المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17431 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تناسق نظمه وتناسب نغمه  
  
2626   04:20 مساءاً   التاريخ: 5-11-2014
المؤلف : محمّد هادي معرفة
الكتاب أو المصدر : تلخيص التمهيد
الجزء والصفحة : ج2 ، ص267-277.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / الإعجاز القرآني / الإعجاز البلاغي والبياني /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-11-2014 3197
التاريخ: 30-10-2015 1347
التاريخ: 5-11-2014 2971
التاريخ: 5-11-2014 2535

هو جانب خطير من إعجاز القرآن البياني ، لَمَسته العرب منذ أوّل يومها فبهرتهم روعته ودهشتهم رنّته ، فأخضعهم للاعتراف في النهاية بأنّه كلام يفوق طوع البشر وأنّه كلام الله .

إنّه جانب ( اتّساق نظمه وتناسب نغمه ) وإيقاعاته الموسيقية الساطية على الأحاسيس ، والآخذة بمجامع القلوب ، وهذا الجمال التوقيعي للقرآن يبدو جلياً لكلّ مَن يستمع إلى آياته تُتلى عليه ، حتى ولو كان من غير العرب ، فكيف بالعرب أنفسهم ، وأوّل شيء تحسّه الآذان عند سماع القرآن هو ذا نظامه الصوتيّ البديع ، الذي قُسّمت فيه الحركات والسكونات تقسيماً متنوّعاً ومتوزّعاً على على الألحان الموسيقية الرقيقة ، فيُنوِّع ويُجدِّد نشاطَ السامع عند سماعه ، ووُزّعت في تضاعيفه حروف المدّ والغنّة توزيعاً بالقسط ، يُساعد على ترجيع الصوت به ، وتهاوى النَفَس فيه آناً بعد آن ، إلى أن يصل قمّتها في الفاصلة ، فيجد عندها راحته الكبرى ، على ما فصّله أساتذة الترتيل .

وربّما استمع الإنسان إلى قصيدة ، وهي تتشابه أهواؤها وتتساوق أنغامها ، ولكنّه لا يلبث أن يملّها ، ولا سيّما إذا أُعيدت عليه وكُرّرت بتوقيع واحد ، بينما  الإنسان من القرآن في لحن متنوّع ونغم متجدّد ، ينتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل (1) ، على أوضاع مختلفة ، يأخذ منها كل وَتر من أوتار القلب نصيبه بسواء ، فلا يعرو الإنسان على كثرة ترداده مَلال أو سأم ، بل لا يفتأ يطلب منه المزيد ... .

وأحياناً كان العرب تعمد إلى ما يقرب من هذا النحو من التنظيم الصوتي في أشعارها لكنّها تذهب مذهب الإسراف والاستهواء المُملّ في الأغلب ، ولا سيّما عند التكرير ، أمّا في منثور كلامها ، سواء المرسل منه أو المسجوع ، فلم تكن عَهِدته قطّ ولا كان يتهيّأ لها بتلك السهولة والمرونة والعذوبة التي في القرآن الكريم ، بل ربّما كان يقع لها في أجود منثورها عيوب تغضّ من سلاسة تركيبه ، بما لا يمكن معها من إجادة ترتيله ، إلاّ بتعمل يبدو عليه أثر التكلّف والتعسّف الأمر الذي كان يحطّ من شأن الكلام .

فلا عجب إذاً أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن ـ في خيال العرب ـ أنّه شعر ، وإذا لم يكن بشعر فهو سحر ، وهذا يكشف عن مدى بهر العرب وحيرتهم تجاه هذا النوع من الكلام المُنضّد البديع ، كان له من النثر جلاله وروعته ، ومن الشعر جماله ومتعته !!

قال الأُستاذ درّاز : ويجد الإنسان لذّةً بل وتعتريه نشوة إذا ما طَرق سمعه جواهر حروف القرآن ، خارجةً من مخارجها الشحيحة ، من نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها : هذا ينقر ، وذاك يصفر، وثالث يهمس ، ورابع يجهر ، وآخر ينزلق عليه النَفَس ، وآخر يحتبس عنده النَفَس ، فترى الجمال النغمي ماثلاً بين يديك في مجموعة مختلفة ولكنّها مؤتلفة لا كركرة ولا ثرثرة ، ولا رخاوة ولا مُعاظَلَة ، ولا تناكر ولا تنافر ، وهكذا ترى كلاماً ليس بالبَدَويّ الجافي ولا بالحضريّ الفاتر ، بل هو ممزوج مؤلّف من جزالة ذاك ورقّة هذا ، مزيجاً كأنّه عصارة اللغتين وسلالة اللهجتين .

