أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-2-2017
8235
التاريخ: 13-2-2017
5952
التاريخ: 10-2-2017
27750
التاريخ: 14-2-2017
7649
|
قال تعالى : {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء : 46] .
بين صفة من تقدم ذكرهم فقال {من الذين هادوا} : أي ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، من اليهود ، فيكون قوله {يحرفون} الكلم في موضع الحال . وإن جعلته كلاما مستأنفا ، فمعناه : من اليهود فريق ، {يحرفون الكلم عن مواضعه} : أي يبدلون كلمات الله وأحكامه عن مواضعها . وقال مجاهد :
يعني بالكلم التوراة ، وذلك أنهم كتموا ما في التوراة من صفة النبي . {ويقولون سمعنا وعصينا} معناه : يقولون مكانه بألسنتهم : سمعنا ، وفي قلوبهم : عصينا .
وقيل : معناه سمعنا قولك ، وعصينا أمرك {واسمع غير مسمع} : أي ويقول هؤلاء اليهود للنبي : إسمع منا غير مسمع ، كما يقول القائل لغيره إذا سبه بالقبيح : اسمع لا أسمعك الله ، عن ابن عباس ، وابن زيد . وقيل : بل تأويله : إسمع غير مجاب لك ، ولا مقبول منك ، عن الحسن ، ومجاهد . وهذا كله إخبار من الله عن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة في عصر النبي ، لأنهم كانوا يسبونه ويؤذونه بالسيء من القول {وراعنا} قد ذكرنا معناه في سورة البقرة ، وقيل : إنه كان سبا للنبي تواضعوا عليه . ويقال : كانوا يقولونه استهزاء وسخرية : ويقال : إنهم كانوا يقولونه على وجه التجبر ، كما يقول القائل لغيره ، انصت لكلامنا ، وتفهم عنا ، وإنما يكون هو من المراعاة التي هي المراقبة {ليا بألسنتهم} : أي تحريكا منهم لألسنتهم ، بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه . {وطعنا في الدين} : أي وقيعة فيه . {ولو أنهم قالوا سمعنا} قولك ، {وأطعنا} أمرك ، وقبلنا ما جئتنا به ، {واسمع} منا ، {وانظرنا} : أي انتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا ، {لكان خيرا لهم} يعني : أنفع لهم عاجلا وآجلا ، {وأقوم} : أي أعدل وأصوب في الكلام ، من الطعن والكفر ، في الدين . {ولكن لعنهم الله بكفرهم} : أي طردهم عن ثوابه ورحمته ، لسبب كفرهم .
ثم أخبر الله عنهم فقال {فلا يؤمنون} في المستقبل {إلا قليلا} منهم ، فخرج مخبره على وفق خبره ، فلم يؤمن منهم إلا عبد الله بن سلام ، وأصحابه ، وهم نفر قليل . ويقال : معناه لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا : أي ضعيفا . لا إخلاص فيه ، ولكنهم عصموا دماءهم وأموالهم به . ويجوز أن يكون المعنى : فلا يؤمنون إلا بقليل مما يجب الإيمان به .
________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 98 .
{مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} . وفي الآية 41 من المائدة :
{ومِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ - وهم الذين يريدون إخضاع العباد والبلاد لسياستهم - : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ} . وفي الآية 75 من البقرة : {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وهُمْ يَعْلَمُونَ} .
تماما كما فعلوا بقرار الأمم المتحدة بوجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في 5 حزيران سنة 1967 ، وفسروه بوجوب المفاوضة مع العرب (2) وعرقلوا بذلك مهمة ( غونار يارينغ ) المبعوث الدولي لتنفيذ القرار . . وكل كلام لا يتفق مع مقاصدهم الشريرة يحرفونه عن مواضعه ، حتى ولو عقلوا وعلموا أنه من عند اللَّه ، فلقد حرفوا التوراة من قبل ، ووضعوا مكان آيات العدل والرحمة الأمر بالسلب والنهب ، وقتل النساء والأطفال ، قال في تفسير المنار عند تعرضه لتفسير هذه الآية : « أثبت العلماء تحريف كتب العهد العتيق ، والعهد الجديد بالشواهد الكثيرة ، وفي كتاب إظهار الحق للشيخ رحمة اللَّه الهندي مائة شاهد على التحريف اللفظي والمعنوي فيها » . ثم ذكر صاحب تفسير المنار بعض الشواهد لهذا التحريف في الجزء الخامس ص 141 طبعة 1328 هـ وألف الشيخ جواد البلاغي كتابا قيما جامعا في هذا الموضوع ، أسماه الرحلة المدرسية ، وطبع أكثر من مرة .
