المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4870 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



إنكار حاجة الممكن إلى المؤثّر  
  
759   09:46 صباحاً   التاريخ: 15-11-2016
المؤلف : محمّد آصف المحسني
الكتاب أو المصدر : صراط الحق في المعارف الإسلامية والأُصول الاعتقادية
الجزء والصفحة : ج1- ص94-101
القسم : العقائد الاسلامية / شبهات و ردود / التوحيـــــــد /

[نص الشبهة]

نُسب إلى جماعة من القدماء كذيمقراطيس وأتباعه ، إنكار حاجة الممكن إلى المؤثّر ، وجعلوا كون العالم بالبخت والاتفاق ، وأنكروا أن يكون له صانع أصلاً ، ورأوا أنّ مبادئ الكل أجرام صغار لا تتجزّأ لصغرها وصلابتها ، وأنّها غير متناهية بالعدد ، ومبثوثة في خلاء غير متناهٍ ، وأنّ جوهرها في طبايعها جوهر متشاكل ، وبأشكالها تختلف ، وأنّها دائمة الحركة في الخلاء ، فيتفق أن يتصادم منها جملة ، فتجتمع على هيئة ويكون منها عالم ، وأنّ في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد ، لكن مع ذلك يرون أنّ الأُمور الجزئية ـ مثل الحيوانات والنباتات ـ كائنة لا بحسب الاتّفاق ، بل بحسب أسباب سماوية وأرضية ، وفرقة أخرى منهم ـ كانباذقلس ومَن يجري مجراه ـ لم يقدموا على أن يجعلوا العالم بكلّيته كائناً بالاتفاق ، ولكنّهم جعلوا الكائنات متكوّنةً عن الاسطقسات بالاتّفاق ، وبالجملة فهؤلاء بأجمعهم يجوّزون الحدوث بلا سبب والكون بلا علة (1) .

[جواب الشبهة]

أقول : هل ذميقراطيس ( 460 ق م ) وانباذقلس كانا منكرين للواجب لذاته أم لا ؟ سؤال لا طريق لنا إلى جوابه جزماً . وقد ذكر بانگون (2) ، أنّ الأَوّل ليس بمادي بل كان يعتقد وجود الروح ، وذكر صاحب الأسفار أنّ كلام الثاني ناظر إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهيات ، وذكر غيره أنّ مراده هو إنكار العلة الغائية (3) ، لكن هذه الضلالة الخبيثة ، والجهالة المبطلة حد الإنسانية ، حدثت منذ زمن غير قريب ، فإنّ آحاد الإنسان في أفكارهم ليسوا على مستوىً واحد ، فمنهم مَن هو قاصر ، ومنهم مَن هو متوسط ، ومنهم مَن هو عالٍ ، ولكلّ منها درجات.

هذا من ناحية ، ومن ناحية أُخرى أنّ الحدود المقرّرة في الشرائع السماوية ، كثيراً ما تضاد الشهوات النفسانية ، والميولات الغريزية ، والمخلص من هذا التضاد ، هو البناء على إنكار المبدأ الشاعر القادر لا غير .  قال أبيقورس أحد زعماء الماديين: إنّ راحة البال التي تقوم بها سعادة  الإنسان ، هي في اضطراب دائم ؛ من جري الريب الواقع من نسبة الإنسان إلى الخليقة وإلى الله (1) ... فهذان السببان ـ أي القصور الفكري والشهوة ـ هما أحدثا هذه البلية الفاجعة .

وما قيل من أنّ المستفاد من أكثر التواريخ ، أنّ تأسيس هذه النظرية الرديئة قبل ميلاد المسيح (عليه السلام ) بستة قرون أو سبعة قرون ، فلعلّه يُقصد به انتشارها واشتهارها ، كما أنّ شدّة ظهورها وكثرة رواجها ، إنّما كانت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بين الغربيين ، فسرت منهم إلى الشرقيين ، ثمّ ضعفت في القرن العشرين ؛ لكشف بطلان ما اعتمدوا عليه في هذه الدعوى .

