أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-08-11
368
التاريخ: 15/9/2022
1317
التاريخ: 21/9/2022
1302
التاريخ: 15/9/2022
1715
|
قد اشتهر بين الأصحاب- لا سيما المتأخرين منهم- الاستدلال بهذه القاعدة في كثير من الموارد؛ لنفى كثير من التكاليف التي تستلزم العسر والحرج، يتراءى هذا منهم في غير واحد من أبواب العبادات، مثل أبواب الوضوء والغسل والتيمم والصلاة والصيام وغيرها، ولم أر من تعرض لها مستقلا وأفرد لها بحثا يختص بها، غير «العلامة النراقي» في عوائده حيث أفرد لها «عائدة» وبحث عنها بحثا بين الاجمال والتفصيل.
ولكن موقف القاعدة من الفقه وشدة ابتلاء الفقيه بها في كثير من أبوابه توجب البحث عنها وعن مداركها وفروعها في جميع جوانبها ونواحيها؛ بما يعطى الفقيه بصيرة ومعرفة بحال الفروع الكثيرة المبنية عليها، وقد بلغ عدم الاعتناء بشأن هذه القاعدة المهمة وما يليق بها من البحث حدا أوجب الترديد في أصلها فضلا عن الفروع المتفرعة عليها؛ وقد رأيت من ينكر وجود مدرك صحيح للقاعدة فيما بأيدينا من الأدلة، مع ما ستعرف من وفور مداركها وكثرة أدلتها.
ولهذا ولغيره من المزايا التي تشتمل عليها هذه القاعدة- ولا سيما سعة دائرتها وشمولها لجل أبواب الفقه كما ستعرف- كان اللازم تقديم البحث عنها على غيرها من القواعد التي نبحث عنها فيما يلي إنشاء اللّه، فنقول- ومنه سبحانه نستمد التوفيق والهداية- ان البحث عنها يقع في مقامات ثلثة:
الأول- في مداركها التي ظفر نابها.
الثاني- في مفادها ومغزاها ونسبتها مع غيرها من الأدلة.
الثالث- فيما يتعلق بها من التنبيهات.
وقبل الشروع في هذه لا بد لنا من إيضاح محل البحث وما نروم إثباته.
الحرج على أنواع :
ان العسر والحرج في الأفعال يكون على أقسام :
فتارة يبلغ حدا لا يطيق المكلف تحمله.
واخرى، يكون ما دون ذلك ولكن تحمله يوجب اختلال النظام.
وثالثة؛ لا يبلغ ذا ولا ذاك؛ ولكن يستلزم الضرر في الأموال أو الأنفس أو الاعراض .
ورابعة، لا يوجب شيئا من ذلك بل يكون فيه مجرد المشقة والضيق .
اما الأول أعني التكاليف الحرجية البالغة حد ما لا يطاق فلا إشكال في خروجه عن محل البحث وقد عقدوا له بحثا آخر في الكتب الكلامية وبعض الكتب الأصولية، واختلفوا في جوازه واستحالته، بعد اتفاقهم على عدم وقوعه في الشريعة الغراء، ولكن الظاهر ان القول بجوازه وإمكانه من الفروع الفاسدة المنشعبة عن شجرة خبيثة، وهي إنكار الحسن والقبح العقليين المعروف بين قدماء الأشاعرة، وعلى كل حال فهو خارج عن نطاق البحث هنا.
ومن هنا تعرف النظر في كثير من كلمات العلامة النراقي (قده) في عوائده حيث ذكر كثيرا من الأدلة النقلية والعقلية الدالة على بطلان التكليف بما لا يطاق في عداد أدلة القاعدة، وان اعترف بأنها تختص بقسم خاص من الحرجيات وانها أخص من المدعى ولا تقوم بإثبات جميعها. ولكن الإنصاف انها خارجة رأسا عن حيطة القاعدة المعروفة المتداولة بين القوم. بل لا يعبرون بالحرج الا عن التكاليف الممكنة المشتملة على الضيق والشدة واما التكاليف غير المقدورة فيعبرون عنها بما لا يطاق ولا كلام لأحد من أصحابنا في بطلانها.
واما الثاني فهو أيضا كسابقة خارج عن محل الكلام في هذه القاعدة المشهورة، لانصراف كلماتهم وعبائرهم عنه، لان قبح التكاليف الموجبة لاختلال النظام مما لا يحتاج إلى مئونة الاستدلال، بل هو أمر واضح ظاهر؛ بداهة ان الشارع المقدس لم يرد بتشريع احكام الدين ونظاماته ابطال نظام المجتمع وتعطيل معيشتهم؛ بل المقصد الأقصى من إثبات كثير من تكاليفه ليس الا حفظ هذا النظام على الوجه الأحسن، وتحكيم قواعده على نهج صحيح يشتمل على منافع دينية ودنيوية للناس، كأحكام الديات والقصاص التي فيها حياة لاولى الألباب وكثير من احكام المعاملات وغيرها، فكيف يكلف الناس بأمور توجب اختلالا في هذا النظام.
واما الثالث فهو داخل في «قاعدة لا ضرر» خارجة عما يختص بهذه القاعدة؛ وان أمكن الاستدلال بكليهما في كثير من موارد الضرر لبعض ما يترتب على كل منهما من الخصوصية.
فتحصل من جميع ذلك ان مركز البحث في «قاعدة لا حرج» هو القسم الرابع من الأقسام المتقدمة، وهو الافعال الحرجية غير البالغة حد ما لا يطاق وغير الموجبة لاختلال النظام ولا ما يتضمن ضررا في الأموال والأنفس، ومنه يظهر حال الأدلة التي يستند إليها في إثبات القاعدة وما يكون مرتبطا بمحل البحث وما هو خارج عن محل الكلام.
وها نحن نشرع الان بذكر ما ظفر نابها من الأدلة :
[المقام الأول في] مدارك قاعدة لا حرج :
واستدل لها بالأدلة الأربعة ؛ ولكن الإنصاف انه لا مجال فيها للأدلة العقلية ولا الإجماع، بعد ما عرفت من اختصاص محل البحث بالتكاليف الحرجية التي لا تبلغ حد ما لا يطاق؛ ولا حد اختلال النظام، ولا توجب ضررا على الأموال والأنفس.
أما العقل فلانه لا مانع عقلا من تشريع الاحكام الحرجية والإلزام بالأمور العسرة الشديدة، والشاهد له وجود تكاليف حرجية في الشرعيات والعرفيات ثابتة بأدلتها كما سيأتي الإشارة إليه في التنبيهات الاتية إنشاء اللّه، وإلزام الموالي العرفية عبيدهم بل التزام كثير من الناس من قبل أنفسهم بأمور عسرة حرجية لما يرقبون فيها من المنافع الدنيوية أمر شائع ذائع؛ وسيأتي ان مثل هذه التكاليف كانت كثيرة في الأمم الماضية وان صارت قليلة في هذه الأمة المرحومة.
واما الإجماع فلان دعواه على القاعدة بجميع نواحيها مشكل جدا بعد عدم تعرض الأكثر لها بعنوان كلى عام؛ وانما تعرض لها من تعرض في موارد خاصة؛ واما دعواه في خصوص بعض الموارد كالوضوء والغسل الحرجيين وان كان بمكان من الإمكان الا انه لا ينفع في إثبات القاعدة، بل لا يتم على مباني القوم حتى في موارده الخاصة لاختصاص حجية الإجماع عندهم بمسائل لا دلالة عليها من الكتاب والسنة مما يصح استناد المجمعين إليها في إثبات المسألة، والمقام من هذا القبيل لما ستعرف من الأدلة النقلية الكثيرة الدالة عليها، التي يعلم أو يظن استناد المجمعين إليها في إثبات القاعدة.
فاذن العمدة من بين الأدلة هنا هي الكتاب والسنة.
ما يدل عليها من الكتاب العزيز :
واستدل لها بآيات منه:
منها- قوله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج: 78] وهي من أقوى الأدلة الدالة عليها وإليها استند في اخبار كثيرة لنفى تكاليف حرجية في الشريعة المقدسة، تارة بعنوان الحكمة لتشريع بعض الاحكام؛ واخرى بعنوان العلة لها بما سيأتي نقله، ومعها لا يبقى ريب في دلالتها على المطلوب؛ بل لا ينبغي الريب فيها مع عزل النظر عن هذه الاخبار الكثيرة أيضا لتمامية دلالتها في حد ذاتها.
والمراد من «المجاهدة» فيها هي المجاهدة في امتثال الواجبات وترك المحرمات- كما اختاره أكثر المفسرين- وحق الجهاد اما هو الإخلاص في هذه المجاهدة العظيمة كما يحكى عن أكثر المفسرين؛ أو الإطاعة الخالية عن المعصية كما يحكى عن بعضهم ولعل الجميع يرجع الى معنى واحد وهو المجاهدة البالغة حد الكمال الخالية عن شوائب النقصان.
ومعنى الآية- واللّه اعلم- انه لا عذر لا حد في ترك المجاهدة في امتثال أو أمر اللّه تعالى واجتناب نواهيه بعد ما كانت الشريعة سمحة سهلة وليس في أحكام الدين أمر حرجي يشكل امتثاله، فكأنه يقول: كيف لا تجاهدون في اللّه حق جهاده وقد اجتباكم من بين الأمم ولم يجعل عليكم في الشريعة وأحكامها امرا حرجيا؟.
ومنها- قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .
وفي دلالتها على المقصود تأمل، فإن المستفاد من صدرها وذيلها ان الأمر بالغسل والوضوء عند وجدان الماء، والتيمم عند فقدانه؛ انما هو لمصلحة تطهير النفوس، أو هي والأبدان، من الأقذار الباطنة والظاهرة، فلا يريد اللّه تعالى بتشريع هذه التكاليف إلقاء الناس في مشقة وضيق بلا فائدة فيها؛ بل انما يريد تطهيرهم بها، فالمراد من «الحرج» هنا ليس مطلق المشقة بل المشاق الخالية عن الفائدة والمصالح العالية التي يرغب فيها لتحصيلها.
والشاهد على ذلك كلمة «لكن» الاستدراكية في قوله «وَلٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» بعد قوله «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» وان هو الا نظير قول القائل: «اشتر لي طعاما من ذاك المكان البعيد ما أريد لا جعلك بذلك في كلفة ومشقة وانما أريد تحصيل الطعام الطيب» فالمراد من الحرج هنا المشاق التي لا طائل تحتها، ولا فائدة مهمة فيها تجبر كلفتها، فلا يمكن التمسك بها لإثبات هذه القاعدة الكلية كما هو ظاهر.
وان شئت قلت: المقصود إثبات قاعدة كلية دافعة للتكاليف الحرجية يمكن التمسك بها في قبال العمومات المثبتة للتكاليف حتى في موارد العسر والحرج، نظير إطلاقات وجوب الوضوء والغسل الشاملة لموارد الحرج.
ومن الواضح ان إطلاقات الأدلة الأولية كما تدل على ثبوت الحكم حتى في موارد العسر والحرج كذلك تدل على وجود مصالح في مواردها أو في نفس تلك الأحكام بالملازمة القطعية ولا يمكن نفى هذه التكاليف في موارد الحرج بالاية الشريفة بناء على ما عرفت من ظهورها في نفى المشقة الخالية عن فائدة جابرة لها.
ومنها- قوله تعالى {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185] وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب دلالتها على المدعى هو ان الظاهر من قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} بعد نفى وجوب الصيام عن طائفتين، المسافرين والمرضى، انه بمنزلة التعليل لهذا الحكم، فيكون كسائر الكبريات الكلية التي يستدل بها لإثبات أحكام خاصة ولكن مفادها عام شامل لمورد الاستدلال وغيره؛ فتدل هذه الفقرة على نفى جميع الأحكام العسرة والحرجية فتأمل.
ومنها- قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
وجه الاستدلال بها ان نبينا الأعظم صلّى اللّه عليه وآله وسلم سئل ربه ليلة المعراج أمورا حكاها اللّه تعالى في هذه الآية الشريفة ومنها رفع «الاصر» عن أمته. وكرامته صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على ربه ومقامه عنده تعالى يقتضي اجابة هذه الدعوة وإعطائه ذلك، ويشهد لهذه الإجابة نقلها في القرآن العظيم والاهتمام بأمرها، فلو لا اجابته له لم يناسب نقلها في كتابه في مقام الامتنان على هذه الأمة المرحومة وهو ظاهر.
وحيث ان «الاصر» في اللغة كما سيأتي عند تحقيق معنى العسر والحرج والاصر بمعنى الثقل، أو الحبس، أو الشدائد، كانت الآية دليلا على نفى التكاليف الحرجية عن هذه الأمة.
هذا كله مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها، واما بالنظر إليها فالأمر أوضح جدا، فقد وقع التصريح في غير واحد منها بأنه تعالى أجاب رسوله وأعطاه ذلك ورفع عن أمته صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الاصار؛ وقد ذكر في بعض هذه الاخبار موارد كثيرة من هذه الاصار التي كانت في الأمم الماضية ورفعها اللّه عن هذه الأمة رحمة لها وإكراما لنبيه الأعظم، وسيأتي نقل نماذج من هذه الاخبار عند ذكر الروايات الدالة على القاعدة.
