المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8116 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05
أوجه الاستعانة بالخبير
2024-11-05
زكاة البقر
2024-11-05
الحالات التي لا يقبل فيها الإثبات بشهادة الشهود
2024-11-05
إجراءات المعاينة
2024-11-05
آثار القرائن القضائية
2024-11-05

العين الداخلية
31-5-2016
بلاكيت باتريك ماينار ستوارت
17-10-2015
أحكام القبلة
2024-06-18
أبو القاسم بن الجد
23-7-2016
خندف بن زهير الأسدي
7-8-2017
BILABIAL
15-3-2022


الاجزاء  
  
487   11:31 صباحاً   التاريخ: 3-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج1. ص.249
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث العقلية /

قبل الورود في النقض والإبرام لابدّ من ذكر مقدّمات :

الاُولى : في تحرير محلّ النزاع :

اختلفت كلماتهم في تحرير محلّ البحث ; فعنونه في «الفصول» بأنّ الأمر بالشيء إذا اُتي به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا(1) ؟ والمعروف بين المشايخ والمعاصرين هو أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا(2) .

وربّما يفرّق بين التعبيرين : أنّ النزاع في الأوّل في دلالة الأمر ، فيكون البحث من مباحث الالفاظ والدلالات ، وفي الثاني في أنّ الإتيان علّة للإجزاء ، فيكون عقلياً(3) .

وفيه : أنّ جعل النزاع في العنوان الأوّل في دلالة لفظ الأمر بعيد عن الصواب جدّاً ; أمّا عدم المطابقة والتضمّن فظاهران ; إذ لا أظنّ أن يتوهّم أحد أنّ الأمر بمادّته أو هيئته يدلّ على الإجزاء إذا أتى المكلّف بالمأمور به على وجهه ; بحيث يكون هذا المعنى بطوله عين مدلوله أو جزئه . وأمّا الالتزام فبمثل ما تقدّم .

وما يقال في تقريبه من أنّ الأمر يدلّ على أنّ المأمور به مشتمل على غرض للآمر ، ولا محالة أنّ ذلك الغرض يتحقّق في الخارج بتحقّق المأمور به ، وحينئذ يسقط الأمر لحصول الغاية(4) ، مدفوع بأنّ عدّ تلك القضايا الكثيرة العقلية من دلالة الأمر عليهما التزاماً ممّا لا مجال للالتزام به ; إذ جعلها من المداليل الالتزامية يتوقّف على كونها من اللوازم البيّنة ; حتّى يجعل من المداليل الالتزامية بالمعنى المصطلح ، مع أنّ المقدّمتين المذكورتين في كلامه قد تشاجرت في صحّته الأشاعرة والمعتزلة ، فكيف يكون أمراً بيّن الثبوت ؟ !

هذا ، من غير فرق بين إرجاع النزاع إلى الأوامر الاختيارية الواقعية أو الاضطرارية أو الظاهرية ; لأنّ دلالة الأمر لا تخرج من مادّته وهيئته ، فتدبّر .

كما أنّ جعل النزاع في العنوان الثاني عقلياً ـ كما استظهره القائل ـ لا يصحّ في جميع الأقسام ; إذ النزاع عقلياً إنّما يصحّ لو كان المراد مـن الإجـزاء بالإتيان هـو الإجزاء عـن الأمـر الذي امتثله ، وأمّا إجزاء المأتي به بالأمر الظاهري عن الواقعي والثانوي عن الأوّلي فلا محالة يرجع النزاع إلى دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية على الإجزاء ، بتنقيح موضوع الأوامر الاختيارية والواقعية بنحو الحكومة .

وبالجملة : يلاحظ لسان أدلّتها بأنّه هل يدلّ على التوسعة في المأمور به أولا ؟ فلا محالة يكون من مباحث الألفاظ ، فحينئذ لا يجوز عدّ الجميع بحثاً عقلياً . ولعلّه لأجل ذلك ذهب بعضهم إلى أنّ الجمع بين الإجزاء في الأوامر بالنسبة إلى نفسها والإجزاء بالنسبة إلى أمر آخر ممّا لا يمكن بعنوان واحد .

نعم ، ما ذكرناه وجهاً لجعل البحث في الأمر الظاهري أو الواقعي الثانوي في الدلالات اللفظية من التوسعة ، وتنقيح الموضوع بالحكومة ممّا أحدثه المتأخّرون من الاُصوليين ، فلا يجوز حمل كلام القوم عليه .

كما أنّ ما نقلناه عن بعض ; من عدم إمكان الجمع بين الواقعي الأوّلي وغيره ضعيف بإمكان تصوّر جامع بينهما ; بأن يقال : إتيان المأمور به على وجهه هل يجزي أم لا ؟

وهذا جامع يشمل جميع العناوين المبحوث عنها ، غاية الأمر أنّ الاختلاف في طريق الاستدلال بما يناسب حال كلّ واحد ، ولا يكون النزاع ابتداءً في دلالة الأدلّة ، بل في الإجزاء وعدمه ، فيكون الدليل على الإجزاء في بعض الموارد حكم العقل ، وفي غيره ما تصوّره القائلون بالإجزاء ; من حديث الحكومة والتوسعة ، ولا ضير في كون بعض مصاديقه بديهياً دون بعضه، بعد قابلية الجامع للنزاع ، والخطب سهل .

الثانية : في المراد من الاقتضاء في عنوان البحث :

ليس الاقتضاء الواقع في تحرير محلّ البحث بمعنى العلّية والسببية ; بحيث يكون إتيان المأمور به في الخارج بحدودها مؤثّراً في الإجزاء ـ  بأيّ معنى فُسّر  ـ وظنّي أنّ ذلك واضح ; لانتفاء العلّية والتأثير في المقام ; سواء فسّر الإجزاء بالمعنى اللغوي ـ أعني الكفاية ـ أم بشيء آخر من سقوط الأمر أو الإرادة .

أمّا على الأوّل : فلأنّ الكفاية عنوان انتزاعي لا يقع مورد التأثّر والتأثير . والعجب من المحقّق الخراساني ; حيث جمع بين الالتزام بكون الاقتضاء بمعنى العلّية وبين القول بأنّ الإجزاء هو الكفاية(5) .

وأمّا على الثاني : فلأنّ الإتيان ليس علّة مؤثّرة في سقوط الأمر ، كما أنّ السقوط والإسقاط ليسا من الاُمور القابلة للتأثير والتأثّر اللذين هما من خصائص التكوين .

وأمّا الإرادة فالأمر فيها أوضح ; لأنّ الإتيان لا يصير علّة لانعدام الإرادة وارتفاعها ، لا في الإرادات التكوينية ولا في المولوية التي يعبّر عنها بالتشريعية ; إذ تصوّر المراد بما أنّه الغاية والمقصود مع مباد آخر علّة لانقداح الإرادة في لوح النفس ، كما أنّه بنعت كونه موجوداً في الخارج من معاليل الإرادة ، فلا يعقل أن يكون المعلول بوجوده طارداً لوجود علّته .

وأقصى ما يتصوّر لسقوط الإرادة من معنى صحيح عند حصول المراد هو انتهاء أمدها ; بمعنى أنّ الإرادة كانت من بدأ الأمر مغيّاة ومحدودة بحدّ خاصّ ، فعند وصولها إليه لا اقتضاء لها في البقاء ، لا أنّ لها بقاء والإتيان بالمأمور به قد رفعها وأعدمها ، كما هو قضية العلّية .

كما أنّ الأمر لمّا صدر لأجل غرض ـ وهو حصول المأمور به ـ فبعد حصوله ينفد اقتضاء بقائه، فيسقط لذلك ، كما هو الحال في إرادة الفاعل المتعلّقة بإتيان شيء لأجل غرض ، فإذا حصل الغرض سقطت الإرادة ; لانتهاء أمدها ، لا لعلّية الفعل الخارجي لسقوطها .