وأمّا أصل هذا المسلك فله عهد بعيد ، كما ربّما يؤيّد قوله تعالى : ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (2) ، وإن لم يكن بدليل عليه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ أساس عقائدهم يتخلّص إلى أصول أربعة . كما قيل :

1 ـ لا موجود في العالم غير المادة وآثارها .

2 ـ العالم مركّب من العلل والمعاليل المادية ، وكلّ شيء يعلّل بعلل مادية .

3 ـ الموجودات بأسرها تؤثّر بعضها في بعضها ، فكلّ منها علّة شيء ومعلول لشيء آخر، وجميع الحوادث في تغيّر وتحوّل، بيد أنّ القدر الجامع بينها ـ يعني المادة ـ أمر أزلي .

4 ـ إنّ الكائنات ـ بشموسها ، وكواكبها ، وأقمارها ، وأراضيها ، وسمواتها ، وجميع جزئياتها ـ معلولة التصادف والاتّفاق ، لا بمعنى أن لا علّة لها ، بل بمعنى اتّحاد العلّة الفاعلية والعلة المادية فيها ، فلا مُوجِد لها إلاّ المادة ، ولا صانع مختار لها أبداً ، فليس لها العلّة الغائية أيضاً.

والحاصل : أنّهم لا ينكرون مبدأ الكائنات ، بل ينكرون شعوره وقدرته وإرادته .

تفتيش وتفنيد :

أمّا الأصل الأَوّل ففيه بحثان :

الأَوّل : في بيان المادة .

والثاني : في بيان انحصار الموجودات بها .

أمّا البحث الأَوّل : فالمعروف عن ديمقراط (3) أنّ المادة هي الجواهر الفردة ، وهي الأجزاء التي لا تتجزّأ ( الأتُم ) ، وليس لها إلاّ أشكال هندسية ، فالعالم عنده مركّب من هذه الذرّات ، التي لها بنظر بعضها إلى بعض حركة دائرة ، وحركة اصطدام مستقيمة (4) ، ويرى أنّ هذه الذرّات يتخلّل بينها فراغ ، خلافاً لأرسطو وأتباعه ، حيث ذهبوا إلى أنّ الجسم شيء واحد متماسك ، يمكننا أن نقسّمه إلى أجزاء منفصلة ، لا أنّه يشتمل سلفاً على أجزاء كذلك (1) .

ثمّ إنّ هذا الذرّات غير مختلفة في حقيقتها ، وما يشاهد من اختلاف آثار الموجودات المتكوّنة منها ، إنّما هو من جهة اختلاف أشكالها ، وأحجامها ، وأمكنتها ، ونظامها ، وأوضاعها ، هذا ولمّا كان الشكل الهندسي متناقضاً لعدم التجزّؤ ، رفضوا شكلها وقالوا : إنّها غير مشكّلة ؛ ولذا قال المحقّقون من أهل العصر : إنّ الجواهر التي نقول بها هي أصغر من جوهر ديمقراط جداً (2) .

أقول : وهو كذلك قطعاً ، فإنّ الذرة التي زعموا عدم إمكان تجزئتها ولزوم بساطتها ، قد وقع عليها التجزئة خارجاً عام 1919م ، من قِبل العالِم روترفورد ، ثمّ عُلم أنّ لها أجزاءً عمدتها : بروتون ونوترون والكترون .

وذهب لوسيبوس إلى أنّ تلك الذرّات تتحرّك في الفراغ منذ الأزل ، والأشياء تظهر وتخفى بحسب ما تجمع وتنفصل ، وعن أبيقورس : أنّها متحرّكة دائماً في الخلاء الذي لا نهاية له ، بانحراف بعضها على موازاة بعض ، بحيث تصطدم وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع ، فتؤدّي إلى تراكيب عديدية وصور متنوعة ومتغيّرة . وقال بخنر : أمّا حركة الجواهر عندنا ، فمن تضادّ قوتي الجذب والدفع ، اللتين نعتبرهما غريزتين في الجوهر (3) .