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا في بيان التي يمكن التمسك بها في إثبات هذه القاعدة ان أظهرها دلالة على المطلوب هي الآية الاولى، المستدل بها في كثير من الاخبار الواردة في المسألة، التي يظهر من مجموعها ان للآية خصوصية في هذا الباب، وان كان غيرها أيضا لا تخلو عن دلالة أو تأييد للمدعي، ففي مجموعها غنى وكفاية وان لم تبلغ في الظهور وقوة الدلالة مرتبة الروايات التالية.
ما يدل عليها من السنة :
واما ما يمكن الاستدلال به على هذه القاعدة من السنة فهي اخبار كثيرة بين صريح في المدعى، وظاهر فيه، وقابل للنقض والإبرام وإليك ما ظفر نابها وما يمكن ان يقال في وجه دلالتها :
1- ما رواه الشيخ بإسناده عن ابى بصير :
قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: انا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون الى جانب القرية فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال: ان عرض في قلبك شيء فقل هكذا، يعنى:
افرج الماء بيدك ثمَّ توضأ، فإن الدين ليس بمضيق؛ فان اللّه يقول «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1».
وظاهرها ان الحكمة في عدم انفعال الماء الكر (بناء على ان مثل هذا الغدير الذي وقع السؤال عنه في الرواية كر غالبا كما هو الظاهر) هي التوسعة على الأمة ورفع الضيق والحرج عنها، ومنه يستفاد ان كلما يكون حرجيا وضيقا على الناس فهو مرفوع عنهم ويؤكد هذا التعميم استدلاله عليه السّلام بقوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
والاستناد الى هذه القاعدة في إثبات حكم عدم انفعال الكر وان كان من قبيل حكمة الحكم لا العلة، كما هو كذلك في غير واحد من الروايات الاتية أيضا، الا ان مجرد ذلك غير ضائر، لأنه لا مانع من كون قضية واحدة بعينها حكمة لحكم وعلة لحكم آخر؛ وقد حققنا ذلك في مبحث قاعدة لا ضرر وأثبتنا ضعف ما قد يلوح من بعض كلمات المحقق النائيني (قدس اللّه سره) من عدم إمكان كون قضية واحدة حكمة لحكم في مقام وعلة لحكم آخر في مقام آخر فراجع.
2- ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء؟ فقال: لا بأس، ما جعل عليكم في الدين من حرج «2».
وسؤال الراوي فيها يحتمل وجهين: أحدهما- ان يكون من جهة الاغتسال بغسالة الحدث الأكبر، فإنه إذا اغتسل من الإناء وانتضح من غسالته فيه امتزج ماء الإناء به، وقد لا يكون ذلك بمقدار يستهلك فيه، فيكون باقي الغسل بغسالة الحدث الأكبر؛ فتكون الرواية دليلا على جواز الاغتسال به في مقام الضرورة، أو مطلقا، بناء على إلغاء خصوصية المورد.
ثانيهما- ان يكون من جهة انفعال الماء القليل، لان الجنب لا يخلو عن نجاسة بدنية غالبا؛ فتكون الرواية من الروايات الدالة على عدم انفعال الماء القليل؛ وتنسلك في سلكها؛ كما استدل به بعض القائلين بعدم الانفعال، على مذهبه.
هذا ولكن إجمالها من هذه الناحية لا يضر بدلالتها على ما نحن بصدده، لان استناده عليه السّلام في إثبات هذا الحكم بقاعدة رفع الحرج يدل على اعتبارها على نحو عام في جميع المقامات كما هو ظاهر. وفي كون استناده إليها في هذا المقام من قبيل الاستناد إلى الحكمة والعلة احتمالان يظهر وجههما لمن تدبر.
ومما يستفاد من الرواية ان الحرج المرفوع عن الأمة أمر وسيع يشمل مثل الاجتناب عن هذا الإناء، فان الاجتناب عن مثله في تلك الأوساط، مما كان المياه فيها قليلة، وان كان عسرا الا انه لم يكن في الاجتناب عنه مشقة عظيمة، وليكن هذا على ذكر منك.
3- ما رواه شيخ الطائفة (قده) بإسناده عن ابى بصير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام
قال سالته عن الجنب يحمل (يجعل) الركوة أو التور «3» فيدخل إصبعه فيه؟ قال: ان كان يده قذرة فأهرقه (فليهرقه) وان كان لم يصبها قذر فليغتسل منه؛ هذا مما قال اللّه تعالى «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «4».
ذكره العلامة المجلسي (قده) في باب ما يمكن ان يستنبط منه متفرقات أصول مسائل الفقه «5».
أقول- لعل وجه استناده عليه السّلام الى قاعدة نفى الحرج لجواز الاغتسال عن الماء القليل الذي أدخل إصبعه فيه ولو لم يصبها قذر، هو نفى النجاسة المتوهمة في بدن الجنب اجمع بما انه جنب؛ ولو لم تصبها نجاسة عينية فإنه لا شك في لزوم العسر والحرج منه لو كان الأمر كذلك.
ويمكن ان يكون ناظرا الى نفى الحكم الاستحبابي بالاجتناب عن القذرات العرفية لا الشرعية، الموجودة في اليد غالبا، أو النجاسات الشرعية المشكوكة التي لا يجب الاجتناب عنها، ولذا ورد في كثير من الروايات الواردة في كيفية اغتسال الجنب الأمر بغسل الكفين أولا قبل الشروع في الغسل «6».
فالاستناد إلى آية نفى الحرج انما هو لنفى هذا الحكم الاستحبابي بالنسبة إلى مثل هذا الشخص فتدبر.
هذا ولكن إبهام الرواية من هذه الناحية أيضا لا يقدح في الاستدلال بها على المقصود بعد استناده عليه السّلام بالاية الشريفة لجواز الاغتسال من مثل هذا الإناء، ثمَّ لا يخفى ان الرواية كسابقتها في احتمال كون الاستناد فيها إلى القاعدة من قبيل الاستناد إلى علة الحكم أو حكمته.
4- ما رواه محمد بن يعقوب بإسناده عن محمد بن ميسر
قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل منه، وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟
قال: يضع يده ثمَّ يتوضأ ثمَّ يغتسل، هذا مما قال اللّه عز وجل: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «7» .
والقذارة هنا ان كانت بمعنى النجاسة كانت الرواية من أدلة عدم انفعال الماء القليل- كما استدل بها القائلون بهذا القول- وان كانت قذارة عرفية كما هو المحتمل على القول بانفعال الماء القليل؛ كانت الرواية ناظرة إلى نفى حكم استحبابي وهو غسل اليدين خارج الإناء قبل الاغتراف منه في مورد الرواية وأشباهه وهذا الحكم الاستحبابي إما يكون رعاية للتنزه عن القذارات العرفية أو اجتنابا عن القذرات الشرعية المحتملة التي لا يجب الاجتناب عنها في فرض الشك، كما عرفت آنفا؛ وعلى كل تقدير تكون الرواية من أدلة القاعدة فإن إبهامها من حيث موردها لا يضر بالقاعدة المستدل بها فيها.
5- ما رواه شيخ الطائفة المحقة بإسناده الى عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف اصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عز وجل، قال اللّه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، امسح عليه «8» وهو من أظهر الروايات دلالة على المطلوب لصراحتها في إرجاع حكم المسألة الى كتاب اللّه عز وجل وامره عليه السّلام باستفادة أشباهها من قوله تعالى «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» فلو كان في الأحاديث السابقة شائبة الإشكال من جهة احتمال كون نفى الحرج فيها من قبيل الحكمة للحكم لا العلة- وقد عرفت ان الاشكال فيها من هذه الناحية أيضا لا وجه له- يرتفع بصراحة هذا الحديث في كون نفى الحرج علة للحكم بحيث يدور مدارها ويجوز التعدي من موردها الى غيره.
نعم يبقى فيها إشكالات من جهات أخر لا بد من التعرض لها وبيان ما يمكن ان يقال في حلها:
الأول- في كيفية استفادة وجوب المسح على المرارة من قوله تعالى: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» فان نفى الحرج إنما ينفي وجوب الوضوء عليه على نحو وضوء المختار، واما وجوب المسح على الجبيرة فلا.
ويمكن الجواب عنه بوجهين: أحدهما ما افاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره الشريف وحاصله ان المسح الواجب في الوضوء يشتمل على أمرين: إمرار اليد على المحل؛ ومباشرتها للبشرة؛ والمتعسر في مفروض سؤال الراوي هو الثاني أعني مباشرة اليد للبشرة لا إمرار اليد على المحل فسقوط الثاني بالحرج لا يوجب سقوط الوظيفة الاولى. «9»
ويرد عليه ان إرجاع حكم المسح الى هذين الحكمين وتحليله إليهما مما لا يساعد عليه فهم العرف في أمثال المقام، فان الظاهر بنظر العرف ان إمرار اليد على المحل انما هو مقدمة لحصول المسح على البشرة لا انه أمر مطلوب في نفسه، فوجوبه من هذه الجهة من قبيل وجوب المقدمة ومن المعلوم سقوطه عند سقوط وجوب ذيها، ويشهد له ما ورد في باب حرمة المسح على الخفين وذم القائلين به من قوله عليه السّلام: إذا كان يوم القيامة ورد اللّه كل شيء إلى شيئه ورد الجلد الى الغنم فترى أصحاب المسح اين يذهب وضوئهم؟! «10» فإن ظاهره ان المسح على الخفين كالعدم لا انه مشتمل لجزء من وظيفة المسح وفاقد لجزئها فتأمل.
ثانيهما- ان يكون مراده عليه السّلام من التمسك بالاية الشريفة نفى وجوب المسح الواجب على المختار، واما بدلية المسح على المرارة فهو أمر آخر مستفاد من قاعدة الميسور المركوزة في الأذهان؛ لا سيما في أبواب الوضوء والصلاة كما لا يخفى على من راجع احكام الشرع فيها؛ هذا ولو بقي في الرواية إبهام من هذه الناحية لم يقدح في الاستدلال بها على المطلوب فتدبر.
الثاني- في امره عليه السّلام بالمسح على الجبيرة مع ان الظاهر عدم وقوع جميع أظفاره وكفاية المسح على غيره من الأظفار الباقية- بناء على كفاية المسح ولو على إصبع واحدا وأقل منه- ويمكن الذب عنه بان الأمر بالمسح عليها للعمل باستحباب المسح بجميع الكف على ظهر القدم أجمع، أو ان الظفر الساقط لعله كان من أظفار يده لوقوعه على الأرض بعد عثرة وهو وان كان بعيدا عن مساق السؤال الا انه ليس فيها ما ينافيه صريحا كما لا يخفى على من راجعها وتأمل فيها حقه، ومن المعلوم ان الواجب في غسل اليد غسلها بتمامها.
الثالث- في سنده لضعفه بعبد الأعلى مولى آل سام. فإنه وان كان يظهر من بعض القرائن المذكورة في الكتب الرجالية كونه إماميا ممدوحا الا انه لم يثبت ووثاقته ومجرد ذلك لا يكفي في الاعتماد على روايته.
ويمكن دفعه بكفاية كون مثل «ابن محبوب» في سلسلة السند فإنه رواه عن على ابن الحسن بن رباط، الذي قيل في حقه انه ثقة لا غمز فيه، عن عبد الأعلى عن الصادق عليه السّلام وابن محبوب من أصحاب الإجماع ويجب تصحيح ما يصح عنه.
ولكن لنا في هذا- اعنى تصحيح ما يصح عن أصحاب الإجماع والاكتفاء بصحة السند إليهم وعدم ملاحظة من بعدهم- كلام واشكال وان كان من المشهورات، فرب مشهور لا أصل له وليس المقام مقام بسط الكلام فيه، ولعلنا نشير إليه في بعض المباحث الاتية لمناسبات تأتى إنشاء اللّه.
6- ما رواه الصدوق بإسناده عن زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام في حديث في تفسير آية الوضوء قال: فلما ان وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل مسحا لأنه قال:
«بِوُجُوهِكُمْ» ثمَّ وصل بها «وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ» اى من ذلك التيمم، لأنه علم ان ذلك اجمع لم يجر على الوجه؛ لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها؛ ثمَّ قال «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» والحرج الضيق «11» والانصاف انه لا يستفاد من الرواية أمر زائد على ما يستفاد من نفس الآية الشريفة وقد عرفت عند ذكر آيات الكتاب المستدل بها على القاعدة ان لنا في دلالة هذه الآية عليها تأملا وإشكالا، لأن الظاهر من مقابلة نفى ارادة الحرج بإثبات إرادة التطهير بقوله تعالى: «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ولٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» ان المراد بالحرج هنا هو العمل الشاق الخالي عن فائدة مرغوبة، والا فمجرد ارادة التطهير من الوضوء والغسل والتيمم الذي بدل عنهما لا يرفع مشقة الفعل لو كان شاقا وحرجيا في نفسها، فلا معنى لنفي ارادة الحرج وإثبات إرادة التطهير، لان حالها من حيث العسر والضيق والمشقة لا تتفاوت بإرادة غاية الطهارة منها وعدمها.
