أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-3-2021
2694
التاريخ: 24-11-2021
1782
التاريخ: 4-1-2022
2200
التاريخ: 21-9-2016
1726
|
ان من بلغ مقام الانس ، غلب على قلبه حب الخلوة و العزلة عن الناس , لان المخالطة مع الناس تشغل القلب عن التوجه التام إلى اللّه , فلا بد لنا من بيان ان الأفضل من العزلة و المخالطة ايهما , فان العلماء في ذلك مختلفون , والاخبار أيضا في ذلك مختلفة , و لكل واحد منها أيضا فوائد و مفاسد , فنقول : الظاهر من جماعة : تفضيل العزلة على المخالطة مطلقا والظاهر من الأخرى : عكس ذلك.
نظر الأولين إلى إطلاق ما ورد في مدح العزلة ، و إلى فوائدها و ما ورد في مدحها ، كقول النبي (صلى الله عليه واله): «ان اللّه يحب العبد التقي الخفي»، و قوله (صلى الله عليه واله): «أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه و ماله في سبيل اللّه ، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب» و قوله (صلى الله عليه واله) لمن سأله عن طريق النجاة : «ليسعك بيتك ، و أمسك عليك دينك و ابك على خطيئتك» ، وقول الصادق (عليه السلام): «فسد الزمان ، و تغير الاخوان ، و صار الانفراد اسكن للفؤاد» ، و قوله (عليه السلام): «اقلل معارفك ، و أنكر من تعرف منهم» و قوله (عليه السّلام) : «صاحب العزلة متحصن بحصن اللّه - تعالى-، و متحرس بحراسته فيا طوبى لمن تفرد به سرا و علانية ! و هو يحتاج إلى عشر خصال : علم الحق و الباطل ، و تحبب الفقر، و اختيار الشدة ، و الزهد ، و اغتنام الخلوة و النظر في العواقب ، و رؤية التقصير في العبادة مع بذل المجهود ، و ترك العجب ، و كثرة الذكر بلا غفلة ، فان الغفلة مصطاد الشيطان و رأس كل بلية و سبب كل حجاب ، و خلوة البيت عما لا يحتاج إليه في الوقت , قال عيسى بن مريم (عليهما السّلام) : (اخزن لسانك لعمارة قلبك و ليسعك بينك ، و احذر من الرياء و فضول معاشك ، و استح من ربك ، و ابك على خطيئتك و فرّ من الناس فرارك من الأسد و الافعى ، فانهم كانوا دواء فصاروا اليوم داء ، ثم الق اللّه متى شئت)» , قال ربيع بن خثيم : «إن استطعت أن تكون اليوم في موضع لا تعرف و لا تعرف فافعل ، ففي العزلة صيانة الجوارح ، و فراغ القلب ، و سلامة العيش ، و كسر سلاح الشيطان ، و المجانبة من كل سوء ، و راحة القلب ، و ما من نبي و لا وصي إلا و اختار العزلة في زمانه ، إما في ابتدائه ، و إما في انتهائه» .
وأما فوائد العزلة ، فكالفراغ للعبادة ، و الذكر، و الفكر، و الاستيناس بمناجاة اللّه ، و الاشتغال باستكشاف أسرار اللّه في ملكوت السماوات و الأرض ، و التخلص عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة : كالغيبة ، و الرياء ، و سائر آفات اللسان ، و مسارقة الطبع الأعمال الخفية و الأخلاق الردية من الناس ، و المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و الاستخلاص من الفتن و الخصومات و اخطارها ، أو من شر الناس و ايذائهم قولا و فعلا ، و قطع طمعه عن الناس ، و قطع طمعهم عنه ، و الخلاص من مشاهدة الظلمة ، و الفسقة ، و الجهال ، و الثقلاء ، و الحمقى ، و مقاساة أخلاقهم.
ونظر الآخرين - اعني القائلين بتفضيل المخالطة على العزلة الى إطلاق الظواهر الواردة في مدح المخالطة و المؤالفة و المؤانسة و إلى فوائدها ، أما ما ورد في مدحها ، كقول النبي (صلى الله عليه واله) : «المؤمن إلف مألوف ، و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف» ، و قوله (صلى الله عليه واله): «من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية» و كالاخبار الواردة في ذم الهجرة عن الاخوان ، و قوله (صلى الله عليه واله): «إياكم و الشعاب ، و عليكم بالعامة و الجماعة و المساجد».
و أما فوائد المخالطة : كالتعليم ، و التعلم ، و كسب الأخلاق الفاضلة من مجالسة المتصفين بها و استماع المواعظ و النصائح ، و نيل الثواب بحضور الجمعة و الجماعة و الجنازة ، و عيادة المرضى ، و زيارة الاخوان ، و قضاء حوائج المحتاجين ، و رفع الظلم عن المظلومين ، و إدخال السرور على المؤمنين ، و الاستيناس بالاخوان، و بأهل الورع و العبادة و التقوى ، و هو يروح القلب ، و يهيج داعية النشاط في العبادة ، و إيصال النفع إلى المسلمين بالمال و الجاه واللسان ، و استفادة مزيد الأجر و الثواب بتحصيل المعاش و الكد على العيال ، وارتياض النفس بمقاساة الناس في تحمل أذاهم ، و كسر النفس و شهواتها ، و ادراك صفة التواضع لتوقفه على معاشرة الناس و مخالطتهم و عدم حصوله في الوحدة ، و استفادة التجارب و الكياسة في مصالح الدنيا و الدين ، فانها لا تحصل إلا من مخالطة الخلق و مشاهدة مجاري أحوالهم.
