أقول : وهو كذلك قطعاً ، فإنّ الذرة التي زعموا عدم إمكان تجزئتها ولزوم بساطتها ، قد وقع عليها التجزئة خارجاً عام 1919م ، من قِبل العالِم روترفورد ، ثمّ عُلم أنّ لها أجزاءً عمدتها : بروتون ونوترون والكترون .
وذهب لوسيبوس إلى أنّ تلك الذرّات تتحرّك في الفراغ منذ الأزل ، والأشياء تظهر وتخفى بحسب ما تجمع وتنفصل ، وعن أبيقورس : أنّها متحرّكة دائماً في الخلاء الذي لا نهاية له ، بانحراف بعضها على موازاة بعض ، بحيث تصطدم وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع ، فتؤدّي إلى تراكيب عديدية وصور متنوعة ومتغيّرة . وقال بخنر : أمّا حركة الجواهر عندنا ، فمن تضادّ قوتي الجذب والدفع ، اللتين نعتبرهما غريزتين في الجوهر (3) .
هذا ، ولكن لمّا رأى بعض العلماء أنّ الفراغ مستحيل في الطبيعة ، فرضوا أنّ تلك الجواهر تسبح في مادة لطيفة ، أو غاز(4) أخف من الهواء ، أو سائل تام الاتصال مالئ للخلاء سمّوه الأثير، تتحرك فيه الجواهر التي هي أجزاؤه حركة الزوابع في الهواء الهادئ، ومن أحوال اجتماعها بالحركة وأفاعيلها تظهر صور الكائنات ، وهذه الجواهر في الرأي القديم ، هي أزلية أبدية ، لم تحدث بعد العدم ، ولا تتلاشى ولا تنعدم ، وإنّما تخفى بتفرّقها، ولكن الرأي الجديد حسب اكتشافات العالم الفرنسي ـ غوستاف لبون ـ الرأي المبني على المشاهدة والاختبار ، بحيث وافقه أكثر علماء أوروبا ـ هو أنّ المادة قوّة متكاثفة ، وأنّ المادة ليست أبديةً ، بل تتلاشى بانحلالها إلى القوة ، والقوة أيضاً تنحلّ إلى الأثير ، كما أنّ المادة ليست أزليةً ، بل إنّ الأثير تكاثف في الأزمان البعيدة ـ بسبب لا نعلمه ـ فصار مادّةً (5) .
وأمّا البحث الثاني ـ وهو انحصار الموجودات في مضيقة المادة ، وعدم الحاجة إلى علّة فاعلية غير مادية ـ فقد ذكروا لإثباته وجوهاً :
الأَوّل : وهو عمدة تلفيقاتهم وأشهرها : إنّ مثل هذه العلّة غير مدركة بأحد الأحاسيس ، ولم تدلّ عليها التجربة العلمية ، فلا سبيل لنا إلى الإيمان به .
الثاني : إنّ كلّ موجود لابدّ له من سبب ، كما أثبتته التجربة العلمية ، فالوجود الغني عن السب غير معقول . ذكره بعض الفلاسفة الماركسية ...
الثالث : إنّ العالم المادي لو لم يكن أزلياً وغنيّاً عن علّة مجردة لكان معلولاً لها ، فيكون مخلوقاً من العدم ، وهذا غير معقول ، فإنّ العدم لا يسبّب الوجود ولا يكوّنه .
الرابع : إنّ كلّ موجود يجب أن يكون في الزمان والمكان ، ولا يعقل ما يكون متحرّراً منهما .
الخامس : إنّ حدوث المادة غير محسوس ، فلا دليل على كونها مخلوقةً للفاعل الخارج عن نشأة الطبيعة ، فإذن هي قديمة .
السادس : إنّ مبدأ العالم لو كان فاعلاً مختاراً ، لكان له غرض من خلقته لا محالة ، مع أنّا لا نعلم الغرض المفيد في جملة من الأشياء .
السابع : إنّ التجربة العلمية دلّت على أنّ كلّ موجِد مادّي ، معلّل بسبب مادّي آخر ، ومعه لا ملزم للالتزام بوجد فاعل مجرّد مختار بعد المادة المذكورة .
