المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8120 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05

مضادات الزبد Antifoams
21-5-2017
الحسن والقبح (1)
7-08-2015
هل تنمو الحشرات بنفس الطريقة التي تنمو فيها الحيوانات الأخرى؟
25-1-2021
وزراء ملكة فكتوريا(سلسبري)
2023-09-24
معلومات عن طائر السمان
2023-04-20
الفراعنة
4-10-2016


التعبّدي والتوصّلي  
  
770   09:31 صباحاً   التاريخ: 2-9-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 1 (ص: 274).
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / تعاريف ومفاهيم ومسائل اصولية /

الأمر الأوّل: في تعريف التعبّدي والتوصّلي وبيان الميزان فيهما:

فقد ذكر لهما تعاريف كثيرة التي لا حاجة إلى ذكر جميعها بل نذكر هنا أشهرها وما يرد عليه من الإيراد ثمّ نذكر التعريف المختار.

فالمشهور أنّ الواجب التوصّلي ما لا يتوقّف حصول الامتثال أو حصول الغرض فيه على قصد القربة نظير تطهير المسجد(1) فإنّ الغرض فيه يحصل وبتبعه يسقط الأمر بمجرّد التطهير من دون قصد القربة أو قصد الأمر وبأيّ طريق حصل التطهير، وأمّا الواجب التعبّدي فهو ما يتوقّف حصول الغرض والامتثال فيه على قصد القربة.

ولكن الإنصاف أنّه تعريف ببعض اللوازم وليس بياناً لماهية الواجب التعبّدي والتوصّلي، فإنّ اعتبار قصد القربة أو عدمه ينشأ من خصوصيّة في ماهية الواجب التعبّدي أو التوصّلي وإنّهما مع قطع النظر عن قصد القربة مفترقان ماهية وذاتاً.

توضيح ذلك: إنّ الأفعال الاختياريّة للإنسان على قسمين: الأفعال التي يأتي بها لرفع حاجاته اليوميّة كالتجارة والبيع والنكاح والطلاق وغيرها، والأفعال التي يأتي بها لإظهار عبوديته ونهاية خضوعه وتعظيمه في مقابل ربّه ومولاه، وهي بنفسها على قسمين أيضاً:

الأوّل: ما يكون بذاته تعظيماً وتجليلا ويعدّ خضوعاً وعبوديّة كالسجدة فإنّها تعدّ بذاتها عبوديّة ولو مع عدم قصد القربة ووقوعها في مقابل أي شخص أو أي شيء، وهي عبادة ولو وقعت في مقابل صنم من الحجر والشجر.

الثاني: ما يكون عبادة ولكن لا بذاته وماهيته بل باعتبار المولى وجعله كعباديّة الصّيام (التي ترجع إلى عباديّة الامساك) والطواف والسعي في الصفا والمروة والهرولة في موضعها وغير ذلك من أشباهها من الواجبات التعبّديّة في الشرع المقدّس، فإنّها اُمور وضعت للخضوع والتعظيم في مقابل المولى الحكيم فإنّه جعلها للعبادة والعبوديّة ووسيلة للتقرّب إليه، ولا إشكال في أنّ هذا القسم أيضاً يتشخّص بتشخّص العبادة ويتلوّن بلونها بالجعل والاعتبار مع قطع النظر عن قصد القربة والتعظيم وقصد العبادة، فإنّه نظير ما يعتبر للتعظيم ويوضع للاحترام بين الملل والأقوام، فعند بعضهم جعل رفع القلنسوة والبُرنيطة للاحترام فيعدّ وضعها إهانة وهتكاً مع أنّ عكسه يعدّ تعظيماً عندنا فيعتبر وضع العمامة مثلا إحتراماً ورفعها هتكاً، وكذلك الحال في العبادات، فالعمدة فيها الجعل والاعتبار، نعم العبادة المطلوبة تتحقّق بقصد القربة لا بذات العبادة.

فتلخّص: أنّ الفرق بين التعبّدي والتوصّلي لا ينحصر في قصد القربة وعدمه فقط بل إنّهما تفترقان في الماهية أيضاً، فماهية العمل التعبّدي تفترق عن ماهية العمل التوصّلي، وبعبارة اُخرى: أنّ للعبادة التي توجب التقرّب إلى المولى ركنين: حسن فاعلي وهو أن يكون العبد في مقام الإطاعة والتقرّب إلى المولى، وحسن فعلي وهو أن يكون ذات العمل مطلوباً للمولى.

ثمّ إنّ المقصود من التعظيم في الموالي العرفيّة إنّما هو تكريم المولى واعظامه ليكون أكرم وأعظم عند الناس، وأمّا بالنسبة إلى الباري تعالى الكامل بالكمال المطلق والغني الحميد بغناء لا نهاية له فالمقصود منه إنّما هو تقرّب العبد ورشده واقتباس شيء من نوره وصفاته ولو كان كضوء الشمع في مقابل الشمس أو أقلّ من ذلك.

وفي تهذيب الاُصول ذكر للواجب قسماً ثالثاً، فبدّل التقسيم الثنائي إلى الثلاثي حيث قسّم ما يعتبر فيه قصد القربة إلى قسمين:

أحدهما: ما ينطبق عليه عنوان العبوديّة لله تعالى، بحيث يعدّ العمل منه للربّ عبوديّة له كالصّلاة والاعتكاف والحجّ.

وثانيهما: ما لا يعدّ نفس العمل تعبّداً أو عبوديّة وإن كان قربيّاً لا يسقط أمره إلاّ بقصد الطاعة كالزّكاة والخمس، ثمّ قال: وهذان الأخيران وإن كان يعتبر فيهما قصد التقرّب لكن لا يلزم أن يكونا عبادة بالمعنى المذكور إذ كلّ فعل قربى لا ينطبق عليه عنوان العبوديّة فإطاعة الولد لوالده والرعايا للملك لا تعدّ عبوديّة لهما بل طاعة، كما أنّ ستر العورة بقصد امتثال الأمر وانقاذ الغريق كذلك ليسا عبوديّة له تعالى بل طاعة لأمره وبعثه، وحينئذ يستبدل التقسيم الثنائي إلى الثلاثي فيقال: الواجب امّا توصّلي أو تقرّبي، والأخير إمّا تعبّدي أو غير تعبّدي ... إلى أن قال: فالأولى دفعاً للالتباس حذف عنوان التعبّديّة وإقامة التقرّب موضعها(2). (انتهى).

أقول: قد قرّر في محلّه أنّ لبعض الأعمال القربيّة كالزّكاة والخمس حيثيتين: حيثيّة تسمّى بحقّ الله وحيثية يعبّر عنها بحقّ الناس، أمّا الحيثية الثانيّة فهو ما يوجب تعلّق حقّ الفقراء بأموال المكلّفين وهو يؤخذ منهم ولو جبراً سواء قصد القربة بذلك أو لم يقصدها، وأمّا الحيثية الاُولى فهي ما يوجب تلوّن العمل بلون قربى إلهي ويجعله كسائر الواجبات التعبّديّة كتحمّل الجوع في شهر رمضان أو الهدية والوقوف بمنى وعرفات أو السعي بين الصفا والمروة في أيّام الحجّ، فكما أنّ اشتراط قصد القربة هناك علامة لجعلها ووضعها للخضوع والعبوديّة بحيث لولاها فسد العمل كذلك هنا من دون أي فرق بينهما في هذه الجهة.

هذا بالنسبة إلى ما ذكره من مثال الخمس والزّكاة، وأمّا بالنسبة إلى سائر ما ذكره من الأمثلة كستر العورة امتثالا لأمر الله وانقاذ الغريق، كذلك، فمن الواضح أنّه لا يفسد أمثال هذه الاُمور بترك قصد القربة، فلو أنقذ الغريق من دون هذا القصد فقد أتى بما وجب عليه وإن لم يستحقّ الثواب، وهذا أي عدم الاشتراط بالقربة دليل على أنّه لم يجعل عبادة في الشرع المقدّس، وبعبارة اُخرى: العبادة كما ذكره القوم على قسمين: العبادة بالمعنى الأخصّ وهي ما يشترط فيه قصد القربة وبدونها تكون فاسدة، والعبادة بالمعنى الأعمّ وهي ما يؤتى بقصد القربة وإن لم يعتبر في صحّتها ذلك، فلو ترك القربة فيها لم يستحقّ الثواب وإن كان عمله صحيحاً بسبب كونه توصّلياً، والمراد من التعبّدي في المقام هو القسم الأوّل، أي ما يشترط فيه قصد القربة لا ما يؤتى بقصد القربة وإن لم يشترط بها.

ثمّ إنّه قال في المحاضرات: إنّ الواجب التوصّلي يطلق على معنيين:

الأوّل: ما لا يعتبر فيه قصد القربة.

الثاني: ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلّف بل يسقط عن ذمّته بفعل الغير سواء أكان بالتبرّع أم بالاستنابة، بل ربّما لا يعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار، بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ، فلو تحقّق من دون إلتفات وبغير اختيار، أو في ضمن فرد محرم كفى.

وإن شئت قلت: إنّ الواجب التوصّلي مرّة يطلق ويراد به ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلّف، ومرّة اُخرى يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه الالتفات والاختيار، ومرّة ثالثة يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ (انتهى)(3).

أقول: إنّ ما أفاده جيّد في محلّه، ولكنّه لو كان في مقام بيان مصطلح القوم في الواجب التوصّلي فلم نتحقّقه في كلماتهم، وإن كان في مقام جعل اصطلاح جديد فلا مشاحّة في الاصطلاح، ولعلّه كان في مقام بيان آثار الواجب التوصّلي ولوازمه، ولكن وقع السهو في العبارة فجعل ذلك أقساماً للواجب التوصّلي، والحاصل أنّ الواجب التوصّلي شيء واحد وكلّ ذلك من لوازمه وآثاره.

الأمر الثاني: في أنحاء قصد القربة:

قد ذكر في بعض الكلمات أنحاء أربعة لقصد القربة وأشار إليها المحقّق الخراساني; أيضاً في بعض كلماته: أوّلها: التقرّب بقصد الأمر، ثانيها: التقرّب بقصد المحبوبيّة، ثالثها: التقرّب بقصد المصلحة، ورابعها: التقرّب بقصد كونه لله وإنّ الله أهل للعبادة.

أقول: أمّا التقرّب قصد الأمر: فهو يتصوّر في ما تكون عباديته بالجعل والاعتبار حيث إنّ هذا القبيل من الاُمور العباديّة تحتاج في تحديدها وتعيين نوعها وكيفيتها إلى أمر واعتبار من ناحية الشارع، وأمّا ما تكون عباديته ذاتيّة كالسجود فلا حاجة فيها إلى قصد الأمر ليكون عبادة لأنّها خضوع ذاتاً ولا تتصوّر فيه أشكال مختلفة فيكون في حال خضوعاً لله تعالى وفي حال آخر غير خضوع، وقصد الأمر لا بدّ منه في ما إذا تصوّر لعمل واحد دواع مختلفة وحالات متفاوتة.

وأمّا التقرّب بقصد المحبوبيّة: فلا إشكال في جوازه حيث إنّ قصد المحبوبيّة أيضاً يمكن أن يصير احترازاً عن سائر الدواعي وبياناً للقسم الذي يكون عبادة.

وأمّا التقرّب بقصد المصلحة: فإن كان المقصود من المصلحة ما يترتّب على العبادة من الخضوع والتكامل المعنوي (وهو ما نسمّيه بالمصلحة الأخلاقيّة) فهو يرجع إلى القسم السابق، أي قصد المحبوبيّة، وإن كان المراد منها المصالح الماديّة كالصحّة في الصّيام (كما ورد في الحديث: «صوموا تصحّوا») وكإصلاح أمر المعاش والاُمور الاقتصاديّة للمسلمين في الحجّ (فإنّ من أبعاد الحجّ بعده الاقتصادي كما اُشير إليه في الحديث أيضاً) فلا إشكال في عدم إمكان التقرّب بقصدها كما لا يخفى، فإنّ هذه الاُمور ليست اُموراً قربيّة إلاّ إذا لوحظ كونها مقدّمة للعبادة والإطاعة بمعنى أنّه يريد صحّة جسمه مثلا ليقوى على طاعة الله.

وأمّا التقرّب بقصد كون العمل لله: لأنّ الله أهل للعبادة فلا يصحّ أيضاً، لأنّ التقرّب بعمل خاصّ متفرّع على عباديته في الرتبة السابقة إمّا ذاتاً أو بالجعل والاعتبار، فإن كان عبادة ذاتاً فهو وإلاّ فلابدّ لصيرورته عبادة من أن يقصد محبوبيته عند الله أو كونه مأموراً به حتّى يمتاز عن أشباهه ونظائره، وأمّا مجرّد إتيانه لأنّ الله تعالى أهل للعبادة لا يوجب عباديته كما لا يخفى.

فظهر أنّ الصحيح من الأنحاء الأربعة في العبادات المجعولة الاعتباريّة من جانب الشارع إنّما هو القسم الأوّل والثاني فقط، وأمّا في العبادات الذاتيّة فلا حاجة إلى شيء من ذلك، نعم إذا أتى بالسجدة بقصد كونها لله تكون عبادة لله، وإن اُريد بها الصنم تكون عبادة للصنم، فهي عبادة على كلّ حال ذاتاً من دون حاجة إلى جعل واعتبار.

الأمر الثالث: في إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به:

فقد وقع الخلاف في أنّه هل يجوز أخذ قصد الأمر في متعلّقه شرعاً أو لا؟ ذهب جماعة من الأعلام إلى عدم الإمكان وإنّ قصد الأمر ممّا يعتبر في العبادات عقلا لا شرعاً ولهم بيانات مختلفة في إثباته:

منها: ما أفاده المحقّق الخراساني; من لزوم الدور، وبيانه: إنّ قصد الأمر متأخّر عن الأمر، والأمر متأخّر عن متعلّقه فلو اعتبر قصد الأمر المتأخّر عن الأمر في المتعلّق السابق على الأمر لزم تقدّم الشيء على نفسه برتبتين وهو محال.

ثمّ أورد على نفسه:

أوّلا: بما حاصله، إنّ قصد الأمر متأخّر عن الأمر خارجاً فما لم يتحقّق الأمر في الخارج لم يمكن قصده، وأمّا تأخّر الأمر عن متعلّقه (كتأخّر الأمر بالصّلاة عن وجود الصّلاة خارجاً) فهو باطل لأنّه تحصيل للحاصل، نعم الأمر متأخّر عن وجود متعلّقه ذهناً لأنّه ما لم يتصوّر الصّلاة لا يأمر به.

وأجاب عنه: بأنّ الإتيان بالصّلاة بداعي الأمر غير مقدور للمكلّف حتّى بعد الأمر إذ لا أمر للصّلاة كي يأتي بها بداعيه فإنّ الأمر حسب الفرض قد تعلّق بالمجموع أي بالصّلاة المقيّدة بداعي الأمر لا بنفس الصّلاة وحدها كي يمكن الإتيان بها بداعي أمرها، والأمر لا يدعو إلاّ إلى ما تعلّق به (وهو المجموع) لا إلى غيره (وهو الصّلاة وحدها).

ثانياً: بقوله، نعم إنّ الأمر تعلّق بالمجموع ولكن نفس الصّلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة (أي بالأمر الضمني).

وأجاب عنه بقوله: كلا، لأنّ ذات المقيّد لا يكون مأموراً بها، فإنّ الجزء التحليلي العقلي (وهو ذات «المقيّد» و «التقيّد» حيث إنّهما بعد تعلّق الأمر بمجموع الصّلاة المقيّدة بداعي الأمر جزءان تحليليّان نظير الجنس والفصل) لا يتّصف بالوجوب أصلا إذ لا وجود له في الخارج غير وجود الكلّ الواجب بالوجوب النفسي الاستقلالي كي يتّصف بالوجوب ضمناً كما هو الشأن في الجزء الخارجي.

ثالثاً: بقوله، نعم، لكنّه إذا أخذ قصد الأمر شرطاً وقيداً وأمّا إذا أخذ شطراً وجزءً فينبسط الأمر حينئذ على الأجزاء ويتّصف كلّ من الصّلاة وقصد الأمر بالوجوب النفسي الضمني أي يكون تعلّق الوجوب بكلّ جزء بعين تعلّقه بالكلّ ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحّة الإتيان بكلّ جزء من أجزاء الواجب بداعي وجوبه.

وأجاب عنه:

أوّلا: بأنّ تعلّق الأمر بإرادة الأمر وقصده ممتنع لأنّ اختياريّة الأفعال تكون بالإرادة وهي القصد، فلو كانت اختياريّة الإرادة بإرادة اُخرى لتسلسلت.

وثانياً: بأنّ الإتيان بالجزء إنّما يمكن في ضمن الإتيان بالمجموع بداعي الأمر المتعلّق بالمجموع، وإتيان المجموع بداعي أمره لا يكاد يمكن في ما نحن فيه، لأنّه يلزم الإتيان بالمركّب

من قصد الأمر وغيره بقصد الأمر وهو محال. (انتهى كلامه بتوضيح منّا).

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ جوابه عن الإشكال الأوّل بمنزلة تغيير لموضع البحث وقبول حلّ مسألة الدور والدخول في مسألة اُخرى فكأنّه اعترف برفع إشكال الدور بمسألة اللحاظ فإنّ اعتباره في المتعلّق يحتاج إلى تصوّره ذهناً فقط لا إلى وجود الأمر خارجاً.

الثاني: أنّه اعترف أيضاً ضمن الإشكالين الأخيرين بإمكان أن يكون قصد الأمر جزءً للمأمور به مع أنّ الجزء داخل في ذات المأمور به وفي قوامه كأحد الأجزاء في المعاجين وكالركوع والسجود في الصّلاة، بينما قصد الأمر ليس في عداد الأجزاء وإنّما هو يعرض الأجزاء ويكون من قبيل الحالات التي تعرض الشيء فهو من سنخ الشرط لا الجزء، نظير الاستقبال أو الطهارة في الصّلاة.

الثالث: أنّه أنكر وجود الأمر الضمني النفسي بالنسبة إلى الشرائط وحصر وجوده في الأجزاء مع أنّه يمكن تصوّر الأمر الضمني في الشرائط أيضاً، غاية الأمر أنّ متعلّقه هو الأجزاء وتقيّدها بالقيد، حيث إنّ التقيّد أيضاً جزء كسائر الأجزاء المطلوبة وإن كان القيد خارجاً، فإنّ تقيّد الصّلاة بالطهارة أيضاً متعلّق للأمر النفسي الضمني وإن كانت نفس الطهارة خارجة عنها.

الرابع: أنّه أشار في مقام الجواب عن الإشكال الثالث إلى ما مرّ منه سابقاً من أنّ اختياريّة سائر الأفعال بالإرادة، وإراديّة الإرادة ليست بها للزوم التسلسل، وقد مرّ الجواب عنه في البحث عن اتّحاد الطلب والإرادة فراجع.

الخامس: الوجدان أصدق شاهد على إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به كأن يقول المولى: «كبّر واسجد واركع ... مع قصد هذا الأمر» وكلّ ما ذكر من الأشكال شبهة في مقابل الوجدان لا يعتنى به، فمثلا اشكاله بأنّه «يلزم منه وجوب إتيان المأمور به المركّب من قصد الأمر بقصد الأمر، أي يلزم أن يتعلّق قصد الأمر بقصد الأمر وهو محال» يمكن الجواب عنه بأن لا إشكال في أنّ المحتاج إلى قصد القربة إنّما هو الأجزاء، وأمّا الشرائط فالذي يحتاج من بينها إلى قصد القربة إنّما هو الطهارة عن الحدث فقط حين تحصيلها لا حين تقيّدها وأمّا سائر الشرائط كالاستقبال والستر والطهارة عن الخبث وقصد القربة نفسه فلا حاجة فيها إلى قصد القربة بل يكفي تحقّق ذواتها بأي نحو حصلت ولو بدون قصد القربة.

وحينئذ نقول: لو فرضنا كون الأجزاء في الصّلاة تسعة وتعلّق الأمر بها فيصير عشرة مع تقيّدها بقصد الأمر، فينبسط الأمر على الجميع فيأتي بها بقصد الأمر الضمني، وهو يرى أنّ الجزء العاشر يحصل بمجرّد ذلك، فيكون الأمر الضمني في ضمن الكلّ، والمحتاج إلى قصد الأمر هو الأجزاء لا الشرائط لعدم قيام دليل عليه.

السادس: سلّمنا إستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ولكن الطريق في جعل عباديّة العبادات وأخذ قصد التقرّب بها في المتعلّق ليس منحصراً في أخذ قصد الأمر فيه بل يمكن لذلك أخذ قصد المحبوبيّة أو قصد المصلحة المعنويّة في المتعلّق فيقال مثلا «صلّ بقصد المحبوبيّة أو قصد المصلحة المعنويّة» فإذا لم يأخذه المولى في المتعلّق وأطلقه نتمسّك بإطلاقه لعدم اعتبار قصد القربة وعدم كون الواجب تعبّديّاً.

ثمّ إنّه قد ذُكر هيهنا طريق آخر لأخذ قصد الأمر في المأمور به، وهو ما أفاده الشّيخ الأعظم (رحمه الله) على ما في تقريراته، ثمّ ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) فيما أورده على نفسه رابعاً، وهو عبارة عن تصحيح اعتبار قصد الأمر في المأمور به من طريق أمرين:

 أحدهما: يتعلّق بذات العمل، والآخر: بإتيانه بداعي أمره، فلو لم يعتبر المولى قصد القربة بواسطة أمر ثان وكان هو في مقام البيان نستكشف عدم اعتباره.

ثمّ أجاب المحقّق الخراساني(رحمه الله) عنه:

أوّلا: بأنّا نقطع بأنّه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد كسائر الواجبات التوصّلية.

وثانياً (وهو العمدة) بأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأصل الفعل إن كان توصّلياً يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل ولو بداعي أمره فلا يكاد يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني، لسقوط الأمر الأوّل بمجرّد الإتيان بالفعل لا بداعي أمره، وإن كان تعبّديّاً لا يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل بغير داعي أمره، فلا وجه لعدم السقوط إلاّ كون الواجب عباديّاً لا يحصل الغرض منه إلاّ مع الإتيان به بداعي أمره، ومع كون الواجب كذلك يستقلّ العقل لا محالة بوجوب إتيانه على نحو يحصل به الغرض أي بداعي أمره وعلى وجه التقرّب به من دون حاجة إلى أمر آخر بإتيانه كذلك.