هذا ، ولكن لمّا رأى بعض العلماء أنّ الفراغ مستحيل في الطبيعة ، فرضوا أنّ تلك الجواهر تسبح في مادة لطيفة ، أو غاز(4) أخف من الهواء ، أو سائل تام الاتصال مالئ للخلاء سمّوه الأثير، تتحرك فيه الجواهر التي هي أجزاؤه حركة الزوابع في الهواء الهادئ، ومن أحوال اجتماعها بالحركة وأفاعيلها تظهر صور الكائنات ، وهذه الجواهر في الرأي القديم ، هي أزلية أبدية ، لم تحدث بعد العدم ، ولا تتلاشى ولا تنعدم ، وإنّما تخفى بتفرّقها، ولكن الرأي الجديد حسب اكتشافات العالم الفرنسي ـ غوستاف لبون ـ الرأي المبني على المشاهدة والاختبار ، بحيث وافقه أكثر علماء أوروبا ـ هو أنّ المادة قوّة متكاثفة ، وأنّ المادة ليست أبديةً ، بل تتلاشى بانحلالها إلى القوة ، والقوة أيضاً تنحلّ إلى الأثير ، كما أنّ المادة ليست أزليةً ، بل إنّ الأثير تكاثف في الأزمان البعيدة ـ بسبب لا نعلمه ـ فصار مادّةً (5) .

وأمّا البحث الثاني ـ وهو انحصار الموجودات في مضيقة المادة ، وعدم الحاجة إلى علّة فاعلية غير مادية ـ فقد ذكروا لإثباته وجوهاً :

الأَوّل : وهو عمدة تلفيقاتهم وأشهرها : إنّ مثل هذه العلّة غير مدركة بأحد الأحاسيس ، ولم تدلّ عليها التجربة العلمية ، فلا سبيل لنا إلى الإيمان به .

الثاني : إنّ كلّ موجود لابدّ له من سبب ، كما أثبتته التجربة العلمية ، فالوجود الغني عن السب غير معقول . ذكره بعض الفلاسفة الماركسية ...

الثالث : إنّ العالم المادي لو لم يكن أزلياً وغنيّاً عن علّة مجردة لكان معلولاً لها ، فيكون مخلوقاً من العدم ، وهذا غير معقول ، فإنّ العدم لا يسبّب الوجود ولا يكوّنه .

الرابع : إنّ كلّ موجود يجب أن يكون في الزمان والمكان ، ولا يعقل ما يكون متحرّراً منهما .

الخامس : إنّ حدوث المادة غير محسوس ، فلا دليل على كونها مخلوقةً للفاعل الخارج عن نشأة الطبيعة ، فإذن هي قديمة .

السادس : إنّ مبدأ العالم لو كان فاعلاً مختاراً ، لكان له غرض من خلقته لا محالة ، مع أنّا لا نعلم الغرض المفيد في جملة من الأشياء .

السابع : إنّ التجربة العلمية دلّت على أنّ كلّ موجِد مادّي ، معلّل بسبب مادّي آخر ، ومعه لا ملزم للالتزام بوجد فاعل مجرّد مختار بعد المادة المذكورة .

الثامن : المؤثّر في العالم لابدّ أن يكون إمّا إرادة الفاعل المختار ، وإمّا العلل الطبيعية ـ على سبيل منع الجمع والخلو ـ فإنّ تأثير المريد المختار ، ينافي النظام الحاصل من تأثير العلل الطبيعي ، الذي لا يتغيّر ولا يتشتّت ، وحيث إنّ العلوم قاضية بتأثير العلل المادية، وإنّ الحوادث الطبيعية مسبّبة عن أسباب طبيعية ، يستكشف منها عدم المبدأ المختار المذكور .