والأولى ـ دفعاً للتوهّم ـ أن يقال : إنّ الإتيان بالمأمور به هل هو مجز ، أو لا ؟

الثالثة : في معنى «على وجهه» في عنوان البحث :

الظاهر أنّ المراد من قولهم «على وجهه» هو كلّ ما يعتبر في المأمور بـه ، ولـه دخل في حصول الغرض ; سواء دلّ عليه العقل أو الشرع ، لا قصد الوجه ، ولا ما في «الكفاية» من أنّ المراد منه ما يعتبر فيه عقلا ، ولا يمكن الاعتبار شرعاً(6) ; لما عرفت من إمكان أخذ جميع القيود في المتعلّق حتّى ما جاء من قبل الأمر(7)  وإن لم يؤخذ بالفعل ، وكان العقل دلّ على شرطيته . مع أنّ شبهة عـدم إمكان أخذ ما يأتي من قبـل الأمر في المأمور به حدثت في هذه الأزمنة المتأخّرة ، وهذا العنوان متقدّم عليها .

الرابعة : في فارق المسألة عن المرّة والتكرار:

الظاهر عدم وجود جامع بين هذه المسألة وما مرّ من مسألة المرّة والتكرار ; إذ البحث في الثانية ـ سواء كان في دلالة الأمر أو حكم العقل ـ إنّما هو في مقدار ما بعث إليه المولى ـ من مرّة أو غيرها ـ والبحث هاهنا بعد الفراغ عن دلالة الأمر أو حكم العقل .

 فإذا فرغنا عن دلالة الأمر أو اقتضائه المرّة يقع البحث في أنّ الإتيان بها مجز أو لا . كما أنّه لو دلّ على التكرار يقع البحث في إجـزاء الإتيـان بكلّ فـرد وعدمه .

وأمّا الفرق بين المقام ومسألـة تبعيـة القضاء للأداء فأوضح مـن أن يخفى ; إذ البحث في الإجـزاء إنّما هـو في أنّ الإتيان بالمأمور بـه هل هـو مجز عـن الأداء والقضاء ؟ والبحث في الثانية في أنّه إذا فات منه المأمور به فهل الأمـر المتعلّق بالطبيعة المضروب لها الوقت يكفي في إيجاب القضاء عليه ، أو يحتاج إلى أمر جديد ؟

فأيّ تشابه بينهما حتّى نتمحّل للفرق ؟ ! إذ الموضوع في إحداهما الإتيان وفي الاُخرى الفوات .

ومن ذلك يظهر الخلل في كلام المحقّق الخراساني من أنّ البحث في إحداهما في دلالة الصيغة دون الاُخرى(8) ، فراجع .

الخامسة : محطّ البحث في الإجزاء :

ظاهر كلمات أكثر المحقّقين من المتأخّرين في إجزاء الأوامر الاضطرارية عن الاختيارية وإجزاء الظاهرية عن الواقعية ، أنّ هاهنا أمرين ; تعلّق أحدهما بالطبيعة بملاحظة حال الاختيار والعلم ، وثانيهما بطبيعة اُخرى بملاحظة حال الاضطرار والجهل ، فوقع البحث في أنّ إتيان متعلّق الاضطراري والظاهري يجزي عن الاختياري والواقعي أو لا ؟

ولعـلّ مبنى القول بتعدّده ما عليه جماعـة ـ منهم المحقّق الخراساني ـ مـن أنّ الجزئيـة والشرطية والمانعية لا تقبل الجعل استقلالا(9) ، وأنّ ما ظاهره الاستقلال في الجعل إنّما هو إرشاد إلى ما جعله جـزءً أو شرطاً حين الأمـر بالمركّب ، ولا يعقل بعد الأمر بالمركّب جعل جزء آخر له أو شرط كذلك .

فحينئذ كلّ ما كان ظاهره الاستقلال في الجعل ، كقوله ـ عليه السَّلام ـ  : «التراب أحد الطهورين»(10)  فلابدّ من جعله إرشاداً إلى ما أخذه شرطاً لدى الأمر بالمركّب ، ويحتاج إلى سبق أمر آخر متعلّق بالطبيعة المتقيّدة بالطهارة الترابية ; إذ لا معنى للإرشاد مع عدم وجود مرشد إليه ، ويلتزم لأجله وجود أمرين .

وعليه هنا أمران: أحدهما تعلّق بالصلاة المتقيّدة بالطهارة المائية للمختار، والآخر بالمقيّدة بالترابية للمضطرّ . وقس عليه الأجزاء والموانع بقسميهما .

ولذا ذهب ـ قدس سره ـ إلى البراءة ; إذ الشكّ ـ بناءً على وجود الأمرين ـ إنّما هو في حدوث أمر آخـر ـ كما يأتي بيانه(11) ـ وهذا بخلاف القول بإمكان الجعل فيها مستقلاًّ حتّى يتحفّظ ظواهر الأدلّة الظاهرة في الجعل مستقلاّ ; إذ يكون هنا أمر واحد متعلّق بالطبيعة ، وقد أمر الشارع بإتيانها بكيفية في حال الاختيار ، وبكيفية اُخرى في حال الاضطرار ، والاختلاف في الأفراد والمصاديق .

ولا يجب لمن قال بجعل الشرطية مستقلاّ الالتزام بسبق أمر متعلّق بها بكيفية الاضطرار .

ولعمري إنّ هذا هو الحقّ الصراح ; حفظاً لظواهر الأدلّة ، مع ما سيأتي في مبحث الاستصحاب من إمكان الجعل(12) ، فإذن ليس هنا إلاّ أمر واحد تعلّق بطبيعة الصلاة ، وإنّما القيود من خصوصيات المصاديق ; إذ قوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] يدلّ على وجوب الطبيعة في هذا الوقت المضروب لها ، ثمّ دلّ دليل على اشتراطها بالطهارة المائية في حال الاختيار واشتراطها بالترابية عند فقدانها ; بحيث يكون المأتي بالشرط الاضطراري نفس الطبيعة التي يأتيها المكلّف بالشرط الاختياري ، بلا اختلاف في المتعلّق والطبيعة والأمر .

كما هو ظاهر قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ.... إلى أن قال سبحانـه : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } [المائدة: 6] فإنّ ظاهرها : أنّ الصلاة التي سبق ذكرها وشرطيتها بالطهارة المائية يؤتى بها عند فقد الماء متيمّماً بالصعيد ، وأنّها في هذه الحالة عين ما تقدّم أمراً وطبيعة .

وبالجملة : أنّ الكيفيات الطارئة من خصوصيات المصاديق لا من مكثّرات موضوع الأمر ، ولا يكون للطبيعة المتقيّدة بكيفية أمرٌ وبكيفية اُخرى أمر آخر ، والنزاع وقع في أنّ الإتيان بمصداق الاضطراري للطبيعة هل يوجب سقوط الأمر عنها أولا ؟ وقس عليه الحال في الأوامر الظاهرية حرفاً بحرف .

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الكلام يقع في مواضع :

الموضع الأوّلفي إجزاء الاتيان بالمأمور به عن التعبد به ثانياً:

إنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري يجزي عن التعبّد  به ثانياً ; لأنّ الداعي إلى الأمر هو إتيان المأمور به بما له من القيود والحدود ، فلا يعقل بعد حصوله بقاء الطلب وعدم سقوط الأمر ، وهذا من الاُمور البديهية الفطرية ، لا يحتاج إلى إقامة برهان .

وإن كنت حريصاً على صوغه على صورة البرهان فنقول : إنّ المكلّف إذا حصّل المأمور به على وجهه لم يبق معنى لبقاء البعث بعد حصول الغرض الذي هو علّة الإرادة بماهيته ; إذ يكون حصوله موجباً لانقطاع أمد الإرادة والبعث ، فلو بقيا بعد حصوله يلزم بقاء المعلول بلا علّة .

حول تبديل الامتثال بامتثال آخر وأمّا ما اشتهر من جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر فلم نقف على معنى محصّل له ; إذ لا نتصوّر تعدّد الامتثال بالنسبة إلى أمر واحد ، كما مرّت الإشارة إليه ; إذ الامتثال دائر أمره بين الوجود والعدم ، فلو حصل الامتثال بفعله مرّة فقد سقط أمره ، ولا موضوع للامتثال ثانياً ، وإن لم يحصل ، كما إذا كان الأوّل فاقداً لبعض الأجزاء والشرائط لم تصل النوبة إلى امتثال آخر .

فإن قلت : ربّما يكون الغرض باقياً مع سقوط الأمر ، كما لو أمر بإحضار الماء ، وامتثل المكلّف ، ثمّ اتّفق هراقته ; فإنّ الأمر قد سقط بتمكين المولى من الماء ، إلاّ أنّ الغرض التامّ ـ وهو رفع العطش ـ باق بعد وليس له الاكتفاء بما امتثل أوّلا بعد علمه بعدم حصول غرضه وملاكه .

قلت : إنّ ذلك خلط بين تبديل الامتثال وبين وجوب تحصيل الغرض المعلوم للمولى ، فما هو موجب لصحّة العقوبة ليس عدم امتثاله أمره بل فوت غرضه ; ولو لم يكن هنا أمر .

وبالجملة : أنّ العلم بالملاك يتمّ الحجّة على العبد بتحصيل الغرض التامّ ; وإن لم يكن هناك أمر ولا بعث ، كما إذا وقع ابن المولى في هلكة وكان المولى في غفلة عنه ، فلم يأمر عبده بإنجائه ، فيلزم عليه إنجاؤه ; بحيث يستحقّ العقوبة لو تركه ; لأنّ الأمر وسيلة لتحصيل الغرض وآلة للبعث ولا موضوعية له ، ولذا لو اطّلع على غرض غير لازم التحصيل ، وفرضنا أنّ المولى لم يأمره بتحصيله يحسن له تحصيله ، ويصير مورداً للعناية مع عدم كونه امتثالا .

والحاصل : أنّه لا ملازمة بين سقوط الأمر وحصول الغرض ، وما ذكر من المثال في الإشكال ليس من باب تبديل الامتثال بامتثال آخر . وجعله من هذا الباب مبني على تخيّل الملازمة بينهما; حتّى يكون وجود الغرض كاشفاً عن وجود الأمر وبقائه ، وهذا ذهول عن أنّ الأمر قد سقط بإتيانه بتمام قيوده ، والداعي إلى الإتيان ثانياً هو العلم بالملاك لا ثبوت الأمر وبقاؤه .

ويرشدك إلى عدم الملازمة ـ مضافاً إلى ما عرفت ـ أنّه إذا امتثل أمر المولى بإتيان ماء للشرب، ثمّ وقف على مصداق آخر أوفى بغرضه فأتى به ; ليختار المولى أحبّهما إليه فلا محالة يحصل الامتثال بأوّل الفعلين ، والثاني موجب لوقوعه مورداً للعناية لإتيانه ما هو أوفى بغرضه، وليس من الامتثال في شيء ، ولا من تبديل الامتثال بآخر منه ، ولا تفاوت في ذلك بين عدم حصول الغرض من أصله ، كما إذا تلف الماء ، أو عدم حصول الغرض الأقصى منه لبقاء عطشه وعدم شربه .

في الصلاة المعادة:

إن قلت : بماذا يحمل فتاوى الأصحاب وتظافر النصوص في صلاة المعادة جماعة بعد ما صلّى فرادى ، وأنّه يجعلها فريضة ويختار أحبّهما إليه . . . إلى آخره ؟

قلت : إنّ ذلك من باب تبديل فرد من المأمور به بفرد آخر ، لا من تبديل امتثال إلى آخر بعد العلم بكونه مشروعاً في الدين ، وأنّ ذلك يوجب الثواب الزائد على إيجادها في ضمن مصداق آخر .

وتوضيحه : أنّ تبديل الامتثال يتوقّف على تحقّق امتثالين مترتّبين ; بمعنى أنّه لابدّ أن يكون للمولى أمر متعلّق بطبيعة ، فيمتثله المكلّف دفعه مع بقاء الأمر ثمّ يمتثله ثانياً ، ويجعل المصداق الثاني الذي تحقّق به الامتثال بدل الأوّل الذي تحقّق به الامتثال الأوّل .

وأمّا تبديل مصداق المأمور به الذي تحقّق به الامتثال بمصداق آخر غير محقّق للامتثال ، لكن محصّل للغرض اقتضاءً مثل المصداق الأوّل أو بنحو أوفى فهو لا يتوقّف على بقاء الأمر ، بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر ، لا بصفة كونه مأموراً به .

وأمّا قوله ـ عليه السَّلام ـ  : «ويجعلها فريضة»(13)  فالمراد منه أنّه يأتي الصلاة ناوياً بها

الظهر أو العصر مثلا ، لا إتيانه امتثالا للأمر الواجب ; ضرورة سقوطه بإتيان الصلاة الجامعة للشرائط ، ولهذا حكي(14)  عن ظاهر الفقهاء ـ إلاّ من شذّ من المتأخّرين(15) ـ تعيّن قصد الاستحباب في المعادة للأمر الاستحبابي المتعلّق بها .

وأمّا قضية الأوفى بالغرض واختيار أحبّهما إليه وأمثالهما ممّا يتنزّه عنها مقام الربوبي فهي على طبق فهم الناس وحسب محاوراتهم قطعاً .

ثمّ إنّ في كلام بعض محقّقي العصر  ـ رحمه الله ـ وجهاً آخر لتوجيه الموارد التي توهّم كونها من تبديل امتثال بآخر ، وملخّصه : أنّ فعل المكلّف ربّما يكون مقدّمة لفعل المولى الجوارحي ، كأمره بإحضار الماء ليشربه ، أو الجوانحي كأمره بإعادة الصلاة جماعة ليختار أحبّهما إليه ، فهذه الأفعال أمر بها لتكون مقدّمة لبعض أفعاله .

فحينئذ : إن قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة كان الواجب هو الفعل الذي أوصل المولى إلى غرضه الأصلي ، وكان الآخر غير متّصف به ; لعدم إيصاله . فالواجب هو الماء الذي حصل منه الشرب أو الصلاة المعادة التي اختاره ، فليس إلاّ امتثال واحد .

وإن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فعدم إمكان التبديل أوضح ; لسقوط الأمر بالامتثال الأوّل(16)، انتهى .

وفيه أمّا أوّلا : فإنّ جعل الأوامر الشرعية المتعلّقة بأفعال المكلّفين من قبيل الوجوب الغيري دون النفسي ; لحديث كونها مقدّمات إلى الأغراض ممّا لا يرضى به أحد . كيف ، وهي من أشهر مصاديق الواجبات النفسية ؟ ! ومعه لا يبقى لما ذكره بشقّيه وجه ، وقد حقّقنا مناط الغيرية والنفسية في محلّه(17) .

وثانياً : أنّ المقدّمة الموصلة ـ بأيّ وجه صحّحنا وجوبها ـ إنّما تتحقّق فيما إذا كان الإيصال تحت اختيار العبد وقدرته ; حتّى تقع تحت دائرة الطلب ، والمفروض أنّ فعل المولى أو اختياره متوسّط بين فعل العبد وحصول الغرض ، فلابدّ أن يتعلّق الأمر بنفس المقدّمة ، من غير لحاظ الإيصال .

وما ربّما يتكرّر في كلامه ـ قدس سره ـ  : من أنّ الواجب هو الحصّة بنحو القضية الحينية أو الحصّة الملازمة للغاية ففيه ـ مضافاً إلى عدم كونه معقولا ; لأنّ الأعدام لا ميز فيها ، وأنّ صيرورة الحصّة حصّة لايمكن إلاّ بالتقييد ، ولا تتوجّه النفس إلى حصّة دون غيرها ما لم يتعيّن بالقيد ـ أنّ الحصّة بما أ نّها ملازمة لأمر غير مقدور فهي غير مقدور ، لا يمكن تعلّق الطلب بها .

وإن شئت قلت : إنّ الإيجاب بنحو القضية الحينية أيضاً إنّما يتصوّر فيما إذا كان الظرف موجوداً أو يكون إيجاده تحت قدرة المكلّف ، وهما مفقودان هاهنا ; فإنّ الوجوب حين وجود ذي المقدّمة لا يتصوّر ، والمفروض أنّ إيجاده غير مقدور .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الواجب ـ أي ما يقع على نعت الوجوب  ـ هو ما يتعقّبه اختيار المولى بنحو الشرط المتأخّر ، فلا يكون الواجب هو المقدّمة الموصلة ـ  ولو بنحو القضية الحينية ـ على نحو الإطلاق ; حتّى يلزم عليه تحصيل القيد ، بل الواجب هو المشروط بالشرط المتأخّر ، فإذا أتى بها ولم يتعقّبها اختياره يكشف ذلك عن عدم وجوبها ، فحينئذ يخرج عن موضوع تبديل الامتثال ، فتدبّر .

الموضع الثاني / في أنّ الإتيان بالفرد الاضطراري هل يقتضي الإجزاء أم لا ؟

وفيه مقامان :

المقام الأوّل : في الإعادة في الوقت :

ولا يخفى أنّ البحث من هذه الجهة إنّما هو فيما إذا كان المكلّف مضطرّاً في جزء من الوقت ، فأتى بوظيفته ثمّ طرئ الاختيار ، وفيما إذا كان الأمر بإتيان الفرد الاضطراري محرزاً ; أي يكون العذر غير المستوعب موضوعاً للتكليف ; لأنّ الكلام في أنّ الإتيان بالمأمور به الاضطراري مجز أولا ، وهو فرع وجود الأمر . وبالجملة : البحث فيما إذا كان الاضطرار في بعض الوقت موضوعاً للتكليف بالإتيان .

وأمّا إذا دلّت الأدلّة على أنّ استيعاب الاضطرار موضوع للإتيان فهو خارج عن محطّ البحث ; لأنّـه مع عدم الاستيعاب لا أمر هنا ، ولا مصداق للمأمور به حتّى نبحث عن إجزائـه كما أنّ من مقتضى البحث أيضاً هو طروّ الاختيار في الوقت مع إتيان المأمور به ، فلو استوعب العذر ولم يطرء الاختيار فهو خارج عن موضوع الإعادة .

ثمّ إنّه على المختار من وحدة الأمـر والمطلوب ، وأنّ الاختلاف في الكيفيات الطارئة من خصوصيات المصاديق لا من مكثّرات الطبيعة يكون إجزاء المأتي به الاضطراري في غاية الوضوح ; إذ العبد يكون مخيّراً ـ عقلا أو شرعاً ـ بين الإتيان بمصداقه الاضطراري في الحال وبداراً ، وبين انتظار آخر الوقت والإتيان بالفرد الاختياري .

وقد عرفت : أنّ امتثال كلّ أمر مسقط لأمره ، والمفروض أنّ المأمور به في حال الاضطرار مصداق للطبيعة المأمور بها ومشتمل لجميع الخصوصيات المعتبرة فيها ، فلا معنى للبقاء بعد الإتيان «ليس قرى وراء عبادان» .

المقام الثاني : في القضاء خارج الوقت:

وأمّا القضاء مع استيعاب العذر فمثل الإعادة في عدم الوجوب ; لأنّ وجوب القضاء فرع الفوت، ومع الإتيان بالطبيعة المأمور بها لا يبقى له موضوع .

هذا كلّه على الحقّ المختار ، وأمّا على القول بتعدّد الأمر في باب الاضطرار ـ  كما يستفاد من ظاهر الكلمات ـ ففيه التفصيل :

فإن قام الإجماع على عدم وجوب الزائد من صلاة واحدة في الوقت المضروب لها فالقول بالإجزاء هو المتعيّن ; لأنّ دلالة الدليل على وحدة التكليف حال تعدّد الأمر يستفاد منه التخيير بين إتيانها في حال العجز مع الطهارة الترابية ، وبين الصبر إلى زوال العذر وإتيانها مع المائية، فلا محالة يكون الإتيان بأحد طرفي التخيير موجباً للإجزاء وسقوط التكليف .

ولو فرضنا عدم قيام الإجماع المذكور ، لكنّا استفدنا من الأدلّة أنّ تعدّد الأمـر ليس لأجـل تعدّد المطلوب لبّاً ; بأن تكون الصلاتان مطلـوبتين مستقلّتين ، بل لأجل امتناع جعل الشرطية والجزئية استقلالا ، وأنّه لابدّ في انتزاع شرطية الطهارة الترابية في حال العجز من شمول الأمر ووقوعها تحت الأمر حتّى تعلم شرطيتها ، فيكون تعدّد الأمر من ضيق الخناق ، كتعدّده في القربيات من الأوامر ـ  على القول بعدم إمكان أخذ ما يأتي من قبل الأمر في موضوعه ـ فحينئذ الأمر الثاني ليس لإفادة مطلوب مستقلّ ، بل لإفـادة خصوصيات الأوّل ، وبيان ماله دخـل في الغرض .

وعلى هذا المبنى يكون مقتضى القاعدة هو الإجزاء أيضاً ; لأنّ تعدّده ليس ناشئاً مـن تعدّد المطلوب والمصلحـة حتّى لا يكون استيفاء الواحـد منهما مغنياً عـن الآخر .

نعم ، لو فرضنا أنّ تعدّد الأمر لأجـل تعدّد المطلوب ، وأنّ الأمر المتعلّق بالبدل من قبيل الترخيص لا الإلزام فلا مناص عن القول بعدم الإجزاء ; لأنّ إجزاء أحد الأمرين عن الآخر مع تعدّد المطلوب نظير إجزاء الصلاة عن الصوم .

وإن شئت قلت : إنّ مقتضى إطلاق دليل المبدل كونه مطلوباً على الإطلاق ـ  امتثل أمر البدل أولا ـ وأمّا الإطلاق الموجود في دليل البدل فلا يضادّ إطلاق المبدل ، ولا يدلّ على سقوط القضاء والإعادة ; لأنّ غاية مفاد إطلاقه هو جواز الإتيان به في أيّ زمان شاء وقت طروّ العجز .

وأمّا إجزاؤه عن المأمور به بأمر آخر وقت زوال العذر فلا يدلّ عليه ، والإطلاق الموجود في دليل البدل لا يقتضي إلاّ جواز البدار في إتيانه وسقوط أمره لدى امتثاله ، لا سقوط أمر آخر .

فتلخّص : أنّ مقتضى الأمر المتعلّق بالصلاة مع الطهارة المائية هو كونه مطلوباً على الإطلاق ومقتضياً لاستيفاء مصلحته ، ولابدّ حينئذ لإثبات إجزائه عن أمر آخر من دليل مستقلّ وراء الإطلاق ، ولكنّه خارج من الفرض .

وبذلك يظهر : أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني من التفصيل ; بأنّه إمّا يكون المأتي به وافياً بتمام المصلحة أولا ، وعلى الثاني إمّا أن يكون الفائت قابلا للتدارك أولا . . . إلى آخره(18)  لا طائل تحته ; إذ العلم بالاستيفاء وعدمه لا يستفاد من الإطلاق بل من دليل خارج ، ووجوده يوجب الخروج من محطّ البحث .

ثمّ إنّ هذا كلّه لو أحرزنا مفاد الأدلّـة ، وأنّ الموضوع لجـواز الإتيان أعمّ مـن العذر المستوعب، وقد مرّ أنّ البحث في باب الإجزاء بعد ذلك الإحراز ، وقد  عـرف مقتضى الحال على المختار مـن وحـدة الأمـر ، وعلى مختار المشهور مـن تعدّده(19) .

وأمّا مع إهمال الأدلّة في المبدل منه والبدل ، ووقوع الشكّ في جواز البدار مع العذر غير المستوعب ، فعلى ما اخترناه ـ من وحدة الأمر ، وأنّ المأمور به طبيعة واحدة في الحالتين ، والاختلاف في الشرط من خصوصيات المصاديق لا من مكثّرات الطبيعة ـ لا محيص عن الاشتغال ; إذ الشكّ في سقوط التكليف المتيقّن بالفرد الاضطراري .

وبعبارة اُخرى : إنّ الأمر دائر بين التعيين والتخيير ; حيث إنّه لو جاز البدار لثبت التخيير بين المصداقين في مقام الامتثال ، ولو لم يجز لكان المتعيّن هو الفرد الاختياري ، ومعه لايمكن العدول إلى المشكوك .

وأمّا بناءً على مذهب القوم من تعدّد الأمر على النحو الأخير ـ كما هو مفروض كلامهم ـ فمقتضى القواعد ـ حينئذ ـ هو البراءة ، واختاره المحقّق الخراساني  ـ رحمه الله ـ (20) ، ومرجع هذا إلى أنّ الأمر المتعلّق بالمطلوب الاضطراري هل هو مطلق كون المكلّف مصداقاً لعنوان الفاقد أو بشرط كون عذره مستوعباً .

ووجه البراءة : هو أنّ المكلّف حال الفقدان قاطع بعدم الأمر بإتيان الصلاة مع الطهارة المائية ، وهو يحتمل لدى الاضطرار أن يكون مأموراً بالأمر الاضطراري ، فيأتي به رجاء امتثاله على فرض وجوده . ويمكن أن يكون المأتي رجاءً هو الوظيفة الفعلية ، فإذا أتاه رجاءً يشكّ في تعلّق التكليف عليه بالصلاة المائية إذا أصاب الماء ، فيرجع الشكّ إلى حدوث التكليف ، لا في سقوطه بعد العلم به .

وما قلنا من كونه مخيّراً بين إتيانه للفرد الاضطراري حال الاضطرار ، وبين الصبر إلى زوال العذر ليس بمعنى تعلّق تكليف المختار به من أوّل الأمر ; وإن كان تعلّقه بنحو التعليق في حال الاضطرار ; حتّى يصير التخيير شرعياً ، ويخرج المقام من كون الشكّ في الحدوث .

فإن قلت : إنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ; لأنّه إمّا يجب له الانتظار تعييناً والامتثال بالمائية آخر الوقت ، أو يجوز له البدار إلى الفرد الاضطراري ، كما يجوز له الانتظار والإتيان بالفرد الاختياري ، ولكن مطلوبية الأوّل قطعية ونعلم أنّه مسقط للتكليف قطعاً، بخلاف الثاني . فحينئذ يجب له الانتظار حتّى يأتي بما يعلم كونه مأموراً به ومسقطاً للأمر(21) .

قلت : إنّ الفرق بين المقام ومقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير واضح جدّاً ; إذ هو إنّما يتصوّر فيما إذا علم المكلّف بتوجّه تكليف واحد إليه حال الامتثال ، وشكّ عند الإتيان في أنّ المطلوب هل هو هذا الفرد متعيّناً أو هو مع عدله ؟ ولا ريب أنّه لا يجوز في شريعة العقل العدول إلى ما هو مشكوك .

وهذا بخلاف المقام ; فإنّ المكلّف الفاقد حين فقدانه يعلم أنّه ليس مكلّفاً بتكليف الواجد ، ويحتمل كونه مرخّصاً في إتيان الصلاة مع الطهارة الترابية ، كما يحتمل كونه غير مكلّف بالصلاة حال الفقدان أصلا ، بل يتعلّق به التكليف بالصلاة بالطهارة المائية حال وجدانه فيما بعد .

والحاصل : أنّه قاطع بعدم التكليف بالعنوان الاختياري حالة الاضطرار ، ويحتمل توجّه التكليف عليه بالعنوان الاضطراري إذا كان الشرط هو الفقدان ; ولو في بعض الحالات .

فحينئذ إذا أتى الاضطراري رجاءً ثمّ ارتفع العذر فهو قاطع لارتفاع الأمر الاضطراري وسقوطه ـ على فرض وجوده ـ بالامتثال ، أو لعدم وجـوده مـن رأس ، ويشكّ عند تبدّل الحالة في حدوث أمر جديد وتكليف حديث . فالمحكّم هو البراءة .

أضف إلى ذلك : أنّ وجوب الانتظار ـ كما ذكر في الإشكال ـ لا محصّل لـه ; إذ الواجب هـو إتيان الصلاة بما لها مـن الشرائـط والأجـزاء ، والانتظار لا دخل لـه فيها ، فتدبّر .

ثمّ إنّ التخيير بين الإتيان في الحال والإتيان في الاستقبال ليس من قبيل التخيير الشرعي ، بل من قبيل أمر انتزاعي انتزع من احتمال الترخيص في إتيانها في الحال ، ومن احتمال الإيجاب في الاستقبال حين تعلّق التكليف به على فرض عدم الإتيان ، ومثل ذلك لا يرجع إلى التعيين والتخيير .

فتلخّص : أنّه مع إهمال الأدلّة من الطرفين وتعدّد الأمر في المقام يتعيّن القول بالبراءة إذا أتى بالفرد الاضطراري .

اللهمّ إلاّ أن يصار إلى القول بتنجيز العلم الإجمالي ; حتّى في التدريجيات ، فيصير الاشتغال هو المحكّم في الباب ، ويكون المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير .

هذا حال الإعادة مع الإهمال المفروض .

وأمّا القضاء مع ذاك الفرض : فالأصل الجاري في المقام هو البراءة مالم يرد هنا دليل على اللزوم ; لأنّ موضوع الوجوب فيه هو الفوت ، وهو غير محقّق الصدق بعد إتيان المشكوك .

وتوهّم : إثباته باستصحاب عدم إتيان الفريضة مبني على حجّية الاُصول المثبتة ; لأنّ الفوت غير عدم الإتيان مفهوماً ; وإن كانا متلازمين في الخارج ; إذ الموضوع هو الفوت ، وإثباته باستصحاب عدم الإتيان كإثبات أحد المتلازمين باستصحاب الآخر .

الموضع الثالث / في إجزاء الأمر الظاهري :

وفيه مقامان : الأوّل في مقتضى الأمارات والطرق ، والثاني في الاُصول العملية ; محرزة كانت أو غيرها .

وليعلم : أنّ محلّ النزاع في كلا المقامين ما إذا كان المأمور به مركّباً ذا شروط وموانع ، وقام دليل اجتهادي أو أصل عملي على تحقّق الجزء والشرط ، أو عدم تحقّق المانع ثمّ انكشف خلافه، أو قام واحد منهما على نفي جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته ثمّ بان أنّ الأمر بخلافه، فيقال : إنّ الإتيان بمصداق الصلاة ـ  مثلا  ـ مع ترك ما يعتبر فيها ; استناداً إلى أمارة أو أصل هل يوجب الإجزاء أو لا ؟

وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف ونفيه ـ كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة ، ثمّ انكشف خلافه ـ فهو خارج عمّا نحن فيه ، ولا معنى للإجزاء فيه .

المقام الأوّل : في الإتيان بمقتضى الأمارات:

فالتحقيق عـدم الإجـزاء فيه بناءً على الطريقية ، كما هـو الحـقّ ـ  وفاقاً لجملـة مـن المحقّقين(22) ـ سواء قلنا بأنّ الطـرق التي بأيدينا كلّها طرق وأمـارات عقلائيـة ، وليس للشرع أمـارة تأسيسية ، بل لم يرد مـن الشارع أمـر باتّباعها ،

وإنّما استكشفنا من سكوته ـ وهو بمرآة ـ رضاه ، ومن عدم ردعه إمضائه .

أم قلنا بورود أمر منه بالاتّباع ، لكنّه بنحو الإرشاد إلى ما هو المجبول والمرتكز في فطرة العقلاء .

أم قلنا بأنّ الطرق المتعارفة في الفقه ممّا أسّسها الشارع ـ كلّها أو بعضها  ـ إيصالاً إلى الواقع ، ولم يكن عند العقلاء منها عين ولا أثر .