أقول: يرد على جوابه الأوّل: بأنّه يوجد في باب العبادات أمران: أحدهما: متعلّق بذات العمل وهو واضح، والآخر: بإتيانه بداعي أمره، وهو ما يستفاد من إجماع الفقهاء على اعتبار قصد القربة فإنّه كدليل منفصل وارد بعد الأوامر العباديّة.

فإنّ المقصود من الأمر إنّما هو الدليل الكاشف عن قول المعصوم (عليه السلام) ولا إشكال في أنّ الإجماع دليل شرعي يوجب القطع بصدور أمر من المعصوم (عليه السلام)يدلّ على اعتبار قصد القربة.

ويرد على جوابه الثاني: أنّا نختار الشقّ الثاني من كلامه وهو كون الأمر الأوّل تعبّديّاً لا يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل بغير داعي أمره ولكن مع ذلك لا يكون الأمر الثاني لغواً، لأنّ الكاشف عن تعبّديّة الأمر الأوّل وعدم حصول الغرض منه إلاّ بداعي أمره إنّما هو الأمر الثاني، وليس هناك دليل آخر في مقام الإثبات إلاّ الأمر الثاني.

ثمّ إنّه لو فرضنا استحالة أخذ قصد الأمر في المأمور به بأمر واحد وانحصار طريق أخذه في أمرين، فلا إشكال في أنّ الإطلاق الذي يتمسّك به في صورة عدم أخذ قصد الأمر بأمر ثان ليس إطلاقاً لفظيّاً لأنّ المفروض عدم إمكان تقييد الأمر الأوّل بقصد الأمر حتّى يتصوّر فيه الإطلاق، بل هو إطلاق مقامي، وهو عبارة عن كون المولى في مقام بيان حكم أفراد كثيرة من دون أن يصوغه في قالب لفظي شامل لجميع الأفراد بل يذكر حكم كلّ فرد

فرد بصيغته الخاصّة فيقول مثلا: «كبّر، اسجد، اركع ...» فحينئذ لو شككنا في وجوب جزء خاصّ أو قيد خاصّ فليس هنا لفظ كان من الممكن أن يقيّده بذلك الجزء، ومثل أن يقول السائل: «بيّن لي الأغسال الواجبة» وأجاب الإمام (عليه السلام) غسل الجنابة والحيض و... من دون ذكر غسل الجمعة، فيعلم منه بمقتضى الإطلاق المقامي عدم وجوبه، أي أنّ المولى كان في مقام لو تعلّق غرضه بجزء آخر لذكره، وحيث إنّه لم يذكره فلم يقل مثلا «اقنت» في عرض سائر الأجزاء نستكشف عدم وجوبه، وهذا نظير ما إذا قام الدائن في مقام تصفية الديون فأحصى كلّ مورد مورد من موارد الدين وترك المجلس بعنوان التصفية فلو شكّ المدين بعدئذ في وجود طلب آخر فله أن يتمسّك بإطلاق المقام ويقول: حيث إنّ الدائن كان في مقام التصفية ولم يذكر هذا المورد فهذا دليل على عدم بقاء مورد آخر لدينه، فهذا إطلاق مقامي من باب أنّه ليس في البين لفظ صدر من جانب الدائن كقوله «لا دين لي عليك» حتّى يتمسّك بإطلاقه.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه يمكن أخذ قصد القربة في المأمور به بثلاثة طرق:

1 ـ أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر الأوّل، 2 ـ أخذ قصد الأمر في الأمر الثاني، 3 ـ أخذ مطلق قصد القربة في المتعلّق الأعمّ من قصد الأمر وقصد المحبوبيّة وغيرهما، وقد عرفت جواز الجميع.

هل الأصل في الأوامر هو التعبّديّة أو لا؟

إذا عرفت هذه المقدّمات فلنتكلم عن أصل البحث وهو مقتضى الأصل الأوّلي في الأوامر وأنّه هل هو التعبّديّة أو التوصّليّة؟

فنقول: فيه ثلاثة أقوال:

1 ـ أنّ الأصل هو التوصّلية وهو المختار.

2 ـ أنّ الأصل هو التعبّديّة وهو المنقول من الكلباسي صاحب الإشارات.

3 ـ فقدان الأصل اللّفظي فلابدّ من الرجوع إلى الاُصول العمليّة وهو مختار المحقّق النائيني(رحمه الله).

أمّا القول الأوّل: فقد ظهر بيانه ممّا ذكرنا من أنّه يمكن للمولى أخذ قصد الأمر ضمن أمر واحد أو أمرين فحيث لم يأخذه وكان في مقام البيان نتمسّك بإطلاق كلامه، ونثبت به عدم اعتباره عنده.

وأمّا القول الثاني: فاستدلّ له بأمور:

الأمر الأوّل: أنّ غرض المولى من الأمر هو إيجاد الداعي في المكلّف للعمل وإخراجه من حالة عدم إحساس المسؤوليّة إلى حالة إحساس المسؤوليّة في قبال المولى، وكلّما حصل هذا الغرض حصل قصد القربة طبعاً لأنّه ليس إلاّ إحساس المكلّف بالمسؤوليّة في مقابل المولى وانبعاثه من بعثه وتحرّكه من تحريكه، فالأصل الأوّلي في الأوامر أن تكون تعبّديّة، والتوصّلية تحتاج إلى دليل خاصّ.