الثامن : المؤثّر في العالم لابدّ أن يكون إمّا إرادة الفاعل المختار ، وإمّا العلل الطبيعية ـ على سبيل منع الجمع والخلو ـ فإنّ تأثير المريد المختار ، ينافي النظام الحاصل من تأثير العلل الطبيعي ، الذي لا يتغيّر ولا يتشتّت ، وحيث إنّ العلوم قاضية بتأثير العلل المادية، وإنّ الحوادث الطبيعية مسبّبة عن أسباب طبيعية ، يستكشف منها عدم المبدأ المختار المذكور .
هذه هي تلفيقاتهم في هذا المبحث ، ومن الضروري أنّها مخالفة للوجدان ، والفطرة ، والبرهان ، والفلسفة ، والمميّز العاقل لا يقدم على إبراز هذه الكلمات الفاسدة المخالفة لضرورة العقول الساذجة ، والإنصاف أنّ هؤلاء الماديين المتفلسفين ، بين مَن غرّته العلوم الطبيعية ، فحسب أن تبحّره ومهارته فيها ، يجوّز له الإفتاء في كل علم وفن ، وإن كان جاهلاً به رأساً :
قل للذي يدّعي في العلمِ فلسفةً *** حفظتَ شيئاً وغابتَ عنك أشياءُ
وبين مَن دعته إليه الأغراض السياسية الدنية ، وبين مَن اشتبه عليه تباين الإلهيات والطبيعيات، فحيث لم يجد الله في الحقل التجربي أنكره ، ولم يدرِ المسكين أنّ طريق الاستنتاج في كلّ من العلمينِ لا يرتبط بالآخر أصلاً ، وبين مَن أضلّه تعريف أصحاب الكنائس ، حيث جعلوا الخالق جسماً متحرّكاً ، آكلاً شارباً ، متصارعاً ، إلى غير ذلك من خرافات التوراة والأناجيل الموجودين، فإذا أصبح الإله المعبود كذلك فالحق مع الماديين ، والجناية حينئذٍ على عاتق القسّيسين والأحبار وكتّابهم .
وعلى الجملة : أنّ الموجودات ـ بكراتها السامية العظيمة ، وميكروباتها الصغيرة ـ دليل على وجود الله سبحانه وتعالى ، ولا يتأتى من عاقل صحيح المزاج إنكاره ، وهذه الواهيات المذكورة ممّا يصادم الفطرة البشرية في أحكامها الأَوّلية ، وعلى سبيل التوضيح ـ وإن كان توضيحاً للواضحات ـ ننبّه على فساد كلّ واحد واحد :
فنقول : أمّا الوجه الأَوّل فقد تقدّم بطلانه في أوائل الكتاب ، وذكرنا أنّ المدركات العقلية كالحسية في الاعتبار والحجّية ، بلا يتمّ إدراك حسي إلاّ بتوسط الحكم العقلي ، فلابدّ أن يكون الإنسان إمّا شكّاكاً ، وسوفسطائياً ، أو فلسفياً يقبل العقليات والحسيات معاً ؛ إذ لا حدّ فاصل بينهما .
ونزيد هنا فنقول : ماذا يريدون بقولهم هذا ؟
فإن أرادوا الإحساس المباشري ، وأنّ الشيء ما لم يحس بنفسه ـ بأحد الأحاسيس ـ لا يذعنون به، فهذا يرفض كيان العلوم الطبيعة بأسرها ، ويبطل المجرّبات التي يقدّسونها من أصلها ، أَليست الأرض متحرّكةً بحركات مختلفة ؟ أَليس للهواء المحيط بنا ثقل عظيم؟ أَليس الأثير موجوداً بزعمهم بل جعلوه مبدأ الكائنات ؟ أَليس الأتُم موجوداً ؟ أَليست الجاذبية العامّة التي استكشفها نيوتن مسلّمةً ؟ فهل الحواس أدركت حركة الأرض ، وثقل الهواء ، ووجود الأثير ، والذرة ، والجاذبية ، فيجوز إنكارها بتاتاً ؟ وهكذا الحال في أُلوف من نظائرها ، كلا ، فالإحساس المباشري لا يرتبط بقبول الحقائق والمعارف بتاتاً .
وإن أرادوا الأعم من ذلك ، وأنّ الشيء يُصدّق به ولو بإحساس آثاره ـ كما هو المقرّر الثابت في العلوم التجربية ، على ما عرفت من الأمثلة المزبورة ـ فهذا بعينه يجري في المقام ، فإنّ الله الواجب القديم المجرّد عن الزمان والمكان ، وإن لم يُدرك بإحدى الحواس لكن آثاره محسوسة ، فإنّ جميع هذه الكائنات المشاهدة المحسوسة آثاره ، كما تقدم برهانه، وستعرف أنّ المادة لا تصلّح للمبدئية بل هي مخلوقة لله القهّار .
وأمّا الشبهة الثانية ، فقد مرّ جوابها في الفائدة العاشرة من فوائد المدخل وقلنا : إنّ التجربة قاصرة عن تثبيت الحكم في خارج الحقل المادي ، ونزيدك هنا ونقول : لو صحّت ضرورة العلّة لكلّ موجود ، لوجب مسببية المادّة المزعومة من مبدأ آخر ، وكلّ شيء تفرضونه مبدأ للأشياء المادية ، لابدّ له من سبب بحكم التجربة ، فهذا ـ مع كونه من التسلسل المحال ـ يبطل قولكم أيضاً .
وأمّا الشبهة الثالث فهي مخالفة للوجدان ، فإنّ الأحاسيس تشاهد في كلّ يوم أُلوفاً من الموجودات، توجد في الخارج بعد ما كانت معدومةً ، أَليست الصور الطارئة على المادة الأزلية المزعومة حادثةً عندكم ؟ فما هو جوابكم في إصلاحها ؟ هو الجواب في حدوث المادة .
وحلّ المطلب : أنّ معنى قولنا : يوجد من العدم ، ليس كون العدم علّةً مادية للموجود ، ولعلّه لم يخطر ببال صبيّ مميّز من صبيان الموحّدين ، ولم يتصوّره عالم من العلماء الإلهيين ، بل معناه أنّ الله يوجد الشيء بعد ما لم يكن موجوداً ، فهذه الشبهة من غفلتهم بمراد المليين أو تجاهلهم به .
وأمّا الشبهة الرابعة فجوابها : أنّ كلّ موجود مادّي لابدّ له من مكان وزمان ، ولا دليل على انسحاب هذا الحكم إلى كل موجود مطلقاً ...
وأمّا الخامسة فهي مضحكة ، فإنّ قِدم المادة مثل حدوثها في عدم إحاطة الأحاسيس به ، فكيف يذعنون بأحدهما دون الآخر ، وهذا شيء عجيب ؟ ...
وأمّا الشبهة السادسة فهي واضحة الفساد ، فإنّ الجهل بفائدة خلقة جملة من الأشياء ـ مع إحرازها في كثير من الموجودات بنحو تدهش العقول منها ـ لا يدل على أنّ المؤثّر غير عالم ، بل لابدّ من الإذعان بوجود الغرض الكامل فيها إجمالاً ، وأن لا نعلمه تفصيلاً ؛ وذلك من جهة ما علمنا من تحقّقه في أكثر المخلوقات ، أَليس إذا شاهدنا ماكنةً كبيرة ذات آلات كثيرة ، وعلمنا فائدة أكثر أجزائها ، لكن جهلنا فائدة بعضها الآخر ، يحكم عقلنا بأنّ صانعها عالم قادر ؟ وأنّ عدم علمنا بغرضه في بعض أجزائها ، لا يدلّ على جهل الصانع المذكور ، وإنّي أثق كل الثقة أنّ هذا الجواب ممّا يعرفه الصبيان في حين وجدانهم التمييز، لكن مَن غلب فطرته الغباوة والسفاهة لا يدرك ذلك .
وأمّا السابعة فتزيّف بأنّ الكلام في العلّة الأُولى انقطاعاً للدور التسلسل ، فهي إمّا الأثير ، وإمّا المادة ، وعلى كلّ منهما يبطل ما ادّعوه من الكلّية المذكورة ، فإنّ الذرّات أو الأثير مادّية لا علة مادّية لها ، وإلاّ جاء الدور والتسلسل ، فلابدّ من الالتزام بأنّ لها علّة غير مادية ، وهي الواجب الوجود ، و...أنّ المادة ـ بأي شيء فسّرت ـ لا تصلح للمبدئية .