نعم من هذا الثوب القشيب يتألّف جمال القرآن اللفظي ، وليس الشأن في هذا الغلاف إلاّ كشأن الأصداف ، تتضمّن لآلي نفيسة ، وتحتضن جواهر ثمينة ، فإن لم يُلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين ، ولم تحجبك بهجة الستار عمّا وراءه من السرّ المصون ، ففُليت القشرة عن لبّها ، وكشفت الصدفة عن دُرّها ، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى تلك الفخامة المعنوية ، تجلّى لك ما هو أبهى وأبهر ، ولقيت منه ما هو أبدع وأروع ، تلك روح القرآن وحقيقته ، وجذوة موسى التي جذبته إلى نار الشجرة في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة ، فهناك نسمة الروح القدسية : {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص : 30] (2) .

وذكر سيّد قطب عن الإيقاع الموسيقي في القرآن أنّه من إشعاع نظمه الخاص ، وتابع لانسجام الحروف في الكلمة ، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة ؛ وبذلك قد جمع القرآن بين مزايا النثر وخصائص الشعر معاً ، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحّدة والتفعيلات التامّة ، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامّة ، وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر الموسيقي الداخلية ، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تُغني عن التفاعيل والتقفية التي تُغني عن القوافي ، فشأنه شأن النثر والنظم جميعاً .

وحيثما تلا الإنسان القرآن أحسّ بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه ، يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار ، والفواصل السريعة ، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة ، يتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال ، لكنّه على كل حال ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني .

ثمّ أخذ في ضرب المثال ، قال :  وها نحن أُولاء نتلو سورة النجم مثلاً .

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم : 1 - 22].

هذه فواصل متساوية في الوزن تقريباً ـ على نظام غير نظام الشعر العربي ـ متّحدة في حرف التقفية تماماً ، ذات إيقاع موسيقي متّحد تبعاً لهذا وذلك ، وتبعاً لأمر آخر لا يظهر ظهور الوزن والقافية ؛ لأنّه ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات ، وتناسق الكلمات في الجمل ، ومردّه إلى الحسّ الداخلي والإدراك الموسيقي ، الذي يَفرق بين إيقاع موسيقي ، وإيقاعٍ ولو اتّحدت الفواصل والأوزان .

والإيقاع الموسيقي هنا متوسط الزمن تبعاً لتوسط الجملة الموسيقية في الطول ، متّحد تبعاً لتوحّد الأُسلوب الموسيقي ، مسترسل الرويّ كجوّ الحديث الذي يشبه التسلسل القصصي ، وهذا كله ملحوظ ، وفي بعض الفواصل يبدو ذلك جلياً  مثل : {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم : 19، 20] ، فلو أنّك قلت : أفرأيتم اللات والعزّى الثالثة لاختلت القافية ، ولتأثر الإيقاع ، ولو قلت : افرأيتم اللات والعزّى ومَناة ومَناة الأُخرى فالوزن يختل ، وكذلك في قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى } فلو قلت : ألكم الذكر وله الأُنثى تلك قسمةٌ ضيزى لاختلّ المستقيم بكلمة ( إذاً ) .

ولا يعني هذا أنّ كلمة ( الأُخرى ) أو كلمة ( الثالثة ) أو كلمة ( إذاً ) زائدة لمجرّد القافية أو الوزن ، فهي ضرورية في السياق لنكت معنوية خاصّة ، وتلك ميزة فنّية أُخرى أن تأتي لتؤدّي معنى في السياق ، وتؤدّي تناسباً في الإيقاع ، دون أن يطغى هذا على ذلك ، أو يخضع النظم للضرورات .

ملاحظة اتّزان الإيقاع في الآيات والفواصل تبدو واضحة في كل موضع على نحو ما ذكرنا أو قريباً من هذه الدقّة الكبرى . ودليل ذلك أن يعدّل في التعبير عن الصورة القياسية للكلمة إلى صورة خاصّة ، أو أن يُبنى النسق عل نحو يختلّ إذا قدّمت أو أُخّرت فيه أو عدلت في النظم أيّ تعديل .

مثال الحالة الأُولى حكاية قول إبراهيم :

{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ *الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [الشعراء : 75 - 82].

فقد خُطفت ياء المتكلّم في ( يهدين ويسقين ويشفين ويحيين ) محافظة على حرف القافية مع ( تعبدون ، والأقدمون ، والدين... ) ومثله خَطف الياء الأصلية في الكلمة : نحو {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر : 1 - 5]، فياء ( يسر ) حذفت قصداً للانسجام مع ( الفجر ، وعشر ، والوتر ، وحجر ... ) .