ولكن يمكن الجواب عنه:

أوّلا: أنّه لا دليل على أنّ غرض المولى في أوامره هو تحريك العبد مطلقاً، فإنّه أوّل الكلام حيث يمكن أن يكون غرضه تحريك العبد في ما إذا لم يكن متحرّكاً بنفسه، فلو علم المولى بتحرّك العبد بنفسه وحركته إلى الماء مثلا لرفع عطش المولى لم يأمره بإتيان الماء، وهذا نظير ما ورد في بيان الإمام السجّاد (عليه السلام)حيث قال: «ولست اُوصيكم بالدنيا فإنّكم بها مستوصون وعليها حريصون وبها مستمسكون»(4).

ثانياً: أنّ وظيفة العبد إنّما هو تحصيل غرض المولى من المأمور به لا قصد التقرّب مثلا حيث إنّ العقل يحكم بوجوب رفع عطش المولى مثلا على أيّ حال: فلو اُهرق الماء لا بدّ من إتيان ماء آخر مرّة اُخرى وهكذا حتّى يرفع عطش المولى مع أنّه قد امتثل الأمر وأتى بالماء، فإنّ هذا هو مقتضى حقّ الطاعة والعبوديّة.

وبعبارة اُخرى: إنّ غرض المولى من أمره حصوله على ما هو موجود في المأمور به من المصلحة لا تحريك العبد إلى المأمور به بقصد امتثال أمره فحسب، إلاّ إذا ثبت كون الغرض منه هو العبوديّة والتقرّب إليه.

الأمر الثاني قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة: 5] ببيان أنّها تدلّ على أنّ جميع الأوامر صدرت من جانب الباري تعالى للعبادة مخلصاً والاخلاص عبارة عن قصد التقرّب في العمل، ولازمه أن تكون جميع الأوامر الشرعيّة تعبّديّة إلاّ ما خرج بالدليل.

والجواب عنه واضح: لأنّ الآية إنّما تكون في مقام نفي الشرك وإثبات التوحيد كما يشهد عليه بعض الآيات السابقة عليها وهو قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1] ، وكذلك بعض الآيات اللاّحقة وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة: 6].

بل وهكذا ما ورد في نفس الآية من التعبير بالحنفاء حيث إنّ الحنيف هو المائل من الباطل إلى الحقّ، فيطلق على الإنسان الموحّد الذي لا يعبد إلاّ الله، ولذلك وصفهم بعد ذلك بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة اللّذين هما من لوازم التوحيد بالله ومن أوصاف العباد الموحّدين، على أيّ حال: إنّ الآية في مقابل المشركين وأهل الكتاب تدلّ على انحصار العبادة بالله تعالى وأنّ الناس اُمروا لأن لا يعبدوا إلاّ الله تعالى لا أنّ جميع الأوامر الشرعيّة الصادرة من جانب الله تعالى تكون تعبّديّة، وأين هذا من ذاك.

ويشهد عليه أيضاً ذهاب المفسّرين ظاهراً على هذا المعنى، فهذا هو المحقّق الطبرسي (رحمه الله)في ذيل هذه الآية يقول: «أي لم يأمرهم الله تعالى إلاّ لأن يعبدوا لله وحده لا يشركون بعبادة، فهذا ممّا لا يختلف فيه الاُمّة ولا يقع منه التغيير» وقال في ذيل قوله تعالى «مخلصين له الدين»: «لا يخلطون بعبادته عبادة من سواه» وكذلك غيره.

أضف إلى ذلك أنّ المعنى المذكور للآية يستلزم منه التخصيص بالأكثر حيث إنّه لا ريب في أنّ أكثر الأوامر توصّلية.

مضافاً إلى أنّ لحن الآية آبية عن التخصيص لمكان التأكيدات العديدة الشديدة الواردة فيها كما لا يخفى.

الأمر الثالث: التمسّك بروايات تدلّ على أنّ الأعمال إنّما هي بالنيّات:

منها: ما رواه أبو حمزة عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «لا عمل إلاّ بنيّة»(5).

ومنها: ما رواه اسحاق بن محمّد قال: حدّثني علي بن جعفر بن محمّد، وعلي بن موسى بن جعفر هذا عن أخيه وهذا عن أبيه موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث. قال: «إنّما الأعمال بالنيّات، ولكل امريء ما نوى»(6) وهكذا الرّواية الثانيّة والثالثة من نفس الباب.

وتقريب الاستدلال: إنّ هذه الرّوايات تدلّ على اعتبار نيّة القربة في جميع الأعمال بشهادة عموم التعبير بـ «الأعمال» في الرّواية الاُولى، والنكرة في سياق النفي في الرّواية الاُولى، فلابدّ من قصد القربة في جميع الأعمال إلاّ ما خرج بالدليل.

والجواب عنه:

أوّلا: أنّه لا دليل على كون المراد من النيّة في هذه الرّوايات نيّة القربة بل لعلّها نيّة عنوان العمل بالنسبة إلى العناوين القصديّة حيث إنّ كثيراً ما يكون لعمل واحد عناوين عديدة ووجوه متفاوتة يتميّز كلّ واحد منها عن غيرها بالنيّة، فمثلا إذا أعطى زيد درهماً أمكن أن يكون من باب الأمانة أو الهبة أو الخمس أو الزّكاة أو أداء الدَين أو ردّ المظالم أو القبض، ولكنّه تتميّز وتتعيّن بالقصد والنيّة.

