أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-01-23
1207
التاريخ: 2023-12-23
1017
التاريخ: 21-11-2019
3221
التاريخ: 11-2-2021
2334
|
لعل من الأفضل هنا أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى أننا لا نعني بالعرب البائدة والعرب الباقية، أن أقوامًا قد انقرضوا فلم يبق منهم أحد، وأن أقوامًا لم يكونوا ثم نشئوا من جديد، وإنما ما نعنيه أن قومًا قد يقل عددهم بالكوارث أو بالذوبان في آخرين، لسبب أو لآخر، ومن ثم يتوقف تاريخهم وتبطل حضارتهم، مع أن بقاياهم لا تزال موجودة، ولكنها بدون قيمة حضارية، والتاريخ في حقيقته إنما هو تطور الحضارة(1)، وعلى أية حال، فتلك تسمية ابتدعها الكتاب العرب، ذلك لأنه من المعروف أن شيئًا لن يبيد ما دام قد ترك من الآثار ما يدل عليه، وهي دون شك مصدرنا الأساسي للتعرف على الحضارات السابقة(2)، وربما كان المقصود بلفظة "بائد" عدم وجود أحد من العرب ينتسب إلى هذه القبيلة أو تلك عند كتابة المؤرخين الإسلاميين لتاريخ ما بعد ظهور الإسلام.
ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن ما يسمى بالعرب البائدة، ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، وإنما هو جزء من الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري، الذي يسبق عادة التاريخ الحقيقي لكل أمة، ومن ثم فإنهم إذا ما عالجوا تاريخ بعض القبائل العربية التي تسمى "بالبائدة" فإنما يعالجونه على هذا الأساس(3)، وإن كانت غالبية المؤرخين الأوربيين الآن قد عدلت عن هذا الاتجاه، بعد أن ثبت لهم أن بعضًا من هذه القبائل البائدة، قد تحدث عنها المؤرخون القدامى من الأغارقة والرومان، وبعد أن أثبتت الأحافير إلى حد ما صحة بعض ما ورد عن هذه القبائل البائدة في المصادر العربية.
أما العرب الباقية، فلعنا نعني بهم تلك الجماعات التي كانت -ولا تزال- تعيش في هذه المنطقة، وسوف تظل تعيش إن شاء الله، إلى أن يغير الله الأرض غير الأرض، وأن حضارتها مستمرة يتوارثها جيل بعد جيل، وأن كل جيل يضيف إليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن ثم فإن مهمتنا أن نقوم بدراسة تلك الحضارات متتبعين دورها في كل طور من أطوار التاريخ، وأما أهم القبائل البائدة التي سنتناولها هنا بالدراسة الموجزة فهي عاد وثمود ومدين وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا.
1- عاد:
ينظر الأخباريون إلى قوم عاد(4)، على أنهم أقدم الأقوام العربية البائدة(5)، حتى أصبحت كلمة "عادي" و"عادية" إنما تستعملان صفتين للأشياء البالغة القدم(6)، وحتى أصبح القوم إذا ما شاهدوا آثارًا قديمة لا يعرفون تاريخها أطلقوا عليها صفة "عادية"(7)، وربما كان السبب في ذلك قدم قوم عاد، أو أن عادًا -ومن بعدها ثمود- قد ورد اسميهما في القرآن الكريم، ومن ثم فقد قدما على بقية الأقوام البائدة، رغم أننا لو جارينا الإخباريين في قوائم أنسابهم، لكان علينا أن نقدم طسم وعمليق وأميم وغيرهم على عاد وثمود، ذلك لأن الأولين من وجهة نظرهم إنما هم من أولاد "لاو بن سام" شقيق "إرم" وأن الآخرين من حفدة "إرم"، ولكن الأخباريين أنفسهم إنما يقدمون عادًا على بقية الشعوب (8),ولقد انفرد القرآن الكريم بذكر عاد، ونبيهم هود عليه السلام، فجاء ذكرهم في كثير من سور القرآن الكريم، بل إن هناك سورة كاملة تسمى سورة "هود" كما أن هناك في القرآن الكريم ما يشير إلى أن هناك عادًا الأولى، وعادا الثانية(9)، وأن عادًا الأولى إنما هم عاد إرم الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام(10)، وأن عادًا الثانية إنما هم سكان اليمن من قحطان وسبأ وتلك الفروع، وربما كانوا هم ثمود(11).
2- ثمود:
تكاد تجمع الكتب العربية على أن ثمودًا(12) إنما كان مقامها بالحجر إلى وادي القرى بين الحجاز والشام(13)، على أن ارتباطها بعاد يقتضي تقاربهما في المكان، ولذا ذهب الأخباريون إلى أن ثمودًا إنما كانت باليمن قديمًا، فلما ملكت حميرًا أخرجوها إلى الحجاز(14)، ولسنا في حاجة إلى التدليل الآن على خطأ هذا الاتجاه، فذلك أمر سبق لنا مناقشته في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآن".
وعلى أي حال، فإن الدراسات الحديثة تثبت أن الثموديين قد عاشوا في شمال الجزيرة العربية منذ أعماق التاريخ، وتركوا لنا آثارًا ونقوشًا في كل مكان من هذه الأرضين، التي تمتد من الجوف شمالا إلى الطائف جنوبًا، ومن الأحساء شرقًا إلى يثرب فأرض مدين غربًا، ومن المسالك المؤدية إلى العقبة والأردن وسورية، وحتى في أرض حضرموت من جنوب الجزيرة، وإن ذلك لدليل على أن الثموديين كانوا في يوم ما السكان الأصليين لشمال شبه الجزيرة العربية, وليس من شك في أن قصة ثمود أوضح بكثير من قصة عاد، فمنذ القرن الثامن قدم المؤلف دراسة مفصلة عن "قوم ثمود" في كتابه "دراسات في التاريخ القرآني" شغلت الفصل السابع من الجزء الأول، ناقش فيها المؤلف الموضوعات التالية: 1- أصل الثموديين 2- ثمود في الكتابات القديمة 3- ثمود في القرآن الكريم 4- عصر قوم صالح عليه السلام 5- النقوش الثمودية 6- المجتمع الثمودي.