وتوضيح ذلك : أمّا على الوجهين الأوّلين : فلأنّ المتّبع فيهما حكم العقلاء وكيفية بنائهم ، ولا شكّ أنّ عملهم لأجل كشفها نوعاً عن الواقع ، مع حفظ نفس الأمر على ما هو عليه ، من غير تصرّف فيه ، ولا انقلابه عمّا هو عليه . ومع هذا كيف يمكن الحكم بالإجزاء مع انكشاف الخلاف ؟

وبالجملة : لاشكّ أنّ عملهم بها لأجل كونه مرآة إلى الواقع بلا تصرّف فيه أصلا ، فحينئذ المطلوب الذي تعلّق به الأمر لم يحصل بعد ; لتخلّف الأمارة ، وما حصل لم يتعلّق به الأمر .

وأمّا على الوجه الأخير ـ على فرض صحّته ـ فلا شكّ في أنّ لسان أدلّة حجّيتها هو التحفّظ على الواقع ، لا التصرّف فيه وقلبه إلى طبق المؤدّى .

أضف إلى ذلك : أنّ معنى كون شيء أمارة ليس إلاّ كونه كاشفاً عن الواقع عند المعتبر ، فلو تصرّف مع ذلك فيه وقلّب الواقع على طبق مؤدّاه لدى التخلّف لخرجت الأمارة عن الأمارية .

فلو فرضنا أنّ للشارع إيجاباً وتأسيساً فليس إلاّ لأجل الكشف عن الواقع المحفوظ في وعائه ، ومعه لا معنى للإجزاء .

ومن ذلك يظهر ضعف ما ربّما يقال : إنّ لسان دليل الحجّية في الأمارات والاُصول سواء ; وهو وجوب ترتيب الأثر عملا على قول العادل ، فمقتضى قوله «صدّق العادل» هو التصديق العملي وإتيان المأمور به على طبق قوله ، كما سيأتي في الاُصول ، وهو يقتضي الإجزاء في كلا المقامين(23) ، انتهى .

قلت : إنّ القائل جمع بين أمرين متناقضين ، فإنّ القول بالإجزاء في العمل بالأمارات ، والاعتقاد بأنّ إيجاب العمل على طبقها لأجل الكشف عن الواقع لا يخلو من مناقضة ، والعرف والعقلاء شاهدان عليها .

فظهر : أنّ كلّ ما كان الملاك في التعبّد به هو الكشف لا يعقل فيه الإجزاء ، مالم نصر إلى التصرّف فيه وانقلاب الواقع عمّا هو عليه ، وهو لا يناسب ملاك الاعتبار في الأمارات .

ومـا ذكر مـن وحـدة اللسان غير تامّ ; إذ إيجـاب العمل على طبق قـول العادل أو الأخذ بقول الثقة لأجل كونـه ثقـة وعدلا يكشف عـن أنّ الملاك كشفها عـن الواقـع ، كما هـو الملاك عند العرف والعقلاء ، وأين هـذا مـن انقلاب الواقـع عمّا هو عليه ؟ !

ومـا أفاده بعض الأكابر مـن الأساطين ـ دام ظلّه الوارف ـ مـن الإجـزاء في الأمارات عند التخلّف ، مـع الاعتقاد بأنّ حجّية الأمارات مـن باب الطريقية ، وأنّ  الشارع لم يتصرّف فيها سوى الإمضاء أو عـدم الردع(24) ، لا يخلو مـن نظـر وإشكال .

المقام الثاني : في الامتثال على طبق مؤدّى الاُصول:

فالتحقيق هو الإجزاء فيها ، ولابدّ في توضيحه من ملاحظة لسان كلّ واحد مستقلاّ ; فإنّ الحكم يختلف باختلاف اللسان ، فنقول :

أمّا أصالة الطهارة والحلّية :

فلأدلّتهما حكومة على أدلّة الشرائط التي من تلك الأدلّة قوله ـ عليه السَّلام ـ  : «لا  صلاة إلاّ بطهور»(25) ، إن استفدنا منه أو من غيره طهارة الثوب ، فقولـه ـ عليه السَّلام ـ  : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر»(26)  محقّق للطهور في ظرف الشكّ .

توضيحه : أنّ ظاهر لسانه محكومية المشكوك بالطهارة والنظافة حتّى يعلم قذارته ، ومعنى محكوميته بها هو جواز ترتيب آثار الطهارة عليه ، التي من جملتها إتيان الصلاة معها تعبّداً . وليس معناه أنّ الشكّ في الطهارة والنجاسة طريق إلى الطهارة ; لعدم تعقّل طريقية الشكّ .

وإن شئت قلت : إنّ المراد من قوله ـ عليه السَّلام ـ  : «نظيف» إمّا الطهارة الواقعية بجعل مصداق لها ، أو الطهارة الظاهرية بمعنى معاملة الطهارة الواقعيـة معها وترتيب آثارها عليها .

لكن لا سبيل إلى الأوّل ; لمكان كونها مجعولة في ظرف الشكّ لبّاً ، وقد جعلت مغيّاة بحصول العلم بالنجاسة ، وهما من لوازم الظاهرية دون الواقعية .

فحينئذ يتعيّن الثاني ويكون مفاده جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه ، لكن بلسان تحقّقها ، وأنّ الشاكّ واجد لها ، فيفهم منه عرفاً أنّ الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز إتيانها بها في حال الشكّ بهذه الكيفية ، ويكون المأتي به مع هذه الكيفية مصداقاً للصلاة المأمور بها وواجداً لما هو شرطها .

وبالجملة : قول الشارع بكون مشكوك الطهارة والنجاسة طاهراً يوجب توسعة في ناحية الشروط المستفاد من قوله «صلّ في الطاهر» مثلا ; بحيث ينتقل العرف بعد الحكم بطهارة المشكوك إلى أنّ المفروض مصداق لما فرض شرطاً ، وأنّ الشرط في الصلاة أعمّ ممّا هو محرز بالوجدان أو بأصل تعبّدي الذي حكم الشارع بقوّة تشريعه ، بكونه مصداقاً للطاهر الذي جعله شرطاً للصلاة في قوله «صلّ في الطاهر» مثلا .

وعليه : فالصلاة في المشكوك المحكوم بالطهارة واجدة لما هو الشرط واقعاً وحقيقة ، لا ظاهراً فقط ; لأنّ الظاهر بعد هذه الحكومة أنّ الشرط بحسب الواقع أعمّ ، ولا يقبل ما فرض فيه الشرط أعمّ ، الخطأ والتخلّف ; لأ نّه لم تلحظ فيه الطريقية .

وبذلك يظهر لك ضعف ما ربّما يقال من أنّ هذا إنّما يصحّ إذا لم ينكشف الخلاف ، والمفروض انكشافه ; وذلك لأنّ الأصل ليس طريقاً إلى الواقع حتّى يوافقه تارة ويخالفه اُخرى ، فلا يتصوّر لانكشاف الخلاف هاهنا معنىً .

وبعبارة أوضح : أ نّه بعد التصرّف في مدلول الشرط في ظرف الشكّ ، بجعله أعمّ من الطهارة الواقعية لا يتصوّر لانكشاف الخلاف معنى معقول ; لأنّه إن كان المراد من انكشافه هو أ نّه بعد حصول العلم بالنجاسة يستكشف أنّ ما حكمناه معتضداً بفهم العرف ; من كون الشرط في الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعية لم يكن صحيحاً ، فهو ساقط جدّاً لا يستأهل للجواب .

وإن كان المراد منه : أنّ أدلّة النجاسة تقتضي نجاسة المحكوم بالطهارة فيما بعد وفيما قبل فهو حقّ ، لكن لا يضرّنا ; إذ قاعدة الطهارة ليست حاكمة على أدلّة النجاسات بضرورة الفقه ، بل على أدلّة الشرائط والأجزاء ، فاغتنم فإنّي به زعيم ، والله به عليم .

وبذلك يظهر الكلام في أصالة الحلّ ; فإنّ قوله ـ عليه السَّلام ـ  : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه»(27)  حاكم على ما دلّ على عدم جواز الصلاة في محرّم الأكل .

ومعنى الحكومة على أدلّة الشروط هنا هو أنّ العرف بعد ما فهم أنّ المشكوك محكوم بالحلّية تكليفاً ووضعاً ينتقل ـ لا محالة ـ إلى أنّ الوظيفة في هذا الحال إتيان الصلاة بهذه الكيفية ، وأنّ الشرط بعد هذا الحكم أعمّ من الحلّية الواقعية والظاهرية ، فيكون المأتي به كذلك مصداقاً للمأمور به حقيقة بعناية التعبّد ، ومعه لا يعقل بقاء الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة . وحديث كشف الخلاف قد عرفت جوابه .

ثمّ إنّ بعض الأعاظم  ـ رحمه الله ـ أورد على الحكومة إشكالات(28) :

منها : أنّ ذلك إنّما يتمّ مادام المكلّف شاكّاً ، وبعد ارتفاع شكّه لا معنى لإجزائه ; لارتفاع ما كان عذراً له .

وفيه : أنّ الحكم بطهارة المحكوم ليس عذرياً حتّى يرتفع بارتفاع عذره ، بل على فرض حكومته لأدلّة الشروط حكم حقيقي صادر لأجل توسيع الأمر على المكلّفين ، وإفهام أنّ المطلوب منها هو الأعمّ لا الطهارة الواقعية فقط .

ومنها : أنّ وجود الحكم الظاهري لابدّ وأن يكون مفروغاً عنه حين الحكم ، بعموم الشرط للواقعي والظاهري ، ومن الواضح أنّ المتكفّل لإثبات الحكم الظاهري ليس إلاّ نفس دليل القاعدة ، فكيف يمكن أن يكون هو المتكفّل لأعمّية الشرط ؟ !

وفيه : أنّ الحكومة لم يرد فيها نصّ حتّى نتحرّى في مغزاها ، بل هي من خصوصيات لسان الدليل يفهمها أهل المحاورة . فلو قال الشارع «المشكوك طاهر» يرى العرف المتوجّه إلى أحكام الشريعة ونسكها وشروطها حكومة هذا الدليل وتقدّمه على أدلّة الشروط ، التي منها قوله مثلا : «صلّ في الطاهر» ، ولا يلزم فيها التصريح بأنّ الشرط أعمّ من الواقعي والظاهري ، كما لا يخفى .

ومنها : أنّ الحكومة وإن كانت مسلّمة إلاّ أ نّها لا تستلزم تعميم الشرط ; لكونها على قسمين :

قسم لا يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً في لسان الحاكم ، كما في قوله : «لاشكّ لكثير الشكّ» بالنسبة إلى أدلّة الشكوك ، ويكون معمّماً ومخصّصاً ، ويسمّى حكومة واقعية .

وقسم يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً فيه ، فلا محالة يكون متأخّراً عنه لأخذ الشكّ في موضوعه ، فيستحيل كونه معمّماً أو مخصّصاً ، بل يكون حكومة ظاهرية يترتّب عليه الأثر ما دام شاكّاً .

وفيه : ـ مضافاً إلى أنّ الحكم يوصف بالظاهري والواقعي لا الحكومة ـ يرد عليه : أنّ ما ذكره على فرض صحّته إنّما يتمّ لو كان حاكماً على أدلّة نجاسـة الأشياء وطهارتها إذا قلنا بقبولها الجعل ، فيكون الشكّ متأخّـراً عـن أدلّتهما ، وليس كذلك ، وإنّما هو حاكم على دليل الشرط ; أعني قوله «صلّ في الطاهر» مثلا ، وهما في رتبة واحدة .

والحاصل : أنّ القائل بالإجزاء لا يدّعي أنّ أصالة الطهارة ـ مثلا ـ حاكمة على أدلّة النجاسات ، وأ نّها في زمان الشكّ طاهرة ، بل يقول : إنّها محفوظة في واقعيتها ، وإنّ ملاقيها نجس ; حتّى في زمان الشكّ ، لكن يدّعي حكومتها على الدليل الذي دلّ على طهارة ثوب المصلّي ، وأنّه لابدّ أن يكون طاهراً .

وخلاصة حكومتها : أنّ ما هو نجس واقعاً يجوز ترتيب آثار الطهارة عليه في ظرف الشكّ ، ومن تلك الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها ، لكن بلسان تحقّق الطهارة ، ولازمه تحقّق مصداق المأمور به لأجل حكومتها على أدلّة الشرائط والموانع ، فراجع وجدانك ترى الحقّ ظاهراً .

ومن ذلك يظهر ضعف ما أفاده في رابع الوجوه : من أنّ الحكومة لو كانت واقعية فلابدّ من ترتيب جميع آثار الواقع لا خصوص الشرطية ، وأن لا يحكم بنجاسة الملاقي لما هو محكوم بالطهارة ظاهراً ; ولو انكشف نجاسته بعد ذلك ، انتهى . أنّ الخلط بين المقامين أوقع المستشكل فيما أوقعه ، وقد عرفت أنّ الحكومـة بين القاعدة ودليل شرطية طهارة لباس المصلّي وبدنه لا بينها وبين أدلّة النجاسات ; إذ الحكومة عليها باطلة بضرورة الفقه ، لا ينبغي للفقيه أن يتفوّه بها أو يحتملها .

ولكن أين هذا من الحكومة على أدلّة الشروط ، وحينئذ يصير نتيجتها توسيع الأمر من الشارع في كيفية أداء العبادة ، ولا يأبى تلك الحكومة شيء ; لا ضرورة الفقه ولا فهم العرف . وأنت إذا كنت ذا تفحّص في الفقه ومآثر الفقهاء تجد أنّ الأكابر من القدماء كلّهم قائلون بالإجزاء في الأحكام الظاهرية ; أمارة كان أو أصلا تعبّدياً .

وأ مّا البراءة الشرعية :

 فلمّا كان الظاهر من قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلَّم ـ  : «رفع عن اُمّتي تسعة . . .»(29) إلى آخره هو رفع الحكم في الشبهات الحكمية حقيقة واختصاصه بالعالمين ، ولمّا كان ذلك مستلزماً للتصويب الباطل حمل ـ لا محالة ـ على رفعه ظاهراً بعد ثبوته واقعاً ، ووجه الرفع هو الامتنان للاُمّة وتوسيع الأمر عليهم ، فحينئذ إذا شكّ في جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته ، أو شكّ في كون شيء مانعاً من جهة الشبهة الموضوعية فمقتضى حديث الرفع هو مرفوعية المشكوك ظاهراً ، وجواز ترتيب آثار الرفع عليه كذلك ، ومن الآثار إتيان العبادة على مقتضى الرفع في مقام الفراغ عن عهدتها ، فيكون رخصة في ترك المشكوك ، وإتيانها مع الأجزاء الباقية .

وإن شئت قلت : إنّ الأمر قد تعلّق بعنوان الصلاة الصادق على فاقد الجزء وواجده ، وحديث الرفع ناظر إلى العنوان الذي قيد لبّاً ، ولكن نظره ليس نظر وضع بل نظر رفع ; بمعنى أنّ العنوان الذي تعلّق به الأمر يجوز إتيانها بلا هذا الشرط أو هذا الجزء أو غير ذلك ، ويكون العبد ذا حجّة في امتثاله وتركه .

ولا معنى ـ حينئذ ـ للإعادة والقضاء ; لأنّ عنوان الصلاة منطبق عليه ، وترك القيد نشأ من إذنه وإشارته إلى كيفية امتثال أمرها في ظرف الشكّ .

فإذا ورد قوله سبحانه : {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } [الإسراء: 78] وفرضنا أنّ السنّة دلّت على اعتبار أجزاء وشرائط ، ثمّ حكم الشارع ـ  امتناناً  ـ برفع ما لا يعلمون من الأجزاء والشرائط يفهم العرف أنّ كيفية إطاعة الأمر في حال الشكّ في وجوب السورة مثلا هو إتيانها بلا سورة ، وفي حال الشكّ في مانعية شيء جواز إتيانها معه . فإذا امتثله كذلك فقد امتثل قوله سبحانه (أَقِمِ الصَّلاةَ) بحكومة أدلّة الرفع على أدلّة الجزء والشرط والمانع .