هذه هي فوائد كل من العزلة و المخالطة ، و فوائد كل منهما مفاسد و غوائل للآخر، و أنت بعد ما عرفت فوائد كل منهما و غوائله تعلم أن الحكم بترجيح أحدهما على الآخر على الإطلاق خطأ ، كيف يجوز أن يقال : ان العزلة أفضل لشخص جاهل لم يتعلم شيئا من اصوله و فروعه ولم يقرع سمعه علم الأخلاق ، و لم يميز بين فضائل الصفات و رذائلها ، فضلا عن أن تحصل له التخلية و التحلية ، و مع ذلك يمكن أن يحصل ذلك بالمخالطة مع العلماء و أولى الأخلاق الفاضلة؟ و كيف يجوز أن يقال : إن المخالطة أفضل لمن حصل ما في و سعه و قدرته من العلم و العمل ، و وصل إلى مرتبة الابتهاج و الالتذاذ بالطاعات و المناجاة ، و لم يترتب على مخالطته مع الناس شيء من الفوائد الدينية و الدنيوية ، بل تترتب عليه المفاسد الكثيرة؟.
فالصحيح أن يقال : إن الأفضلية فيهما تختلف بالنظر إلى الأشخاص و الأحوال و الأزمان و الأمكنة , فينبغي أن ينظر إلى كل شخص و حاله ، و إلى خليطه ، و إلى باعث مخالطته ، و إلى ما يحصل بمخالطته من فوائد المخالطة ، و ما يفوت لاجلها من فوائد العزلة , و يوازن بين ذلك ، حتى يظهر الأفضل و الارجح ، و لاختلاف ذلك في حق الأشخاص ، بملاحظة الأحوال والفوائد و الآفات , و ربما يظهر- بعد التأمل- أن الأفضل لبعض الخلق العزلة التامة ، و لبعضهم المخالطة ، و لبعضهم الاعتدال في العزلة و المخالطة , و بما ذكر يظهر أن الأفضل لمن بلغ مقام الانس و الاستغراق : الخلوة و العزلة ، إذ لا ريب في أن المخالطة توجب السقوط عن مرتبة الشهود و الانس ، و لا يتصور من فوائدها شيء يقاوم ذلك , و لذلك كان المحبون المستأنسون باللّه يعتزلون عن الخلق و يؤثرون الخلوة , قال أويس القرني : «ما كنت أرى أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره» ، و قال بعضهم : «إذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس» , وقال بعضهم : «سرور المؤمن و لذته في الخلوة بمناجاة ربه» , وقال بعض الصالحين : «رأيت في بعض البلاد عابدا خرج من بعض قلل الجبال ، فلما رآني تنحى عني و تستر بشجرة , فقلت له : سبحان اللّه! أ تبخل علي بالنظر إليك؟ , فقال : يا هذا! اني قمت في هذا الجبل دهرا طويلا اعالج قلبي في الصبر عن الدنيا و أهلها ، فطال في ذلك تعبى و فنى فيه عمري ، فسألت اللّه - تعالى- أن يعطيني ذلك. فسكن قلبي عن الاضطراب ، و ألف الوحدة و الانفراد , فلما نظرت اليك خفت ان اوقع في الأول , فاني أعوذ من شرك برب العالمين و حبيب القانتين , ثم صاح و قال : واغماه من طول المكث في الدنيا! ثم حول وجهه عني و قال : سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخلود و حلاوة الانقطاع إليه! ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان و عن الحور الحسان» , و قال بعض الأكابر : «إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة , فبملاقاة الناس و مخالطتهم يفرح و يطرد الوحشة من نفسه.
فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة و يستخرج العلم و الحكمة» , و من هنا قيل : «الاستيناس بالناس من علامات الا فلاس».
فمن تيسر له منزلة بدوام الذكر و الانس باللّه و بدوام الفكر و التحقيق في معرفة اللّه ، فالتجرد والخلوة أفضل له من كل ما يتعلق بالمخالطة , فان غاية العبادات و ثمرة المجاهدات أن يموت الإنسان محبا للّه عارفا باللّه ، و لا محبة إلا بالأنس الحاصل بدوام الذكر، و لا معرفة إلا بدوام الفكر , و فراغ القلب شرط لكل منهما ، و لا فراغ مع المخالطة.
فان قلت : لا منافاة بين المخالطة مع الناس و الانس باللّه ، و لذا كان الأنبياء مخالطين للناس مع غاية استغراقهم في الشهود و الانس.
قلنا : لا يتسع للجمع بين مخالطة الخلق ظاهرا و الإقبال التام على اللّه سرا إلا قوة النبوة , فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك , ثم بما ذكرناه يظهر وجه الجمع بين الاخبار الواردة من الطرفين.
فان ما ورد في فضيلة العزلة إنما هو بالنظر إلى بعض الناس ، و ما ورد في فضيلة المخالطة انما هو بالنظر إلى بعض آخر.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|