لقد دعا النبي (صلى الله عليه وآله) يهود الحجاز مرارا إلى اتباع الحق ، وعدم تحريف الكلام ، فكانوا يصرون على العناد : {ويَقُولُونَ سَمِعْنا وعَصَيْنا واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} .
أي غير مسموع منك ، ولا مجاب لك فيما تدعونا إليه . . وليس هذا بغريب من عناصر الشر ، ومصادر الفساد .
{وراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وطَعْناً فِي الدِّينِ} . قال المفسرون : ان اليهود قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله) : راعنا ، وهم لا يريدون المعنى الظاهر من هذه الكلمة ، وهو مراقبتهم والإصغاء إليهم ، وإنما أرادوا الرعونة والحمق ، وهذا هو اللي والطعن في الدين . وسبق الكلام عن لفظة راعنا في تفسير الآية 104 من سورة البقرة ، المجلد الأول ص 166 .
{ولَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا واسْمَعْ وانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وأَقْوَمَ}. ولأن هذا القول أعدل وأفضل ، وأقوم وأسلم أعرضوا عنه ، ولم يتفوهوا به . قال الرازي في تفسير هذه الآية : « المعنى انهم لو قالوا بدل قولهم {سَمِعْنا وعَصَيْنا} سمعنا وأطعنا ، لأنهم يعلمون بصدقك ، وبدل قولهم {واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} واسمع فقط ، وبدل قولهم ( راعِنا ) أنظرنا ، أي تمهل علينا حتى نفهم عنك ، لو قالوا هذا لكان خيرا لهم عند اللَّه وأقوم ، أي أعدل وأصوب » .
{ولكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}. وتمردهم على الحق ، وتعصبهم للباطل ، ولعنة اللَّه هي غضبه وسخطه {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} . لقد دخل الناس في الإسلام أفواجا من جميع الطوائف والأديان على مدى التاريخ إلا اليهود ، فما أسلم منهم إلا قليل كعبد اللَّه بن سلام ، وبعض أصحابه ، بل حاربوا الإسلام والمسلمين ، وما زالوا يكيدون له بكل الوسائل والدسائس ، وهذا من أقوى الأدلة على ان الإسلام حق وصدق . . والغريب ان قادة الإسلام ودعاته لم يستدلوا على عظمته وإنسانيته بعداء اليهود الذين قالوا : {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} عدائهم للإسلام ، ولكل من قال : لا إله إلا اللَّه .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 338-340 .
2. ألف علماء المسلمين العديد من الكتب في إعجاز القرآن ، وذكروا أنواعا من هذا الإعجاز ، ولكن لم يذكروا منها وصف القرآن لطبيعة اليهود وحقيقتهم ، مع انه لا يقل إعجازاً عن غيره .
قوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ } إلى قوله : { فِي الدِّينِ } « من » في قوله : { مِنَ الَّذِينَ } ، بيانيه ، وهو بيان لقوله في الآية السابقة : { الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ } ، أو لقوله : { بِأَعْدائِكُمْ } ، وربما قيل : إن قوله : { مِنَ الَّذِينَ هادُوا } خبر لمبتدأ محذوف وهو الموصوف المحذوف لقوله { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } ، والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرفون ، أو من الذين هادوا من يحرفون ، قالوا : وحذف الموصوف شائع كقول ذي الرمة :
فظلوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يشني دمعة العين بالمهل
يريد : ومنهم قوم دمعه أو ومنهم من دمعه وقد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه ، وذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والإسقاط والزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة ، وإما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السلام في التوراة وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله صلى الله عليه وآله من بشارات التوراة ، ومن قبل أولوا ما ورد في المسيح عليه السلام من البشارة ، وقالوا : إن الموعود لم يجيء بعد ، وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم .
ومن الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا } ، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله : { يُحَرِّفُونَ } ، ويكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن يوضع فيه ، فقول القائل : سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال : { سَمِعْنا وَأَطَعْنا } لا أن يقال : سمعنا وعصينا ، أو يوضع : سمعنا موضع التهكم والاستهزاء ، وكذا قول القائل : اسمع ينبغي أن يقال فيه : اسمع أسمعك الله لا أن يقال : { اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي لا أسمعك الله وراعنا ، وهو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.