7- ما رواه عبد اللّه بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة قال حدثني جعفر، عن أبيه، عن النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: مما اعطى اللّه أمتي وفضلهم على سائر الأمم؛ أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلا نبي (نبيا) وذلك ان اللّه تبارك وتعالى كان إذا بعث نبيا قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك وان اللّه تبارك وتعالى اعطى ذلك أمتي حيث يقول «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» يقول: من ضيق الحديث «12» وظاهر هذا الحديث ان رفع الحرج الذي منّ اللّه به على هذه الأمة المرحومة كان في الأمم الماضية خاصة بالأنبياء وان اللّه اعطى هذه الأمة ما لم يعطها إلا الأنبياء الماضين (صلوات اللّه عليهم) فلا ينافي ما دل على اختصاص رفع الحرج بهذه الأمة فتأمل
8- ما رواه العلامة المجلسي «قدس سره» من كتاب «عاصم بن حميد» عن محمد بن مسلم
قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عز وجل: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 77، 78] فقال: في الصلاة والزكاة والصيام والخير ان تفعلوه «13» ذكره العلامة المجلسي في باب «ما يمكن ان يستنبط من الآيات والاخبار من متفرقات أصول مسائل الفقه» وقال في ذيله: الظاهر ان الغرض تعميم نفى الحرج (انتهى).
والظاهر ان مراده ان نفى الحرج لا يختص بعبادة من العبادات بل يشمل جميعها وجميع الطاعات والخيرات التي يفعلها الإنسان فلم يجعل الشارع فيها امرا حرجيا فلو كان إطلاقها يشمل موارد الحرج لا بد من تخصيصها بغيره.
9- ما رواه الشيخ بإسناده عن احمد بن محمد بن ابى نصر البزنطي قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشترى جبة فراء لا يدرى أ ذكية هي أم غير ذكية؟ أ يصلي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك «14».
دل على ان الحكمة في حلية ما يشترى من سوق المسلمين هي التوسعة على الأمة ورفع الضيق عنها، وقوله: «ان الدين أوسع من ذلك» دليل على عدم اختصاص هذا الحكم بهذا المورد وان الدين وسيع في جميع نواحيه وليس فيه حكم حرجي والتضييق فيها إنما ينشأ من الجهالة، كما نشأ للخوارج المتقشفين الضالين وهذه الرواية وان خلت عن عموم «نفى الحرج» بهذا العنوان الا انها مشتملة على معناه وهو نفى الضيق وإثبات التوسعة في أحكام الدين، كما سيأتي شرحه في باب معنى الحرج لغة وعرفا.
10- ما رواه الصدوق مرسلا قال: سئل على عليه السّلام أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال: لا، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين، فإن أحب دينكم الى اللّه الحنيفية السمحة السهلة «15» قال في المجمع: «الركوة المخمر اى المغطى» ويستفاد من جوابه عليه السّلام تفضيله الوضوء من فضل وضوء جماعة المسلمين على الوضوء من الإناء المغطى، واستناده في هذا الحكم إلى سهولة الشريعة دليل على ان الاحكام الحرجية المعسورة ليست منها، ولا أقل من كونه مؤيدا لسائر أخبار الباب.
11- ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على عليه السّلام
في حديث طويل يذكر فيه مناقب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم وما سئل ربه ليلة المعراج؛ وفيه انه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال: اللهم إذا أعطيتني ذلك (يعنى به رفع المؤاخذة على الخطاء والنسيان) فزدني، فقال اللّه تعالى: سل؛ قال {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] يعنى بالإصر الشدائد التي كانت على من كان من قبلنا؛ فأجابه اللّه الى ذلك فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن أمتك الاصار التي كانت على الأمم السابقة: كنت لا اقبل صلوتهم إلا في بقاع من الأرض معلومة ؛ اخترتها لهم وان بعدت ، وقد جعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا، فهذه من الاصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم «16» وقد جعلت الماء لأمتك طهورا؛ فهذه من الاصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك- الى ان قال- وكانت الأمم السالفة صلوتها مفروضة عليها في ظلم الليل وانصاف النهار وهي من الشدائد التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك وفرضت عليهم صلوتهم في أطراف الليل والنهار وفي أوقات نشاطهم. والحديث طويل.
ورواه العلامة المجلسي (قده) في بحار الأنوار في باب احتجاجات أمير المؤمنين عليه السّلام.
ورواه أيضا المحدث النبيل السيد هاشم البحراني في تفسيره المسمى بالبرهان في ذيل قوله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285] الاية.
والحديث ضعيف بالإرسال وفيه بعض الغرائب سيما في الفقرات التي لم نذكرها يظهر لمن راجعها ولكن يصلح مؤيدا لما سبقه.
12- ما رواه على بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن أبي أبي عمير عن هشام عن ابى عبد اللّه عليه السّلام
في تفسير قوله تعالى رَبَّنٰا لٰا تُؤٰاخِذْنٰا إِنْ نَسِينٰا إلخ: ان هذه الآية مشافهة اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه وآله ليلة اسرى به الى السماء قال النبي صلّى اللّه عليه وآله لما انتهيت الى محل سدرة المنتهى- الى ان قال- فقلت {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وقال اللّه: لا اؤاخذك، فقلت {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فقال اللّه: لا احملك، فقلت {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] فقال اللّه : قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك، فقال الصادق عليه السّلام ما وفد الى اللّه تعالى أحدا اكرم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حيث سئل لأمته هذه الخصال «17».
وفي معناها أو ما يقرب منها روايات أخر واردة في تفسير الآية الشريفة من أرادها فليراجعها.
13- ما رواه في «أصول الكافي» بإسناده عن حمزة بن الطيار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قال لي اكتب فاملى علىّ: ان من قولنا ان اللّه يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثمَّ أرسل إليهم رسولا وانزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى، وأمر بالصلاة والصيام فنام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم عن الصلاة، فقال: انا أنيمك وانا أوقظك، فاذا قمت فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون؛ ليس كما يقولون: إذا نام عنها هلك؛ وكذلك الصيام أنا أمرضك وانا اصحك فاذا شفيتك فاقضه، ثمَّ قال أبو عبد اللّه: وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق- الى ان قال- وقال: وما أمروا إلا بدون سعتهم وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون له وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم؛ ثمَّ تلا عليه السّلام {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ } [التوبة: 91] الحديث «18».
وظاهر بعض فقرات ذيل الحديث وان كان نفى التكليف بما لا يطاق الا ان ملاحظة مجموعها لا سيما قوله، «لم تجد أحدا في ضيق» واستشهاده بالاية الأخيرة تشهد بأنها ناظرة إلى نفى التكاليف الحرجية أيضا.
14- الرواية المشهورة المعروفة المروية عنه صلى اللّه عليه وآله ، بعثت بالحنيفية السمحة السهلة.
هذا ما ظفرنا عليه من الروايات الدالة على هذه القاعدة الكلية وفي دلالة بعضها كسند بعضها الأخر وان كان تأمل أو إشكال الا ان في مجموعها غنى وكفاية إنشاء اللّه.
ونحن وان بذلنا الجهد في الظفر بهذه الروايات وتتبع مظانها ومواردها الا ان المتتبع لعله يظفر بروايات أخر غيرها تؤكدها أو تؤيدها، وفي الروايات الواردة في الباب الأول من المجلد الأول من الوسائل (في مقدمة العبادات) أيضا روايات لا تخلو عن اشعار بها يظهر لمن راجعها، ولكن هناك بعض الروايات تبدو في أول النظر دلالتها على المطلوب ولكن عند التأمل يظهر أنها ناظرة التي نفى التكليف بما لا يطاق الذي هو خارج عن نطاق البحث فكن على بصيرة منها.
المقام الثاني في مفاد القاعدة المراد من العسر والحرج والاصر :
اما «الحرج» فالذي يظهر من تتبع كلمات أئمة اللغة وموارد استعمالاته وغير واحد من الروايات السابقة المفسرة لها انها في الأصل بمعنى «الضيق».
قال في «القاموس»: الحرج المكان الضيق، الكثير الشجر، الإثم.
وقال في «الصحاح»: مكان حرج اى ضيق؛ وفسره بالإثم أيضا.
وقال في «النهاية». الحرج في الأصل الضيق، ويقع على الإثم والحرام وقيل الحرج أضيق الضيق.
وقال في «المجمع: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } » اى من ضيق- الى ان قال- وفي كلام الشيخ على بن إبراهيم: الحرج الذي لا مدخل له والضيق ما يكون له مدخل، والحرج الإثم.
و في رواية زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام (و هي الرواية السادسة مما ذكرنا) ورواية قرب الاسناد عن الصادق عليه السّلام (و هي الرواية السابعة مما ذكرنا) تفسير الحرج صريحا بالضيق، وقوله عليه السّلام في رواية أبي بصير (و هي الرواية الأولى مما ذكرنا): «ان الدين ليس بمضيق فان اللّه يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ظاهرة في هذا المعنى أيضا فالمستفاد من هذه الروايات الثلث تفسير الحرج بالضيق.
وقد استعمل «الحرج» في الكتاب العزيز في معان ثلثة:
الأول- «الضيق» قال اللّه تعالى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. وقال تعالى {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2] وقوله تعالى {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فان ظاهر سياق هذه الآيات يشهد بان المراد من الحرج فيها هو الضيق.
الثاني- «الإثم» كقوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] وقال تعالى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [الفتح: 17] وقال تعالى {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } [الأحزاب: 38] فان الحرج في هذه الموارد استعمل بمعنى الإثم.
الثالث «الكلفة» كقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله تعالى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ولكن الإنصاف ان جميع هذه المعاني راجعة إلى معناه الأصلي وهو «الضيق» واما الإثم والكلفة، وكذا كثرة الشجر كما في قول القاموس: مكان حرج اى الكثير الشجر فهي من مصاديق الضيق فإن الإثم يوجب ضيقا على صاحبه في الآخرة بل وفي الدنيا، فقوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ } إلخ كأنه بمعنى قولنا ليس على هذه الطوائف ضيق ومحدودية في الدنيا من جهة بعض أفعالهم فهم مرخصون فيها، بل ولا ضيق في الآخرة من جهة العذاب وغيره. وهكذا كثرة الشجر توجب ضيقا في المكان وما ذكرنا هو الذي يساعد عليه النظر الدقيق بعد ملاحظة موارد استعمالات هذه الكلمة.
ولكن الذي يظهر مما حكاه ابن الأثير في كلامه بقوله: «و قيل انه أضيق الضيق» وكذا ما حكاه في المجمع عن على بن إبراهيم من ان «الحرج ما لا مدخل له والضيق ما له مدخل» ان الحرج ليس مطلق الضيق، بل هو ضيق خاص عبر عنه في النهاية بأضيق الضيق يعنى به الضيق الشديد وفي كلام على بن إبراهيم بما لا مدخل له، وكأن مراده أيضا هو الضيق الشديد الذي بلغ حدا لا مخلص منه ولا مندوحة له.
والتحقيق عدم اعتبار شيء من الخصوصيتين فيه لخلو كلمات أئمة اللغة منها، حتى ان ابن الأثير نفسه أسنده إلى قيل مشعرا بضعفة، والأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المفسرة له أيضا خالية عن القيدين، مضافا الى عدم انطباقه بهذا المعنى على موارد كثير من الروايات السابقة، حيث استدل فيها بقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} لأمور لا يكون من أضيق الضيق، ولا مما لا مدخل له فراجع وتأمل. واما ما حكاه في المجمع عن على بن إبراهيم فلا حجة فيه.
واما العسر: ففي «النهاية» انه ضد اليسر وهو الضيق والشدة والصعوبة.
وفي القاموس: العسر بالضم وبضمتين وبالتحريك ضد اليسر وتعسر علىّ الأمر وتعاسر واستعسر: اشتد والتوى، ويوم عسر وعسير وأعسر: شديد أو شؤم. وقريب منه ما ذكره غيرهما.
واما الاصر: ففي «القاموس» الاصر بالكسر العهد والذنب والثقل.
وعن «النهاية»: الاصر الإثم والعقوبة وأصله من الضيق والحبس، يقال أصره يأصره إذا حبسه وضيقه.
وعن «الصحاح» أصره حبسه وأصرت الشيء إصرا كسرته ، والاصر العهد والاصر الذنب والثقل. ويقرب منه غيره.
وفي «مفردات الراغب»: الاصر عقد الشيء وحبسه بقهره، والمأصر محبس السفينة، قال تعالى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] أي الأمور التي تثبطهم وتقيدهم عن الخيرات والوصول الى الثوابات، وعلى ذلك ولا تحمل علينا إصرا وقيل ثقلا وتحقيقه ما ذكرت؛ والاصر العهد المؤكد الذي يثبط ناقضة عن الثواب والخيرات؛ قال تعالى {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] ، الاصار: الأوتاد والطنب التي بها يعمد البيت (انتهى ملخصا).
وفي «مجمع البحرين»: أصل الاصر الضيق والحبس يقال أصره يأصره إذا ضيق عليه وحبسه ويقال للثقل إصرا لأنه يأصر صاحبه من الحركة لثقله وقوله تعالى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} هو مثل لثقل تكليفهم.
والمتحصل من جميع ذلك ان «الاصر» في الأصل هو الحبس والضيق وانما يستعمل بمعنى العهد والإثم والثقل والعقوبة لمناسبات فيها مع هذا المعنى، وتفسيره في بعض- الاخبار السابقة بالشدائد (الحديث 11 مما ذكرنا) أيضا مأخوذ من هذا المعنى. فهو والحرج بمعنى واحد أو متقارب المعنى.