وإن شئت قلت: لا بدّ في الرّواية من تقدير يدور أمره بين الاحتمالين: احتمال أن يكون المقدّر الصحّة، أي إنّما صحّة الأعمال بالنيّات، واحتمال أن يكون المقدّر الأجر والثواب، أي إنّما أجر الأعمال بالنيّات، فعلى الأوّل يثبت مطلوب الخصم أي اعتبار قصد القربة في جميع الأعمال كما لا يخفى، وأمّا على الثاني فيكون معنى الرّواية أنّ ترتّب الثواب على الأعمال مشروط بقصد القربة فإزالة النجاسة عن المسجد يترتّب عليها الثواب إذا تحقّقت بنيّة القربة لا أنّ صحّتها تتوقّف عليها، واين هذا من تعبّديّة جميع الأعمال؟ وهذا الاحتمال الثاني هو المتعيّن في تفسير الرّواية بقرينة ما ورد في ذيل الرّواية الثانيّة من قوله (عليه السلام): «ولكلّ امريء ما نوى، فمن غزى إبتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجلّ ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلاّ ما نوى»، والرّوايات يفسّر بعضها بعضاً.

وبعبارة اُخرى: إنّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو في العبادة بالمعنى الأخصّ أي ما يشترط قصد القربة في صحّة العمل لا العبادة بالمعنى الأعمّ أي ما يعتبر في ترتّب الثواب عليه قصد القربة، ولا إشكال في أنّ الجهاد من القسم الثاني، فلو كانت الرّواية في مقام اعتبار قصد القربة في جميع الأعمال لزم خروج مورد الرّواية عنها.

ويشهد لهذا التفسير للرواية أيضاً ما رواه أبو عروة السلمي عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة»(7).

وما رواه أبو ذرّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصيّة له قال يا أبا ذر: «ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّى في النوم والأكل»(8).

وثانياً : ما مرّ في الجواب عن الدليل الثاني من قضيّة التخصيص بالأكثر كما لا يخفى.

فقد تلخّص من جميع ذلك عدم تماميّة جميع الوجوه التي استدلّ بها للقول الثاني.

وأمّا القول الثالث: وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني (رحمه الله) من عدم وجود أصل لفظي في المقام فاستدلّ له بما حاصله «إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فيتصوّر الإطلاق فيما يتصوّر التقييد فيه، وحيث إنّ التقييد ممتنع هنا يكون الإطلاق أيضاً ممتنعاً، فيكون الحقّ حينئذ هو الإهمال وعدم الإطلاق مطلقاً، ووجه كون الإطلاق من قبيل عدم الملكة لا العدم المطلق أنّ الإطلاق وإن كان عدمياً إلاّ أنّه موقوف على ورود الحكم على المقسم وتماميّة مقدّمات الحكمة فالتقابل بينهما لا محالة يكون تقابل العدم والملكة، فإذا فرضنا في مورد عدم ورود الحكم على المقسم فلا معنى للتمسّك بالإطلاق قطعاً، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ انقسام المتعلّق بما إذا أتى به بقصد الأمر وعدمه يتوقّف على ورود الأمر فإنّه من الانقسامات الثانويّة، فليس قبل تعلّق الأمر وفي رتبة سابقة عليه مقسّم أصلا، فالحكم لم يرد على المقسّم بل صحّة التقسيم نشأت من قبل الحكم فلا معنى للتمسّك بالإطلاق»(9).

والجواب عنه: ظهر ممّا سبق حيث إنّا لم نقبل عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق حتّى نلتزم بالإهمال بل قلنا بإمكانه من طرق ثلاثة: أخذ قصد الأمر في الأمر الأوّل، وأخذه في الأمر الثاني، وعدم انحصار التقرّب في قصد الأمر.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل اللّفظي.

الأصل العملي في المقام:

لو أنكرنا وجود الأصل اللّفظي إمّا من طريق عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به أو عدم كون المولى في مقام البيان، فما هو مقتضى الأصل العملي في المقام؟ فيه ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الأصل هو البراءة بمقتضى العقل والنقل ونتيجته التوصّلية، وهذا هو المختار.

الوجه الثاني: عدم جريان البراءة لا عقلا ولا شرعاً بل الأصل هو الاشتغال ونتيجته التعبّديّة وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني(رحمه الله) ومن تبعه.

الوجه الثالث: جريان البراءة الشرعيّة دون العقليّة.

أمّا القول الأوّل: فيظهر وجهه ممّا سنذكره في الجواب عن القول الثاني.

وأمّا القول الثاني: فاستدلّ لعدم جريان البراءة العقليّة فيه بما حاصله: إنّ الشكّ في المقام واقع في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، والعقل يستقلّ بلزوم الخروج عن عهدته، فإذا علمنا أنّ شيئاً خاصّاً كالعتق مثلا واجب قطعاً، ولم نعلم أنّه تعبّدي يعتبر فيه قصد القربة، أم توصّلي لا يعتبر فيه ذلك، فما لم يؤت به بقصد القربة لم يعلم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم تعلّقه به، فإذا لم يؤت به كذلك وقد صادف كونه تعبّديّاً يعبتر فيه قصد القربة فلا يكون العقاب حينئذ عقاباً بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.

وببيان آخر: إنّ مردّ الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة إلى الشكّ في حصول الغرض من المأمور به بدون قصد القربة وعدمه، وحيث إنّ تحصيل غرض المولى أيضاً لازم بحكم العقل كإتيان المأمور به فلابدّ أن يقصد القربة حتّى يتيقّن بتحصيل الغرض وسقوط ما وجب عليه والخروج عن عهدة ما اشتغلت ذمّته به.

وهذا نظير الشكّ في وجوب قصد الوجه والتمييز، فإنّه إذا شكّ في اعتبار قصد الوجه والتمييز في العبادات وشكّ في دخلهما في الطاعة والغرض من المأمور به فلا مجال إلاّ لأصالة الاشتغال، نعم يمكن التخلّص عن الاحتياط وجريان أصالة الاشتغال فيهما بأنّهما ممّا يغفل عنه عامّة الناس ولا يلتفت إليه إلاّ الأوحدي منهم، وفي مثله كان على الآمر بيان دخله في غرضه فحيث لم يبيّن يقطع بعدم دخله فيه، فلا يجب الاحتياط حينئذ (وأمّا قصد القربة فليس بهذه المنزلة).