3- طسم وجديس
حدثتنا التوراة عن كثير من القبائل العربية، ومن بينها قبيلة "طسم" التي دعتها "لتوشيم" وأنها إحدى بطون قبيلة "ديدان" الموجودة في العلا، وهذا يعني أن بداية استقرار "طسم" إنما كان في منطقة العلا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى منطقة اليمامة، وهذا القول لا يبدو غريبًا ويمكن تصوره، فنحن نعرف أن أحد الطرق التجارية يبدأ من جنوب بلاد العرب، من "عدن" أو" قنا"، فمدن الحجاز "مكة، المدينة، خيبر" إلى أن يصل إلى العلا، ثم يتجه إلى الشمال، وهناك طريق ثان يبدأ من الجنوب أيضًا، مارًّا بالحافة الغربية للربع الخالي، متجهًا إلى اليمامة، ثم ينحدر باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة العلا ومدائن صالح، فبلاد الشام، أو إلى مصر، إذن فمن المحتمل أن يكون نزوح "طسم" إلى اليمامة، إنما كان بسبب العامل الاقتصادي في المكان الأول، على أساس أن جزءًا، من قبيلة ديدان- وهي التي كانت تشارك في الحركة الاقتصادية بين جنوب الجزيرة وشمالها -قد نزح إلى منطقة اليمامة، ليحافظ على استقرار الأمن في الطريق التجاري من جنوب بلاد العرب إلى شمالها عبر اليمامة، ويبدو أن "جديس" قد نزحت كذلك مع "طسم"، وبهذا يمكن أن نجد صلة النسب قائمة بين القبيلتين(15).
وفي الواقع أننا لا نملك مصادر يعتمد عليها في التأريخ لهما، فالقرآن الكريم لم يتحدث عنهما، والاكتشافات الأثرية لم تصل إليهما، وكتابات الأمم الأخرى لم تذكرهما، إذا استثنينا إشارة التوراة عن طسم، ومن هنا فالشك يحيط بتاريخهما من كل جانب، ومع ذلك فقد حاول البعض أن يلم بشتات ما كتب عنهما، ليخرج لنا صورة عنهما، أقرب إلى الحكايات منها إلى التاريخ الصحيح.
ومع ذلك، فعلينا ألا نتعجل في الحكم عليهما، كما فعل نفر من المستشرقين، فذهب إلى أنهما من الشعوب الخرافية، فقد تأتي لنا الأيام بمعلومات عنهما قد تغير الصورة الحالية إلى حد كبير، ويبدو أنها بدأت تفعل، فلقد عثر في "صلخد" على نص يوناني يرجع إلى عام 322م، جاء فيه "أنعم طسم(16)"، كما أن التوراة قد أشارت إلى "طسم"، على أنه من نسل "دادان بن يقطان(17)" أضف إلى ذلك أن بعضًا من المستشرقين يرى أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisiae" الوارد في جغرافية بطليموس، هو اسم قبيلة من قبائل شرق بلاد العرب، وأنها "جديس" بعينها، وأنها كانت معروفة حوالي عام 1253م، بل ومزدهرة كذلك. ويصفها المسعودي -هي وأرض طسم- بأنها من أفضل البلاد وأكثرها خيرًا، فيها صنوف الشجر والأعناب، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفة)18).
هذا وينسب الإخباريون إلى القبليتين كثيرًا من المواضع، فإلى "طسم" ينسب حصن المشقر، بين نجران والبحرين، وإلى "جديس" ينسب قصر معنق والشموس في اليمامة، فضلا عن بعض القرى في اليمامة كذلك، منها "حجر" حاضرة طسم وجديس.
وهناك "جعدة" والتي يصف "الهمداني" جُدرانها، بأنها تسمح بأن يركض عليها أربع من الخيل جنبًا إلى جنب، وأن بها حصنًا قديمًا ظل باقيًا حتى أيامه، وأنه كان يحيط بالقرية، وأن أساسه من اللبن، وفي هذا دلالة على خصب التربة ووفرة الأرض الطيبة والماء، كما هو الحال في العراق ومصر منذ أقدم العصور، هذا إلى جانب "الخضرمة" "جو القديمة" التي كانت تسكنها جديس -في مقابل الخضراء لطسم- فضلا عن "الهدار" و"ريمان"(19).
وقصة القبيلتين العربيتين -كما يقدمها الأخباريون- تذهب إلى أن الغلبة إنما كانت من نصيب "طسم"، وأن أولي الأمر وأصحاب السطوة، إنما كانوا منها كذلك، ومرت الأيام وانتهى الملك في طسم إلى رجل ظلوم غشوم، استذل جديس وانتهك أعراضها، حتى جعل سنته السيئة، ألا تزف البكر من جديس إلى بعلها، قبل أن يقضي منها وطره، إلى أن كان يوم زفت فيه امرأة من جديس تدعى "الشموس" "عفيرة بنت غفار بن جديس" إلى رجل من قومها، وعندما حملت إلى ملك طسم ليفترعها أولًا، سمعت من عبيده ما مس كرامتها، وأهان شرفها، فخرجت من فراش ملك طسم ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من خلف ومن قدام، ثم أخذت تنشد شعرًا في قصيدة طويلة، تثير به نخوة قومها.
وتستمر الأقصوصة، فتذهب إلى أن أخا الشموس "الأسود بن غفار بن جديس" سيد قومه وصاحب الرأي فيهم، قد تحركت نخوته، كما أحس المذلة قومه من جديس، فاتفق القوم على ملك طسم، ومن ثم فقد نصبوا له ولخاصة قومه الشباك، وكتب لهم في مهمتهم هذه نجحا بعيد المدى، واستطاع رجل من طسم أن يفر من المذبحة، وأن يستنجد بحسان بن تبع ملك حمير، الذي يعد جيشًا كثيفًا، بغية أن يقضي به على جديس، وبينما كان هذا الجيش العرمرم على مبعدة ثلاثة أيام من اليمامة، يخبر هذا المستجير -ويسمونه رباح بن مرة- ملك حمير، أن له أختًا في جديس ترى على مسيرة ثلاثة أيام، وأنه يخشى أن تراهم فتحذر القوم منهم، ومن ثم فإنه يقترح أن يحمل كل جندي فرعًا من شجرة كبيرة يستتر وراءها، حتى يستطيعوا أن يفاجئوا جديسًا قبل أن يتحوطوا للقائهم.
وتطلعت أخت الطسمي -وتدعى زرقاء اليمامة- إلى ناحية الجنوب الغربي، وصاحت في جديس تحذرهم من حمير، فهي ترى شجرًا يتحرك ومن ورائه جنودًا تحمل سلاحًا، ولكن القوم ظنوا بها الظنون فلم يصدقوها، حتى حلت الكارثة، فأبيد الرجال، وسبيت النساء، وقتلت الأطفال، وهدمت البيوت والحصون، وفقئت عيني الزرقاء، وتغير اسم مساكن طسم وجديس من "جو" إلى اليمامة، وهكذا كان فناء جديس على يد الحميريين، ومن ثم فقد لحق القومان "طسم وجديس" بعاد وثمود، وصاروا من العرب البائدة(20).