تنبيه- قد ظهر مما ذكرنا في معنى «العسر» و«الحرج» انهما لا يفترقان فرقا جوهريا وهل هما بمعنى واحد، أو الأول أعم من الثاني؟ ذهب المحقق النراقي (قده) في عوائد إلى الأخير حيث قال:
«العسر كما أشرنا إليه أعم مطلقا من الضيق، فان كل ضيق عسر ولا عكس، فان من حمل عبده على شرب دواء كريه في يوم مثلا يقال انه يعسر عليه ولا يقال انه في ضيق أو ضيق عليه مولاه؛ وكذا من يكون منتهى طاقته حمل مائة رطل؛ إذا أمر بحمل تسعين مثلا ونقله الى فرسخ يقال انه يعسر عليه ولكن لا يقال انه في الضيق، نعم لو أمر بحمله ونقله كل يوم يقال انه ضيق عليه، وكذا يصح ان يقال ان التوضي بالماء البارد في يوم شديد البرد مما يعسر، ولكن لا يقال ان المكلف في ضيق من ذلك» انتهى موضع الحاجة من كلامه.
ويظهر من كلامه هذا ان الحرج لا يدور مدار صعوبة العمل فحسب،- وان بلغ من الصعوبة ما بلغ- بل يعتبر فيه مضافا الى ذلك نوع تضيق آخر على المكلف، فمثل الوضوء أو الغسل مرة واحدة بالماء البارد شديد البرودة في أشد أيام الشتاء وإن كان صعبا جدا، لكن ليس حرجيا لأنه ليس فيه ضيق على المكلف عنده، نعم لو كرر هذا العمل أياما كان ضيقا وحرجا.
وأنت خبير بان هذا المعنى مضافا الى كونه مخالفا لفهم الأصحاب المستدلين بنفي الحرج في مقامات كثيرة لنفي ما فيه مجرد الصعوبة من التكاليف؛ من دون اعتبار أمر زائد عليه، مثل الضيق الحاصل من تكرار العمل، مخالف لاستدلالات الأئمة عليهم السلام بالآية الشريفة في مقامات ليس فيها أمر زائد على ما فيها من الصعوبة والمشقة والعسر، فراجع الأحاديث السابقة تجد فيها شواهد مختلفة لهذا المعنى.
والحق ان «الحرج» في الأصل وإن كان بمعنى الضيق الا ان الضيق المعتبر في الأمور الحرجية ليس امرا وراء صعوبة العمل وشدته والمشقة الحاصلة منه، فان العمل إذا كان صعبا وعسرا كان المكلف منه في ضيق، بخلاف ما إذا كان سهلا ويسرا وما ذكره قدس سره من الأمثلة شاهدا على ما ادعاه قابل للمنع والإنكار، فإن من حمل عبده على شرب دواء كريه غاية الكراهة ولو مرة واحدة يقال ان هذا العمل حرج عليه، وليس ذلك إلا لأنه يقع منه في ضيق وإن كان هذا الضيق في آنات خاصة وكذلك الحال في سائر الأمثلة، والحاصل ان المعتبر في معنى الحرج وجود نوع ضيق ومحدودية فيه، ولو كان هذا الضيق حاصلا من صعوبة العمل وتعسره؛ ولا يعتبر فيه مداومته في يوم أو أيام عديدة وتكراره، ويزيدك هذا وضوحا بملاحظة ما ذكرناه في معنى هذه الكلمة، وموارد استعمالها من الكتاب والسنة وغيرهما، فراجع وتأمل.
نعم هنا اشكال وهو انه لو كان المراد من «الحرج» المنفي في هذه القاعدة مجرد الضيق والصعوبة في قبال السعة والسهولة؛ على ما هو الظاهر من معناه لغة وعرفا، يلزم نفى كل تكليف يشتمل على ادنى مراتب الصعوبة والمشقة وهذا يوجب رفع اليد عن كثير من التكاليف الشرعية كالصيام في أيام الصيف لكثير من الناس والوضوء في ليالي الشتاء بالمياه الباردة وغير ذلك من أشباهه، بل جل التكاليف يشتمل على نوع مشقة في كثير من الأوقات والحالات؛ وهذا مما لا يتفوه به فقيه، ولو بنى عليه حصل منه فقه جديد.
وهذا يكشف عن ان معناه اللغوي والعرفي وإن كان وسيعا في نفسه، الا ان المراد منه هنا مرتبة خاصة منه لا مطلق الصعوبة والمشقة والضيق، ولكن أي مرتبة منه؟ وما حدها؟ وما الدليل على تعيين حد خاص بعينه؟ هذه أسئلة أشكلت أجوبتها على غير واحد من الأكابر على ما يظهر من كلماتهم في مقامات مختلفة.
ولذا قال الشيخ الحر العاملي «قدس اللّه سره الشريف» في كتابه المسمى ب «الفصول المهمة» بعد ذكر طائفة من الاخبار النافية للحرج «نفى الحرج مجمل لا يمكن الجزم به فيما عدا التكليف بما لا يطاق، والا لزم رفع جميع التكاليف» انتهى.
وذهابه (قده) إلى إجمال أدلة نفى الحرج انما نشأ من قيام قرينة مقامية كما عرفت على إرادة مرتبة خاصة منه لعدم إمكان إرادة جميع مراتبه ولكن أشكل عليه الأمر في تعيين هذه المرتبة لعدم قيام دليل عليه عنده.
لكن الحق كما يظهر بعد إمعان النظر إمكان تعيين هذه المرتبة وهي «ما يلزم منه مشقة شديدة لا يتحملها الناس عادة في مقاصدهم» فإنها القدر المسلم من أدلة نفى الحرج، أو ان القدر المسلم خروجه منها هو ما دون هذه المرتبة كما يشهد به رواية عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في حكم الجبيرة وكذا غيره من روايات الباب.
والظاهر ان فقهاء الأصحاب (قدس سرهم) أيضا لم يفهموا من عمومات نفى الحرج الا ذاك، ولذا صرح غير واحد منهم في مسألة «جواز التيمم بخوف الشين في أعضاء الوضوء» بوجوب تقييدها بما لا يتحمل عادة أو بالشديد منه، أو بالفاحش؛ على اختلاف تعابيرهم قال الشيخ الأجل صاحب الجواهر (قده) عند التعرض لهذه المسألة ما حاصله:
«لا أعرف في جواز التيمم عند خوف الشين خلافا بين الأصحاب وظاهر إطلاق كثير منهم عدم الفرق بين شديدة وضعيفة، وهو مشكل جدا إذ لم نعثر له على دليل سوى عمومات العسر والحرج، واحتمال دخوله في المرض أو في إطلاق ما دل على التيمم عند خوف البرد، ومن المعلوم عدم العسر في ضعيفة، بل لا يكاد ينفك عنه غالب الناس في أوقات البرد، وعدم صدق اسم المرض عليه؛ وظهور أدلة خوف البرد في غيره؛ ثمَّ قال ولعله لذا قيده في موضع من المنتهى بالفاحش، واختاره جماعة ممن تأخر عنه منهم المحقق الثاني في جامعه والشهيد الثاني في روضه والفاضل الهندي في كشفه، واليه يرجع ما عن جماعة أخرى من التقييد بما لا يتحمل عادة، فالأقوى الاقتصار على الشديد منه الذي يعسر تحمله عادة» انتهى كلامه.
وكأنه قدس سره تفطن لما ذكرناه من وجود القرينة المقامية على صرف إطلاقات أدلة نفى الحرج في هذا المقام، ولكن قد عرفت عدم اختصاصها به.
والظاهر ان مراد غير هؤلاء المحققين الذين قيدوا الإطلاق بما عرفت من «الشديد» أو «الفاحش» أيضا ذلك فلا خلاف بينهم فيه كما ان الظاهر انحصار مدرك المسألة المذكورة في قاعدة لا حرج.
وقد تعرض للمسألة كثير من أعاظم المتأخرين منهم المحقق اليزدي في «عروته» قال: «بل لو خاف من الشين الذي يكون تحمله شاقا تيمم» انتهى. وقرره عليه كثير من محققي المحشين وزاد بعضهم: «إذا كانت بحيث لا يتحمل عادة».
ثمَّ لا يخفى عليك ان عدم تحمل مشقة الفعل عادة يختلف باختلاف الافعال وما يرام منها من حيث الاهتمام بشأنها وباختلاف الحالات وغيرها فتدبر جيدا.
فتحصل من جميع ذلك ان المعيار في قاعدة نفى الحرج ليس مطلق المشقة والعسر الموجودين في كثير من التكاليف الشرعية أو أكثرها بل المشقة الشديدة التي لا يتحمل عادة في مثل ذاك الفعل؛ وان الدليل عليه قيام قرينة مقامية على هذا التقييد كما عرفت، فليس قاعدة نفى الحرج مجملة مبهمة؛ كما انه لا يلزم منه تخصيص الأكثر أو المستوعب، وسيأتي تتمة لهذا الكلام في «التنبيه الأول» من التنبيهات الاتية إنشاء اللّه.
مفاد القاعدة ووجه تقدمها على سائر العمومات :
لا يخفى ان العسر والحرج والاصر وأمثال هذه العناوين أوصاف للأفعال التي تتعلق بها الاحكام لا لنفس الاحكام، مثلا وضوء المختار لمن على يده جبيرة أمر حرجي متعسر، فالمتصف بهذه الصفة نفس هذا العمل لا الوجوب المتعلق به، فلا يقال وجوب الوضوء على مثل هذا الشخص أمر حرجي وفيه ضيق على المكلف الا من باب الوصف بحال المتعلق، فإنه لو كان في الوجوب ضيق فإنما هو من ناحية العمل المتعلق به.
ويشهد له نفى الجعل عنه في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فان الجعل على المكلفين كناية عن التكليف، والمجعول هو نفس العمل المكلف به وهو المتصف بالحرج هنا، فكأن «المكلف به» أمر يضعه الشارع على عاتق المكلفين ويكون ثقله عليهم، كما انه قد يرفعه عنهم {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157] فقوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} بمعنى: لم يكلفكم عملا حرجيا متعسرا وأوضح من ذلك قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلم في رواية الاحتجاج السابقة «19»: «يعني بالإصر الشدائد التي كانت على الأمم السابقة- الى ان قال- كنت لا اقبل صلوتهم إلا في بقاع من الأرض معلومة اخترتها لهم وان بعدت وقد جعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا فهذه من الاصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك». الى غير ذلك من فقراتها، فإنها ظاهرة أو صريحة في ان نفس هذه الاعمال كانت من الاصار الثابتة في حق الأمم الماضية المرفوعة عن هذه الأمة المرحومة.
فالمرفوع أولا وبالذات هي نفس الافعال الحرجية الا ان رفعها عن المكلفين أو عدم جعلها عليهم كناية عن عدم إيجابها كما ان وضعها عليهم كناية عن إيجابها فالوضع والرفع في عالم التشريع هو الإيجاب ونفيه وهذا التعبير- كما عرفت- مأخوذ من مشابهة الإلزام بشيء وإيجابه لوضعه على عاتق المكلف فكأن الشارع المقدس إذا أوجبه على المكلفين وضعه عليهم في الخارج وإذا لم يوجبه عليهم رفعه عنهم.
والحاصل ان العسر والحرج كمقابليهما من أوصاف أفعال المكلفين وهي التي قد تكون شاقا ضيقا كما قد تكون سهلا يسيرا.
وإذا قد عرفت ذلك فاعلم انه لا إشكال في تقدم عمومات نفى الحرج على العمومات المثبتة للأحكام بعناوينها الأولية ووجوب تخصيصها بها، ويشهد له استشهاد الامام عليه السّلام بها في قبال كثير من الأدلة المثبتة للأحكام مضافا الى فهم الفقهاء رضوان اللّه عليهم واستنادهم إليها في فروع فقهية كثيرة، ولكن ما وجه هذا التقدم؟ فهل هو من جهة حكومتها عليها أو أمر آخر ورائها؟
التحقيق انه على ما ذكرنا من ان العسر والحرج وأشباههما من أوصاف أفعال المكلفين لا الأحكام المتعلقة بها لا يصح لنا ان نقول بان وجه تقدم عمومات هذه القاعدة على أدلة الاحكام هو حكومتها عليها، فإنها عبارة عن كون احد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظرا إلى الأخر بحيث لولاه لكان لغوا.
اما بان يتصرف في موضوعه؛ أو في حكمه؛ أو في متعلقه، أو في انتساب المتعلق الى موضوعه...
ومن المعلوم ان دليل نفى الحرج إنما ينفي وجوده وجعله على المكلفين في عالم التشريع، من دون ان يكون ناظرا الى غيره من أدلة أحكام الشرع نظر التصرف فيها بأحد الأنحاء الأربعة المتقدمة، فمن هذه الجهة يكونان في عرض واحد فهما من قبيل المتعارضين، ففي الحقيقة أدلة نفى الحرج تكون من سنخ ما دل على انه «لم يجعل على النساء جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا اقامة» فلو كان هناك ما يدل بعمومها على ان عليهن بعض هذه الأمور كانتا من المتعارضين، لا ان الأول حاكم على الثاني؛ فلا يقدم عليه الا من باب التخصيص، ومجرد كون لسانه «نفى الجعل» لا يكفي في تقدمه على غيره كما ان من الواضح ان النسبة بينها وبين أدلة الأحكام هي العموم من وجه، فكما انه يمكن تخصيصها بأدلة نفى الحرج يمكن تخصيص أدلة نفى الحرج بها.