واستدلّ لعدم جريان البراءة الشرعيّة بأنّه لا بدّ في جريان أدلّة البراءة الشرعيّة كحديث الرفع وأخواته من شيء قابل للرفع والوضع، وما نحن فيه ليس كذلك حيث إنّ دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي بل واقعي فلا يقبل الرفع.

إن قلت: إنّ دخل الجزء والشرط أيضاً واقعي، فكيف يرفع بحديث الرفع ونحوه في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين؟

قلنا: إنّ دخلهما وإن كان واقعياً إلاّ أنّهما قابلان للرفع، فبدليل الرفع يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك حتّى يجب الخروج عن عهدته عقلا، بخلاف المقام فإنّه علم فيه بثبوت الأمر الفعلي. (انتهى ملخّص كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) ومن تبعه في الاستدلال على أنّ الأصل هو الاشتغال).

أقول: فيه مواقع للنظر:

الموقع الأوّل: للإشكال في المبنى، فقد مرّ إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق بطرقه الثلاثة.

الموقع الثاني: (وهو العمدة) أنّه لا دليل على وجوب تحصيل غرض المولى، بل على العبد أن يأتي بمتعلّقات التكاليف الموجّهة إليه فقط حتّى لو كانت نسبة المصالح والملاكات إلى متعلّقات التكاليف من قبيل المسبّبات التوليديّة إلى أسبابها أو من قبيل العلّة والمعلول التكوينيين، لأنّ الواجب في الحقيقة إنّما هو ذات المتعلّق لا بما أنّه سبب أو علّة، فالغسلتان والمسحتان في باب الوضوء مثلا واجبتان بذاتهما لا بما إنّهما موجبتان للطهارة الباطنية، لأنّ هذا أمر خفي علينا لا بدّ للشارع من بيان أسبابه، فإذا شكّ في مدخلية شيء في تماميّة علّيته أو سببيته ولم يكن دليل على أخذه في متعلّق التكليف فلا دليل على لزوم الإتيان به على العبد فيكون الشكّ شكّاً في ثبوت التكليف وموجباً لجريان البراءة.

هذا كلّه بناءً على أن يكون حال متعلّقات التكاليف بالنسبة إلى ملاكاتها من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة أو من قبيل العلّة والمعلول التكوينيين، وأمّا إذا كان من قبيل المعدّ والمعدّ له كما هو الحقّ فعدم وجوب تحصيل الغرض أوضح لأنّه ليس حينئذ من فعل العبد، فاللازم عليه هو إتيان متعلّق التكاليف فقط.

وإن شئت قلت: إنّ العبد لا يفهم من أمر المولى بالصّلاة مثلا إلاّ لزوم الإتيان بالقيام والركوع والسجود ونحوها، وأمّا كيفية الغرض وخصوصّياته وأنّه بأي طريق يحصل فهي من شؤون المولى، وعليه أن يبيّن للعبد الأسباب الموصلة إليه كالطبيب الذي عليه أن يبيّن للمريض مقدار الدواء وطريق استعماله، وأمّا كيفية تأثيره ومقداره فهو أمر مرتبط بالطبيب ولا يفهمه المريض وإلاّ صار طبيباً، وحينئذ ليس على العبد إلاّ العمل بالمتعلّقات بمقدار ما وصل إليه من البيان.

نعم إذا علم العبد تفصيلا بغرض المولى وبأنّه لا يحصل بمتعلّق الأمر فقط يجب عليه إتيان المشكوك أيضاً كما إذا أمره المولى بالإتيان بالماء وعلم أنّ الغرض منه رفع عطشه، فلو اُهرق الماء بعد وصوله بيد المولى كان اللازم على العبد الإتيان به مرّة اُخرى لعدم حصول الغرض، وأمّا في صورة الاحتمال أو العلم الإجمالي فلا يجب عليه إلاّ الإتيان بمتعلّق الأمر بمقدار البيان وإلاّ لم يبق مورد للبراءة مطلقاً بل يجري الاشتغال في جميع موارد الشكّ.

ثالثاً: سلّمنا بوجوب تحصيل الغرض على العبد لكن تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الغرض أيضاً كما تجري بالنسبة إلى المأمور به لأنّه يمكن للمولى أن يبيّن مقدار غرضه، فكما أنّ المأمور به أمره دائر بين الأقلّ والأكثر كذلك الغرض، فإنّه أيضاً مقول بالتشكيك، نعم لو كان الغرض أمراً بسيطاً وكان أمره دائراً بين الوجود والعدم فالأصل هو الاشتغال مع قطع النظر عن ما مرّ آنفاً.

_____________________________________
1. قد ذكر في المحاضرات غسل الميّت بعنوان أحد الأمثلة للواجب التوصّلي مع أنّه لا إشكال في أنّه من الواجبات التعبّديّة ويعتبر فيه قصد القربة بل هو بنفسه أيضاً اعترف به في تعليقته على العروة ولعلّه من قبيل سهو القلم من ناحية المقرّر.

2. تهذيب الاُصول: ج1، ص111، طبع مهر.

3. المحاضرات: ج2، ص139 ـ 140.

4- بحار الأنوار: ج75، ص147، طبع بيروت.
5. وسائل الشيعة: الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، ح1.

6. نفس المصدر.

7. وسائل الشيعة: الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 5.

8. المصدر السابق: ح 8.

9. أجود التقريرات: ج1، ص112 ـ 113.

 

 

 

 

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.