وبالجملة : لزوم علّة مادية لكلّ موجود مادّي لا ينافي تأثير الواجب الوجود ، ولم ينكر اللزوم المذكور الإلهيون ، بل يقولون بصحّة الأسباب والمسبّبات الطبيعية في عالم الطبيعة ، ومع ذلك يقولون بتأثير الواجب الوجود أيضاً ، فإنّ الممكن بعلّته ومعلوله غير مستغنٍ عن الواجب حدوثاً وبقاءً ...
وأمّا الثامنة فهي من أرذل الكلام ، ولعلّ القائل بها لم يملك إدراكه حين التلفّظ بها ؛ إذ أي إلهي يقول بإله ذي إرادة هدّامة للنظام الطبيعي ، حتى يستكشف النظام عن عدمه ؟
بل نقول : إنّ نظام الطبيعة من فعله وإرادته وهو ـ لمكان علمه وقدرته وحكمته وغنائه ـ لا يريد إلاّ الأصلح ، فهذا النظام أكبر برهان على أنّ مبدأ العالم حي قادر عالم حكيم كامل ... ، والعمدة إلى العلل المادية في طول إرادة الخالق الحكيم ، لا في عَرضها ، فلا تنافي بينهما ، وقد خفي هذا الموضوع المهم العالي على الماركسيين...فاتضح أنّ ما نسجه عبّاد المادة لا يناسب الموازين العلمية ، ولا يرتبط بالنواميس العقلية ، وإنّما الداعي لهم إليه ما تقدّم من الأسباب ، وصدق القرآن المجيد حيث يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] .
هذا كله في الأصل الأَوّل من أُصولهم الأربعة المتقدّمة ، ومن تزييفه وهدمه يظهر سقوط الأصل الثاني والثالث منها أيضاً ، فيبقى الأصل الرابع ، وهو أنّ مبدأ العالم ومؤثّره ليس إلاّ المادة المذكورة ، وقد تقدّم تفسير المادّة وكيفية تشكيل الأجسام منها.
وخلاصة القول : أنّ صلاحية المادّة للمبدئية المطلقة ، موقوفة على وجوبها الذاتي ، وعدم توقّفها على سبب آخر ، كما هو ظاهر ، وكونها واجبة الوجود ، وأزلية الثبوت ، متفرّع على بساطتها ، وعدم تركّبها اتفاقاً ـ ولذا أنكروا تجزئتها أشد الإنكار، فإنّ التركّب أمارة المسببية ... ـ وعلى أنّ حركتها من ذاتها لا من غيرها ، وإلاّ كان فوقها قاهر محرّك يدبّرها ، وكِلا الأمرين باطل قطعاً ، فلا يمكن وقوف تعليل الموجودات على المادة المذكورة .
ثمّ يُعلم أنّا لا ننكر تركّب الأجسام من الذرّات ؛ تثبيتاً لتركّبها من العناصر الأربعة المعروفة (6) أو أكثر منها ، ولسنا نحن بصدده ، فإنّه من مسائل العلوم الطبيعة ، وإنّما ننتقد كونها علّة العالم وحدها ، بحيث لا تحتاج إلى علّة فاعلية أُخرى ، فنقول:
أمّا كون المادة أو الأثير مركّباً ، فهو ممّا لا يدانيه شك ولا يمسّه ريب ، وقد أكثروا الأدلة على ذلك وإليك بعضها :
1 ـ كلّ موجود مادّي له جهات ستّ ، وكلّ جهة منه غير جهة أُخرى منه بالضرورة ؛ إذ ليس جهتها اليمنى عين جهتها اليسرى ، ولا جهتها الفوقانية عين جهتها التحتانية بالبداهة، ويستنتج منه أنّ كلّ ذرة ـ مهما فُرض صغرها ـ مركبة من أجزاء ستّة ، وإن عجزت الآلات الصناعية عن تجزئته في الخارج .
2 ـ إذا جعلنا الذرّة بين الجسمين كالصحيفتين ، فقهراً تلاقي السطحين من الجسمين المذكورين ، وعليه فيكون لها سطحان ؛ إذ لا يعقل تلاقي السطحين بسطح واحد بالضرورة .
وهنا وجوه أُخرى تدلّ على تركّبها بصورة قاطعة ، لكنّ هذين الوجهين من أبسطها وأقربها إلى الأفهام الساذجة .