هذه هي القصة التي تدور حول الحيين العربيين طسم وجديس -وهي فيما نظن- لا تعدو أن تكون واحدة من القصص الشعبي، ومن الغريب أن القصة تكاد أن تكرر نفسها بين العرب واليهود في المدينة(21)، فضلا عن شبه قريب بينها وبين قصص أخرى يرويها الأخباريون عن ملوك اليمن، وعن ولعهم بالنساء، وفعل المنكر فيهن، ومنها واحدة تتصل بملكة سبأ "بلقيس(22) صاحبة سليمان عليه السلام" وأخرى عن "عتودة" مولى أبرهة الحبشي(23).
أضف إلى ذلك أن القصة تصور القوم وكأنهم لا يثورون على هذا الوضع الدنيء، إلا بعد أن ظهرت "عفيرة" ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من قدام ومن خلف، فيغضب أخوها -كما غضب أخو فضلاء في يثرب- ويقبل "عملوق" ملك طسم، هذا إلى جانب أن القصة تصور المرأة -وليس الرجل- هي التي تأنف من العار وتأبى الذل، وتحرض الرجال على الانتقام للعرض المستباح، ومن ثم فإننا نرى "عفيرة" تقول:
لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا يقوم بعل حر... أهدى وقد أعطى وثيق المهر
ولو أننا كنا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقر بذا الفعل
فموتوا كرامًا وأميتوا عدوكم ... ودبوا لنا الحرب بالحطب الجزل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب النساء فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللنسل(24)
ومن هنا، فإننا نرفض هذه القصة هنا وهناك، نرفضها لأنها لا تتفق مع الخلق العربي والكرامة العربية، نرفضها لأنها تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة يمكن أن تفسر على أنها إنما تسيء إلى الشرف والعرض الذي كان -وما زال وسوف يظل إن شاء الله- من أقدس ما يحافظ العربي عليه، ثم هل هذا الشعر العربي الفصيح يمكن أن يكون من قول "عفيرة" جديس، وأخيرًا فإن قصة زرقاء اليمامة هذه، إنما رويت في مكان آخر عند حديث الإخباريين عن تفرق ولد معد، وقريب منها ما جاء في قصة "الزباء" ملكة تدمر المشهورة(25).
وأما الفترة التي عاشت فيها قبيلتا "طسم وجديس"، فهي -طبقًا للرواية الآنفة الذكر- إنما كانت في أوائل القرن الرابع الميلادي، أو أوائل القرن الخامس الميلادي(26)، على أن "ده برسيفال" إنما يرى أن إغارة الحميريين على جديس إنما كان بعد عام 140م(27)، وهذا يعني أن القبيلتين قد انتهى أمرهما في حوالي منتصف القرن الثاني الميلادي، ومن ثم فقد أخطأ المؤرخون المسلمون في الربط بينهما وبين عاد الأولى(28)، والتي ربما عاشت في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، هذا إلى أن ذلك إنما يتعارض وما رآه البعض من أن بطليموس الجغرافي إنما كان يقصد باسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" قوم جديس، وأنهم كانوا معروفين حوالي عام 125(29).
أضف إلى ذلك أن الفترة التي حكم فيها التبابعة جنوب بلاد العرب، كانت فيها دولة "كندة" هي المسيطرة على منطقة اليمامة، ومن ثم يمكننا القول أن قبيلتي طسم وجديس كانتا معاصرتين لدولة ديدان، وربما انتهتا بنهايتها، أي أننا يمكننا أن نؤرخ لهما فيما بين القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ولا نشك في أن الكشف الأثري سوف يؤكد أو يعدل أو يأتي بتاريخ لا يبعد كثيرًا عن هذا التاريخ(30)، وإن كان هذا لا يمنع من وجود بعض جماعات من "جديس" بعد هذا التاريخ، دون أن يكون لها نفس الكيان الذي كان لها من قبل، ولعل هذه الجماعات هي التي عناها بطليموس، إن كان حقًّا أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" إنما يعني في نظره قوم جديس.
4- أميم:
وهم في نظر الأخباريين في طبقة طسم وجديس، وينسبون إلى "لاوذ بن عمليق" أو "لاوذ بن سام بن نوح" أو وبار بن إرم بن سام بن نوح" أو ما شابه ذلك من شجرات نسب(31)، وأن من شعوبهم "وبار بن أميم"، برمل عالج بين اليمامة والشحر، وأن الرمال قد انهارت عليهم بسبب معصية أصابوها، وإن بقيت منهم بقية دعيت "النسناس"(32).
ولعل أغرب ما في الأمر دعوى الأخباريين بأن ديار بين أميم، إنما كانت بأرض فارس، ومن ثم فقد رأى الفرس أنهم من أميم من ولده "كيومرث"(33)، ولست أدري كيف اعتبر المؤرخون المسلمون بني أميم هؤلاء من طبقة العرب العاربة، ثم هم في نفس الوقت من الفرس؟ ثم ما هي العلاقة بين "وبار" و"أميم"، وهل صحيح أن "وبار" هذا شقيق "كيومرث" جد الفرس(34)؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل هذه القبيلة من العرب البائدة، أم هي قبيلة فارسية؟.
وهناك خلاف بين المؤرخين الأوربيين على ذلك الشعب العربي الذي دعاه بطليموس "Jobaritae"، وهل هو شعب "وبار"(35) أم أنه "يوباب"، وأن هناك تحريفًا في النسخ فصارت "الباء" "B" "راء" R" ومن ثم فقد أصبح "Jobabitae" وإن كنا لا نملك على هذا التحريف ما يدعمه من أدلة، هذا فضلا عن أنه على موضع قريب من المكان الذي عناه بطليموس الجغرافي تقع أرض "وبار" بين اليمن ورمال يبرين(36).
ومع ذلك، فإن شعب وبار -في رأي كثير من المستشرقين- إنما هو من الشعوب الخرافية، وليس هذا بالأمر الغريب على قوم يرون في كل الكتابات العربية، أو معظمها، شيئًا أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة(37)، غير أن بعضًا منهم، ممن قدر له زيارة الأماكن التي ذهب الأخباريون إلى أنها أرض "وبار" لا يرون هذا الرأي(38)، كما أن ذكرى "وبار" لا تزال في ذاكرة العرب حتى اليوم، ففي الربع الخالي أماكن كثيرة يزعم الأعراب أنها كانت مواضع وبار(39)، وإن أضافوا إليها أساطير لا يقرها منطق ولا يقبلها عقل(40).
5- عبيل:
وعبيل هذه -فيما يرى الأخباريون- من ولد "عوص" أخي عاد(41) وأنهم هم الذين اختطوا مدينة يثرب، إلا أن العماليق سرعان ما طردوهم منها، ومن ثم فقد نزلوا في مكان بين مكة والمدينة، حيث اجتحفهم سيل فذهب بهم، وسمي المكان "الجحفة"(42) وتقرأ في التوراة عن "عيبال" أو "عوبال"(43)، على أنه من ولد "يقطان" "قحطان في المصادر العربية"، ومن هنا رأى فريق من علماء التوراة أن "عبيل" من الممكن أن يكون "عيبال" أو "عوبال"(44)، ويشير بطليموس إلى موضع يقال له "Avaiitae" على خليج يدعى بهذا الاسم "Avaiites Sinus" عليه مدينة تسمى "Avaiites Emporium" وسكانها يدعون "Avaites"، كما ورد الاسم عند "بليني" محرفًا إلى "Abaiitae" أو "Abaiites"، وربما كان هؤلاء هم "عوبال"، فيما يرى "فورستر"(45)، وقد يكون أبناء عوبال هم عبيل(46).هذا ويحاول البعض أن يوجد صلة بين "عبيل" وبين مكان في اليمن بهذا الاسم، هذا إلى جانب قرية تدعى "عبال" على مقربة من صنعاء(47)، على أن الحكم في مثل هذه الأمور، اعتمادًا على تشابه الأسماء، فيه من الخطورة ما فيه(48).
6- جرهم:
ينظر الأخباريون إلى جرهم على أنهم طبقتان، الواحدة من العرب البائدة، وقد كانت في مكة المكرمة على عهد عاد وثمود والعماليق(49)، ثم أبيدت بأيدي القحطانيين(50)، والأخرى من جرهم بن قحطان بن هود، وقد كانوا أصهارًا للنبي الكريم سيدنا إسماعيل عليه السلام(51)، وقد آلت إليهم ولاية البيت الحرام حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة ولقد نزلوا بعد ذلك بين مكة ويثرب، ثم هلكوا بوباء تفشى فيهم(52).
7- العمالقة:
ينسب الأخباريون العماليق إلى "عمليق بن لوذ بن سام بن نوح"(53)، وهو شقيق طسم، هذا ويبالغ الأخباريون في أهمية العماليق وسعة انتشارهم بدرجة لا يمكن أن يقبلها منطق أو يقرها عقل، فيجعلونهم أممًا كثيرة تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان والحجاز والشام ومصر، فضلا عن أهل المدينة وبنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق وسعد بن هزان، وأهل نجد، وبديل وراحل وغفار هذا، وأخيرًا فقد كان منهم الجبابرة بالشام -وهم الكنعانيون- والفراعين بمصر، والأرقم ملك الحجاز بتيماء(54).
ولا شك في أن الاضطراب إنما يبدو واضحًا في روايات الأخباريين هذه، فضلا عن أثر التوراة الواضح فيها، فهم يرون أن أهل مصر من العماليق(55) -والعماليق، في رأيهم، كجرهم من العرب العاربة-(56)، ولكنهم في نفس الوقت يرون أن أهل مصر من أبناء "مصرايم بن حام بن نوح"(57)، وتلك في الواقع إنما هي رواية التوراة(58)، وهكذا فإن المصريين -في نظر المؤرخين المسلمين- ساميون وحاميون في نفس الوقت، والأمر كذلك بالنسبة إلى الكنعانيين، فهم من العماليق، وهم في نفس الوقت، أبناء "حام بن نوح"(59)، وتلك -مرة أخرى- رواية التوراة(60) وإذا كان الحقد الدفين من يهود ضد المصريين والكنعانيين والبابليين، هو الذي دفع بكتبة التوراة إلى إخراج هذه الشعوب جميعًا من الساميين، وجعلها من أبناء حام، فإن النقل عن يهود -والغفلة كذلك- هي التي دفعت بالمؤرخين الإسلاميين إلى هذا الموقف الخاطئ.
وأما عن الانتشار غير المقبول للعماليق، فلعله في أحسن الأحوال، إنما كان لأن العماليق قبائل بدوية، انتشرت هنا وهناك في عديد من الأماكن بشبه الجزيرة العربية، ثم جاء الأخباريون وجعلوهم سكانا لمناطق لا تقتصر على بلاد العرب وحدها، وإنما شملت غيرها من المناطق المجاورة.
وأما أصل الكلمة "عماليق" أو عمالقة، فمجهول، وإن غلب على الظن أنهم نحتوه من اسم قبيلة عربية كانت مواطنها بجهة العقبة أو شماليها، ويسميهم البابليون "ماليق" أو "مالوق"، فأضاف إليها اليهود لفظ "عم" أي الشعب أو الأمة، فقالوا "عم ماليق" و "عم مالوق"، ثم جاءت العرب فقالت: "عماليق" أو "عمالقة"، ثم سرعان ما أطلقت الكلمة على طائفة كبيرة من العرب القدامى(61).
ويكاد يتفق الإخباريون على أن العماليق عرب صرحاء، ومن أقدم العرب زمانا، ولسانهم هو اللسان المضري التي نطقت به كل العرب البائدة(62)، بل ويذهب الطبري إلى أن عمليقا -وهو أبو العمالقة- كان أول من تكلم العربية حين ظعنوا من بابل، ومن ثم فقد كان يقال لهم -وكذا لجرهم- العرب العاربة(63)، ومرة أخرى يظهر أثر التوراة في هذه الرواية، فهي لا تتعارض مع الرواية المشهورة التي تجعل "يعرب بن قحطان" أول الناطقين بالعربية فحسب، وإنما تجعل السريانية أقدم من العربية، وذلك حين جعلتها لغة الناس جميعًا، غير أن القوم قد انحرفوا إلى عبادة الأوثان، خنوعًا "للنمرود بن كوش بن كنعان بن حام" ملك بابل، وصاحب إبراهيم عليه السلام، ومن ثم فقد أصبح القوم ذات يوم، وقد بلبل الله ألسنتهم، فلا يفهم الواحد منهم الآخر، إذ "أصبح لبني سام ثمانية عشر لسانًا، ولبني حام ثمانية عشر لسانًا، ولبني يافث سنة وثلاثون لسانًا، ففهم الله العربية عادًا وعبيل وثمود وجديس عمليق وطسم وأميم وبني يقطن بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح"(64).