الا ان كونها في مقام الامتنان على الأمة يأبى من التخصيص جدا. فتخصص الأدلة المثبتة للأحكام بها لقوة دلالتها بالنسبة إليها، وهذا أمر ظاهر لمن راجع العمومات السابقة. ومنه يظهر وجه استشهاد الامام عليه السّلام بها في مقابل كثير من العمومات المثبتة للاحكام، وفهم الفقهاء واستشهادهم بها في أبواب شتى.
نعم لو قلنا بان العسر والحرج من أوصاف نفس الأحكام الشرعية وانها هي التي قد تكون عسرة حرجية واخرى سهلة يسيرة وان قوله تعالى «وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» في قوة قولنا ان الاحكام المجعولة الثابتة بأدلتها ليس فيها ما يكون حرجا وضيقا على المكلفين، فيصح القول بحكومتها عليها لأنها ناظرة إليها ومفسرة لها بما هو ملاك الحكومة، ولكن قد عرفت آنفا ضعف هذا المبنى وانها من صفات أفعال المكلفين بل القول بالحكومة على هذا المبنى أيضا عندي غير صافية عن شوب الاشكال كما لا يخفى على من تدبر.
هذا وقد بقي هنا أمور هامة نذكرها في طي تنبيهات: التنبيه الأول هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات الواردة عليها؟
من الإشكالات القوية التي أوردت على هذه القاعدة، انه كيف يمكن الحكم بعمومها وارتفاع كل أمر حرجي في الشريعة بها، مع ما يتراءى من كثرة التكاليف الشاقة الحرجية في أبواب العبادات وغيرها، كالوضوء بالمياه الباردة في ليالي الشتاء والصوم في الأيام الحارة من الصيف مع ما فيهما من المشقة الظاهرة، وكالجهاد بالأموال والأنفس؛ ومقارعة السيف والسنان، ومقابلة الشجعان، وعدم الفرار من الزحف وتحمل لومة اللائمين في إجراء أحكام اللّه، وتسليم النفس لإجراء الحدود والقصاص، والهجرة عن الأوطان لتحصيل مسائل الدين؛ وبثها بين المسلمين الواجب كفاية، وأشد منها الجهاد الأكبر مع النفس وجنود الشياطين.
فهذه التخصيصات الكثيرة توهنها وتمنع عن التمسك بعمومها، لان قبح تخصيص الأكثر دليل على ان المراد منها غير ما يفهم منها في بدء الأمر فيكون معناها مجملة مبهمة غير قابلة للاستدلال، فان ما يظهر منها بادئ الأمر غير مراد والمراد منها غير معلوم؛ فعمومها كعمومات «القرعة» وما أشبهها موهونة لا يجوز العمل بها إلا في موارد عمل بها الأصحاب وكأنه الى هذا المعنى أشار المحدث الجليل الحر العاملي قدس سره في كتابه المسمى ب «الفصول المهمة» حيث قال بعد نقل طائفة من الاخبار النافية للحرج:
«نفى الحرج مجمل لا يمكن الجزم به فيما عدا تكليف ما لا يطاق وإلا لزم رفع جميع التكاليف» انتهى.
فالتزم بعد القول باجمالها وإبهامها بسقوطها عن الحجية إلا في القدر المتيقن منها وهو التكليف بما لا يطاق.
أقول- قوله: «وإلا لزم رفع جميع التكاليف» ان كان مراده منه المبالغة في كثرة التخصيصات الواردة عليها بما عرفت آنفا؛ وأشرنا إليه أيضا عند ذكر معنى «العسر والحرج» فله وجه مع قطع النظر عما سيأتي، واما ان كان مراده منه ما يظهر منه في ابتداء النظر من نفى عامة التكاليف الشرعية، لما في جمعيها من مرتبة من العسر والحرج، فهو مبنى على ان يكون المراد من «الحرج» مطلق الكلفة الحاصلة ولو من الأمور البسيطة العادية، وهو ممنوع جدا، كما عرفت عند تحقيق معنى هذه الكلمة.
مضافا الى ان غير واحد من التكاليف الشرعية لا يشتمل على أدنى مشقة وكلفة، لموافقتها لكثير من الطباع فالقول باستلزام عموم نفى الحرج لنفى عامة التكاليف ممنوع من هذه الجهة أيضا.
أضف الى ذلك ان ما ذكره هذا المحدث الجليل هدم لأساس هذه القاعدة رأسا، لأن بطلان التكليف بما لا يطاق ظاهر لكل احد بل لا يبعد كونه من ضروريات الدين؛ فحصر مفادها في خصوص التكليف بما لا يطاق مساوق لسقوطها عن الحجية وهو مخالف لسيرة الفقهاء حيث يستدلون بها في كثير من أبواب الفقه لنفى التكاليف الحرجية غير البالغة حد ما لا يطاق، بل مخالف لما عرفت من استدلال الامام عليه السّلام بها لكثير من المسائل وتعليمه عليه السّلام لاستنباط الحكم من هذه القاعدة العامة.
واما قصر العمل بها على خصوص الموارد التي عمل بها الأصحاب، مع انا نعلم أو نظن انه لم يكن عند أكثرهم أو جميعهم في هذا الباب إلا هذه الايات والاخبار المأثورة عنهم عليهم السلام؛ فمما لا وجه له.
واحتمال ان يكون قد وصل إليهم من المدارك ما لم يصل إلينا، أو كان لهذه العمومات قرائن متصلة ترفع إبهامها وتوضح المراد منها، وصلت إليهم دوننا، ضعيف جدا، ومن أقوى الشواهد على بطلانه انهم يستندون في إثبات المسائل إلى نفس هذه الايات والروايات معتمدين في إثبات مقاصدهم عليها لا غير.
ما ذكر في دفع هذا الاشكال :
وقد يذب عن الاشكال بوجوه لا تخلو عن إيرادات؛ نذكرها ونذكر ما فيها من جهات الضعف؛ ثمَّ نتبعها بما عندنا في حسم مادته.
الأول- ما حكاه المحقق النراقي عن بعض سادة مشايخه :
- والظاهر انه السيد السند العلامة الطباطبائي قدس سرهما- قال: اما ما ورد في هذه الشريعة من التكاليف الشديدة كالحج والجهاد والزكاة بالنسبة الى بعض الناس والدية على العاقلة ونحوها؛ فليس شيء منها من الحرج، فإن العادة قاضية بوقوع مثلها، والناس يرتكبون مثل ذلك من دون تكليف ومن دون عوض؛ كالمحارب للحمية؛ أو بعوض يسير.
وبالجملة فما جرت العادة على الإتيان بمثله والمسامحة فيه وان كان عظيما في نفسه كبذل النفس والمال، فليس من الحرج في شيء؛ نعم تعذيب النفس وتحريم المباحات والمنع عن جميع المشتبهات أو نوع منها على الدوام حرج وضيق ومثله منفي في الشرع (انتهى).
وهذا القول كما تراه على طرف الإفراط؛ كما ان ما ذكره المحدث الحر العاملي على طرف التفريط، وكلاهما خارجان عن حد السواء، يوجبان سقوط القاعدة عن قابلية الاستدلال بها في الفقه رأسا اما الأول فقد عرفت حاله، واما الأخير فلان لازمه وجوب العمل بالتكاليف الواردة في الشرع من الواجبات والمحرمات وان بلغت من العسر والحرج ما بلغت من دون اى استثناء فينحصر مفاد القاعدة في خصوص تعذيب النفس وتحريم المباحات وأمثالها وهو كما ترى.
فإنه يرد عليه جميع ما أوردناه على سابقة من مخالفته لاستدلال الأئمة عليهم السلام بآية نفى الحرج في موارد عديدة ومخالفته لفهم الفقهاء واستنادهم إليها في أبواب شتى.
أضف الى ذلك مخالفته للوجدان فان مجرد ارتكاب الناس لبعض الأمور الشاقة، لا جور يترقبونها أو لعلل اخرى لا يخرجها عن كونها أمورا شاقة حرجية، اللهم الا ان يرجع هذا القول الى بعض ما سنشير إليه في الوجه المختار.
الثاني- ما حكاه قدس سره أيضا عن بعض فضلاء عصره :
وحاصله: ان الذي يقتضيه النظر بعد القطع بورود تكاليف شاقة ومضار كثيرة في الشريعة ان المراد بنفي العسر والحرج والضرر، ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التكاليف الثابتة بالنسبة إلى طاقة أوساط الناس؛ المبرئين عن المرض والقدر الذي هو معيار التكاليف، بل هي منفية من الأصل إلا ما ثبت وبقدر ما ثبت.
والحاصل انا نقول: ان المراد ان اللّه سبحانه لا يريد بعبادة العسر والحرج والضرر الا من جهة التكاليف الثابتة بحسب أحوال متعارف الأوساط وهم الأغلبون، فالباقي منفي سواء لم يثبت أصله أصلا أو ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزيادة. ثمَّ قال:
ان ذلك النفي اما من جهة تنصيص الشارع؛ كما في كثير من أبواب الفقه من العبادات وغيرها، كالقصر في السفر والخوف في الصلاة والإفطار في الصوم ونحو ذلك، واما من جهة التعميم كجواز العمل بالاجتهاد لغير المقصر في الجزئيات كالوقت والقبلة، أو الكليات كالأحكام الشرعية (انتهى).
أقول- عبارته المحكية عنه قدس سره وإن كانت لا تخلو عن إجمال وإبهام الا ان الظاهر ان مراده ان الأصل الاولى في الاحكام عدم كونها حرجية ولا ضررية؛ وانما يخرج من هذا الأصل في موارد ثبت فيها تكليف حرجي أو ضرري إما بالعموم أو بالخصوص فيقتصر في هذه الموارد التي ثبت فيها تكاليف حرجية أو ضررية على ما ثبت وبقدر ما ثبت، واما الزائد عليها فهو منفي بهذه القاعدة.
غاية الأمر ان التكاليف الحرجية الثابتة بأدلتها تنصرف إلى طاقة أوساط الناس المبرئين عن الأمراض والاعذار، واما بالنسبة إلى غيرهم فحيث لا دليل على إثباتها فهي أيضا منفية بهذه القاعدة.
واما ما ذكره في آخر كلامه فالظاهر انه ناظر الى ان نفى الحرج والضرر قد يكونان بعمومات هذه القاعدة، واخرى بتنصيص الشارع عليه خصوصا، كما في صلاة القصر في السفر، والإفطار في الصوم في السفر وللمريض والشيخ الكبير وأشباههم، وثالثة بتنصيصه عليه عموما، كتجويزه العمل بالظن في الموضوعات كالوقت والقبلة لجميع آحاد الناس غير المقصر منهم، وفي الأحكام الشرعية الكلية للمجتهدين خاصة، هذا حاصل ما يستفاد من كلامه.
ولازمه اختصاص نفى الحرج والضرر بموارد لم يدل على خلافه دليل أصلا، لا عموما ولا خصوصا وفساد هذا القول أيضا ظاهر لمنافاته لما عرفت من تمسك الأئمة عليهم السلام بعموم نفى الحرج لنفى كثير من الاحكام في موارد يستلزم العسر والحرج وتخصيص أدلتها به، ولسيرة كثير من الفقهاء رضوان اللّه عليهم، ولظاهر عمومات نفى الحرج والضرر الواردة في مقام الامتنان الابية عن مثل هذه التخصيصات الكثيرة.
أضف اليه ان النسبة بينها وبين الأدلة المثبتة للأحكام عموم من وجه. فلا وجه لتقديمها على عمومات نفى الحرج والضرر.
واما ما احتمله المحقق النراقي (قده) من ان المستفاد من كلامه كون قاعدة نفى الحرج من باب أصل البراءة فيكون تقديم ما ثبت بأدلة الاحكام من باب تقديم الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية مع انه بعيد عن مساق كلامه، ظاهر الفساد، لأن الأصول العملية ناظرة إلى بيان وظيفة الشاك؛ وليس في أدلة نفى الحرج والضرر من الشك عين ولا اثر.
الثالث- ان العسر والحرج يختلف باختلاف العوارض الخارجية :
فقد يكون شيء عسرا وحرجا ولكن يكون باعتبار أمر خارجي سهلا ويسرا؛ ومن الأمور الموجبة لسهولة كل عسر، وسعة كل ضيق، مقابلته بالعوض الكثير والأجر الجزيل، ولا شك ان كل ما كلف اللّه سبحانه به من التكاليف يقابله ما لا يحصى من الأجر، قال تعالى {نْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ؛ وعلى هذا لا يكون شيء من التكاليف عسرا وحرجا، فكل ما كلف اللّه به من الأمور الشاقة ظاهرا فقد ارتفعت مشقتها بما وعدلها من الأجر الجميل والثواب الجزيل (انتهى).
و فيه- ان لازمه أيضا سقوط أدلة نفى الحرج عن جواز الاستدلال بها رأسا لأن كل ما ورد الأمر به أو النهي عنه ففي امتثال امره ونهيه أجر الهى بالملازمة الثابتة من حكم العقل فلا يصح نفيه بأدلة نفى الحرج؛ بل تكون هذه الأدلة لغوا بالمرة ولا يبقى لقوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ معنى، الا ان يكون المراد نفى التكاليف المشتملة على المشقة الخالية عن الأجر والثواب ولكنه يرجع الى توضيح أمر واضح.
ويرد عليه أيضا ما أوردناه على ما تقدمه، من مخالفته للأخبار الحاكية لاستدلال المعصومين عليهم السلام بها لنفي الأمور الحرجية؛ كما انه مخالف لفهم فقهاء الأصحاب المستدلين بها في فروع كثيرة.
هذا مضافا الى عدم تماميته في نفسه لان مجرد ترتب الأجر الجميل والثواب الجزيل على شيء لا يمنع عن صدق العسر والحرج عليه، مثلا نقل الصخور العظيمة من قلل الجبال، أو تحمل منن اللئام؛ من الأمور العسرة الحرجية وان كان في مقابلها أجور جزيلة.
نعم ترتب الأجر والثواب عليها يكون داعيا على الإتيان بها ومصححا لارتكابها عند العقلاء لا انه مانع عن صدق عنوان العسر والحرج عليه.
ويشهد على ذلك ظهور بعض الايات وصراحة بعض الاخبار الماضية في ثبوت تكاليف عسرة حرجية في حق الأمم الماضية، مع انه لا ينبغي الشك في ترتب أجور جميلة على طاعاتهم وامتثالاتهم؛ فهذا دليل على انه لا منافاة بين صدق عنوان الحرج والعسر على شيء مع ترتب الأجر الجميل عليه.
والحاصل ان العسر والحرج وان كان يختلف باختلاف بعض العوارض الخارجية- كغير هما من العناوين- الا ان اختلافها بمجرد ترتب الأجر والثواب الأخروي أو الأجور الدنيوية عليهما ممنوع جدا.
الرابع- ما اختاره المحقق النراقي وجعله الطريق الوحيد في حل الاشكال بحذافيره وإليك نص عبارته:
«انه لا حاجة الى ارتكاب أمثال هذه التأويلات والتوجيهات بل الأمر في قاعدة نفى العسر والحرج كما في سائر العمومات المخصصة الواردة في الكتاب الكريم والاخبار الواردة في الشرع القويم؛ فإن أدلة نفى العسر والحرج تدل على انتفائهما كلية، لأنهما لفظان مطلقان واقعان موقع النفي فيفيدان العموم، وقد ورد في الشرع التكليف ببعض الأمور الشاقة والتكاليف الصعبة أيضا ولا يلزم منها ورود إشكال في المقام كما لا يرد بعد قوله سبحانه {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء: 24] إشكال في تحريم كثير مما ورائه، ولا بعد قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] إلخ تحريم أشياء كثيرة ؛ بل يخصص بأدلة تحريم غيره عموم ذلك فكذا هاهنا.
فان تخصيص العمومات بمخصصات كثيرة ليس بعزيز بل هو أمر في أدلة الأحكام شائع وعليه استمرت طريقة الفقهاء، فغاية الأمر كون أدلة نفى العسر والحرج عمومات يجب العمل بها فيما لم يظهر لها مخصص وبعد ظهوره يعمل بقاعدة التخصيص» انتهى.
ويرد عليه أولا- ان قبح تخصيص الأكثر أو التخصيص الكثير المستهجن أمر ظاهر لا يجوز ارتكابه، ولا يصح الالتزام به في كلام الشارع الحكيم؛ كما ان لزوم مثل هذا التخصيص في المقام مما لا ينبغي الريب فيه بعد كثرة التكاليف الحرجية التي أشرنا إليها إجمالا عند تقريب أصل الإشكال، من الواجبات المالية الكثيرة؛ والجهاد الأصغر والأكبر، والحج والصيام والقصاص والحدود والديات وغيرها.
وما استشهد به من الآيتين على ما ادعاه من جواز التخصيصات الكثيرة قابل للمنع فان الظاهر ان الحصر في قوله تعالى: «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إلخ» حصر إضافي في مقابل ما حرمة أهل الكتاب على أنفسهم وبدعهم في باب الذبائح أو غيره فتدبر.
كما ان قوله تعالى «وَأُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ» أيضا ظاهر في الحصر الإضافي أو محتمل له، وتمام الكلام فيه في محله.
وثانيا- ان عمومات نفى الحرج واردة في مقام الامتنان على الأمة المرحومة كما ان ظاهر روايات الباب أو صريحها انه من خصائص هذه الأمة فكيف يجوز تخصيصها بمثل هذه المخصصات الكثيرة والحال هذه؟ وكيف يكون نفى الحرج من مختصات الأمة مع إثبات احكام حرجية كثيرة فيها ؟ فان ذلك جار في جميع الأمم.
اللهم الا ان يقال بان امتياز هذه الأمة انما هو في قلة أحكامها الحرجية بالنسبة إلى الماضين وان كانت في نفسها كثيرة. هذا ولكن إشكال إباء هذه العمومات الواردة في مقام الامتنان عن مثل هذه التخصيصات باق بحاله.
وثالثا- ان القول بجواز تخصيص عمومات نفى الحرج بمخصصات كثيرة، يمنع عن التمسك بها رأسا لأنك قد عرفت ان النسبة بينها وبين عمومات الأدلة المثبتة للأحكام هي العموم من وجه كما عرفت، فلا وجه لتقديمها عليها عند التعارض الا بما ذكرنا من ابائها عن التخصيص.
المختار في حل الاشكال :
الخامس- وهو المختار في حسم مادة الاشكال ، ان ما يدعى من التكاليف الحرجية الواردة في الشريعة على أقسام :
منها- ما ليس حرجيا وان ادعى كونها كذلك؛ كحج بيت اللّه الحرام وأداء الخمس والزكاة (لا سيما مع ما عرفت عند ذكر معنى «الحرج» من ان المراد منه هنا ليس مطلق المشقة والضيق، بل المشقة التي لا تتحمل عادة على ما بسطنا الكلام فيه فان إخراج خمس أرباح المكاسب بعد وضع مئونة السنة بجميع أنحائها، وكذا إخراج خمس غيرها من المعادن والكنوز، والزكوات المقدرة في الشرع التي هي قليل من كثير ليست أمورا شاقة لا تتحمل عادة .
لا سيما مع صرفها في مصارف يعود نفعها غالبا الى المجتمع اجمع حتى المعطين، كصرفها في إصلاح حال الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وعمارة الشوارع، وبناء القناطر، وحفظ ثغور الإسلام، وتقوية جيوش المسلمين، وأمن السيل.
فهذه في الحقيقة مثل سائر ما يصرفونها في محاويجهم الشخصية وإصلاح أمورهم الخاصة، مما لا يعدونه ضررا وحرجا، بل إصلاحا ونفعا.
وهذا المعنى وإن كان عند بعض الأذهان البادية من الاستحسانات الا انه اليوم ظاهر لكل خبير بوضع المجتمعات البشرية وما فيه نجاحها وفلاحها؛ ولذا ترى العقلاء من جميع الأمم يسلكون هذا المسلك ويكلفون افرادها بأداء واجبات مالية يصلحون بها حال الضعفاء وذوي الحاجات وسائر الأمور العامة التي يعود نفعها الى مجتمعهم اجمع؛ ولا يعدونه ضررا ولا حرجا بل قد عرفت انها في الحقيقة من قبيل مصارفهم الشخصية.
وان أبيت عن ذلك فقد عرفت ان الواجبات المالية في أنفسها، ومع قطع النظر عن هذا؛ ليست أمورا شاقة حرجية لا تتحمل عادة الذي هو الملاك في هذا الباب.
أضف الى ذلك ان إطلاق العسر والحرج على الأمور المالية مطلقا لا يخلو عن اشكال- كما أشار إليه المحقق النائيني في آخر رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر- لظهور عنوان الحرج في المشقة في الجوارح لا في الجوانح ومن المعلوم ان بذل الأموال ليس فيه مشقة بهذا المعنى ولو بلغ ما بلغ، اللهم الا فيما يسرى المشاق الروحية الى البدن كمن لا ينام طول ليلته إذا بذل ما لا كثيرا، على تأمل في ذلك أيضا.
ومنها- ما يكون من ناحية فعل المكلف وسوء اختياره، كالقصاص والحدود وما شاكلهما، فان المكلف بسوء اختياره يقع في هذه الأمور الحرجية، فلو لم يقتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، أو لم يجن عليها بجناية أخرى توجب القصاص أو الحد أو لم يعتد على غيره بمال أو بعرض؛ لا يعتدى عليه بمثله ولا يعاقب به.
و من الواضح انصراف أدلة نفى العسر والحرج عما أقدم عليه بسوء اختياره لا سيما في هذه الموارد التي لا يكون نفيه منة على من ارتكبها الا بترك الامتنان بل الظلم الفاحش على غيره، فهذه الموارد لم تكن داخلة تحت عمومات نفى الحرج حتى يكون خروجها عنها بالتخصيص.
ومنها- ما هو قابل للإنكار، فمثل التوضي بالماء البارد في ليالي الشتاء أو الصيام في الأيام الحارة من الصيف إذا بلغ مشقته حدا لا تتحمل عادة فلا يبعد القول بعدم وجوبه، ولكن بلوغه هذا الحد لغالب الناس في محل المنع.
ومنها- ما يبقى من الموارد النادرة التي يمكن التزام تخصيص القاعدة بها إذا كان دليله أخص من أدلة نفى الحرج أو بمنزلة الأخص؛ كالجهاد الذي فيه من المشقة والحرج ما لا يخفى قال اللّه تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وقال تعالى: حاكيا عن وقعة الأحزاب، { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] ، وقد سمى في كتابه العزيز الساعات التي كانت قبل غزوة تبوك {سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] ففي هذا المورد وشبهه نلتزم بتخصيص عمومات لا حرج بها.
لا يقال- كيف يجوز تخصيص عمومات نفى الحرج بهذه الموارد ولو كانت قليلة بالنسبة الى ما يبقى تحتها مع اعترافك بورودها مورد الامتنان الآبي عن التخصيص قلنا- عدم جواز تخصيص العمومات الواردة في مقام البيان انما هو في موارد يكون تخصيصها منافيا للمنة.
واما إذا كان موافقا لها فلا مانع منه، وما نحن فيه من هذا القبيل فان منافع الجهاد ومصالحه من ظهور المسلمين على الاعداء وحفظ ثغورهم وبقاء عزهم وجعل كلمة اللّه هي العليا وتفريق احزاب الكفر وجعل كلمتهم هي السفلى؛ لما كانت ظاهرة واضحة لكل احد صار هذا قرينة عرفية على جواز التخصيص ولم يناف ورود العام مورد الامتنان؛ بل كان ترك تشريع هذا الحكم الظاهر مصلحته منافيا له، وكل ما كان من هذا القبيل جاز تخصيص عمومها به من دون اى محذور.
والحاصل ان حال العمومات الواردة في مقام البيان ليست حال سائر العمومات التي يجوز تخصيصها بكل مخصص؛ كما انه ليس حالها حال بعض العمومات المعللة بعلل عقلية عامة لا يجوز تخصيصها ابدأ بأي مخصص كان، بل حكمها في جواز التخصيص وعدمه جوازه بما لا ينافي الامتنان وعدم جوازه فيما ينافيه.
التنبيه الثاني هل العبرة بالحرج الشخصي أو النوعي؟
هذا البحث نظير ما أسلفناه في قاعدة «لا ضرر» والكلام فيه من جهات كثيرة كالكلام فيه وان كان بينهما اختلاف من بعض الجهات نشير إليها.
وحاصل القول ان العبرة في ارتفاع الحكم بلزوم العسر والحرج هل هو بالحرج الشخصي بأن يكون لزوم الحرج في مورد رافعا للتكليف في خصوص ذاك المورد، أو النوعي بحيث كان لزومه على نوع المكلفين رافعا للتكليف عن عامتهم؟.
والحق هو الأول. لظهور جميع العناوين الواردة في لسان الأدلة في مصاديقها الشخصية فعنوان الضرر انما يصدق في خصوص موارده واشخاصه وكذلك الحرج وغيرهما من العناوين الواردة في الأدلة؛ وارادة الحرج أو الضرر النوعي تحتاج إلى قرينة مفقودة في المقام.
نعم يظهر من احاديث الباب استدلال الامام عليه السّلام في موارد مختلفة بعموم قوله تعالى «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» لنفى الحكم عن جميع الافراد مع عدم كونه حرجيا إلا في حق غالبهم، مثل رواية أبي بصير الدالة على عدم. انفعال الماء الكر.
مستندا الى عموم هذه الآية، مع ان من المعلوم عدم لزوم العسر والحرج من عدم هذا الحكم على جميع المكلفين وكذلك غيره وهذه الرواية وأمثالها هي غاية ما يمكن ان يستشهد به للوجه الثاني.
ولكن يمكن ان يجاب عنه بما ذكرناه عند ذكر روايات الباب من ان استنادهم عليهم السلام بهذه الفقرة من الآية الشريفة على وجهين: تارة يكون بعنوان العلة للحكم ويكون ضابطة كلية يعطي بيد المكلفين ويدور الحكم معه حيثما دار، كما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام فيمن عثر وانقطع ظفره إلخ ولا إشكال في ان الحرج في أمثال هذه الموارد أخذ شخصيا.
واخرى بعنوان حكمة الحكم اعنى ما كان داعيا وباعثا على تشريعه وان كان هناك بواعث أخر غيرها فيكون كالمعدات أو العلل الناقصة ومن الواضح ان الحكم في هذه الموارد لا يدور مدار العلة، بل قد يتجاوز عنها الى غيرها، وقد لا يشمل جميع مواردها، ولذا لا يجوز الاستناد الى ما ورد في أدلة الاحكام من علل التشريع ولا يعامل معها معاملة المنصوص العلة، فلا يكون جامعا ولا مانعا.
وما يتوهم ان الحرج قد أخذ فيه نوعيا في الحقيقة من قبيل القسم الأخير أعني ما يكون حكمة للحكم فالحرج فيه أيضا شخصي ولكن دائرة التعليل لا تنطبق على دائرة الحكم لا ان الحرج فيه نوعي فتدبر.
والحاصل ان استدلالهم عليهم السلام في بعض الموارد التي يكون الحرج فيها نوعيا بآية نفى الحرج لا يكون دليلا على الوجه الثاني؛ ولا يجوز التعدي منه الى غيره من الموارد التي يكون الحرج فيها نوعيا؛ بل يجب الاقتصار على خصوص مورده، لان سياقه سياق بيان حكمة التشريع لا علة الحكم.
كما انا نعلم خارجا ان الحكمة في تشريع كثير من الأحكام هي التوسعة ورفع الحرج عن المكلفين (و لو لم يستند فيها إلى آية نفى الحرج وغيرها من أشباهها) كالقصر في الصلاة والصيام، ورفع الصوم عن المرضى والشيوخ؛ والعدول من الوضوء والغسل الى التيمم في كثير من الموارد، وكثير من احكام مستثنيات أبواب النجاسات. ولا يكون هذا دليلا على أخذ الحرج نوعيا في قاعدة نفى الحرج.
هذا كله مضافا الى عدم انضباط الحرج النوعي، فهل الملاك فيه هو نوع المكلفين في جميع الأزمنة والأمكنة، أو أهل عصر واحد، أو أهل مكان واحد، أو صنف خاص منهم أو غير ذلك من الاحتمالات فتأمل؛ فتحصل من جميع ذلك ان المعيار في هذا الباب هو الحرج الشخصي لا غير.
التنبيه الثالث حكم تعارض دليلي نفى الحرج ونفى الضرر :
إذا تعارض الضرر والحرج في مورد- كما إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لا ضرار جاره وترك تصرفه فيه حرجا عليه لان منع المالك عن تصرفه في ملكه كيف يشاء أمر حرجي- فهل يقدم قاعدة نفى الحرج أو يؤخذ بقاعدة نفى الضرر أو يتساقطان ويرجع الى أدلة أخر؟.
قال شيخنا الأعظم قدس سره الشريف في بحث قاعدة «لا ضرر» من «الفرائد» :
«إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه، فإنه يرجع الى «عموم الناس مسلطون على أموالهم»، ولو عد مطلق هجره عن التصرف في ملكه ضررا لم يعتبر في ترجيح المالك ضررا زائد على ترك التصرف، فيرجع الى عموم التسلط؛ ويمكن الرجوع الى «قاعدة نفى الحرج» لان منع المالك لدفع ضرر الغير حرج وضيق عليه، اما لحكومته ابتداء على نفى الضرر، واما لتعارضهما والرجوع الى الأصل» انتهى.
وقال المحقق النائيني (قده) في آخر رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر ما حاصله:
«ان حكومة لا حرج على لا ضرر- كما احتمله الشيخ الأعظم- تتوقف على أمرين الأول- كون لا حرج مثبتا للحكم أيضا أي كما انه حاكم على الأحكام الوجودية يكون حاكما على الأحكام العدمية أيضا، والا لا يعقل تعارضه مع لا ضرر واجتماعه معه في مورد واحد حتى يكون حاكما عليه. وان شئت قلت: ان هذا الشرط يرجع الى منع الصغرى وحاصله عدم إمكان تعارض لا ضرر مع لا حرج.
الثاني- ان يكون لا حرج ناظرا الى لا ضرر، ومعنى النظر ان يكون الحكم في طرف المحكوم مفروض التحقق حتى يكون الحاكم ناظرا الى الحكم الثابت في المحكوم واما لو كان كل منهما في عرض الأخر ولا أولوية لفرض تحقق أحدهما قبل الأخر فلا معنى للحكومة وبالجملة لا وجه لجعل لا حرج حاكما على لا ضرر فلا يمكن علاج التعارض بالحكومة.
كما انه لا يمكن علاجه بتقديم لا ضرر على لا حرج مطلقا من باب ان مورد الضرر أقل من الحرج- لا كل ضرري حرجي ولا عكس- فان فيه أولا ان أقلية المورد انما توجب الترجيح إذا كان المتعارضان متضادين دائما لا مثل المقام الذي يتوافقان غالبا وثانيا- ان الحرج هو المشقة في الجوارح لا في الروح؛ فقد يكون الشيء ضرريا كالنقص في المال ولا يكون حرجيا، فقولك كل ضرري حرجي ولا عكس غير صحيح (انتهى).
أقول- ولقد أجاد فيما أفاد بقوله ثانيا من ان ملاك الحكومة- وهو نظر احد الدليلين الى الآخر والتصرف فيه بأحد أنحائه التي مضى شرحها- مفقود في المقام توضيحه: ان أدلة نفى الضرر ونفى الحرج متساوي الإقدام بالنسبة إلى موضوعاتهما وقد عرفت مما ذكرنا هنا وهناك (في قاعدة لا ضرر) ان لسانهما واحد فلا وجه لحكومة إحداهما على الأخرى، بل قد عرفت انه لا حكومة لهما على الأدلة المثبتة للأحكام رأسا وانما يقدمان على غيرهما لورود هما مورد الامتنان ولجهات أخر مضى شرحها فلا معنى لتقدم إحداهما على غيرها وحكومتها عليها بل هما متعارضان متكافئان والنسبة بينهما عموم من وجه.
واما القول بأن النسبة بينهما عموم مطلق- لان كل أمر ضرري حرجي ولا عكس- كما حكاه المحقق المذكور، ساقط جدا لا لما ذكره فقط، بلى لان تصادق مورد الضرر والحرج لو ثبت فإنما هو في مورد الإضرار على النفس لا في مورد الإضرار بالغير فمثل دخول «سمرة بن جندب» على الأنصاري بلا اذن منه كان ضررا عليه مرفوعا بحكم قاعدة نفى الضرر، ولكن لم يكن هذا فعلا حرجيا لا لسمرة ولا للأنصاري؛ اما الأول فواضح واما الثاني فلأنه لم يكن دخول سمرة فعلا للأنصاري، نعم دخوله بلا اذن كان ضيقا على الأنصاري، ولكن من الواضح ان قاعدة لا حرج لا ينفى كل ضيق حاصل من أي ناحية بل الضيق والحرج المرفوع بها هو ما حصل من ناحية التكاليف الواردة في الشرع، فقوله تعالى: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» اى ما جعل عليكم تكليفا يلزم منه الحرج والضيق، بقرينة قوله «عليكم».
وان شئت قلت: عمومات نفى الحرج إنما تنفى الحرج الحاصل من ناحية التكاليف الشرعية على نفس المكلفين بها؛ واما الحرج والضيق الحاصل من أفعالهم على غيرهم فلا دلالة لها عليه، وانما المتكفل له قاعدة لا ضرر. ولا فرق في ذلك بين شمول قاعدة نفى الحرج للعدميات أيضا وبين اختصاصها بالوجوديات فقط.
وإذ قد ثبت ان النسبة بينهما عموم من وجه فالحكم في موارد تعارضها هو تساقطهما في مورد الاجتماع والرجوع الى غيرهما، الا ان يكون هناك مرجحات خاصة في بعض الموارد، كاهتمام الشارع ببعض المواضيع مثل حقوق الناس وأشباهها فيعمل بها.
واما ما ذكره قدس سره بقوله «أولا» وحاصله توقف حكومة أدلة لا حرج على أدلة نفى الضرر على شموله للعدميات، ففيه ان موارد التعارض لا تنحصر بمورد السؤال مما يكون الطرفان من قبيل النقيضين أحدهما وجودي والأخر عدمي، بل قد يكون من قبيل الضدين وذلك كما إذا كان القيام في مكان موجبا للضرر على غيره والقيام في غير ذاك المكان حرجا عليه نفسه ودار امره بينهما، فالتعارض في هذا المثال وأشباهه ثابت من دون توقف على شمول لا حرج للعدميات، نعم خصوص المثال الذي ذكره الشيخ الأعظم قده في كلامه يكون من قبيل المتناقضين، ولكن ما ادعاه المحقق النائيني ظاهر في انحصار مورد تعارضهما بالمتناقضين كما يظهر لمن تدبر في كلامه.
التنبيه الرابع هل القاعدة تشمل العدميات أم لا؟
الحق انه لا فرق في شمول أدلة نفى الحرج بين الأحكام الوجودية والعدمية؛ كما مر نظيره في «قاعدة نفى الضرر».
ولكن بمعنى انه لو لزم من ترك بعض الافعال ضيق وحرج على المكلف- كترك شرب مائع نجس أحيانا- فإنه يجوز شربه ويرتفع حرمته بمقتضى قاعدة نفى الحرج؛ ومجرد كون موضوعه وهو ترك الشرب امرا عدميا لا اثر له أصلا، بعد كون الدليل الدال على نفى الحرج شاملا لجميع الموارد مثل قوله تعالى «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وقوله عليه السّلام «ان الدين ليس بمضيق» وقوله «الدين أوسع من ذلك» فان مفادها جميعا نفى الاحكام الحرجية سواء تعلقت بموضوعات وجودية أو عدمية.
هذا بناء على المختار من ان الحرج والعسر من صفات فعل المكلف لا من صفات الاحكام، وبناء عليه يلاحظ العدمي والوجودي في ناحية متعلق الحكم وهو فعل المكلف لا في ناحية الحكم نفسه.
واما بناء على كونه من أوصاف الحكم فظاهر أدلة نفى الحرج- اعنى نفى الاحكام الحرجية بناء على هذا القول- وان كان خصوص الأحكام الوجودية، لأن عدم الحكم ليس حكما ولا يصدق عليه انه مما جعله الشارع فلا يدخل في قوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، إلا انك قد عرفت سابقا في بحث قاعدة لا ضرر، ان العرف يحكم حكما قطعيا بإلغاء هذه الخصوصية؛ فلا يرى اى فرق بين لزوم الحرج من جعل الوضوء على المكلف أو من ترك جعل تسلط الناس على أموالهم، ولا يرى وجها للامتنان بترك جعل الأول دون الثاني وقد مر هناك بعض ما ينفعك في المقام فراجع.
التنبيه الخامس نفى الحرج هل هو رخصة أو عزيمة؟
إذا تحمل الحرج واتى بالعمل الذي فيه ضيق وشدة منفية- كالوضوء والغسل الحرجيين- فهل يجزى عنه لكون المرفوع وجوبه لا أصل مشروعيته، أو لا يجزى لكونه باطلا لعدم الأمر به رأسا فيكون تشريعا محرما؟
وهذه المسألة كأصل القاعدة غير معنونة في كلمات القوم مستقلا حتى ان المحقق النراقي الذي انفرد بذكر هذه القاعدة في عوائده لم يتعرض لها ولا لغير واحد من التنبيهات التي ذكرناها، الا ان الذي يظهر من غير واحد من أعاظم المتأخرين في الفروع الفقهية المتفرعة على هذه القاعدة كونها من باب الرخصة لا العزيمة، فلنذكر بعض ما وصل إلينا من كلماتهم ثمَّ نتبعها بما هو المختار.
قال الفقيه المتتبع الماهر صاحب الجواهر قدس سره الشريف في ذيل مسألة سقوط الصيام عن الشيخ والشيخة وذي العطاش ما نص عبارته :
«ثمَّ لا يخفى عليك ان الحكم في المقام ونظائره من العزائم لا الرخص ضرورة كون المدرك فيه نفى الحرج ونحوه مما يقضى برفع التكليف- الى ان قال: «مع عدم ظهور خلاف فيه من احد من أصحابنا عدا ما عساه يظهر من المحدث البحراني فجعل المرتفع التعين خاصة تمسكا بظاهر قوله تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ} [البقرة: 184] الى قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] انتهى.
وظاهر كلامه ان دلالة عمومات نفى الحرج على ارتفاع التكليف كلية وكونه من باب العزيمة أمر مفروغ عنه، حتى ان ذهاب المحدث البحراني إلى الرخصة في هذا المورد الخاص انما هو لقيام دليل خاص عليه وهو قوله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة: 184] .
وقال المحقق الهمداني في مصباحه في بعض التنبيهات التي ذكرها في مسوغات التيمم ما حاصله:
ان التيمم في الموارد التي ثبت جوازه بدليل نفى الحرج رخصة لا عزيمة، فلو تحمل المشقة الشديدة الرافعة للتكليف واتى بالطهارة المائية صحت طهارته، كما تقدمت الإشارة إليه في حكم الاغتسال لدى البرد الشديد، فإن أدلة نفى الحرج لأجل ورودها في مقام الامتنان وبيان توسعة الدين لا تصلح دليلا إلا لنفي الوجوب لا لرفع الجواز.
ثمَّ أورد على نفسه بقوله: فان قلت: إذا انتفى وجوب الطهارة في موارد الحرج فلا يبقى جوازها حتى تصح عبادة، فإن الجنس يذهب بذهاب فصله وبعبارة أخرى أدلة نفى الحرج حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف فتخصصها بغير موارد الحرج فاتيانها في تلك الموارد بقصد الامتثال تشريع محرم.
ثمَّ أجاب عنه بأنه إذا كان منشأ التخصيص كون التكليف بالوضوء والغسل حرجيا من دون ان يترتب عليهما عدا المشقة الرافعة للتكليف مفسدة أخرى لا يجوز الاقدام عليها شرعا كالضرر ونحوه، فهو لا يقتضي إلا رفع مطلوبية الفعل على سبيل الإلزام لا رفع ما يقتضي الطلب ومحبوبية الفعل، وكيف كان فلا يفهم من أدلة نفى الحرج عرفا وعقلا الا ما عرفت (انتهى) «20».
وقال السيد السند المحقق الطباطبائي اليزدي في «العروة» في المسألة 18 من مسوغات التيمم: إذا تحمل الضرر وتوضأ واغتسل فان كان الضرر في المقدمات من تحصيل الماء ونحوه وجب الوضوء والغسل وصح وان كان في استعمال الماء في أحدهما بطل، واما إذا لم يكن استعمال الماء مضرا بل كان موجبا للحرج والمشقة كتحمل الم البرد أو الشين مثلا فلا يبعد الصحة؛ وان كان يجوز معه التيمم، لان نفى الحرج من باب الرخصة لا العزيمة، ولكن الأحوط ترك الاستعمال وعدم الاكتفاء به على فرضه فيتمم أيضا» انتهى.
واستشكل عليه كثير من المحشين وصرحوا بوجوب التيمم أو بعدم ترك الاحتياط به أقول- قد ظهر لك مما ذكرنا سابقا ان أدلة نفى الحرج وان لم تكن حاكمة على عمومات الاحكام الا انها مقدمة عليها لقوة دلالتها بالنسبة إليها فيخصص العمومات المثبتة للأحكام بها، ومن الواضح انه لا دلالة لتلك العمومات عرفا على إثبات أمرين:
الإلزام والمطلوبية، حتى يرتفع أحدهما ويبقى الأخر، بل المستفاد منها حكم واحد إثباتا ونفيا؛ فاما ان يخصص فينتفى من أصله؛ واما ان يبقى بحاله؛ ولا دخل له بمسألة عدم جواز بقاء الجنس من دون فصله، فان ذلك مسألة عقلية والكلام هنا في دلالة لفظية بحسب متفاهم العرف. فالذي يقتضيه القاعدة الأولية هو نفى المشروعية رأسا في موارد الحرج أو الضرر أو غيرهما مما يستلزم تخصيصا في أدلة الاحكام.
وورودها في مقام الامتنان وان كان معلوما لا ريب فيه الا انه لا يقتضي ما ذكره من نفى خصوص الإلزام؛ لما حققناه في بعض أبحاث قاعدة لا ضرر من ان الامتنان يجوز ان يكون في أصل الحكم فلا يجب وجود ملاكه في جزئيات موارده.
مثلا رفع أثر الإكراه بحديث الرفع يوجب بطلان البيع الحاصل عن اكراه وان كان في هذا البيع منافع كثيرة للمكره في بعض موارد الإكراه، كما إذا كان الثمن أكثر من ثمن المثل بأضعاف وكان لا يعلمه البائع المكره، فإنه لا إشكال في ان حديث الرفع من أظهر مصاديق ما ورد مورد الامتنان ولكن الامتنان في رفع آثار الإكراه انما يكون بنحو كلى عام، لا في كل واحد واحد من مصاديقه وجزئياته.
فلو انكشف بعد بيع المكره انه كان مشتملا على منافع كثيرة له لم يكشف ذلك عن صحة البيع المذكور من حيث ان رفع اثر هذا الإكراه مخالف للامتنان لما في مورده من المنافع الهامة؛ بل يتوقف على الإجازة اللاحقة بلا اشكال.
فالمعيار هو كون الحكم الكلى؛ وهو رفع أثر الإكراه على نحو عام وبعنوان ضرب قانون كلى؛ امتنانا على المكلف وان كان بملاحظة بعض مصاديقه النادرة مخالفا له. وهكذا الكلام في باقي التسعة وكذا الحال في حجية كثير من الامارات الشرعية كسوق المسلمين وأيديهم وغيرهما مما يستفاد من أدلتها أو من قرائن خارجية ان حجيتها انما هو من باب التوسعة على المكلفين وان اللّه قد من عليهم بذلك، فان ذلك لا ينافي ثبوت بعض التكاليف من ناحيتها عليهم أحيانا بحيث لولاها لم يكن طريقا إلى إثباتها، والحاصل ان الامتنان بهذه الأمور انما هو باعتبار مجموع الوقائع التي تشملها.
فورود عمومات نفى الحرج مورد الامتنان لا يصلح قرينة على صرفها عن ظاهرها من نفى الاحكام الحرجية رأسا، وجوبا كان أو تحريما أو غيرهما؛ فلا وجه للقول بنفي خصوص الإلزام في بعض مواردها مع بقاء أصل المحبوبية.
واما ما أفاده في جواب المستشكل فهو بمنزلة قرينة أخرى لصرف عمومات لا حرج عن نفى الجواز في موارد الأحكام الوجوبية الحرجية وانحصار مفادها في نفى الوجوب وحاصله ببيان منا:
انا نعلم خارجا ان الوضوء والغسل الحرجيين وأشباههما لا يترتب عليها أي مفسدة موجبة لنقصان ملاك المحبوبية فيها، الا ان إيجابها لما كان موجبا للضيق والحرج على المكلفين رفعه الشارع منة عليهم مع وجود ملاكه فيها؛ فعدم وجوبها ليس من ناحية عدم المقتضى بل من جهة ابتلائه بالمانع وهو ما اراده الشارع المقدس من الامتنان على هذه الأمة، ومن المعلوم ان هذا مانع عن الأمر الإلزامي دون غيره فوجود ملاك المطلوبية فيها مع عدم المانع عن الأمر غير الإلزامي بها يكشف عن تعلق أمر بها كذلك، بل يكفي في صحتها وصحة قصد القربة بها مجرد وجود ملاك المحبوبية فيها ولو لم يكشف عن تعلق أمر بها.
ولكن يرد عليه ان دعوى العلم بعدم المفسدة فيها دعوى بلا بينة ولا برهان لاحتمال وجود بعض المفاسد فيها بعد كونها حرجية، ولا أقل من ان التكليف إذا كان حرجيا وثقيلا على المكلفين أوجب كثرة المخالفة والعصيان وهي مفسدة عظيمة ولهذا ذهب بعضهم الى ان نفى الحرج لازم على الواجب الحكيم من باب وجوب اللطف فتأمل.
أضف الى ذلك ان تحمل الحرج وتكلف الفعل الحرجي، بعد ما من اللّه تعالى على عباده بنفيه، رفض لما تصدق وما من به عليهم ويمكن ان يكون في هذا مفسدة؛ كما ورد في باب عدم صحة التمام في مواطن القصر من التعليل بأنه رد لتصدق اللّه على الأمة مثل ما رواه ابن ابى عمير عن بعض أصحابنا عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: ان اللّه عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة ان ترد عليه؟ وفي معناه رواية أخرى رواها الصدوق في الخصال عن السكوني «21».
و الغرض من ذلك كله إبداء احتمال وجود مفسدة في تحمل الحرج والإتيان بالتكاليف الحرجية؛ ومعه لا يصح دعوى القطع بعدم وجود مفسدة فيها وبقاء ملاك المحبوبية على حالها، ومن المعلوم ان مجرد الاحتمال كاف في المقام.
واما مسألة جواز التيمم في الموارد التي ثبت بدليل نفى الحرج ففيها اشكال آخر مضافا الى ما ذكرنا في الجميع، وهو ان المستفاد من أدلة تشريع التيمم والمركوز في أذهان المتشرعة كون التيمم بدلا طوليا عن الوضوء والغسل، لا عرضيا، فلا يجتمعان في مورد.
ومن المعلوم ان القول بالرخصة يستلزم كونهما في عرض واحد في الموارد التي ثبت جواز التيمم فيها بأدلة نفى الحرج، فيجوز في حال واحد التيمم والغسل أو هو والوضوء والالتزام به مشكل جدا.
فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الأقوى بحسب ما يستفاد من ظاهر أدلة نفى الحرج كونه من باب العزيمة لا الرخصة، كما فهمه الشيخ الأجل صاحب الجواهر وجعله امرا مفروغا عنه، فح لا يجوز تحمل الحرج والإتيان بالفعل الحرجي، ولو فعله لا يجتزى به.
التنبيه السادس لا يخفى ان العسر والحرج يختلف باختلاف الأشخاص، والحالات، والأمكنة
، والأزمنة، والظروف المختلفة ووجود الأسباب وعدمها الى غير ذلك.
فرب شيء يكون حرجيا بالنسبة إلى شخص دون آخر، كالضعيف دون القوى، ورب شيء يختلف باختلاف حالات شخص واحد من القوة والضعف والصحة والمرض، ورب شيء يكون عسرا وحرجيا في مكان دون آخر كتحصيل الماء في الصحاري القفار دون الشاطئ، أو في زمان دون آخر كالحج بالنسبة الى بعض الناس في الأزمنة السابقة دون زماننا هذا، الى غير ذلك.
وحيث قد عرفت في التنبيه الثاني من هذه التنبيهات ان المعيار في هذا الباب هو الحرج الشخصي لا النوعي فاللازم ملاحظة جميع هذه الأمور في الحكم بنفي التكليف، واما لو قلنا بأن العبرة بالحرج النوعي فهل العبرة بنوع المكلفين في جميع الأزمنة والأمكنة على اختلافهم في الصنوف والحالات والظروف، أو ان العبرة بصنف منهم؟ وما الدليل على تعيين صنف خاص وما المعيار في سعة دائرة هذا الصنف؟ وقد عرفت سابقا ان عدم وجود الضابطة لتشخيص ذلك احد الموهنات لهذا القول .
هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه القاعدة المهمة المغفول ذكرها في كلمات الأصحاب، مع استنادهم إليها في مختلف أبواب الفقه وتفريع فروع كثيرة عليها؛ وقد بقي خبايا في زوايا يعثر عليها الخبير.
وقد وقع الفراغ منه يوم الأحد التاسع عشر من شهر شوال من سنة 1382.
_______________
(1) الحديث 14 من الباب 9 من أبواب الماء المطلق من الوسائل .
(2) الحديث 5 من الباب 9 من أبواب الماء المضاف.
(3) «الركوة» : ما يجعل تحت المعصرة فيجتمع فيه عصير العنب، و«التور»: إناء صغير .
(4) الحديث 11 من الباب 9 من أبواب الماء المطلق.
(5) بحار الأنوار المجلد الأول ص 152.
(6) راجع الباب 26 من أبواب الجنابة.
(7) الحديث 5 من الباب 8 من أبواب الماء المطلق.
(8) الحديث 5 من الباب 39 من أبواب الوضوء من الوسائل .
(9) ذكره في «الفرائد» في باب حجية ظواهر الكتاب .
(10) الحديث 4 من الباب 38 من أبواب الوضوء.
(11) الحديث 1 من الباب 13 من أبواب التيمم.
(12) ورواه في تفسير البرهان في ذيل الآية الشريفة عن كتاب عبد اللّه بن جعفر أيضا .
(13) بحار الأنوار- المجلد الأول صفحة 155.
(14) الحديث 3 من الباب 50 من أبواب النجاسات من الوسائل .
(15) الحديث 3 من الباب 8 من أبواب الماء المضاف .
(16) الظاهر ان الضمير في قوله «قرضوها» راجع الى النجاسة يعنى قرضوا النجاسة وآثارها لا انهم كانوا يقرضون لحومهم؛ وقرض عين النجاسة وآثارها عن أبدانهم لعله كان مثل حلق الشعر عنها ويشتمل على مشقة كثيرة وإلا فوجوب قرض اللحوم عليهم أمر بعيد جدا وما ورد في بعض الروايات من «ان بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم قطرة من بول قرضوا لحومهم بالمقاريض» لعله سهو من الراوي عند النقل بالمعنى، والمقروض كان عين النجاسة وأثرها فتأمل.
(17) ورواها المحدث البحراني (قده) أيضا في تفسيره في ذيل الآية الشريفة.
(18) أصول الكافي ج 1 ص 164 من الطبعة الأخيرة.
(19) نقلناها تحت الرقم «11» .
(20) كتاب الطهارة من المصباح ص 463.
(21) رواهما في الوسائل في الباب 22 من أبواب صلاة القصر من المجلد الأول.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|