فإذن ، نثبت أنّ هذه الذرّات والأجزاء الصغار ـ سواء في ذلك ذرات ذيمقراط ، وأمواج روتر فورد، الذي كسر الذرّة واستكشف أمواجها ... ـ مركّبة ، فلابدّ لها من مركِّب فاعل التركيب ، وهو الله الواحد القهّار .
وأمّا كون الحركة ليست من نفس المادة ، بل هو من غيرها ـ وهو الله تعالى ـ فلِما تقرّر في كتب الكلام والفلسفة ، من لزوم تعدّد المحرّك والمتحرّك فلاحظ .
هذا وعلى قولهم من الحركة الذاتية ، يلزم تركّب الأجزاء ، وإن سلّمنا إمكان بساطتها في نفسها ، فإنّ الأجزاء لها جهة مشتركة في الجوهرية ، وجهة مميّزة ؛ لاختصاص كلّ منها بحركة في جهة تتوجه إليها حركة الذرّة الأُخرى ؛ إذ لو كان حركاتها إلى جهة واحدة بلا انحراف ، لَما تشكّل الأجسام منها بالضرورة ، وهكذا الكلام ، في قول بخنز : فإنّ محلّ الدفع غير الجذب ، فيتركّب الجزء ، وإن جُعل الدفع في جزء والجذب في جزء ، فهذا أيضاً يلزم التركّب من جزء مشترك بين الجزءين في الجوهرية ، ومن جزء مميّز بالدفع والجذب . وهذا يكفي لهدم جميع ما أسّسوه ، وإبطال ما ذكروه بصورة قاطعة، ولا يبقى للعاقل احتمال في بطلان مبدئية الذرّات للعالم ، فإذن، لابدّ من الالتزام والإذعان ، بوجود الواجب القديم المجرّد عن المادة ولواحقها .
أضف إلى ذلك أنّ المادة ـ كما نادوا بأعلى أصواتهم ـ حقيقة واحدة ، والحقيقة الواحدة لا يصدر عنها آثار مختلفة ، فكيف يسوغ لهم ، استناد هذه الموجودات المتفاوتة المتباينة إلى المادة المزبورة ؟ فإن صحّ ذلك ، وأمكن بروز الآثار المتفاوتة عن حقيقة فاردة ، أصبحت العلوم الطبيعية عقيمةً ولا تُنتج شيئاً ؛ بداهة أنّ التجربة لا تقع إلاّ على موارد محدودة ، يُعلم منها أنّ هذه الحقيقة ذات أثر كذا ، فيوضع ذلك قانوناً كلّياً وقاعدةً شاملة، فيقال مثلاً : إنّ الدواء الفلاني يزيل المرض الفلاني مطلقاً ؛ اعتماداً في الكلية المذكورة ، على أنّ الحقيقة الواحدة لا يختلف أثرها ، وأمّا إذا فرضنا جواز اختلافه فلا يتمّ قاعدةً تجربية قطعاً ، فالعلوم التجربية كالفلسفة تقتضي عدم استناد العالم إلى الذرّات المذكورة ، وقد نُقل أنّ بعض متفكّري الغرب تنبّه لذلك فآمن بالله العظيم ، فلو صحّ بساطة المادة لَما صلحت للعلّية المطلقة من هذه الناحية {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].
__________________
(1) نقله في الشوارق 1 /126 من كتاب الشفاء لابن سينا .
(2) على أطلال المذهب المادي / 15.
(3) الأسفار 1 / 210.
(4) الرحلة المدرسية للعلاّمة المجاهد الشيخ جواد البلاغي / 292.
(5) وقيل : إنّ أَوّل مَن تفوّه به لوقيوس أُستاذ ديمقراط .
(6) الرحلة المدرسية / 298.
(7) فلسفتنا / 318.
(8) الرحلة المدرسية / 274.
(9) الرحلة المدرسية / 298.
(10) جوهر هوائي قابل للضغط سيّال .
(11) الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي / 275.
(12) وهي الماء والتراب والهواء والنار ، وزاد عليها بعض علماء العرب ثلاثة أخرى : الكبريت والزئبق والملح ، وعدّها الباحثون الغربيون إلى 104 عناصر .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|