وهكذا فالرواية إذن لا تجعل شرف السبق في النطق بالعربية مقصورًا على "عمليق" وإنما شاركه فيه آخرون، ثم إنها تؤرخ للحادث بعهد "نمرود" صاحب إبراهيم عليه السلام وإبراهيم -كما هو معروف- لا يعده الإخباريون من العرب العاربة، فضلا عن أن يكون من أقدم العرب زمانًا،(65)، ومن ثم فكل من ذكرهم الإخباريون على أنهم أصحاب السبق في النطق بالعربية، تأتي هذه الرواية فتجعلهم لا ينطقون بها إلا على أيام النمرود، صاحب إبراهيم عليه السلام "1940-1765ق. م".
وأخيرًا، فالرواية تحريف لرواية توراتية، أراد كاتبها أن يقدم لنا تفسيرًا لاختلاف اللغات والأجناس(66) -كما فعلت الرواية العربية- فقدم لنا تفسيرًا ساذجًا غير علمي، ذهب فيه إلى أن الله سبحانه وتعالى قد رأى أن سلالة الناجين من الطوفان يبنون برجًا بغية الوصول إليه في علياء سمائه، وكانوا يحسبون السماء أشبه بلوح زجاج يعلو بضع مئات من الأمتار، فخشي شرهم واحتاط لنفسه فهبط الأرض وبلبل ألسنتهم، فتقرقوا شذر مذر، ومن ثم فقد سميت المدينة "بابل"، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ثم بددهم على وجه الأرض(67)، أضف إلى ذلك كله، أن الرواية العربية إنما هي متأثرة بروايات تذهب إلى أن الموطن الأصلي للساميين إنما كان في بابل، بل ربما كانت أساسًا لنظريات حديثة تنحو هذا النحو(68).
وعلى أي حال، فالعماليق -في نظر التوراة- من أقدم الشعوب التي سكنت جنوب فلسطين، وقد عدهم "بلعام" أول الشعوب(69)، ربما لأنهم كانوا أول من اصطدم بالإسرائيليين في أثناء التيه في صحراوات سيناء، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه البعض -طبقًا لرواية توراتية-(70) من أنهم من سلالة "اليعازر بن عيسو" جد الآدوميين(71)، وحفيد إبراهيم، ذلك لأن هناك نصًّا توراتي آخر يجعلهم يقيمون في جنوب غرب البحر الميت على أيام الخليل إبراهيم(72)، وأنهم كانوا على أيام موسى الكليم منتشرين في كل صحراء التيه حتى حدود مصر، وفي معظم سيناء، وجنوب فلسطين، كما كان هناك "جبل العمالقة" في أرض أفرايم(73).
وليس هناك من شك في أن الصدام الحقيقي بين اليهود والعماليق إنما بدأ في المرحلة الأولى من التيه(74)، ونقرأ في التوراة أن العمالقة قد هاجموا بني إسرائيل المنهكين عند خروجهم من مصر وأسروا جميع مقاتليهم(75)، كما نقرأ كذلك في التوراة(76) أن العماليق قد أتوا لمحاربة بني إسرائيل في "رفيديم"، حيث ضرب موسى الحجر بعصاه، فانبثقت منه اثنتا عشرة عينًا، ويذهب "يوسف بن متى" المؤرخ اليهودي، إلى أن الإسرائيليين حينما وصلوا إلى "رفيديم" كانوا في حالة يرثى لها من العطش، ومن ثم فقد كان هجوم العمالقة عليهم ناجحًا(77).
وعلى أي حال، فإذا كانت "رفيديم" والتي أطلق الإسرائيليون عليها "مريبة" -وكذا قادش القريبة منها- تقعان حول البتراء، فهما إذن في جوار أرض العماليق الذين كانوا يتمكنون في سهولة من أن يهاجموا بني إسرائيل، متنقلين من معسكر إلى آخر، ومن أن يأسروا مقاتليهم(78)، غير أن العمالقة قد أعانوا أعداء آخرين لبني إسرائيل، حتى بعد استقرارهم في فلسطين، ومن ثم فإننا نقرأ في التوراة(79) أن العمالقة قد اتحدوا مع "عجلون" ملك مؤاب، الذي انتزع منهم مدينة النخل "أريحا"، كما كانوا كذلك حلفاء لأهل مدين وبني المشرق "بني قدم" الذين كانوا يسكنون في سهل يزرعيل، وهكذا استمر العماليق يغزون بني إسرائيل في فلسطين(80)، تقول التوراة: "إذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق، ويتلفون غلة الارض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوة الحياة، ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا"(81).
وهكذا بدأ الإسرائيليون يفكرون في الانتقام من العماليق، وكان "شاول" "1020-100ق. م"(82) هو أول ملك إسرائيلي يحارب العماليق، ونقرأ في التوراة أن الربَّ أمر شاؤل أن يحارب العماليق ويبيد كل ممتلكاتهم من ثيران وماشية وجمال وحمير(83)، ومن هذا نفهم أن العمالقة إنما كانوا يمتلكون عددًا من القرى والديار، وأنهم قد عنوا بحرث الأرض وزراعتها، فضلا عن تربية الماشية والأنعام(84).
وطبقًا لرواية التوراة(85)، فإن شاؤل قد نجح في مهمته، وحقق للإسرائيليين -ولأول مرة- نصرًا على العماليق، كما يفهم من الرواية نفسها أن العمالقة إنما كانوا يسيطرون على طرق القوافل فيما بين جنوب فلسطين وشمال شبه الجزيرة العربية.
وكان هناك طريقان يقعان في أرض العماليق، الواحد عن طريق برزخ السويس، والآخر عن طريق خليج العقبة(86)، ولما كانت العلاقات التجارية بين مصر وغزة من ناحية، وبين جنوب بلاد العرب من ناحية أخرى، في غاية من الازدهار والنشاط، فقد كانت القوافل التجارية القادمة من غزة إلى العقبة تمر في أرض العماليق، فليس من شك في أنها إنما كانت تعترف بسلطتهم في هذا الجزء من الطريق القادم من غزة متجهًا إلى مصر، والأمر كذلك بالنسبة إلى جزئه الآخر المتجه نحو الجنوب الشرقي، أو أنها على الأقل كانت خاضعة لسلطة العمالقة في هذا الجزء المتاخم لساحل البحر من الطريق(87).