هذه هي تلفيقاتهم في هذا المبحث ، ومن الضروري أنّها مخالفة للوجدان ، والفطرة ، والبرهان ، والفلسفة ، والمميّز العاقل لا يقدم على إبراز هذه الكلمات الفاسدة المخالفة لضرورة العقول الساذجة ، والإنصاف أنّ هؤلاء الماديين المتفلسفين ، بين مَن غرّته العلوم الطبيعية ، فحسب أن تبحّره ومهارته فيها ، يجوّز له الإفتاء في كل علم وفن ، وإن كان جاهلاً به رأساً :

     قل للذي يدّعي في العلمِ فلسفةً   ***   حفظتَ شيئاً وغابتَ عنك أشياءُ

وبين مَن دعته إليه الأغراض السياسية الدنية ، وبين مَن اشتبه عليه تباين الإلهيات والطبيعيات، فحيث لم يجد الله في الحقل التجربي أنكره ، ولم يدرِ المسكين أنّ طريق الاستنتاج في كلّ من العلمينِ لا يرتبط بالآخر أصلاً ، وبين مَن أضلّه تعريف أصحاب الكنائس ، حيث جعلوا الخالق جسماً متحرّكاً ، آكلاً شارباً ، متصارعاً ، إلى غير ذلك من خرافات التوراة والأناجيل الموجودين، فإذا أصبح الإله المعبود كذلك فالحق مع الماديين ، والجناية حينئذٍ على عاتق القسّيسين والأحبار وكتّابهم .

وعلى الجملة : أنّ الموجودات ـ بكراتها السامية العظيمة ، وميكروباتها الصغيرة ـ دليل على وجود الله سبحانه وتعالى ، ولا يتأتى من عاقل صحيح المزاج إنكاره ، وهذه الواهيات المذكورة ممّا يصادم الفطرة البشرية في أحكامها الأَوّلية ، وعلى سبيل التوضيح ـ وإن كان توضيحاً للواضحات ـ ننبّه على فساد كلّ واحد واحد :

فنقول : أمّا الوجه الأَوّل فقد تقدّم بطلانه في أوائل الكتاب ، وذكرنا أنّ المدركات العقلية كالحسية في الاعتبار والحجّية ، بلا يتمّ إدراك حسي إلاّ بتوسط الحكم العقلي ، فلابدّ أن يكون الإنسان إمّا شكّاكاً ، وسوفسطائياً ، أو فلسفياً يقبل العقليات والحسيات معاً ؛ إذ لا حدّ فاصل بينهما .

ونزيد هنا فنقول : ماذا يريدون بقولهم هذا ؟

فإن أرادوا الإحساس المباشري ، وأنّ الشيء ما لم يحس بنفسه ـ بأحد الأحاسيس ـ لا يذعنون به، فهذا يرفض كيان العلوم الطبيعة بأسرها ، ويبطل المجرّبات التي يقدّسونها من أصلها ، أَليست الأرض متحرّكةً بحركات مختلفة ؟ أَليس للهواء المحيط بنا ثقل عظيم؟ أَليس الأثير موجوداً بزعمهم بل جعلوه مبدأ الكائنات ؟ أَليس الأتُم موجوداً ؟ أَليست الجاذبية العامّة التي استكشفها نيوتن مسلّمةً ؟ فهل الحواس أدركت حركة الأرض ، وثقل الهواء ، ووجود الأثير ، والذرة ، والجاذبية ، فيجوز إنكارها بتاتاً ؟ وهكذا الحال في أُلوف من نظائرها ، كلا ، فالإحساس المباشري لا يرتبط بقبول الحقائق والمعارف بتاتاً .

وإن أرادوا الأعم من ذلك ، وأنّ الشيء يُصدّق به ولو بإحساس آثاره ـ كما هو المقرّر الثابت في العلوم التجربية ، على ما عرفت من الأمثلة المزبورة ـ فهذا بعينه يجري في المقام ، فإنّ الله الواجب القديم المجرّد عن الزمان والمكان ، وإن لم يُدرك بإحدى الحواس لكن آثاره محسوسة ، فإنّ جميع هذه الكائنات المشاهدة المحسوسة آثاره ، كما تقدم برهانه، وستعرف أنّ المادة لا تصلّح للمبدئية بل هي مخلوقة لله القهّار .