وقوله : { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ } أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق ، والإزراء والإهانة في صور التأدب والاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله حين ما كانوا يكلمونه بقولهم : راعنا يا رسول الله ، ومعناه : أنظرنا واسمع منا حتى نوفي غرضنا من كلامنا ، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله بقولهم : راعنا وهم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحري بمقامه صلى الله عليه وآله فذموا به في هذه الآية ، وهو قوله تعالى : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ } ثم فسره بقوله : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله : { وَراعِنا } ثم ذكر أن هذا الفعال المذموم منهم لي بالألسن ، وطعن في الدين فقال : { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ } والمصدران في موضع الحال والتقدير : لاوين بألسنتهم ، وطاعنين في الدين .
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ } كون هذا القول منهم وهو مشتمل على أدب الدين ، والخضوع للحق خيرا وأقوم مما قالوه ( مع اشتماله على اللي والطعن المذمومين ولا خير فيه ولا قوام ) مبني على مقايسة الأثر الحق الذي في هذا الكلام الحق على ما يظنونه من الأثر في كلامهم وإن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة ، فالمقايسة بين الأثر الحق وبين الأثر المظنون حقا ، والمعنى : أنهم لو قالوا : سمعنا وأطعنا ، لكان فيه من الخير والقوام أكثر مما يقدرون في أنفسهم لهذا اللي والطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى : { وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الجمعة : 11] .
قوله تعالى : { وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } تأييس للسامعين من أن تقول اليهود سمعنا وأطعنا فإنه كلمة إيمان وهؤلاء ملعونون لا يوفقون للإيمان ، ولذلك قيل : لو أنهم قالوا ، الدال على التمني المشعر بالاستحالة.
والظاهر أن الباء في قوله : { بِكُفْرِهِمْ } للسببية دون الآية ، فإن الكفر يمكن أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعا قاطعا لكنهم لما كفروا ( وسيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم ) لعنهم الله بسبب ذلك لعنا ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك.
وأما قوله : { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } فقد قيل : إن { قَلِيلاً } حال ، والتقدير : إلا وهم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل ، وربما قيل : إن { قَلِيلاً } صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، وهذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الإيمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال المتعلق أي إيمانا المؤمن به قليل.
وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة ، وذكر أن المعنى : فلا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه ، ولا يزكي نفسه ، ولا يرقي عقله فقد أخطأ ، فإن الإيمان إنما يتصف بالمستقر والمستودع ، والكامل والناقص في درجات ومراتب مختلفة ، وأما القلة وتقابلها الكثرة فلا يتصف بهما ، وخاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام .
على أن المراد بالإيمان المذكور في الآية إما حقيقة الإيمان القلبي في مقابل النفاق أو صورة الإيمان التي ربما يطلق عليها الإسلام ، واعتباره على أي معنى من معانيه ، والاعتناء به في الإسلام مما لا ريب فيه ، والآيات القرآنية ناصة فيه ، قال تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً } : [ النساء : 94 ] ، مع أن الذي يستثني الله تعالى منه قوله : { وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ } ، كان يكفي فيه أقل درجات الإيمان أو الإسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم : سمعنا وأطعنا كسائر المسلمين.
والذي أوقعه في هذا الخطإ ما توهمه أن لعنه تعالى إياهم بكفرهم لا يجوز أن يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الإيمان وهي ما لا يعتد به من الإيمان حتى يستقيم قوله : { لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ } ، وقد غفل عن أن هذه الخطابات وما تشتمل عليه من صفات الذم والمؤاخذات والتوبيخات كل ذلك متوجهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع ، فالذي لحقه اللعن والغضب والمؤاخذات العامة الأخرى إنما هو المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون ولا يسعدون ولا يفلحون ، وهو كذلك إلى هذا اليوم وهم على ذلك إلى يوم القيامة .
وأما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلى الأفراد ، وخروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم ، والمحوج إلى هذا الاستثناء أن الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله : { فَلا يُؤْمِنُونَ } حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد ـ وإن كان ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع ـ وكان يمكن فيه أن يتوهم أن الحكم شامل لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثني فقيل : { إِلَّا قَلِيلاً } فالآية تجري مجرى قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } : [النساء : 66] .
_________________________
1. تفسير الميزان ، ج4 ، ص 308-311 .
جانب آخر من أعمال اليهود :
تعقيبا على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء الإسلام ، وتشير إلى جانب من أعمالهم ومواقفهم.
فتقول أوّلا : إنّ أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق ، وتغيير حقيقة الأوامر الإلهية : {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} أي أنّ جماعة من اليهود يحرفون الكلمات عن مواضعها.
وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي ، وقد يكون له جانب معنوي وعملي.
أمّا العبارات اللاحقة فتفيد أن المراد من التحريف في المقام هو التحريف اللفظي وتغيير العبارة ، لأنّه تعالى يقول بعد هذه الجملة : {وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا} يعني بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» يقولون «سمعنا وعصينا» وهذا يشبه تماما كلام من يقول مستهزء : «منك الأمر ومنّا عدم السماع» ، هذا والعبارات الاخرى في هذه الآية خير شاهد على هذا القول.
ثمّ يشير إلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي والصلافة حيث يقول : إنّهم يقولون : {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} وبهذا الطريق يتوسل هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين ، ـ مضافا إلى سلاح تحريف الحقائق والخيانة في إبلاغ الكتب السماوية التي كانت تشكل الوسيلة الحقيقية لنجاة ذلك الفريق وشعبهم من مخالب الطغاة الظلمة مثل فرعون ـ يتوسلون بسلاح الاستهزاء والسخرية الذي هو سلاح الأنانيين والمغرورين ووسيلة العتاة والمعاندين ، وربّما استخدموا مضافا إلى كل ذلك عبارات كان المسلمون المخلصون يرددونها أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع تغييرات في معانيها تكميلا لاستهزائهم وسخريتهم ، مثل جملة «راعنا» التي معناها «تفقدنا وأمهلنا» وكان المسلمون الصادقون في صدر الإسلام ومطلع الدّعوة المحمّدية يرددونها أمام النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتمكنوا من سماع صوت النّبي وكلامه بنحو أفضل ، ولكن هذا الفريق من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإيذاء النّبي ويسيئون استخدامها ويكررونها أمام النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يقصدون منها معناها العبري الذي هو «سمعنا غير مسمع» أو «أسمعنا لا سمعت» أو معناه العربي الآخر ، وهو ما يرجع إلى الرعونة (2) الذي يعني الحمق ، قصدا منهم إلى أن عمل النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ـ والعياذ بالله ـ خداع الناس واستغلال سذاجتهم.
وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم والطعن في الدين الحق ، والشريعة الحقة : {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ}.
(واللي على وزن الحي بمعنى الفتل ، مثل فتل الحبل وما شابهه ، ويأتي أيضا بمعنى التغيير والتحريف).
{وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ} أي أنّهم إن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد ، ومعاداة الحق ، وسوء الأدب ، والجرأة والقحة وقالوا : سمعنا كلام الله وأطعنا ، فاستمع إلى كلامنا وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إدراكا كاملا ، لكان ذلك من مصلحتهم ، وكان في ذلك منفعتهم ، وأكثر انسجاما وتوافقا مع العدل والمنطق والعدل والأدب .
{وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً}.
أي أنّهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة ، كيف ؟ وقد ابتعدوا عن رحمة الله بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان ، وماتت أفئدتهم وتحجرت بحيث صار من المتعذر أن تخضع للحق ، وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة ، اللهم إلّا بعضهم ممن يمتلك فؤادا طاهرا وعقلا يقظا ، فهؤلاء هم المستعدون للقبول بالحقائق ، والاستماع إلى نداء الحق والإيمان به.
وقد اعتبر جماعة هذه الجملة من مغيبات القرآن وإخباراته الغيبية ، لأنّه ـ كما يخبر القرآن الكريم في هذه الآية ـ لم يؤمن من اليهود طوال التاريخ الإسلامي ولم يذعن للحق إلّا جماعة قليله ، وأمّا غيرهم ـ وهم الأكثرية الساحقة ـ فقد بقوا ـ وإلى الآن ـ على عدائهم الشديد ، وخصومتهم للإسلام ، ولم يزالوا يكيدون له المكائد ، ويحيكون ضده المؤامرات.
__________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 148-150 .
2. راعنا إذا أخذت مشتقة من مادة الرعي تكون بمعنى فعل الطلب من المراعاة والمراقبة ، وبمعنى أمهلنا ، وإذا أخذت مشتقة من الرعونة تكون بمعنى «أخدعنا واجعلنا حمقاء عندك» ، يقولون ذلك على سبيل الاستهزاء والسب ، ولا بدّ من الالتفات إلى أن راعنا على الوجه الأوّل تكون بدون تشديد النون ، وعلى الوجه الثاني بتشديد النون ، ويستفاد من جملة من الروايات أن اليهود كانوا يتعمدون تشديد النون في راعنا ومد آخرها.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|