وفي أيام داود عليه السلام "1000-960ق. م"(88) تدق الحرب طبولها من جديد بين بني إسرائيل والعماليق، وطبقًا لرواية التوراة(89) فإن العمالقة قد غزوا بني إسرائيل، "وضربوا صقلع وأحرقوها بالنار وسبوا نساءها"، إلا أن داود قد كتب له نجحًا بعيد المدى في رد الغزاة، وفي استعادة الغنائم منهم، بل وفي استعادة بعض السبايا -ومنهم امرأتيه أخينوعم وأبجايل- كما تمكن قائد "يؤاب" من أن يخرجهم من ديارهم الأولى، وإن ظلت بقية منهم تسكن الجزء الجنوبي من جبل سعير، حتى أتى المهاجرون من قبائل شمعون فاحتلوا ديارهم(90) ، ومن ثم أصبحنا لا نجد للعمالقة بعد ذلك ذكرًا في النصوص.
بقيت نقطة أخيرة تتصل بعدم ذكر العمالقة في جملة قبائل العرب، وهذا "أولًا" لا يدل على أن العمالقة لم يكونوا عربًا، وثانيا" لأن العبرانيين لم يطلقوا لفظة "عرب" إلا على أعراب البادية، ولا سيما بادية الشام(91)، وثالثا" لأن العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها بنو إسرائيل، ومن ثم فقد حملوا لهم حقدًا دفينًا، واليهود -كما معروف- قد تأثروا بعواطفهم نحو الشعوب التي يكتبون عنها، وأخيرًا "رابعًا" فإن العمالقة -في نظر اليهود- أقدم من القحطانيين والعدنايين، سواء بسواء(92).
8- حضوراء:
يروي الأخباريون أن حضورا من نسل قحطان، وأنهم كانوا يقيمون بالرس، وهو إما موضع بحضرموت أو اليمامة، أو مكان كانت فيه ديار نفر من ثمود(93)، وإن كان "الهمداني" يرى أن الرس بناحية "صيهد"، وهي بلدة ما بين بيجان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعًا إلى حضرموت، كما فسر الرس بمعنى "البئر القليلة الماء"(94)، وذهب اليعقوبي إلى أنها بين العراق والشام إلى حد الحجاز(95).
وقد ربط القرآن الكريم بين أصحاب الرس وبين عاد وثمود مرة(96)، وبينهم وبين قوم نوح وثمود مرة أخرى(97)، واختلف المفسرون فيمن أرسل إليهم نبيًّا من رب العالمين، فذهب فريق إلى أنه "شعيب بن ذي مهرع" أو مهدم، ومسجده اليوم في رأس جبل حدة حضور بن عدي، ويعرف رأس الجبل ببيت خولان(98)، وذهب فريق آخر إلى أنه "خالد بن سنان"، وكان رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وعلى آله- قد تحدث عنه، فقال: "ذاك نبي ضيعه قومه"(99) ، وذهب فريق ثالث إلى أنه "حنظلة بن صفوان"، وقد وجد عند قبره هذه الكتابة "أنا حنظلة بن صفوان، أنا رسول الله، بعثني الله إلى حمير وهمدان والعريب من أهل اليمن فكذبوني وقتلوني"(100).
ويروي الأخباريون أن بختنصر- هو الإمبراطور البابلي نبوخذ نصر "605-562ق. م" قد غزا حضورا وأعمل السيف فيهم، فقتل الغالبية العظمى منهم، بينما هجر بقيتهم إلى أماكن أخرى من إمبراطورتيه، وأما سبب ذلك فأن القوم قد كفروا بنبي لهم يدعى "شعيب بن مهدم بن ذي مهدم بن القدم بن حضور"، ومن ثم فقد أوحى إلى النبي اليهودي، "برخيا بن أخيبا" أن يترك نجران وأن يذهب إلى نبوخذ نصر، وأن يأمره "بغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتل مقاتليهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم بسبب كفرهم"(101).
ويصدع "نبوخذ نصر" بأمر "برخيا" اليهودي، ويبدأ بمن في بلاده من تجار العرب، فيبني لهم "حيرا" في النجف يحبسهم فيه، ثم ينادي في الناس بالغزو، وتسمع العرب بما حدث فتأتي إلى "نبوخذ نصر"، تطلب الأمان وتعلن الولاء والخضوع، فلا يقبل الملك البابلي ذلك منهم إلا بعد استشارة "برخيا"، ثم ينزلهم "السواد" على ضفاف الفرات، حيث يبنون معسكرًا لهم يدعونه "الأنبار"، ثم سرعان ما يشمل العفو العرب الأولين من أهل الحيرة، الذين يستقرون هناك طيلة أيام نبوخذ نصر في هذه الدنيا، فإذا ما انتقل الرجل إلى العالم الآخر، انضم القوم إلى أهل الأنبار وعاشوا بينهم(102).
وتستمر الرواية -ولعلها هنا تعتمد على مصدر غير مصدرها الأول- فتذهب إلى أن الله قد أوحى إلى "إرمياء" و"برخيا" أن يذهبا إلى "معد بن عدنان" ويحملانه إلى "حران" ليحفظا عليه حياته هناك، لأن الله سوف يخرج من صلبه من يختم به الأنبياء -المصطفى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ولأن بني إسرائيل قد بدؤوا منذ مولد "معد بن عدنان" يقتلون أنبياءهم، وكان آخر من قُتِلَ "يحيى بن زكريا" عليهما السلام، كما فعل ذلك أهل الرس وأهل حضورا بأنبيائهم، وأن النبيّيْن اليهودييْن -إرمياء وبرخيا- قد كتب لهما نجحا بعيد المدى في تحقيق مهمتهما، فقد حملا "معد" إلى حران في ساعة من زمان، وذلك لأن "برخيا" قد استعمل "البراق في مهمته، فحمل "معد" عليه، وأردف هو خلفه، ولأن الأرض كانت تُطْوَى لهما طيًّا.
وفي هذه الأثناء كان "نبوخذ نصر" قد جمع جيشًا كثيفًا لإفناء سكان بلاد العرب -بناء على رؤيا رآها في المنام، أو لأن برخيا بوحي من ربه قد أمره بذلك- وأيًّا ما كان السبب، فإن "عدنان" والد معد، قد جمع هو كذلك جيشًا كثيفًا من العرب لمقاومة هجوم الملك البابلي، وسرعان ما التقى الجيشان في "ذات عرق" ودار بينهما قتال شديد، كانت الغلبة فيه من نصيب البابليين، ومن ثم فقد تابع "نبوخذ نصر" مسيرته في بلاد العرب، مطاردًا جيش "عدنان" المهزوم، حتى إذا ما أتى "حضورا"، كان "عدنان" قد جمع العرب -من عربة إلى حضورا- مرة ثانية، وخندق كل واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، إلا أن "نبوخذ نصر" قد أعدَّ للعرب كمينًا، وسرعان ما نادى منادٍ من السماء "يا لثارات الأنبياء"، فأخذتِ العربَ السيوفُ من كلِّ جانب، وحقق العاهل البابلي نصرًا كاملا على العرب، وعاد بجم غفير من الأسرى والسبايا، حيث أسكنهم "الأنبار"، ثم ما أن يمضي حين من الدهر، حتى ينتقل "عدنان" إلى الدار الآخرة، وتبقى بلاد العرب بعده -وطوال أيام نبوخذ نصر- خرابًا.
_________________________________
(1) عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص49.
(2) عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص86.
(3) محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص30-31.
(4) قدم المؤلف دراسة مفصلة عن "قوم" شغلت الفصل السادس من كتابه "دراسات في التاريخ القرآني" "الجزء الأول- في بلاد العرب" ناقش فيها المؤلف الموضوعات التالية. "1- العاديون والعرب البائدة. 2- قصة عاد في القرآن الكريم 3- قصة عاد ومحاولة ربطها بالتوراة. 4- موقع منطقة عاد. 5- مبالغات عن العاديين 6- سيدنا هود عليه السام 7- عصر قوم هود" ومن ثم فلسنا في حاجة إلى تكرار ما كتبناه هناك.
(5) مروج الذهب 2/ 11.
(6) مقدمة ابن خلدون ص613-614 "بيروت 1961".
(7) مروج الذهب 2/ 12-14.
(8) جواد علي 1/ 299.
(9) مروج الذهب 2/ 11، وانظر: ابن كثير، حيث يرى أن ما ورد في سورة الأحقاف كان عن عاد الثانية، وغير ذلك كله عن عاد الأولى "البداية والنهاية 1/ 130".
(10) ابن كثير 1/ 125.
(11) عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص53.
(12) ابن كثير 1/ 130، أبو الفداء 1/ 12، الطبري 1/ 226-227، ابن الأثير 1/ 89، مروج الذهب 2/ 14، نهاية الأرب 13/ 71، البكري 2/ 426، المحبر ص384، المعارف ص14، ياقوت 2/ 221، تاريخ الخميس ص84.
(13) جرجي زيدان: المرجع السابق ص67 مبروك نافع: المرجع السابق ص36.
(14) أحمد حسين شرف الدين: المرجع السابق ص61.
(15) عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص90-91.
(16) جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول ص335
وكذا D.H. Mueller, Suedarabische Studien, P.67
(17) قاموس الكتاب المقدس 2/ 294، مجلة الهلال، العدد 10 ص776 "القاهرة 1897م".
(18) مروج الذهب 2/ 114.
(19) الهمداني: صفة جزيرة العرب ص140-141، ص160، 164، ياقوت 2/ 221، 377، البكري 1/ 85، 2/ 405، 3/ 1070-1071، صحيح الأخبار 1/ 195، 2/ 33، 170، جرجي زيدان: المرجع السابق ص69070، جواد علي 1/ 339-340، سعد زغلول: المرجع السابق ص123-127.
(20) تاريخ الطبري 1/ 629-632، المسعودي: مروج الذهب 2/ 111-119، أخبار الزمان ص124-126، ابن الأثير 1/ 350-354، تاريخ ابن خلدون 2/ 24-25، جرجي زيدان: المرجع السابق ص69-70، المقدسي: البدء والتأريخ 3/ 28-29، المعارف ص274-275 البكري 2/ 407، أخبار عبيد بن شريه ص483-488، الأخبار الطوال ص14-16، ياقوت 5/ 442-447، سعد زغلول المرجع السابق ص123-124، مبروك نافع: المرجع السابق ص37-39، محمد أحمد جاد المولى وآخرون: أيام العرب في الجاهلية ص396-398.
(21) وفاء الوفا 1/ 115-126-129، ابن الأثير 1/ 656-658، الاشتقاق 1/ 29، 270، ياقوت 2/ 242، 5/ 84-87، أبو الفداء 1/ 123، المقدسي 1/ 179-180، ابن خلدون 2/ 2870289، الأغاني 29/ 96-7-، إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص56.
(22) ابن الأثير 1/ 232-233، تاريخ الخميس ص276.
(23) تاريخ الطبري 2/ 128-129، ابن الأثير 1/ 423-423.
(24) ابن الأثير 1/ 233.
(25) سوف نناقش ذلك كله في مكانه من هذه الدراسة.
(26) جرجي زيدان: المرجع السابق ص69، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص39، سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص124-125؟
(27) Caussin De Perceval, Essai Sur L'histoire Des Arabes Avant L'islamisme, I, P.89
(28) اللسان 6/ 25.
(29) Encyclopaedia Of Islam, I, P.992. وكذا Ptolemy, I, 29
(30) عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق 91.
(31) تاريخ الطبري 1/ 206، ياقوت 5/ 356، 358، الطبقات الكبرى 1/ 19، نهاية الأرب للقلقشندي ص82.
(32) تاريخ الطبري 1/ 203-204، ياقوت 4/ 70، 5/ 356-358، 442، البكري 2/ 375-376، 3/ 913، 4/ 1366-1367، المقدسي 3/ 30.
(33) تاريخ ابن خلدون 2/ 28، مروج الذهب 1/ 260-266، 2/ 122، البكري 2/ 376.
(34) الإكليل 1/ 77، مروج الذهب 2/ 122، جواد علي 1/ 340-341.
(35) C. Forster, Op. Cit., I, P.173f, Ii, P.270. وكذا A. Sprenger, Op. Cit., P.296
(36) جواد علي: المرجع السابق ص341، وكذا
C. Forster, Op. Cit., I, P.173, 177, Ii, P.270
(37) ياقوت 5/ 356-358، البكري 4/ 1366، منتخبات ص113.
A. Sprenger, Op. Cit., P.296
(38) جواد علي 1/ 342.
وكذا El, 4, P.1077. وكذا J.B. Philby. The Heart Of Arabia, Ii, P.353
(39) R.H. Sanger, The Arabian Peninsula, Cornell University Press, 1954, P.126, 132.
وكذا J.B. Philby, the Empty Quarter, N.Y., 1933, P.165
(40) ياقوت 5/ 357-359.
(41)تاريخ ابن خلدون 2/ 21، ابن حبيب: المحبر ص395.
(42) مروج الذهب 2/ 127، ياقوت 2/ 111، البكري 2/ 367-368، الطبقات الكبرى 1/ 20، تاريخ الطبري 1/ 208، نهاية الأرب للقلقشندي ص348، الحربي ص415، محمد بن حبيب: كتاب المحبر ص385 "حيدر أباد الدكن 1942".