وأمّا الاستصحاب :

فمفاده متّحد مع ما مرّ من قاعدتي الحلّ والطهارة من حكومته على أدلّة الشرائط والموانع ; قائلا بأنّ الشاكّ بعد اليقين يبني عليه ، فهو متطهّر في هذا الحال ، وليس له أن يرفع اليد عن يقينه أبداً . وبعبارة اُخرى : أنّ الظاهر من دليله هو البناء العملي على بقاء المتيقّن في زمان الشكّ أو البناء العملي على وجوب ترتيب آثاره ; وإن كانت الآثار ثابتة بالأدلّة الاجتهادية .

والاستصحاب محرز موضوعها تعبّداً ; لأنّ استصحاب عدالة زيد لا يثبت عدا بقاء عدالته ، وأمّا جواز الطلاق عنده وإقامة الصلاة خلفه فلا يثبت بدليل الاستصحاب ، بل بالكبريات الكلّية الأوّلية التي هي المجعولات الأوّلية ، فيكون دليله حاكماً على الأدلّة ، فيفيد الإجزاء كما مرّ .

وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ :

فقد أشبعنا فيها الكلام ، وحقّقناها بما لا مزيد عليه في مباحث الوضوء وخاتمـة الاستصحاب ، وأثبتنا أنّ مفاد الأخبار هـو جعل قاعـدة واحـدة ; هي قاعـدة التجاوز لا قاعـدتين ، وأنّ مـا قيل أو يمكن أن يقال فـي إثبات كونهما قاعدتين غير مقبول أصلا(30) .

وأمّا البحث عن إجزائها : فإن ثبت كونه طريقاً عقلائياً إلى وجود الشيء الذي شكّ في إتيانه في محلّه ، أو ثبت كونها أصلا عقلائياً بالبناء على تحقّق الشيء عند مضيّ محلّه فلابدّ من تنزيل أدلّتها على ما هو المرتكز عندهم ; لصلاحيتها للقرينية على المراد من الأخبار .

والذي يسهّل الخطب هو عدم وجود تلك المزعمة عند العقلاء ; لا بنحو الطريقية كما هو واضح ولا بنحو التعبّدية أيضاً ، ويتّضح ذلك : إذا راجعت سيرتهم في مهامّ الاُمور وفي تركيب المعاجن وتأسيس الأبنية ، فلا أقلّ من عدم إحراز بنائهم على عدم الاعتبار .

فإذن لابدّ في فهم المراد من التفحّص في لسان الروايات ، فنقول : ربّما يتوهّم ظهور بعضها في الأمارية ، كما في قوله ـ عليه السَّلام ـ  : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(31) ; قائلا بأنّه من باب إقامة العلّة مقام المعلول ، والمراد : أنّ الذاكر بما له جهة الذكر يأتيه في محلّه البتّة .

قلت وفيه ـ مضافاً إلى أنّ مـدّعي الطريقية لابـدّ وأن يدّعي : أنّ الظـنّ النوعي بالإتيان لأجل الغلبة جعل طريقاً إلى الواقع ، والحال أنّ الرواية لا يتعرّض لحاله . وكون الذكر طريقاً لامعنى له ، ومضافاً إلى أ نّه يحتمل أن يكون وارداً لأجـل نكتة التشريع ، كما هو غير بعيد ـ يرد عليه : أ نّه لو سلّمنا أ نّه مـن باب إقامـة العلّة مقام المعلول ، ولكن المعلول كما يحتمل أن يكون ما ذكره من أ نّه أتى بـه في محلّه لأذكـريته ، كـذا يحتمل أن يكون المعلول أ نّه يبنى على وجـوده ، أو «فأمضه»(32)  أو «شكّك ليس بشيء»(33)  أو غير ذلك ممّا يناسب كونه أصلا محرزاً أو أصلا مطلقاً ; وإن كان كونه أصلا محرزاً حيثياً غير بعيد ; لأنّه مقتضى قوله ـ عليه السَّلام ـ  : «بلى قد ركعت»(34) . وغير ذلك من الشواهد التي تؤيّد كونه أصلا محرزاً حيثياً .

فحينئذ إنّ البناء التعبّدي على وجود المشكوك فيه ـ كما يستفاد من صحيحة حمّاد(35)  وموثّقة عبد الرحمان(36)  أو الأمر بالمضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ ـ كلّ ذلك يساوق معنى جواز إتيان المأمور به بهذه الكيفية أو لزوم إتيانه كذلك ، فيصير المأتي به مصداقاً للمأمور به ، ويصدق عليه عنوان الصلاة ، ولازمه سقوط أمره ، ولا نعني من الإجزاء إلاّ هذا .

فتلخّص : أنّ مقتضى التحقيق عدم الإجزاء في الأمارات ، والإجزاء في الاُصول . وأمّا حال تبديل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله وأعمال مقلّديه فقد أسهبنا فيه الكلام في بحث الاجتهاد والتقليد(37) ، فارتقب حتّى حين .

___________

1 ـ الفصول الغروية : 116 / السطر9 .

2 ـ مطـارح الأنظـار : 18 / السطر23 ، كفايـة الاُصـول : 104 ، نهايـة الأفكـار 1 : 222 ، درر  الفوائد ، المحقّق الحائري : 77 .

3 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 260 و 261 .

4 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 261 .

5 ـ كفاية الاُصول : 105 و 106 .

6 ـ كفاية الاُصول : 105 .

7 ـ تقدّم في الصفحة 208 .

8 ـ كفاية الاُصول : 106 ـ 107 .

9 ـ نفس المصدر : 456 ـ 457 .

10 ـ اُنظر وسائل الشيعة 3 : 381 ، كتاب الطهارة ، أبواب التيمّم ، الباب 21 ، الحديث 1 .

11 ـ يأتي في الصفحة 265 ـ 266 .

12 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني(قدس سره) : 68 ـ 70 .

13 ـ الكافي 3 : 379 / 1 ، وسائل الشيعة 8 : 403 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ، الباب 54 ، الحديث 11 .

14 ـ الصلاة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم(رحمه الله) 7 : 363 .

15 ـ الدروس الشرعية 1 : 223 ، مسالك الأفهام 1 : 311 .

16 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 263 .

17 ـ يأتي في الصفحة 343 .

18 ـ كفاية الاُصول : 108 .

19 ـ تقدّم في الصفحة 255 .

20 ـ كفاية الاُصول : 110 .

21 ـ نهاية الأفكار 1 : 230 .

22 ـ كفاية الاُصول : 111 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 246 ، درر  الفوائد ، المحقّق الحائري : 81 .

23 ـ نهاية الاُصول : 144 ـ 145 .

24 ـ نفس المصدر : 138 ـ 139 .

25 ـ تهذيب الأحكام 1 : 49 / 144 ، وسائل الشيعة 1 : 365 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .

26 ـ تهذيب الأحكام 1 : 284 / 832 ، وسائل الشيعة 3 : 467 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 37 ، الحديث 4 .

27 ـ الفقيه 3 : 216 / 1002 ، وسائل الشيعة 17 : 87 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به، الباب 4 ، الحديث 1 .

28 ـ أجود التقريرات 1 : 198 .

29 ـ التوحيد : 353 / 24 ، الخصال : 417 / 9 ، وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الباب 56 ، الحديث 1 .

30 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني(قدس سره) : 315 .

31 ـ تهذيب الأحكام 1 : 101 / 265 ، وسائل الشيعة 1 : 471 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 42 ، الحديث 7 .

32 ـ تهذيب الأحكام 2 : 344 / 1426 ، وسائل الشيعة 8 : 237 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 3 .

33 ـ تهذيب الأحكام 2 : 352 / 1459 ، وسائل الشيعة 8 : 237 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 1 .

34 ـ تهذيب الأحكام 2 : 151 / 592 ، وسائل الشيعة 6 : 317 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 3 .

35 ـ تهذيب الأحكام 2 : 151 / 594 ، وسائل الشيعة 6 : 317 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 2 .

36 ـ تهذيب الأحكام 2 : 151 / 596 ، وسائل الشيعة 6 : 318 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 6 .

37 ـ الاجتهاد والتقليد ، الإمام الخميني(قدس سره) : 135 .




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.