المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8127 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



أدلّة القول بوجوب المقدّمة  
  
632   11:23 صباحاً   التاريخ: 25-8-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 1ص 419.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث العقلية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-8-2016 450
التاريخ: 25-8-2016 643
التاريخ: 26-8-2016 571
التاريخ: 3-8-2016 491

اختلف الأعلام في وجوب المقدّمة على أقوال، فذهب المشهور إلى وجوبها وتبعهم المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية والمحقّق النائيني(رحمه الله)، وذهب جماعة إلى عدم الوجوب وهو مختار تهذيب الاُصول والمحاضرات، وقد يكون هناك بعض التفاصيل في المسألة.

ولا بدّ قبل بيان أدلّة القولين أو الأقوال بيان الفرق بين الوجوب الشرعي واللابدّية العقليّة، فنقول أمّا اللابدّية العقليّة، فمعناها واضح، بل هي من قبيل القضايا قياساتها معها فإنّ معنى كون شيء مقدّمة لشيء آخر توقّفه عليه تكويناً وخارجاً عند العقل، أي أنّ العقل يدرك هذا التوقّف الخارجي ويكشف عنه بنحو القطع والبتّ من دون أن يعتبر شيئاً، وأمّا الوجوب الشرعي فهو أمر اعتباري وعبارة عن قانون يجعله الشارع ويعتبره في عالم الاعتبار، فيكون الفرق بين الأمرين حينئذ هو الفرق بين الجعل وعدم الجعل، وبين الأمر الاعتباري والأمر التكويني.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدلّ لوجوب المقدّمة بأمور عديدة:

الأمر الاوّل: ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) من مقايسة الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة وإليك نصّ كلامه: «لا ينبغي الإشكال في وجوب المقدّمة لوضوح أنّه لا يكاد يتخلّف إرادة المقدّمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشيء مقدّمة وأنّه لا يمكن التوصّل إلى المطلوب إلاّ بها، وإن أردت توضيح ذلك فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل، فهل ترى أنّك لو أردت شيئاً وكان ذلك الشيء يتوقّف على مقدّمات يمكنك أن لا تريد تلك المقدّمات؟ لا، بل لا بدّ من أن تتولّد إرادة المقدّمات من إرادة ذلك الشيء قهراً عليك، بحيث لا يمكنك أن لا تريدها بعد الالتفات إلى المقدّمات، وإلاّ يلزم أن لا تريد ذا المقدّمة، وهذا واضح وجداناً، وإرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل»(1).

ولكن قد اُورد عليه:

أوّلا: بأنّ «البرهان لم يقم على التطابق بين التشريع والتكوين لو لم نقل بقيامه على خلافه، وتوضيح الفرق أنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمات من الفاعل المريد، لملاك أنّه يرى أنّ الوصول إلى المقصد وإلى الغاية المطلوبة لا يحصل إلاّ بإيجاد مقدّماته، فلا محالة يريده مستقلا بعد تماميّة مقدّماتها، وأمّا الآمر غير المباشر فالذي يلزم عليه هو البعث نحو المطلوب وإظهار ما تعلّقت به إرادته ببيان واف، بحيث يمكن الإحتجاج به على العبد، ويقف العبد به على مراده حتّى يمتثله، وأمّا إرادة المقدّمات فلا موجب له ولا غاية، بعد حكم العقل بلزوم إتيانها، والحاصل أنّه فرق بين المباشر والآمر فإنّه لا مناصّ في الأوّل عند تعدّد الإرادة، لأنّ المفروض إنّه المباشر للأعمال برمّتها فلا محالة تتعلّق الإرادة بكلّ ما يوجده بنفسه، وأمّا الآمر فيكفي في حصول غرضه بيان ما هو الموضوع لأمره وبعثه، بأن يأمر به ويبعث نحوه، والمفروض أنّ مقدّمات المطلوب غير خفي على المأمور، وعقله يرشد إلى لزوم إتيانها فحينئذ لأيّ ملاك تنقدح إرادة اُخرى متعلّقة بالمقدّمات؟»(2).

وثانياً: بأن ترشّح إرادة من إرادة اُخرى بمعنى كون إرادة الواجب علّة فاعلية لإرادتها من غير احتياج إلى مباديء اُخر كالتصوّر والتصديق بالفائدة ممّا لا أصل له، لأنّ الحاكم بوجوب المقدّمة على الفرض هو الشارع الفاعل المريد المختار، وإنّ سبب الوجوب إنّما هو نفس المولى وإرادته، فتوقّف ذي المقدّمة على المقدّمة يكون حينئذ داعياً لإيجابه المقدّمة، لا أن يكون سبباً بنفسه لوجوبها(3).

ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين:

أمّا الوجه الثاني: فلأنّه يمكن أن يقال بأنّ مراد المحقّق النائيني (رحمه الله) ومن يحذو حذوه من الترشّح إنّما هو أنّ المولى الحكيم يريد المقدّمات عند إرادة ذيها لا محالة، أي إذا تعلّقت الإرادة بذي المقدّمة تعلّقت مبادئها من التصوّر والتصديق وغيرهما بمقدّماتها أيضاً، غاية الأمر أنّها إرادة غيريّة تبعيّة، مع كونها في نفس الوقت مولويّة لا إرشاديّة، فليس المقصود من الترشّح التولّد القهري غير الإرادي حتّى يقال بأنّه لا أصل له، بل المراد منه التلازم بين الإرادتين، بمعنى أنّ المولى الحكيم إذا التفت إلى توقّف ذي المقدّمة على مقدّماتها يتولّد في نفسه مباديء إرادتها بمقتضى حكمته.

إن قلت: ليس الكلام في الإرادة وتولّدها في نفس المولى بل الكلام في جعل قانون واعتبار حكم على المقدّمة، والإرادة لا تكفي فيه، بل يكون جعل الحكم لغواً.

قلنا: وجود حكم العقل في مورد لا يوجب لغويّة حكم الشارع في ذلك المورد، كما نلاحظه في حكم الشارع بوجوب الاحسان أو استحبابه وحرمة الظلم ونحوهما، ولذلك قيل (ونعم ما قيل) «إنّ الواجبات الشرعيّة الطاف في الواجبات العقليّة» وبعبارة اُخرى: حكم الشارع في موارد حكم العقل يكون تأكيداً لحكم العقل ولا لغويّة في التأكيد، هذا أوّلا.

وثانياً: لا حاجة في وجوب المقدّمة إلى جعل واعتبار فعلي من طريق الخطابات الأصليّة بل يمكن كشف حكم الشارع من ناحية كشف وجود الشوق والإرادة، أي من ناحية كشف مباديء الحكم ووجود ملاكه فإنّه يساوق الحكم نفسه كما سيأتي بناءً على قول المنكرين للترتّب من أنّ تزاحم المهمّ مع الأمر بالأهمّ يوجب عدم فعليّة الأمر بالمهم، ولكنّه مع ذلك لا يوجب بطلان المهمّ العبادي بعد ترك الأهمّ لوجود الملاك، فتدبّر جيّداً.

وأمّا الوجه الأوّل: فالجواب عنه أنّه لا إشكال في أنّ الفعل التسبيبي أيضاً يعدّ فعلا للمولى كالفعل المباشري ويستند إلى المولى، وإذاً كيف يمكن أن يتسامح الفاعل في مقدّمات فعليه، فإن أراد المولى صعود العبد إلى السطح حقيقتاً فلا محالة يريد نصب السلّم وغيره من المقدّمات أيضاً، وإن أراد أمير العسكر من عسكره فتح بلد حتماً وتعلّقت إرادته به حقيقة فسوف تتعلّق إرادته بمقدّماته من تهيئة التداركات وإيجاد النظام بين أفراد العسكر وتهيئة طرح للعمليّات بلا ريب، نعم قد يكون وضوح الإتيان بالمقدّمات للعبد بحيث لا يحتاج المولى إلى مزيد بيان، ولكن لا بمعنى أنّه لا يريدها بل بمعنى أنّه لا يحتاج إلى بيان هذا الأمر لوضوحه.

هذا كلّه في الدليل الأوّل على وجوب المقدّمة، وقد ظهر أنّه تامّ في محلّه.

الأمر الثاني: ما ذكره بعضهم من أنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات، أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول مولويّاً: «ادخل السوق وإشتر اللحم» مثلا بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب «ادخل» مثل المنشأ بخطاب «اشتر» في كونه بعثاً مولويّاً، فحيث تعلّقت إرادته بشراء اللحم ترشّحت منها له إرادة اُخرى بدخول عبده السوق بعد الالتفات إليه وأنّه يكون مقدّمة له كما لا يخفى.

أقول: قد ظهر ممّا ذكرنا في مقام الدفاع عن الوجه الأوّل ضعف ما أُورد على هذا الوجه في المحاضرات من أنّ الوجدان حاكم على الخلاف للزوم اللغويّة فتدبّر، فإنّك قد عرفت:

أوّلا: أن الأوامر الشرعيّة كثيراً ما تكون تأكيداً للواجبات العقليّة.

وثانياً: أنّ عدم الحاجة إلى البيان في بعض الموارد لا يكون دليلا على عدم إرادة المولى، ويكفي في هذه المقامات وجود الإرادة ولو في نفس المولى.

الأمر الثالث: ما ورد في لسان الشارع من الأوامر الغيريّة التي تعلّقت ببعض المقدّمات فإنّها صدرت من جانب الشارع إمّا لوجوب خصوصيّة في تلك المقدّمات غير كونها مقدّمة، أو من باب أنّها مقدّمة لبعض الواجبات، والأوّل ممنوع بالاتّفاق، فلا إشكال في أنّ وجوبها إنّما هو بملاك المقدّميّة، فنتعدّى منها إلى سائر المقدّمات من باب تنقيح المناط.

ومن هذه الأوامر:

منها: قوله تعالى في باب الغسل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]

ومنها: قوله تعالى في باب التيمّم: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]

ومنها: قوله تعالى في باب الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]

ومنها: قوله تعالى في آية النفر: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } [التوبة: 122]

ومنها: قوله تعالى في باب الجهاد: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]

ومنها: قوله تعالى في آية السؤال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]

ومنها: قوله تعالى في آية النبأ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] (حيث إنّ التبيّن ليس واجباً نفسيّاً لإمكان الاحتياط).

ومنها: قوله تعالى في باب صلاة الجمعة: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]

ومنها: قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] (حيث إنّ الامتحان واجب مقدّمة لتشخيص الإيمان والكفر) إلى غير ذلك من الأوامر الغيريّة الواردة في الكتاب الكريم، ففي جميع ذلك وأشباهها أمر الله تعالى بالواجبات الغيريّة المقدّميّة.

وقد توهّم بعض انحصار هذا القبيل من الأوامر في ما تعلّق بالطهارات الثلاث ثمّ استشكل على الاستدلال بها في المقام بأنّها ليست أوامر مولويّة بل إرشاديّة ترشد إلى شرطيّة الطهارات الثلاث فقط.

ولكنّه قد ظهر عدم انحصارها في ذلك، مضافاً إلى أنّه سيأتي إن شاء الله تعالى في باب استصحاب الأحكام الوضعية من مباحث الاستصحاب من أنّ الشرطيّة والجزئيّة أمران منتزعان من الأحكام التكليفية كغيرهما من الأحكام الوضعية، وبعبارة اُخرى: أنّ الشرطيّة أو الجزئيّة متأخّرة عن الأمر رتبة، وهي تنتزع من الأمر المولوي المتعلّق بالمأمور به، فكيف يمكن أن يكون الأمر إرشاداً إليها؟ فتدبّر فإنّه حقيق به.

الأمر الرابع: ما نسب إلى أبي الحسن البصري الأشعري من أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها، وحينئذ فإن بقى الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق وإلاّ خرج الواجب المطلق عن وجوبه.

واُجيب عنه: بأنّا نلتزم بالشقّ الأوّل في كلامه، وهو بقاء الواجب على وجوبه ولكن لا يلزم التكليف بما لا يطاق، لأنّا لا نقول حينئذ بوجوب ترك المقدّمة حتّى تكون ممتنعة شرعاً ويصير ذو المقدّمة غير مقدور، بل نقول بعدم وجوبها شرعاً، أي المراد من جواز تركها عدم المنع الشرعي عن تركها، فتكون باقية على وجوبها العقلي ولا إشكال في أنّه لا يلزم حينئذ محذور عقلي في الأمر بذي المقدّمة.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بوجوب المقدّمة، وقد عرفت تماميّة الوجوه الثلاثة الاُولى بلا إشكال، وإن كان بعضها كالأخير قاصراً عن إثبات المطلوب.

وأمّا القائلون بعدم وجوبها فاستدلّوا بلزوم اللغويّة مع وجود اللابدّية العقليّة.

ولكن الإنصاف أنّه في غير محلّه لأنّه أوّلا: إنّ اللغويّة على تقدير لزومها تختصّ بما إذا كان وجوب المقدّمة ملازماً لجعل الشارع واعتباره إيّاه حيث يقال حينئذ: لا حاجة إلى جعله واعتباره من جانب الشارع مع وجود اللابدّية العقليّة، ولكن الملازمة ممنوعة، لأنّه يكفي في وجوب شيء في الواقع كونه محبوباً للمولى ومتعلّقاً لشوقه وإرادته واقعاً، وهو حاصل في ما نحن فيه، وبعبارة اُخرى: اللغو في المقام إنّما هو جعل الحكم واعتباره، ولا حاجة إليه في إثبات الوجوب الشرعي لكفاية إحراز الملاك في ذلك.

وثانياً: اللغويّة ممنوعة جدّاً، لما عرفت من كفاية كونه تأكيداً، فكم من واجب شرعي يكون تأكيداً في واجب عقلي!

بقي هنا اُمور:

الأمر الأوّل: عدم منافاة الوجوه الأربعة للمحتار:

ما ذكرنا من الوجوه الأربعة لإثبات وجوب المقدّمة آنفاً لا ينافي مفاد التامّ منها ـ وهو الثلاثة الاُولى ـ ما اخترناه سابقاً من وجوب المقدّمة الموصلة، أمّا دليل الوجدان فلأنّه حاكم على أنّ الإنسان المريد لإتيان ذي المقدّمة إنّما يريد مقدّماته لإيصالها إلى ذيها كما لا يخفى، وأمّا الأوامر الغيريّة الواردة في لسان الشرع فالقدر المتيقّن منها أيضاً وجوب الموصل من المقدّمات، فالقدر المتيقّن من مفاد قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] إنّما هو وجوب السعي الموصل إلى ذكر الله لا مطلق السعي، وأمّا مقايسة التشريع بالتكوين فكذلك، لأنّ المباشر لذي المقدّمة في الإرادة التكوينيّة إنّما يريد المقدّمات التي توصل إلى ذيها، وهو واضح فليكن كذلك في الإرادة التشريعيّة.

أضف إلى ذلك ما مرّ بالنسبة إلى المقدّمة المحرّمة للواجبات حيث قلنا هناك أنّ حرمة المقدّمة إنّما ترتفع فيما إذا كانت المقدّمة موصلة فقط، فكذلك في غيرها.

الأمر الثاني: في بيان تفصيلين في المسألة:

التفصيل الأوّل: التفصيل بين السبب وغيره، بمعنى أنّ المقدّمة إذا كانت من الأسباب كالعقود والايقاعات بالنسبة إلى المسبّبات فتجب، وإلاّ لو كانت من المعدّات كدخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلّم للكون على السطح ونحو ذلك فلا تجب، وبعبارة اُخرى: إن كان ذو المقدّمة من الأفعال التسبيبية التوليديّة كالزواج والطلاق والعتاق ونحو ذلك ممّا ليس بنفسه تحت القدرة والاختيار إلاّ أسبابها من العقود والايقاعات وكالإلقاء في النار للإحراق ونحوها، فهذا ممّا تجب مقدّمته، وإلاّ لو كان ذو المقدّمة من الأفعال المباشريّة كشراء اللحم والصعود على السطح ونحوهما ممّا كان بنفسه تحت القدرة والاختيار فهذا ممّا لا تجب مقدّمته.

والسرّ في الوجوب في الأوّل دون الثاني أنّ الواجب في الأوّل بنفسه ليس أمراً مقدوراً للمكلّف، فلابدّ من صرف التكليف النفسي منه إلى مقدّمته بخلافه في الثاني فهو بنفسه مقدور له فلا ملزم لصرفه عنه إلى مقدّمته.

ولكن يرد عليه:

أوّلا: أنّه خروج عن محلّ النزاع لوجهين:

أحدهما: أنّ محلّ النزاع ما إذا كان ذو المقدّمة واجباً على أيّ تقدير، مع أنّ المفروض في الصورة الاُولى لهذا التفصيل عدم وجوب ذي المقدّمة، وثانيهما: أنّ النزاع في الوجوب الغيري للمقدّمة وعدمه، مع أنّ الوجوب للمقدّمة في الصورة الاُولى يكون نفسياً لأنّه نفس الوجوب الذي صرف إليها جاء من ناحية ذي المقدّمة.

وثانياً: إنّ المسبّب في الشقّ الأوّل أمر مقدور للمكلّف بواسطة سببه، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور، فلا بأس بتعلّق التكليف به.

التفصيل الثاني: تفصيل المحقّق النائيني(رحمه الله)، وإليك نصّ كلامه: «إنّ ما يسمّى علّة ومعلولا إمّا أن يكون وجود أحدهم مغايراً لوجود الآخر في الخارج أو يكونا عنوانين لموجود واحد وإن كان انطباق أحدهما عليه في طول انطباق الآخر لا في عرضه، أمّا ما كان من قبيل الأوّل كشرب الماء ورفع العطش فلا إشكال في أنّ الإرادة الفاعلية تتعلّق بالمعلول أوّلا لقيام المصلحة به ثمّ تتعلّق بعلّته لتوقّفه عليها فيكون حال الإرادة التشريعيّة الآمريّة أيضاً كذلك، وهذا معنى ما يقال من أنّ المقدور بالواسطة مقدور.

وأمّا ما كان من قبيل الثاني كالإلقاء في النار والإحراق المتّصف بهما فعل واحد في الخارج وإن كان صدق عنوان الإلقاء متقدّماً على صدق عنوان الإحراق رتبة وكذلك عنوان الغسل والتطهير فقد بيّنا سابقاً أنّ كلا من العنوانين قابل لتعلّق التكليف به كما في قوله (عليه السلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] فإذا تعلّق بالمسبّب في ظاهر الخطاب فهو متعلّق بذات السبب في نفس الأمر لا محالة، كما أنّه إذا تعلّق بالسبب فهو يتعلّق به بما أنّه معنون بمسبّبه، وهذا القسم هو مراد العلاّمة الأنصاري(رحمه الله) في المحصّل في ما ذهب إليه من أنّ البراءة لا تجري عند الشكّ في المحصّل كما أشرنا إليه سابقاً، فإذا كان الأمر بكلّ منهما أمراً بالآخر فلا معنى للاتّصاف بالوجوب الغيري فيكون هذا القسم خارجاً عن محلّ النزاع، فلا وجه للتعبير بصرف الخطاب فإنّه فرع التعدّد، والمفروض فيما نحن فيه هو الوحدة والاتّحاد»(4).

وقد أورد عليه بحقّ في هامش أجود التقريرات بالإضافة إلى تمثيله للقسم الثاني بعنواني الإلقاء والإحراق وبعنواني الغسل والتطهير «بأنّ الإلقاء غير الإحراق خارجاً وكذلك الطهارة بمعنى النظافة العرفيّة موجودة في الخارج بوجود مغاير لوجود الغسل ومترتّبة عليه بالوجدان، وأمّا الطهارة الشرعيّة فهي حكم شرعي مترتّب على وجود موضوعه خارجاً وهو الغسل، فكيف يعقل أن يكون عنوان الطهارة منطقباً على ما ينطبق عليه عنوان الغسل»(5).

أقول: ويرد عليه أيضاً أنّه لا معنى لاتّحاد السبب مع المسبّب في الخارج لأنّ العلّة والمعلول وجودان مختلفان في عالم الخارج، واتّحادهما خارجاً يوجب إنكار العلّية الخارجيّة كما لا يخفى، هذا مضافاً إلى أنّ المفروض قيام الملاك بالمسبّب بعنوانه، فالإرادة أوّلا وبالذات إنّما تتعلّق به ولا يكون السبب بعنوانه إلاّ واجباً غيريّاً، فتأمّل.

وهيهنا تفصيل ثالث للمحقّق الحائري (رحمه الله) في درره، وهو التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلات مثل إنكسار الخشبة المتحقّق بإيصال الآلة قوّة الإنسان إليها، وبين ما إذا لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر، كما في إلقاء إنسان إلى السبع فيلقي حتفه، أو إلقاء الشخص في النار فتحرقه، ففي مثل الصورة الاُولى يكون الأمر حقيقة متعلّقاً بالمسبّب لأنّ مثل إنكسار الخشبة بالآلة يعدّ عرفاً فعلا من أفعال الإنسان وإن تحقّق بسبب الآلة، فيكون وجوب السبب فيها من باب المقدّمة، وأمّا في الصورة الثانيّة فحيث إنّ مثل الإحراق والقتل في المثالين ليس من أفعال الإنسان بل من أفعال الواسطة حقيقة يجب إرجاع الأمر المتعلّق

بالمسبّب إلى السبب، فيكون وجوب السبب نفسيّاً لا من باب المقدّمة(6).

أقول: يرد عليه أنّ المهمّ في المقام إنّما هو صدق عنوان المقدور وعدمه وكون ذي المقدّمة مقدوراً للإنسان أم لا، لا صدق إنّها فعل للإنسان عرفاً وعدمه، ولا إشكال في أنّ مثل الإحراق يصدق عليه أنّه مقدور للإنسان، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ولو فرض عدم عدّه من أفعاله عند العرف، بل الإنصاف صدق كونه فعلا له عرفاً ولو بالتسبيب لقوّة السبب بالنسبة إلى المباشر في هذه المقامات، والمهمّ أنّ الملاك في جميع هذه الموارد قائم بذي المقدّمة دون مقدّمته، فتكون واجباً بالوجوب الغيري.

__________________________
1. فوائد الاُصول: ج1، ص284.

2. تهذيب الاُصول: ج1، ص221 طبع مهر.

3. راجع تهذيب الاُصول: ج1، ص220 و221، طبع مهر.

4. أجود التقريرات: ج1، ص219 ـ 220.

5. المصدر السابق: ص219.

6. راجع درر الفوائد: ج1، ص122 ـ 199 طبع جماعة المدرّسين.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.