(43) تكوين 10: 28، أخبار أيام أول 1: 22.
(44) J. Hastings, Op. Cit., P.201. وكذا T.K. Cheyne, Op. Cit., P.4632.
(45) C. Forster, Op. Cit., I, P.148-9.
(46) جواد علي 1/ 344.
(47) جواد علي 1/ 344.
وكذا Hugh Scott, In The High Yemen, London, 1947, P.185.
(48)جواد علي 1/ 344
(49) الإكليل 1/ 78، نهاية الأرب للقلقشندي ص211، أخبار عبيد بن شريه ص314.
(50) Ency. Of Islam, I, P.1066.
(51) صبح الأعشى 1/ 314، تاريخ ابن خلدون 2/ 30، تاريخ الطبري 1/ 256، 314، ابن الأثير 1/ 103-104، 125، الإكليل 1/ 116، أخبار عبيد بن شربه ص315، 396-398، وانظر: سعد زغلول: المرجع السابق ص127-129، ثم قارن: كتاب التيجان ص177-178، ثم قارن كذلك: رواية التوراة عن زواج سيدنا إسماعيل بمصرية وليس بيمنية "تكوين 21: 21". وانظر: El, I, P.1066
(52) البلاذري: أنساب الأشراف ص8-7، صبح الأعشى 1/ 315، نهاية الأرب للقلقشندي ص211، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص99؛ ثم قارن: كتاب التيجان ص180، سعد زغلول: المرجع السابق ص131-133.
(53) تاريخ الطبري 1/ 207، الإكليل 2/ 410، المعارف ص13.
(54) الإكليل 1/ 74-77، تاريخ الطبري 1/ 206، نهاية الأرب للقلقشندي ص150-151، قاموس الكتاب المقدس 2/ 112، جواد علي 1/ 346
وكذا Hastings, Op. Cit., P.24 وكذا The Jewish Encyclopedia, I, P.218
وكذا El, I, 325
(55) انظر كتابنا "حركات التحرير في مصر القديمة" القاهرة 1978، دار المعارف ص131، 134، رشيد رضا، تفسير سورة يوسف ص68، تاريخ الطبري 1/ 335-336، 342، 363، تفسير القرطبي ص3427 "طبعة الشعب"، ابن كثير: قصص الأنبياء 1/ 306، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 101، 141، 169، جرجي زيدان: المرجع السابق ص60، وكذا
Josephus, Wars Of The Jews, I, P.19.
(56) تاريخ الطبري 1/ 2-7.
(57) ابن الأثير 1/ 81، تاريخ الطبري 1/ 206.
(58) تكوين 10: 60.
(59) تاريخ الطبري 1/ 206.
(60) تكوين 10: 60.
(61) جرجي زيدان: المرجع السابق ص42-43,
(62) جواد علي 1/ 346 وكذا. Ei, I, P.325.
(63) تاريخ الطبري 1/ 207.
(64) تاريخ الطبري 1/ 207-208، البكري 1/ 219، الأخبار الطوال ص2، المحبر ص382-385، أخبار الزمان للمسعودي ص204، 209، تاريخ الطبري 1/ 288-290، ابن الأثير 1/ 115، تاريخ الخميس ص95-96.
(65) انظر: الفصل الرابع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، كتابنا "إسرائيل" ص60-214
(66) تكوين 11: 1-9.
(67) عصام حفني ناصف: محنة التوراة على أيدي ص42 وكذا تكوين 11: 1-9
وكذا J. Gray, Near Eastern Mythology, P.104
(68) انظر: مقالنا "الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي مجلة كلية اللغة العربية، العدد الرابع، الرياض 1974 ص245-271.
(69) عدد 24: 20.
(70) تكوين 36: 12
(71) قاموس الكتاب المقدس ص636 وكذا M.F. Unger, Op. Cit., P.45
(72) تكوين 14: 7
(73) قضاة 12: 15.
(74) The Jewish Encyclopaedia, I, P.218 وكذا A. Musil, The Northern Hegae P.460
(75) تثنية 25: 17-19.
(76) خروج 17: 7-16
(77) ألويس موسل: شمال الحجاز ص33، كتابنا "إسرائيل" ص313، وكذا
W.M.F. Petrie, Egypt and Israel, London, 1925, P.4
(78) ألويس موسل: شمال الحجاز ص33.
(79) قضاة 3: 13.
(80) ألويس موسل: المرجع السابق ص33-34.
(81) قضاة 6: 3-4.
(82) انظر عن الخلافات في فترة حكم شاؤل، كتابنا "إسرائيل" ص397.
(83)صموئيل أول 15: 3-9.
(84)ألويس موسل: شمال الحجاز ص34.
(85) صموئيل أول 15: 7.
(86) M.F. Unger.htm's Bible Dictionary, Chicago, 1970, P.41
(87) ألويس موسل: شمال الحجاز ص35.
(88) انظر: عن الخلافات في فترة حكم داود، كتابنا "إسرائيل" ص417-418.
(89)صموئيل أول: 30: 1-30.
(90) أخبار أيام أول: 4: 33.
(91) A. Hastings, A Dictionary Of The Bible, Edinburgh, 1936, P.77
(92) جواد علي: المرجع السابق ص347.
(93) ياقوت 3/ 43-44، نهاية الأرب 13/ 88، تفسير الطبري 19/ 14، تفسير الييضاوي 2/ 145
(94) الإكليل 1/ 121، البكري 2/ 652، 3/ 849، ياقوت 3/ 448، قارن المسعودي: مروج الذهب 2/ 131.
(95) مروج الذهب 2/ 131.
(96) سورة الفرقان: آية 38، وانظر: تفسير الطبري 19/ 13-16 "طبعة الحلبي 1954"، تفسير البيضاوي 2/ 145 "طبعة الحلبي 1968"، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 145.
(97) سورة ق: آية 12
(98) تاريخ ابن خلدون 2/ 20، نهاية الأرب 2/ 20، البكري 2/ 455-456، الإكليل 2/ 285-286، 400 مروج الذهب 2/ 1340.
(99) الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 468، جواد علي 1/ 348.
(100)الإكليل 1/ 120، كتاب المحبر ص6.
(101) تاريخ الطبري 1/ 558-560، ابن الأثير 1/ 270-272، مروج الذهب 2/ 130-131، كتاب المحبر ص5-7، الإكليل 2/ 285-289.
(102) ياقوت 2/ 328-331، الإكليل 2/ 286.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|