وأمّا الشبهة الثانية ، فقد مرّ جوابها في الفائدة العاشرة من فوائد المدخل وقلنا : إنّ التجربة قاصرة عن تثبيت الحكم في خارج الحقل المادي ، ونزيدك هنا ونقول : لو صحّت ضرورة العلّة لكلّ موجود ، لوجب مسببية المادّة المزعومة من مبدأ آخر ، وكلّ شيء تفرضونه مبدأ للأشياء المادية ، لابدّ له من سبب بحكم التجربة ، فهذا ـ مع كونه من التسلسل المحال ـ يبطل قولكم أيضاً .

وأمّا الشبهة الثالث فهي مخالفة للوجدان ، فإنّ الأحاسيس تشاهد في كلّ يوم أُلوفاً من الموجودات، توجد في الخارج بعد ما كانت معدومةً ، أَليست الصور الطارئة على المادة الأزلية المزعومة حادثةً عندكم ؟ فما هو جوابكم في إصلاحها ؟ هو الجواب في حدوث المادة .

وحلّ المطلب : أنّ معنى قولنا : يوجد من العدم ، ليس كون العدم علّةً مادية للموجود ، ولعلّه لم يخطر ببال صبيّ مميّز من صبيان الموحّدين ، ولم يتصوّره عالم من العلماء الإلهيين ، بل معناه أنّ الله يوجد الشيء بعد ما لم يكن موجوداً ، فهذه الشبهة من غفلتهم بمراد المليين أو تجاهلهم به .

وأمّا الشبهة الرابعة فجوابها : أنّ كلّ موجود مادّي لابدّ له من مكان وزمان ، ولا دليل على انسحاب هذا الحكم إلى كل موجود مطلقاً ...

وأمّا الخامسة فهي مضحكة ، فإنّ قِدم المادة مثل حدوثها في عدم إحاطة الأحاسيس به ، فكيف يذعنون بأحدهما دون الآخر ، وهذا شيء عجيب ؟ ...

وأمّا الشبهة السادسة فهي واضحة الفساد ، فإنّ الجهل بفائدة خلقة جملة من الأشياء ـ مع إحرازها في كثير من الموجودات بنحو تدهش العقول منها ـ لا يدل على أنّ المؤثّر غير عالم ، بل لابدّ من الإذعان بوجود الغرض الكامل فيها إجمالاً ، وأن لا نعلمه تفصيلاً ؛ وذلك من جهة ما علمنا من تحقّقه في أكثر المخلوقات ، أَليس إذا شاهدنا ماكنةً كبيرة ذات آلات كثيرة ، وعلمنا فائدة أكثر أجزائها ، لكن جهلنا فائدة بعضها الآخر ، يحكم عقلنا بأنّ صانعها عالم قادر ؟ وأنّ عدم علمنا بغرضه في بعض أجزائها ، لا يدلّ على جهل الصانع المذكور ، وإنّي أثق كل الثقة أنّ هذا الجواب ممّا يعرفه الصبيان في حين وجدانهم التمييز، لكن مَن غلب فطرته الغباوة والسفاهة لا يدرك ذلك .

وأمّا السابعة فتزيّف بأنّ الكلام في العلّة الأُولى انقطاعاً للدور التسلسل ، فهي إمّا الأثير ، وإمّا المادة ، وعلى كلّ منهما يبطل ما ادّعوه من الكلّية المذكورة ، فإنّ الذرّات أو الأثير مادّية لا علة مادّية لها ، وإلاّ جاء الدور والتسلسل ، فلابدّ من الالتزام بأنّ لها علّة غير مادية ، وهي الواجب الوجود ، و...أنّ المادة ـ بأي شيء فسّرت ـ لا تصلح للمبدئية .

وبالجملة : لزوم علّة مادية لكلّ موجود مادّي لا ينافي تأثير الواجب الوجود ، ولم ينكر اللزوم المذكور الإلهيون ، بل يقولون بصحّة الأسباب والمسبّبات الطبيعية في عالم الطبيعة ، ومع ذلك يقولون بتأثير الواجب الوجود أيضاً ، فإنّ الممكن بعلّته ومعلوله غير مستغنٍ عن الواجب حدوثاً وبقاءً ...

وأمّا الثامنة فهي من أرذل الكلام ، ولعلّ القائل بها لم يملك إدراكه حين التلفّظ بها ؛ إذ أي إلهي يقول بإله ذي إرادة هدّامة للنظام الطبيعي ، حتى يستكشف النظام عن عدمه ؟  

بل نقول : إنّ نظام الطبيعة من فعله وإرادته وهو ـ لمكان علمه وقدرته وحكمته وغنائه ـ لا يريد إلاّ الأصلح ، فهذا النظام أكبر برهان على أنّ مبدأ العالم حي قادر عالم حكيم كامل ... ، والعمدة إلى العلل المادية في طول إرادة الخالق الحكيم ، لا في عَرضها ، فلا تنافي بينهما ، وقد خفي هذا الموضوع المهم العالي على الماركسيين...فاتضح أنّ ما نسجه عبّاد المادة لا يناسب الموازين العلمية ، ولا يرتبط بالنواميس العقلية ، وإنّما الداعي لهم إليه ما تقدّم من الأسباب ، وصدق القرآن المجيد حيث يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] .

هذا كله في الأصل الأَوّل من أُصولهم الأربعة المتقدّمة ، ومن تزييفه وهدمه يظهر سقوط الأصل الثاني والثالث منها أيضاً ، فيبقى الأصل الرابع ، وهو أنّ مبدأ العالم ومؤثّره ليس إلاّ المادة المذكورة ، وقد تقدّم تفسير المادّة وكيفية تشكيل الأجسام منها.

وخلاصة القول : أنّ صلاحية المادّة للمبدئية المطلقة ، موقوفة على وجوبها الذاتي ، وعدم توقّفها على سبب آخر ، كما هو ظاهر ، وكونها واجبة الوجود ، وأزلية الثبوت ، متفرّع على بساطتها ، وعدم تركّبها اتفاقاً ـ ولذا أنكروا تجزئتها أشد الإنكار، فإنّ التركّب أمارة المسببية ... ـ وعلى أنّ حركتها من ذاتها لا من غيرها ، وإلاّ كان فوقها قاهر محرّك يدبّرها ، وكِلا الأمرين باطل قطعاً ، فلا يمكن وقوف تعليل الموجودات على المادة المذكورة .

ثمّ يُعلم أنّا لا ننكر تركّب الأجسام من الذرّات ؛ تثبيتاً لتركّبها من العناصر الأربعة المعروفة (6) أو أكثر منها ، ولسنا نحن بصدده ، فإنّه من مسائل العلوم الطبيعة ، وإنّما ننتقد كونها علّة العالم وحدها ، بحيث لا تحتاج إلى علّة فاعلية أُخرى ، فنقول:

أمّا كون المادة أو الأثير مركّباً ، فهو ممّا لا يدانيه شك ولا يمسّه ريب ، وقد أكثروا الأدلة على ذلك وإليك بعضها :

1 ـ كلّ موجود مادّي له جهات ستّ ، وكلّ جهة منه غير جهة أُخرى منه بالضرورة ؛ إذ ليس جهتها اليمنى عين جهتها اليسرى ، ولا جهتها الفوقانية عين جهتها التحتانية بالبداهة، ويستنتج منه أنّ كلّ ذرة ـ مهما فُرض صغرها ـ مركبة من أجزاء ستّة ، وإن عجزت الآلات الصناعية عن تجزئته في الخارج .

2 ـ إذا جعلنا الذرّة بين الجسمين كالصحيفتين ، فقهراً تلاقي السطحين من الجسمين المذكورين ، وعليه فيكون لها سطحان ؛ إذ لا يعقل تلاقي السطحين بسطح واحد بالضرورة .

وهنا وجوه أُخرى تدلّ على تركّبها بصورة قاطعة ، لكنّ هذين الوجهين من أبسطها وأقربها إلى الأفهام الساذجة .

فإذن ، نثبت أنّ هذه الذرّات والأجزاء الصغار ـ سواء في ذلك ذرات ذيمقراط ، وأمواج روتر فورد، الذي كسر الذرّة واستكشف أمواجها ... ـ مركّبة ، فلابدّ لها من مركِّب فاعل التركيب ، وهو الله الواحد القهّار .

وأمّا كون الحركة ليست من نفس المادة ، بل هو من غيرها ـ وهو الله تعالى ـ فلِما تقرّر في كتب الكلام والفلسفة ، من لزوم تعدّد المحرّك والمتحرّك فلاحظ .

هذا وعلى قولهم من الحركة الذاتية ، يلزم تركّب الأجزاء ، وإن سلّمنا إمكان بساطتها في نفسها ، فإنّ الأجزاء لها جهة مشتركة في الجوهرية ، وجهة مميّزة ؛ لاختصاص كلّ منها بحركة في جهة تتوجه إليها حركة الذرّة الأُخرى ؛ إذ لو كان حركاتها إلى جهة واحدة بلا انحراف ، لَما تشكّل الأجسام منها بالضرورة ، وهكذا الكلام ، في قول بخنز : فإنّ محلّ الدفع غير الجذب ، فيتركّب الجزء ، وإن جُعل الدفع في جزء والجذب في جزء ، فهذا أيضاً يلزم التركّب من جزء مشترك بين الجزءين في الجوهرية ، ومن جزء مميّز بالدفع والجذب . وهذا يكفي لهدم جميع ما أسّسوه ، وإبطال ما ذكروه بصورة قاطعة، ولا يبقى للعاقل احتمال في بطلان مبدئية الذرّات للعالم ، فإذن، لابدّ من الالتزام والإذعان ، بوجود الواجب القديم المجرّد عن المادة ولواحقها .

أضف إلى ذلك أنّ المادة ـ كما نادوا بأعلى أصواتهم ـ حقيقة واحدة ، والحقيقة الواحدة لا يصدر عنها آثار مختلفة ، فكيف يسوغ لهم ، استناد هذه الموجودات المتفاوتة المتباينة إلى المادة المزبورة ؟ فإن صحّ ذلك ، وأمكن بروز الآثار المتفاوتة عن حقيقة فاردة ، أصبحت العلوم الطبيعية عقيمةً ولا تُنتج شيئاً ؛ بداهة أنّ التجربة لا تقع إلاّ على موارد محدودة ، يُعلم منها أنّ هذه الحقيقة ذات أثر كذا ، فيوضع ذلك قانوناً كلّياً وقاعدةً شاملة، فيقال مثلاً : إنّ الدواء الفلاني يزيل المرض الفلاني مطلقاً ؛ اعتماداً في الكلية المذكورة ، على أنّ الحقيقة الواحدة لا يختلف أثرها ، وأمّا إذا فرضنا جواز اختلافه فلا يتمّ قاعدةً تجربية قطعاً ، فالعلوم التجربية كالفلسفة تقتضي عدم استناد العالم إلى الذرّات المذكورة ، وقد نُقل أنّ بعض متفكّري الغرب تنبّه لذلك فآمن بالله العظيم ، فلو صحّ بساطة المادة لَما صلحت للعلّية المطلقة من هذه الناحية {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].

__________________

(1) نقله في الشوارق 1 /126 من كتاب الشفاء لابن سينا .

(2) على أطلال المذهب المادي / 15.

(3) الأسفار 1 / 210.

(4) الرحلة المدرسية للعلاّمة المجاهد الشيخ جواد البلاغي / 292.

 (5) وقيل : إنّ أَوّل مَن تفوّه به لوقيوس أُستاذ ديمقراط .

(6) الرحلة المدرسية / 298.

 (7) فلسفتنا / 318.

(8) الرحلة المدرسية / 274.

(9) الرحلة المدرسية / 298.

(10) جوهر هوائي قابل للضغط سيّال .

(11) الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي / 275.

(12) وهي الماء والتراب والهواء والنار ، وزاد عليها بعض علماء العرب ثلاثة أخرى : الكبريت والزئبق والملح ، وعدّها الباحثون الغربيون إلى 104 عناصر .

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.