ومثل {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر : 6-7] فإذا أنت لم تخطف الياء في ( الداع ) أحسست ما يشبه الكسر في وزن الشعر .

ومثله : {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف : 64] فلو مددت ياء نبغي ـ كما هو القياس ـ لاختلّ الوزن نوعاً من الاختلال .

ومثل هذا يقع عند زيادة هاء السكت على ياء الكلمة أو ياء المتكلّم في مثل : {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة : 8 - 11] ، ومثل : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } [الحاقة : 19 - 21] .

ومثال الحالة الثانية : أن لا يكون هناك عدول عن صيغة قياسية ، ومع ذلك تُلحظ الموسيقى الكامنة في التركيب ، والتي تختلّ لو غَيّرت نظامه مثل : {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم : 2 - 4] فلو حاولت مثلاً أن تُغيّر فقط وضع كلمة ( منّي ) فتجعلها سابقة لكلمة ( العظم ) : قال ربي إني وهن مني العظم ، لأحسست بما يشبه الكسر في وزن الشعر ؛ ذلك أنّها تتوازن مع ( إنّي ) في صدر الفقرة هكذا : ( قال ربّ إنّي ) ( وهن العظمُ منّي ) ، على أنّ هناك نوعاً من الموسيقى الداخلية يُلحظ ولا يشرح ـ كما أسلفنا ـ وهو كامن في نسيج اللفظة المفردة وتركيب الجملة الواحدة ، وهو يُدرك بحاسّة خفية وهبة لدُنية .

وهكذا تتبدّى تلك الموسيقى الداخلية في بناء التعبير القرآني ، موزونة بميزان شديد الحسّاسية ، تُميله أخفّ الحركات والاهتزازات ، ولو لم يكن شعراً ، ولو لم يتقيد بقيود الشعر الكثيرة ، التي تحدّ من الحرّية الكاملة في التعبير الدقيق عن القصد المطلوب (3) .

وقال الرافعي : كان العرب يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر ، وكان أُسلوب الكلام عندهم واحداً : حرّاً في المنطق وجزلاً في الخطاب ، في فصاحة كانت تؤاتيهم الفطرة وتمدّهم الطبيعة ، فلمّا ورد عليهم أُسلوب القرآن رَأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة ، ليس فيها إعنات ولا مُعاياة ، ووجوه تركيبه ونسق حروفه ونظم جمله وعبائره ، ما أذهلهم هيبةً وروعةً ، حتى أحسّوا بضعف الفطرة وتخلّف المَلَكة ، ورأى بلغاؤهم جنساً من الكلام غير ما هم فيه ، رأوا حروفه في كلماته ، وكلماته في جمله ، ألحاناً نغمية رائعة ، كأنّها لائتلافها وتناسقها قطعة واحدة ، قراءتها هي توقيعها ، فلمْ يفتهم هذا المعنى وكان أبين لعجزهم .

وكل الذين يُدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسية يرون أن ليس في الفنّ العربي بجملته شيء يعدل هذا التناسب الطبيعي في ألفاظ القرآن وأصوات حروفه ، وما أحد يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفاً واحداً ، والقرآن يعلو على الموسيقى إنّه مع هذه الخاصّة العجيبة ليس من الموسيقى .

إنّ مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي في الأنغام الموسيقية ، بسبب تنويع الصوت مدّاً وغنّةً وليناً وشدّةً وما يتهيّأ له من حركات مختلفة ، وبمقدار ما يكسبه من الحَدرة والارتفاع والاهتزاز ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى .

فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها ، في هزّ  الشعور واستثارة الوجد النفسي ، ومن هذه الجهة تراه يغلب على طبع كل عربيّ أو عجميّ ، وبذلك يؤوّل ما ورد من الحثّ على تحسين الصوت عند قراءة القرآن .

وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلاّ صوراً تامّة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى ، وهي متّفقة مع آياتها في قرارات الصوت اتّفاقاً عجيباً يُلاءم نوع الصوت ، والوجه الذي يُساق عليه ، بما ليس وراءه من العجب مذهب ، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم ، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها ، أو المدّ ، وهو كذلك طبيعيّ في القرآن (4) .

وقال بعض أهل الفنّ : كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المدّ واللين وإلحاق النون ، وحكمة وجودها التمكّن من التطريب بذلك ، كما قال سيبويه : إنّهم ـ أي العرب ـ إذا ترنّموا يُلحقون الألف والياء والنون ؛ لأنّهم أرادوا مدّ الصوت ، ويتركون ذلك إذا لم يترنّموا ، وجاء في القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع .

فإن لم تنتِه بواحدة من هذه ـ كأن انتهت بسكون حرف ـ كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها ، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه ، وأكثر ما يكون في الجمل القصار ، ولا يكون إلاّ بحرف قويّ يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما ممّا هو موصوف بضروب أُخرى من النظم الموسيقي .

وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة ، وأثرها طبيعيّ في كل نفس ، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يُخاطب به كل نفس ، سواء كانت تفهمه أو لا تفهمه .

فقد تألّفت كلماته من حروف ، لو سقط واحد منها أو أُبدل بغيره أو أُقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللاً بيّناً ، أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وفي جرس النغمة ، وفي حسّ السمع وذوق اللسان ، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج ،  وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض ، ولرأيت لذلك هُجنة في السمع .

قالوا : إنّ مردّ هذا الإعجاز في القرآن بالدرجة الأُولى هو ما يستثيره في القلب من إحساس غامض لمجرّد أن تصطفّ الحروف في السمع بهذا النمط الفريد ، ذلك العزف بلا آلات وبلا قوافٍ وبلا بحور وبلا أوزان .

حينما نصغي إلى ما يقوله زكريّا لربّه ـ فيما اقتصّ من القرآن ـ :

{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم : 4] .

أَو نستمع إلى كلام المسيح في المهد صبيّاً :  {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم : 30، 31].

أو تلك الجملة الموسيقية التي تتحدث عن خشوع الرسل :

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [مريم : 58] .

أو تلك النغمة الرهيبة التي تصف اللقاء بالله يوم القيامة :

{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه : 111] أو ذلك الإيقاع الرحماني الذي يُخاطب الله به نبيه محمّداً ( صلّى الله عليه وآله ) في موسيقى عذبة تملك شَغَاف القلب :

{طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [طه : 1 - 8].

أمّا إذا تحوّل القرآن إلى الحديث عن المجرمين وما أُنزل بهم من عذاب ، تحوّلت الموسيقى إلى أصوات نحاسية تصكّ الأُذن وتحوّلت الكلمة إلى جلاميد صخر وكأنّها رجم :

{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [القمر : 19، 20].

فإذا سبّحت الملائكة طالبة من الله المغفرة للمؤمنين سالت الكلمات كأنّها سبائك ذهب :

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر : 7].

فإذا جاء الإنذار بالساعة فإنّ الهول والشؤم يَطلّ من الكلمات المتوتّرة والعبارات المشدودة :

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر : 18]. ثمّ العتاب ، وأيّ عتاب حينما لا ينفع العتاب :

{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار : 6 - 8].

والبشرى ، حينما تُبشّر الملائكة مريم بميلاد المسيح :

{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران : 45].

ثمّ ذلك الصراخ في الأُذن بتلك الكلمة العجيبة التي تشبه السكّين :

{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 33 - 37].

وبعد ، فهذا التشكيل والسبك والتلوين في الحروف والعبارات في معمار القرآن هو نسيج وحده ، بلا شبيه ـ من قبلُ أو من بعدُ ـ كل ذلك يتمّ في يسر شديد ، لا يبدو فيه أثر اعتمال وافتعال واعتساف ، وإنّما تسيل الكلمات في بساطة شديدة لتدخل القلب فتثير ذلك الإحساس الغامض بالخشوع ، مِن قبل أن يَتيقّظ العقل فيُحلّل ويُفكّر ويتأمّل ، مجرّد قرع الكلمة للأُذن وملامستها للقلب تُثير ذلك الشيء الذي لا نجد له تفسيراً .

هذه الصفة في العبارة القرآنية إلى جانب كل الصفات الأُخرى مجتمعة ، هي التي تجعل من القرآن ظاهرة لا تفسير لها فيما نعرف من مصادر الكلام المألوف (5) .
______________________________

(1) من مصطلحات الأفنان الموسيقية : ( الحرف المتحرك إذا تلاه حرف ساكن ، يقال له : سببٌ خفيف ، والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن : سببٌ ثقيل ، والمتحركات يتلوهما ساكن : وَتدٌ مجموع ، وإذا توسّطهما ساكن : وتدٌ مفروق . وثلاثة أحرف متحركة : فاصلة صغيرة ، وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن : فاصلةٌ كبيرة ) وهكذا ... ( النبأ العظيم : ص95 ) .

ولعلّ القارئ النبيه يعذرنا في الاقتصار على النقل هنا ، بعد أن كان موضوع البحث من الفنون الخارجة عن اختصاصنا !

(2) النبأ العظيم : ص94 ـ 99 ، والآية 30 من سورة القصص .

(3) التصوير الفني : ص80 ـ 83 .

(4) إعجاز القرآن : ص188 و216 .

(5) محاولة لفهم عصري للقرآن : ص245 ـ 247 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .