أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-8-2016
518
التاريخ: 4-9-2016
782
التاريخ: 26-8-2016
1742
التاريخ: 16-10-2016
770
|
قبل الورود في النقض والإبرام لابدّ من ذكر مقدّمات :
الاُولى : في تحرير محلّ النزاع :
اختلفت كلماتهم في تحرير محلّ البحث ; فعنونه في «الفصول» بأنّ الأمر بالشيء إذا اُتي به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا(1) ؟ والمعروف بين المشايخ والمعاصرين هو أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا(2) .
وربّما يفرّق بين التعبيرين : أنّ النزاع في الأوّل في دلالة الأمر ، فيكون البحث من مباحث الالفاظ والدلالات ، وفي الثاني في أنّ الإتيان علّة للإجزاء ، فيكون عقلياً(3) .
وفيه : أنّ جعل النزاع في العنوان الأوّل في دلالة لفظ الأمر بعيد عن الصواب جدّاً ; أمّا عدم المطابقة والتضمّن فظاهران ; إذ لا أظنّ أن يتوهّم أحد أنّ الأمر بمادّته أو هيئته يدلّ على الإجزاء إذا أتى المكلّف بالمأمور به على وجهه ; بحيث يكون هذا المعنى بطوله عين مدلوله أو جزئه . وأمّا الالتزام فبمثل ما تقدّم .
وما يقال في تقريبه من أنّ الأمر يدلّ على أنّ المأمور به مشتمل على غرض للآمر ، ولا محالة أنّ ذلك الغرض يتحقّق في الخارج بتحقّق المأمور به ، وحينئذ يسقط الأمر لحصول الغاية(4) ، مدفوع بأنّ عدّ تلك القضايا الكثيرة العقلية من دلالة الأمر عليهما التزاماً ممّا لا مجال للالتزام به ; إذ جعلها من المداليل الالتزامية يتوقّف على كونها من اللوازم البيّنة ; حتّى يجعل من المداليل الالتزامية بالمعنى المصطلح ، مع أنّ المقدّمتين المذكورتين في كلامه قد تشاجرت في صحّته الأشاعرة والمعتزلة ، فكيف يكون أمراً بيّن الثبوت ؟ !
هذا ، من غير فرق بين إرجاع النزاع إلى الأوامر الاختيارية الواقعية أو الاضطرارية أو الظاهرية ; لأنّ دلالة الأمر لا تخرج من مادّته وهيئته ، فتدبّر .
كما أنّ جعل النزاع في العنوان الثاني عقلياً ـ كما استظهره القائل ـ لا يصحّ في جميع الأقسام ; إذ النزاع عقلياً إنّما يصحّ لو كان المراد مـن الإجـزاء بالإتيان هـو الإجزاء عـن الأمـر الذي امتثله ، وأمّا إجزاء المأتي به بالأمر الظاهري عن الواقعي والثانوي عن الأوّلي فلا محالة يرجع النزاع إلى دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية على الإجزاء ، بتنقيح موضوع الأوامر الاختيارية والواقعية بنحو الحكومة .
وبالجملة : يلاحظ لسان أدلّتها بأنّه هل يدلّ على التوسعة في المأمور به أولا ؟ فلا محالة يكون من مباحث الألفاظ ، فحينئذ لا يجوز عدّ الجميع بحثاً عقلياً . ولعلّه لأجل ذلك ذهب بعضهم إلى أنّ الجمع بين الإجزاء في الأوامر بالنسبة إلى نفسها والإجزاء بالنسبة إلى أمر آخر ممّا لا يمكن بعنوان واحد .
نعم ، ما ذكرناه وجهاً لجعل البحث في الأمر الظاهري أو الواقعي الثانوي في الدلالات اللفظية من التوسعة ، وتنقيح الموضوع بالحكومة ممّا أحدثه المتأخّرون من الاُصوليين ، فلا يجوز حمل كلام القوم عليه .
كما أنّ ما نقلناه عن بعض ; من عدم إمكان الجمع بين الواقعي الأوّلي وغيره ضعيف بإمكان تصوّر جامع بينهما ; بأن يقال : إتيان المأمور به على وجهه هل يجزي أم لا ؟
وهذا جامع يشمل جميع العناوين المبحوث عنها ، غاية الأمر أنّ الاختلاف في طريق الاستدلال بما يناسب حال كلّ واحد ، ولا يكون النزاع ابتداءً في دلالة الأدلّة ، بل في الإجزاء وعدمه ، فيكون الدليل على الإجزاء في بعض الموارد حكم العقل ، وفي غيره ما تصوّره القائلون بالإجزاء ; من حديث الحكومة والتوسعة ، ولا ضير في كون بعض مصاديقه بديهياً دون بعضه، بعد قابلية الجامع للنزاع ، والخطب سهل .
الثانية : في المراد من الاقتضاء في عنوان البحث :
ليس الاقتضاء الواقع في تحرير محلّ البحث بمعنى العلّية والسببية ; بحيث يكون إتيان المأمور به في الخارج بحدودها مؤثّراً في الإجزاء ـ بأيّ معنى فُسّر ـ وظنّي أنّ ذلك واضح ; لانتفاء العلّية والتأثير في المقام ; سواء فسّر الإجزاء بالمعنى اللغوي ـ أعني الكفاية ـ أم بشيء آخر من سقوط الأمر أو الإرادة .
أمّا على الأوّل : فلأنّ الكفاية عنوان انتزاعي لا يقع مورد التأثّر والتأثير . والعجب من المحقّق الخراساني ; حيث جمع بين الالتزام بكون الاقتضاء بمعنى العلّية وبين القول بأنّ الإجزاء هو الكفاية(5) .
وأمّا على الثاني : فلأنّ الإتيان ليس علّة مؤثّرة في سقوط الأمر ، كما أنّ السقوط والإسقاط ليسا من الاُمور القابلة للتأثير والتأثّر اللذين هما من خصائص التكوين .
وأمّا الإرادة فالأمر فيها أوضح ; لأنّ الإتيان لا يصير علّة لانعدام الإرادة وارتفاعها ، لا في الإرادات التكوينية ولا في المولوية التي يعبّر عنها بالتشريعية ; إذ تصوّر المراد بما أنّه الغاية والمقصود مع مباد آخر علّة لانقداح الإرادة في لوح النفس ، كما أنّه بنعت كونه موجوداً في الخارج من معاليل الإرادة ، فلا يعقل أن يكون المعلول بوجوده طارداً لوجود علّته .
وأقصى ما يتصوّر لسقوط الإرادة من معنى صحيح عند حصول المراد هو انتهاء أمدها ; بمعنى أنّ الإرادة كانت من بدأ الأمر مغيّاة ومحدودة بحدّ خاصّ ، فعند وصولها إليه لا اقتضاء لها في البقاء ، لا أنّ لها بقاء والإتيان بالمأمور به قد رفعها وأعدمها ، كما هو قضية العلّية .
كما أنّ الأمر لمّا صدر لأجل غرض ـ وهو حصول المأمور به ـ فبعد حصوله ينفد اقتضاء بقائه، فيسقط لذلك ، كما هو الحال في إرادة الفاعل المتعلّقة بإتيان شيء لأجل غرض ، فإذا حصل الغرض سقطت الإرادة ; لانتهاء أمدها ، لا لعلّية الفعل الخارجي لسقوطها .
والأولى ـ دفعاً للتوهّم ـ أن يقال : إنّ الإتيان بالمأمور به هل هو مجز ، أو لا ؟
الثالثة : في معنى «على وجهه» في عنوان البحث :
الظاهر أنّ المراد من قولهم «على وجهه» هو كلّ ما يعتبر في المأمور بـه ، ولـه دخل في حصول الغرض ; سواء دلّ عليه العقل أو الشرع ، لا قصد الوجه ، ولا ما في «الكفاية» من أنّ المراد منه ما يعتبر فيه عقلا ، ولا يمكن الاعتبار شرعاً(6) ; لما عرفت من إمكان أخذ جميع القيود في المتعلّق حتّى ما جاء من قبل الأمر(7) وإن لم يؤخذ بالفعل ، وكان العقل دلّ على شرطيته . مع أنّ شبهة عـدم إمكان أخذ ما يأتي من قبـل الأمر في المأمور به حدثت في هذه الأزمنة المتأخّرة ، وهذا العنوان متقدّم عليها .
الرابعة : في فارق المسألة عن المرّة والتكرار:
الظاهر عدم وجود جامع بين هذه المسألة وما مرّ من مسألة المرّة والتكرار ; إذ البحث في الثانية ـ سواء كان في دلالة الأمر أو حكم العقل ـ إنّما هو في مقدار ما بعث إليه المولى ـ من مرّة أو غيرها ـ والبحث هاهنا بعد الفراغ عن دلالة الأمر أو حكم العقل .
فإذا فرغنا عن دلالة الأمر أو اقتضائه المرّة يقع البحث في أنّ الإتيان بها مجز أو لا . كما أنّه لو دلّ على التكرار يقع البحث في إجـزاء الإتيـان بكلّ فـرد وعدمه .
وأمّا الفرق بين المقام ومسألـة تبعيـة القضاء للأداء فأوضح مـن أن يخفى ; إذ البحث في الإجـزاء إنّما هـو في أنّ الإتيان بالمأمور بـه هل هـو مجز عـن الأداء والقضاء ؟ والبحث في الثانية في أنّه إذا فات منه المأمور به فهل الأمـر المتعلّق بالطبيعة المضروب لها الوقت يكفي في إيجاب القضاء عليه ، أو يحتاج إلى أمر جديد ؟
فأيّ تشابه بينهما حتّى نتمحّل للفرق ؟ ! إذ الموضوع في إحداهما الإتيان وفي الاُخرى الفوات .
ومن ذلك يظهر الخلل في كلام المحقّق الخراساني من أنّ البحث في إحداهما في دلالة الصيغة دون الاُخرى(8) ، فراجع .
الخامسة : محطّ البحث في الإجزاء :
ظاهر كلمات أكثر المحقّقين من المتأخّرين في إجزاء الأوامر الاضطرارية عن الاختيارية وإجزاء الظاهرية عن الواقعية ، أنّ هاهنا أمرين ; تعلّق أحدهما بالطبيعة بملاحظة حال الاختيار والعلم ، وثانيهما بطبيعة اُخرى بملاحظة حال الاضطرار والجهل ، فوقع البحث في أنّ إتيان متعلّق الاضطراري والظاهري يجزي عن الاختياري والواقعي أو لا ؟
ولعـلّ مبنى القول بتعدّده ما عليه جماعـة ـ منهم المحقّق الخراساني ـ مـن أنّ الجزئيـة والشرطية والمانعية لا تقبل الجعل استقلالا(9) ، وأنّ ما ظاهره الاستقلال في الجعل إنّما هو إرشاد إلى ما جعله جـزءً أو شرطاً حين الأمـر بالمركّب ، ولا يعقل بعد الأمر بالمركّب جعل جزء آخر له أو شرط كذلك .
فحينئذ كلّ ما كان ظاهره الاستقلال في الجعل ، كقوله ـ عليه السَّلام ـ : «التراب أحد الطهورين»(10) فلابدّ من جعله إرشاداً إلى ما أخذه شرطاً لدى الأمر بالمركّب ، ويحتاج إلى سبق أمر آخر متعلّق بالطبيعة المتقيّدة بالطهارة الترابية ; إذ لا معنى للإرشاد مع عدم وجود مرشد إليه ، ويلتزم لأجله وجود أمرين .
وعليه هنا أمران: أحدهما تعلّق بالصلاة المتقيّدة بالطهارة المائية للمختار، والآخر بالمقيّدة بالترابية للمضطرّ . وقس عليه الأجزاء والموانع بقسميهما .
ولذا ذهب ـ قدس سره ـ إلى البراءة ; إذ الشكّ ـ بناءً على وجود الأمرين ـ إنّما هو في حدوث أمر آخـر ـ كما يأتي بيانه(11) ـ وهذا بخلاف القول بإمكان الجعل فيها مستقلاًّ حتّى يتحفّظ ظواهر الأدلّة الظاهرة في الجعل مستقلاّ ; إذ يكون هنا أمر واحد متعلّق بالطبيعة ، وقد أمر الشارع بإتيانها بكيفية في حال الاختيار ، وبكيفية اُخرى في حال الاضطرار ، والاختلاف في الأفراد والمصاديق .
ولا يجب لمن قال بجعل الشرطية مستقلاّ الالتزام بسبق أمر متعلّق بها بكيفية الاضطرار .
ولعمري إنّ هذا هو الحقّ الصراح ; حفظاً لظواهر الأدلّة ، مع ما سيأتي في مبحث الاستصحاب من إمكان الجعل(12) ، فإذن ليس هنا إلاّ أمر واحد تعلّق بطبيعة الصلاة ، وإنّما القيود من خصوصيات المصاديق ; إذ قوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] يدلّ على وجوب الطبيعة في هذا الوقت المضروب لها ، ثمّ دلّ دليل على اشتراطها بالطهارة المائية في حال الاختيار واشتراطها بالترابية عند فقدانها ; بحيث يكون المأتي بالشرط الاضطراري نفس الطبيعة التي يأتيها المكلّف بالشرط الاختياري ، بلا اختلاف في المتعلّق والطبيعة والأمر .
كما هو ظاهر قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ.... إلى أن قال سبحانـه : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } [المائدة: 6] فإنّ ظاهرها : أنّ الصلاة التي سبق ذكرها وشرطيتها بالطهارة المائية يؤتى بها عند فقد الماء متيمّماً بالصعيد ، وأنّها في هذه الحالة عين ما تقدّم أمراً وطبيعة .
وبالجملة : أنّ الكيفيات الطارئة من خصوصيات المصاديق لا من مكثّرات موضوع الأمر ، ولا يكون للطبيعة المتقيّدة بكيفية أمرٌ وبكيفية اُخرى أمر آخر ، والنزاع وقع في أنّ الإتيان بمصداق الاضطراري للطبيعة هل يوجب سقوط الأمر عنها أولا ؟ وقس عليه الحال في الأوامر الظاهرية حرفاً بحرف .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الكلام يقع في مواضع :
الموضع الأوّل / في إجزاء الاتيان بالمأمور به عن التعبد به ثانياً:
إنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري يجزي عن التعبّد به ثانياً ; لأنّ الداعي إلى الأمر هو إتيان المأمور به بما له من القيود والحدود ، فلا يعقل بعد حصوله بقاء الطلب وعدم سقوط الأمر ، وهذا من الاُمور البديهية الفطرية ، لا يحتاج إلى إقامة برهان .
وإن كنت حريصاً على صوغه على صورة البرهان فنقول : إنّ المكلّف إذا حصّل المأمور به على وجهه لم يبق معنى لبقاء البعث بعد حصول الغرض الذي هو علّة الإرادة بماهيته ; إذ يكون حصوله موجباً لانقطاع أمد الإرادة والبعث ، فلو بقيا بعد حصوله يلزم بقاء المعلول بلا علّة .
حول تبديل الامتثال بامتثال آخر وأمّا ما اشتهر من جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر فلم نقف على معنى محصّل له ; إذ لا نتصوّر تعدّد الامتثال بالنسبة إلى أمر واحد ، كما مرّت الإشارة إليه ; إذ الامتثال دائر أمره بين الوجود والعدم ، فلو حصل الامتثال بفعله مرّة فقد سقط أمره ، ولا موضوع للامتثال ثانياً ، وإن لم يحصل ، كما إذا كان الأوّل فاقداً لبعض الأجزاء والشرائط لم تصل النوبة إلى امتثال آخر .
فإن قلت : ربّما يكون الغرض باقياً مع سقوط الأمر ، كما لو أمر بإحضار الماء ، وامتثل المكلّف ، ثمّ اتّفق هراقته ; فإنّ الأمر قد سقط بتمكين المولى من الماء ، إلاّ أنّ الغرض التامّ ـ وهو رفع العطش ـ باق بعد وليس له الاكتفاء بما امتثل أوّلا بعد علمه بعدم حصول غرضه وملاكه .
قلت : إنّ ذلك خلط بين تبديل الامتثال وبين وجوب تحصيل الغرض المعلوم للمولى ، فما هو موجب لصحّة العقوبة ليس عدم امتثاله أمره بل فوت غرضه ; ولو لم يكن هنا أمر .
وبالجملة : أنّ العلم بالملاك يتمّ الحجّة على العبد بتحصيل الغرض التامّ ; وإن لم يكن هناك أمر ولا بعث ، كما إذا وقع ابن المولى في هلكة وكان المولى في غفلة عنه ، فلم يأمر عبده بإنجائه ، فيلزم عليه إنجاؤه ; بحيث يستحقّ العقوبة لو تركه ; لأنّ الأمر وسيلة لتحصيل الغرض وآلة للبعث ولا موضوعية له ، ولذا لو اطّلع على غرض غير لازم التحصيل ، وفرضنا أنّ المولى لم يأمره بتحصيله يحسن له تحصيله ، ويصير مورداً للعناية مع عدم كونه امتثالا .
والحاصل : أنّه لا ملازمة بين سقوط الأمر وحصول الغرض ، وما ذكر من المثال في الإشكال ليس من باب تبديل الامتثال بامتثال آخر . وجعله من هذا الباب مبني على تخيّل الملازمة بينهما; حتّى يكون وجود الغرض كاشفاً عن وجود الأمر وبقائه ، وهذا ذهول عن أنّ الأمر قد سقط بإتيانه بتمام قيوده ، والداعي إلى الإتيان ثانياً هو العلم بالملاك لا ثبوت الأمر وبقاؤه .
ويرشدك إلى عدم الملازمة ـ مضافاً إلى ما عرفت ـ أنّه إذا امتثل أمر المولى بإتيان ماء للشرب، ثمّ وقف على مصداق آخر أوفى بغرضه فأتى به ; ليختار المولى أحبّهما إليه فلا محالة يحصل الامتثال بأوّل الفعلين ، والثاني موجب لوقوعه مورداً للعناية لإتيانه ما هو أوفى بغرضه، وليس من الامتثال في شيء ، ولا من تبديل الامتثال بآخر منه ، ولا تفاوت في ذلك بين عدم حصول الغرض من أصله ، كما إذا تلف الماء ، أو عدم حصول الغرض الأقصى منه لبقاء عطشه وعدم شربه .
في الصلاة المعادة:
إن قلت : بماذا يحمل فتاوى الأصحاب وتظافر النصوص في صلاة المعادة جماعة بعد ما صلّى فرادى ، وأنّه يجعلها فريضة ويختار أحبّهما إليه . . . إلى آخره ؟
قلت : إنّ ذلك من باب تبديل فرد من المأمور به بفرد آخر ، لا من تبديل امتثال إلى آخر بعد العلم بكونه مشروعاً في الدين ، وأنّ ذلك يوجب الثواب الزائد على إيجادها في ضمن مصداق آخر .
وتوضيحه : أنّ تبديل الامتثال يتوقّف على تحقّق امتثالين مترتّبين ; بمعنى أنّه لابدّ أن يكون للمولى أمر متعلّق بطبيعة ، فيمتثله المكلّف دفعه مع بقاء الأمر ثمّ يمتثله ثانياً ، ويجعل المصداق الثاني الذي تحقّق به الامتثال بدل الأوّل الذي تحقّق به الامتثال الأوّل .
وأمّا تبديل مصداق المأمور به الذي تحقّق به الامتثال بمصداق آخر غير محقّق للامتثال ، لكن محصّل للغرض اقتضاءً مثل المصداق الأوّل أو بنحو أوفى فهو لا يتوقّف على بقاء الأمر ، بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر ، لا بصفة كونه مأموراً به .
وأمّا قوله ـ عليه السَّلام ـ : «ويجعلها فريضة»(13) فالمراد منه أنّه يأتي الصلاة ناوياً بها
الظهر أو العصر مثلا ، لا إتيانه امتثالا للأمر الواجب ; ضرورة سقوطه بإتيان الصلاة الجامعة للشرائط ، ولهذا حكي(14) عن ظاهر الفقهاء ـ إلاّ من شذّ من المتأخّرين(15) ـ تعيّن قصد الاستحباب في المعادة للأمر الاستحبابي المتعلّق بها .
وأمّا قضية الأوفى بالغرض واختيار أحبّهما إليه وأمثالهما ممّا يتنزّه عنها مقام الربوبي فهي على طبق فهم الناس وحسب محاوراتهم قطعاً .
ثمّ إنّ في كلام بعض محقّقي العصر ـ رحمه الله ـ وجهاً آخر لتوجيه الموارد التي توهّم كونها من تبديل امتثال بآخر ، وملخّصه : أنّ فعل المكلّف ربّما يكون مقدّمة لفعل المولى الجوارحي ، كأمره بإحضار الماء ليشربه ، أو الجوانحي كأمره بإعادة الصلاة جماعة ليختار أحبّهما إليه ، فهذه الأفعال أمر بها لتكون مقدّمة لبعض أفعاله .
فحينئذ : إن قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة كان الواجب هو الفعل الذي أوصل المولى إلى غرضه الأصلي ، وكان الآخر غير متّصف به ; لعدم إيصاله . فالواجب هو الماء الذي حصل منه الشرب أو الصلاة المعادة التي اختاره ، فليس إلاّ امتثال واحد .
وإن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فعدم إمكان التبديل أوضح ; لسقوط الأمر بالامتثال الأوّل(16)، انتهى .
وفيه أمّا أوّلا : فإنّ جعل الأوامر الشرعية المتعلّقة بأفعال المكلّفين من قبيل الوجوب الغيري دون النفسي ; لحديث كونها مقدّمات إلى الأغراض ممّا لا يرضى به أحد . كيف ، وهي من أشهر مصاديق الواجبات النفسية ؟ ! ومعه لا يبقى لما ذكره بشقّيه وجه ، وقد حقّقنا مناط الغيرية والنفسية في محلّه(17) .
وثانياً : أنّ المقدّمة الموصلة ـ بأيّ وجه صحّحنا وجوبها ـ إنّما تتحقّق فيما إذا كان الإيصال تحت اختيار العبد وقدرته ; حتّى تقع تحت دائرة الطلب ، والمفروض أنّ فعل المولى أو اختياره متوسّط بين فعل العبد وحصول الغرض ، فلابدّ أن يتعلّق الأمر بنفس المقدّمة ، من غير لحاظ الإيصال .
وما ربّما يتكرّر في كلامه ـ قدس سره ـ : من أنّ الواجب هو الحصّة بنحو القضية الحينية أو الحصّة الملازمة للغاية ففيه ـ مضافاً إلى عدم كونه معقولا ; لأنّ الأعدام لا ميز فيها ، وأنّ صيرورة الحصّة حصّة لايمكن إلاّ بالتقييد ، ولا تتوجّه النفس إلى حصّة دون غيرها ما لم يتعيّن بالقيد ـ أنّ الحصّة بما أ نّها ملازمة لأمر غير مقدور فهي غير مقدور ، لا يمكن تعلّق الطلب بها .
وإن شئت قلت : إنّ الإيجاب بنحو القضية الحينية أيضاً إنّما يتصوّر فيما إذا كان الظرف موجوداً أو يكون إيجاده تحت قدرة المكلّف ، وهما مفقودان هاهنا ; فإنّ الوجوب حين وجود ذي المقدّمة لا يتصوّر ، والمفروض أنّ إيجاده غير مقدور .
نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الواجب ـ أي ما يقع على نعت الوجوب ـ هو ما يتعقّبه اختيار المولى بنحو الشرط المتأخّر ، فلا يكون الواجب هو المقدّمة الموصلة ـ ولو بنحو القضية الحينية ـ على نحو الإطلاق ; حتّى يلزم عليه تحصيل القيد ، بل الواجب هو المشروط بالشرط المتأخّر ، فإذا أتى بها ولم يتعقّبها اختياره يكشف ذلك عن عدم وجوبها ، فحينئذ يخرج عن موضوع تبديل الامتثال ، فتدبّر .
الموضع الثاني / في أنّ الإتيان بالفرد الاضطراري هل يقتضي الإجزاء أم لا ؟
وفيه مقامان :
المقام الأوّل : في الإعادة في الوقت :
ولا يخفى أنّ البحث من هذه الجهة إنّما هو فيما إذا كان المكلّف مضطرّاً في جزء من الوقت ، فأتى بوظيفته ثمّ طرئ الاختيار ، وفيما إذا كان الأمر بإتيان الفرد الاضطراري محرزاً ; أي يكون العذر غير المستوعب موضوعاً للتكليف ; لأنّ الكلام في أنّ الإتيان بالمأمور به الاضطراري مجز أولا ، وهو فرع وجود الأمر . وبالجملة : البحث فيما إذا كان الاضطرار في بعض الوقت موضوعاً للتكليف بالإتيان .
وأمّا إذا دلّت الأدلّة على أنّ استيعاب الاضطرار موضوع للإتيان فهو خارج عن محطّ البحث ; لأنّـه مع عدم الاستيعاب لا أمر هنا ، ولا مصداق للمأمور به حتّى نبحث عن إجزائـه كما أنّ من مقتضى البحث أيضاً هو طروّ الاختيار في الوقت مع إتيان المأمور به ، فلو استوعب العذر ولم يطرء الاختيار فهو خارج عن موضوع الإعادة .
ثمّ إنّه على المختار من وحدة الأمـر والمطلوب ، وأنّ الاختلاف في الكيفيات الطارئة من خصوصيات المصاديق لا من مكثّرات الطبيعة يكون إجزاء المأتي به الاضطراري في غاية الوضوح ; إذ العبد يكون مخيّراً ـ عقلا أو شرعاً ـ بين الإتيان بمصداقه الاضطراري في الحال وبداراً ، وبين انتظار آخر الوقت والإتيان بالفرد الاختياري .
وقد عرفت : أنّ امتثال كلّ أمر مسقط لأمره ، والمفروض أنّ المأمور به في حال الاضطرار مصداق للطبيعة المأمور بها ومشتمل لجميع الخصوصيات المعتبرة فيها ، فلا معنى للبقاء بعد الإتيان «ليس قرى وراء عبادان» .
المقام الثاني : في القضاء خارج الوقت:
وأمّا القضاء مع استيعاب العذر فمثل الإعادة في عدم الوجوب ; لأنّ وجوب القضاء فرع الفوت، ومع الإتيان بالطبيعة المأمور بها لا يبقى له موضوع .
هذا كلّه على الحقّ المختار ، وأمّا على القول بتعدّد الأمر في باب الاضطرار ـ كما يستفاد من ظاهر الكلمات ـ ففيه التفصيل :
فإن قام الإجماع على عدم وجوب الزائد من صلاة واحدة في الوقت المضروب لها فالقول بالإجزاء هو المتعيّن ; لأنّ دلالة الدليل على وحدة التكليف حال تعدّد الأمر يستفاد منه التخيير بين إتيانها في حال العجز مع الطهارة الترابية ، وبين الصبر إلى زوال العذر وإتيانها مع المائية، فلا محالة يكون الإتيان بأحد طرفي التخيير موجباً للإجزاء وسقوط التكليف .
ولو فرضنا عدم قيام الإجماع المذكور ، لكنّا استفدنا من الأدلّة أنّ تعدّد الأمـر ليس لأجـل تعدّد المطلوب لبّاً ; بأن تكون الصلاتان مطلـوبتين مستقلّتين ، بل لأجل امتناع جعل الشرطية والجزئية استقلالا ، وأنّه لابدّ في انتزاع شرطية الطهارة الترابية في حال العجز من شمول الأمر ووقوعها تحت الأمر حتّى تعلم شرطيتها ، فيكون تعدّد الأمر من ضيق الخناق ، كتعدّده في القربيات من الأوامر ـ على القول بعدم إمكان أخذ ما يأتي من قبل الأمر في موضوعه ـ فحينئذ الأمر الثاني ليس لإفادة مطلوب مستقلّ ، بل لإفـادة خصوصيات الأوّل ، وبيان ماله دخـل في الغرض .
وعلى هذا المبنى يكون مقتضى القاعدة هو الإجزاء أيضاً ; لأنّ تعدّده ليس ناشئاً مـن تعدّد المطلوب والمصلحـة حتّى لا يكون استيفاء الواحـد منهما مغنياً عـن الآخر .
نعم ، لو فرضنا أنّ تعدّد الأمر لأجـل تعدّد المطلوب ، وأنّ الأمر المتعلّق بالبدل من قبيل الترخيص لا الإلزام فلا مناص عن القول بعدم الإجزاء ; لأنّ إجزاء أحد الأمرين عن الآخر مع تعدّد المطلوب نظير إجزاء الصلاة عن الصوم .
وإن شئت قلت : إنّ مقتضى إطلاق دليل المبدل كونه مطلوباً على الإطلاق ـ امتثل أمر البدل أولا ـ وأمّا الإطلاق الموجود في دليل البدل فلا يضادّ إطلاق المبدل ، ولا يدلّ على سقوط القضاء والإعادة ; لأنّ غاية مفاد إطلاقه هو جواز الإتيان به في أيّ زمان شاء وقت طروّ العجز .
وأمّا إجزاؤه عن المأمور به بأمر آخر وقت زوال العذر فلا يدلّ عليه ، والإطلاق الموجود في دليل البدل لا يقتضي إلاّ جواز البدار في إتيانه وسقوط أمره لدى امتثاله ، لا سقوط أمر آخر .
فتلخّص : أنّ مقتضى الأمر المتعلّق بالصلاة مع الطهارة المائية هو كونه مطلوباً على الإطلاق ومقتضياً لاستيفاء مصلحته ، ولابدّ حينئذ لإثبات إجزائه عن أمر آخر من دليل مستقلّ وراء الإطلاق ، ولكنّه خارج من الفرض .
وبذلك يظهر : أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني من التفصيل ; بأنّه إمّا يكون المأتي به وافياً بتمام المصلحة أولا ، وعلى الثاني إمّا أن يكون الفائت قابلا للتدارك أولا . . . إلى آخره(18) لا طائل تحته ; إذ العلم بالاستيفاء وعدمه لا يستفاد من الإطلاق بل من دليل خارج ، ووجوده يوجب الخروج من محطّ البحث .
ثمّ إنّ هذا كلّه لو أحرزنا مفاد الأدلّـة ، وأنّ الموضوع لجـواز الإتيان أعمّ مـن العذر المستوعب، وقد مرّ أنّ البحث في باب الإجزاء بعد ذلك الإحراز ، وقد عـرف مقتضى الحال على المختار مـن وحـدة الأمـر ، وعلى مختار المشهور مـن تعدّده(19) .
وأمّا مع إهمال الأدلّة في المبدل منه والبدل ، ووقوع الشكّ في جواز البدار مع العذر غير المستوعب ، فعلى ما اخترناه ـ من وحدة الأمر ، وأنّ المأمور به طبيعة واحدة في الحالتين ، والاختلاف في الشرط من خصوصيات المصاديق لا من مكثّرات الطبيعة ـ لا محيص عن الاشتغال ; إذ الشكّ في سقوط التكليف المتيقّن بالفرد الاضطراري .
وبعبارة اُخرى : إنّ الأمر دائر بين التعيين والتخيير ; حيث إنّه لو جاز البدار لثبت التخيير بين المصداقين في مقام الامتثال ، ولو لم يجز لكان المتعيّن هو الفرد الاختياري ، ومعه لايمكن العدول إلى المشكوك .
وأمّا بناءً على مذهب القوم من تعدّد الأمر على النحو الأخير ـ كما هو مفروض كلامهم ـ فمقتضى القواعد ـ حينئذ ـ هو البراءة ، واختاره المحقّق الخراساني ـ رحمه الله ـ (20) ، ومرجع هذا إلى أنّ الأمر المتعلّق بالمطلوب الاضطراري هل هو مطلق كون المكلّف مصداقاً لعنوان الفاقد أو بشرط كون عذره مستوعباً .
ووجه البراءة : هو أنّ المكلّف حال الفقدان قاطع بعدم الأمر بإتيان الصلاة مع الطهارة المائية ، وهو يحتمل لدى الاضطرار أن يكون مأموراً بالأمر الاضطراري ، فيأتي به رجاء امتثاله على فرض وجوده . ويمكن أن يكون المأتي رجاءً هو الوظيفة الفعلية ، فإذا أتاه رجاءً يشكّ في تعلّق التكليف عليه بالصلاة المائية إذا أصاب الماء ، فيرجع الشكّ إلى حدوث التكليف ، لا في سقوطه بعد العلم به .
وما قلنا من كونه مخيّراً بين إتيانه للفرد الاضطراري حال الاضطرار ، وبين الصبر إلى زوال العذر ليس بمعنى تعلّق تكليف المختار به من أوّل الأمر ; وإن كان تعلّقه بنحو التعليق في حال الاضطرار ; حتّى يصير التخيير شرعياً ، ويخرج المقام من كون الشكّ في الحدوث .
فإن قلت : إنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ; لأنّه إمّا يجب له الانتظار تعييناً والامتثال بالمائية آخر الوقت ، أو يجوز له البدار إلى الفرد الاضطراري ، كما يجوز له الانتظار والإتيان بالفرد الاختياري ، ولكن مطلوبية الأوّل قطعية ونعلم أنّه مسقط للتكليف قطعاً، بخلاف الثاني . فحينئذ يجب له الانتظار حتّى يأتي بما يعلم كونه مأموراً به ومسقطاً للأمر(21) .
قلت : إنّ الفرق بين المقام ومقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير واضح جدّاً ; إذ هو إنّما يتصوّر فيما إذا علم المكلّف بتوجّه تكليف واحد إليه حال الامتثال ، وشكّ عند الإتيان في أنّ المطلوب هل هو هذا الفرد متعيّناً أو هو مع عدله ؟ ولا ريب أنّه لا يجوز في شريعة العقل العدول إلى ما هو مشكوك .
وهذا بخلاف المقام ; فإنّ المكلّف الفاقد حين فقدانه يعلم أنّه ليس مكلّفاً بتكليف الواجد ، ويحتمل كونه مرخّصاً في إتيان الصلاة مع الطهارة الترابية ، كما يحتمل كونه غير مكلّف بالصلاة حال الفقدان أصلا ، بل يتعلّق به التكليف بالصلاة بالطهارة المائية حال وجدانه فيما بعد .
والحاصل : أنّه قاطع بعدم التكليف بالعنوان الاختياري حالة الاضطرار ، ويحتمل توجّه التكليف عليه بالعنوان الاضطراري إذا كان الشرط هو الفقدان ; ولو في بعض الحالات .
فحينئذ إذا أتى الاضطراري رجاءً ثمّ ارتفع العذر فهو قاطع لارتفاع الأمر الاضطراري وسقوطه ـ على فرض وجوده ـ بالامتثال ، أو لعدم وجـوده مـن رأس ، ويشكّ عند تبدّل الحالة في حدوث أمر جديد وتكليف حديث . فالمحكّم هو البراءة .
أضف إلى ذلك : أنّ وجوب الانتظار ـ كما ذكر في الإشكال ـ لا محصّل لـه ; إذ الواجب هـو إتيان الصلاة بما لها مـن الشرائـط والأجـزاء ، والانتظار لا دخل لـه فيها ، فتدبّر .
ثمّ إنّ التخيير بين الإتيان في الحال والإتيان في الاستقبال ليس من قبيل التخيير الشرعي ، بل من قبيل أمر انتزاعي انتزع من احتمال الترخيص في إتيانها في الحال ، ومن احتمال الإيجاب في الاستقبال حين تعلّق التكليف به على فرض عدم الإتيان ، ومثل ذلك لا يرجع إلى التعيين والتخيير .
فتلخّص : أنّه مع إهمال الأدلّة من الطرفين وتعدّد الأمر في المقام يتعيّن القول بالبراءة إذا أتى بالفرد الاضطراري .
اللهمّ إلاّ أن يصار إلى القول بتنجيز العلم الإجمالي ; حتّى في التدريجيات ، فيصير الاشتغال هو المحكّم في الباب ، ويكون المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير .
هذا حال الإعادة مع الإهمال المفروض .
وأمّا القضاء مع ذاك الفرض : فالأصل الجاري في المقام هو البراءة مالم يرد هنا دليل على اللزوم ; لأنّ موضوع الوجوب فيه هو الفوت ، وهو غير محقّق الصدق بعد إتيان المشكوك .
وتوهّم : إثباته باستصحاب عدم إتيان الفريضة مبني على حجّية الاُصول المثبتة ; لأنّ الفوت غير عدم الإتيان مفهوماً ; وإن كانا متلازمين في الخارج ; إذ الموضوع هو الفوت ، وإثباته باستصحاب عدم الإتيان كإثبات أحد المتلازمين باستصحاب الآخر .
الموضع الثالث / في إجزاء الأمر الظاهري :
وفيه مقامان : الأوّل في مقتضى الأمارات والطرق ، والثاني في الاُصول العملية ; محرزة كانت أو غيرها .
وليعلم : أنّ محلّ النزاع في كلا المقامين ما إذا كان المأمور به مركّباً ذا شروط وموانع ، وقام دليل اجتهادي أو أصل عملي على تحقّق الجزء والشرط ، أو عدم تحقّق المانع ثمّ انكشف خلافه، أو قام واحد منهما على نفي جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته ثمّ بان أنّ الأمر بخلافه، فيقال : إنّ الإتيان بمصداق الصلاة ـ مثلا ـ مع ترك ما يعتبر فيها ; استناداً إلى أمارة أو أصل هل يوجب الإجزاء أو لا ؟
وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف ونفيه ـ كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة ، ثمّ انكشف خلافه ـ فهو خارج عمّا نحن فيه ، ولا معنى للإجزاء فيه .
المقام الأوّل : في الإتيان بمقتضى الأمارات:
فالتحقيق عـدم الإجـزاء فيه بناءً على الطريقية ، كما هـو الحـقّ ـ وفاقاً لجملـة مـن المحقّقين(22) ـ سواء قلنا بأنّ الطـرق التي بأيدينا كلّها طرق وأمـارات عقلائيـة ، وليس للشرع أمـارة تأسيسية ، بل لم يرد مـن الشارع أمـر باتّباعها ،
وإنّما استكشفنا من سكوته ـ وهو بمرآة ـ رضاه ، ومن عدم ردعه إمضائه .
أم قلنا بورود أمر منه بالاتّباع ، لكنّه بنحو الإرشاد إلى ما هو المجبول والمرتكز في فطرة العقلاء .
أم قلنا بأنّ الطرق المتعارفة في الفقه ممّا أسّسها الشارع ـ كلّها أو بعضها ـ إيصالاً إلى الواقع ، ولم يكن عند العقلاء منها عين ولا أثر .
وتوضيح ذلك : أمّا على الوجهين الأوّلين : فلأنّ المتّبع فيهما حكم العقلاء وكيفية بنائهم ، ولا شكّ أنّ عملهم لأجل كشفها نوعاً عن الواقع ، مع حفظ نفس الأمر على ما هو عليه ، من غير تصرّف فيه ، ولا انقلابه عمّا هو عليه . ومع هذا كيف يمكن الحكم بالإجزاء مع انكشاف الخلاف ؟
وبالجملة : لاشكّ أنّ عملهم بها لأجل كونه مرآة إلى الواقع بلا تصرّف فيه أصلا ، فحينئذ المطلوب الذي تعلّق به الأمر لم يحصل بعد ; لتخلّف الأمارة ، وما حصل لم يتعلّق به الأمر .
وأمّا على الوجه الأخير ـ على فرض صحّته ـ فلا شكّ في أنّ لسان أدلّة حجّيتها هو التحفّظ على الواقع ، لا التصرّف فيه وقلبه إلى طبق المؤدّى .
أضف إلى ذلك : أنّ معنى كون شيء أمارة ليس إلاّ كونه كاشفاً عن الواقع عند المعتبر ، فلو تصرّف مع ذلك فيه وقلّب الواقع على طبق مؤدّاه لدى التخلّف لخرجت الأمارة عن الأمارية .
فلو فرضنا أنّ للشارع إيجاباً وتأسيساً فليس إلاّ لأجل الكشف عن الواقع المحفوظ في وعائه ، ومعه لا معنى للإجزاء .
ومن ذلك يظهر ضعف ما ربّما يقال : إنّ لسان دليل الحجّية في الأمارات والاُصول سواء ; وهو وجوب ترتيب الأثر عملا على قول العادل ، فمقتضى قوله «صدّق العادل» هو التصديق العملي وإتيان المأمور به على طبق قوله ، كما سيأتي في الاُصول ، وهو يقتضي الإجزاء في كلا المقامين(23) ، انتهى .
قلت : إنّ القائل جمع بين أمرين متناقضين ، فإنّ القول بالإجزاء في العمل بالأمارات ، والاعتقاد بأنّ إيجاب العمل على طبقها لأجل الكشف عن الواقع لا يخلو من مناقضة ، والعرف والعقلاء شاهدان عليها .
فظهر : أنّ كلّ ما كان الملاك في التعبّد به هو الكشف لا يعقل فيه الإجزاء ، مالم نصر إلى التصرّف فيه وانقلاب الواقع عمّا هو عليه ، وهو لا يناسب ملاك الاعتبار في الأمارات .
ومـا ذكر مـن وحـدة اللسان غير تامّ ; إذ إيجـاب العمل على طبق قـول العادل أو الأخذ بقول الثقة لأجل كونـه ثقـة وعدلا يكشف عـن أنّ الملاك كشفها عـن الواقـع ، كما هـو الملاك عند العرف والعقلاء ، وأين هـذا مـن انقلاب الواقـع عمّا هو عليه ؟ !
ومـا أفاده بعض الأكابر مـن الأساطين ـ دام ظلّه الوارف ـ مـن الإجـزاء في الأمارات عند التخلّف ، مـع الاعتقاد بأنّ حجّية الأمارات مـن باب الطريقية ، وأنّ الشارع لم يتصرّف فيها سوى الإمضاء أو عـدم الردع(24) ، لا يخلو مـن نظـر وإشكال .
المقام الثاني : في الامتثال على طبق مؤدّى الاُصول:
فالتحقيق هو الإجزاء فيها ، ولابدّ في توضيحه من ملاحظة لسان كلّ واحد مستقلاّ ; فإنّ الحكم يختلف باختلاف اللسان ، فنقول :
أمّا أصالة الطهارة والحلّية :
فلأدلّتهما حكومة على أدلّة الشرائط التي من تلك الأدلّة قوله ـ عليه السَّلام ـ : «لا صلاة إلاّ بطهور»(25) ، إن استفدنا منه أو من غيره طهارة الثوب ، فقولـه ـ عليه السَّلام ـ : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر»(26) محقّق للطهور في ظرف الشكّ .
توضيحه : أنّ ظاهر لسانه محكومية المشكوك بالطهارة والنظافة حتّى يعلم قذارته ، ومعنى محكوميته بها هو جواز ترتيب آثار الطهارة عليه ، التي من جملتها إتيان الصلاة معها تعبّداً . وليس معناه أنّ الشكّ في الطهارة والنجاسة طريق إلى الطهارة ; لعدم تعقّل طريقية الشكّ .
وإن شئت قلت : إنّ المراد من قوله ـ عليه السَّلام ـ : «نظيف» إمّا الطهارة الواقعية بجعل مصداق لها ، أو الطهارة الظاهرية بمعنى معاملة الطهارة الواقعيـة معها وترتيب آثارها عليها .
لكن لا سبيل إلى الأوّل ; لمكان كونها مجعولة في ظرف الشكّ لبّاً ، وقد جعلت مغيّاة بحصول العلم بالنجاسة ، وهما من لوازم الظاهرية دون الواقعية .
فحينئذ يتعيّن الثاني ويكون مفاده جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك فيه ، لكن بلسان تحقّقها ، وأنّ الشاكّ واجد لها ، فيفهم منه عرفاً أنّ الصلاة المشروطة بالطهارة يجوز إتيانها بها في حال الشكّ بهذه الكيفية ، ويكون المأتي به مع هذه الكيفية مصداقاً للصلاة المأمور بها وواجداً لما هو شرطها .
وبالجملة : قول الشارع بكون مشكوك الطهارة والنجاسة طاهراً يوجب توسعة في ناحية الشروط المستفاد من قوله «صلّ في الطاهر» مثلا ; بحيث ينتقل العرف بعد الحكم بطهارة المشكوك إلى أنّ المفروض مصداق لما فرض شرطاً ، وأنّ الشرط في الصلاة أعمّ ممّا هو محرز بالوجدان أو بأصل تعبّدي الذي حكم الشارع بقوّة تشريعه ، بكونه مصداقاً للطاهر الذي جعله شرطاً للصلاة في قوله «صلّ في الطاهر» مثلا .
وعليه : فالصلاة في المشكوك المحكوم بالطهارة واجدة لما هو الشرط واقعاً وحقيقة ، لا ظاهراً فقط ; لأنّ الظاهر بعد هذه الحكومة أنّ الشرط بحسب الواقع أعمّ ، ولا يقبل ما فرض فيه الشرط أعمّ ، الخطأ والتخلّف ; لأ نّه لم تلحظ فيه الطريقية .
وبذلك يظهر لك ضعف ما ربّما يقال من أنّ هذا إنّما يصحّ إذا لم ينكشف الخلاف ، والمفروض انكشافه ; وذلك لأنّ الأصل ليس طريقاً إلى الواقع حتّى يوافقه تارة ويخالفه اُخرى ، فلا يتصوّر لانكشاف الخلاف هاهنا معنىً .
وبعبارة أوضح : أ نّه بعد التصرّف في مدلول الشرط في ظرف الشكّ ، بجعله أعمّ من الطهارة الواقعية لا يتصوّر لانكشاف الخلاف معنى معقول ; لأنّه إن كان المراد من انكشافه هو أ نّه بعد حصول العلم بالنجاسة يستكشف أنّ ما حكمناه معتضداً بفهم العرف ; من كون الشرط في الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعية لم يكن صحيحاً ، فهو ساقط جدّاً لا يستأهل للجواب .
وإن كان المراد منه : أنّ أدلّة النجاسة تقتضي نجاسة المحكوم بالطهارة فيما بعد وفيما قبل فهو حقّ ، لكن لا يضرّنا ; إذ قاعدة الطهارة ليست حاكمة على أدلّة النجاسات بضرورة الفقه ، بل على أدلّة الشرائط والأجزاء ، فاغتنم فإنّي به زعيم ، والله به عليم .
وبذلك يظهر الكلام في أصالة الحلّ ; فإنّ قوله ـ عليه السَّلام ـ : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه»(27) حاكم على ما دلّ على عدم جواز الصلاة في محرّم الأكل .
ومعنى الحكومة على أدلّة الشروط هنا هو أنّ العرف بعد ما فهم أنّ المشكوك محكوم بالحلّية تكليفاً ووضعاً ينتقل ـ لا محالة ـ إلى أنّ الوظيفة في هذا الحال إتيان الصلاة بهذه الكيفية ، وأنّ الشرط بعد هذا الحكم أعمّ من الحلّية الواقعية والظاهرية ، فيكون المأتي به كذلك مصداقاً للمأمور به حقيقة بعناية التعبّد ، ومعه لا يعقل بقاء الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة . وحديث كشف الخلاف قد عرفت جوابه .
ثمّ إنّ بعض الأعاظم ـ رحمه الله ـ أورد على الحكومة إشكالات(28) :
منها : أنّ ذلك إنّما يتمّ مادام المكلّف شاكّاً ، وبعد ارتفاع شكّه لا معنى لإجزائه ; لارتفاع ما كان عذراً له .
وفيه : أنّ الحكم بطهارة المحكوم ليس عذرياً حتّى يرتفع بارتفاع عذره ، بل على فرض حكومته لأدلّة الشروط حكم حقيقي صادر لأجل توسيع الأمر على المكلّفين ، وإفهام أنّ المطلوب منها هو الأعمّ لا الطهارة الواقعية فقط .
ومنها : أنّ وجود الحكم الظاهري لابدّ وأن يكون مفروغاً عنه حين الحكم ، بعموم الشرط للواقعي والظاهري ، ومن الواضح أنّ المتكفّل لإثبات الحكم الظاهري ليس إلاّ نفس دليل القاعدة ، فكيف يمكن أن يكون هو المتكفّل لأعمّية الشرط ؟ !
وفيه : أنّ الحكومة لم يرد فيها نصّ حتّى نتحرّى في مغزاها ، بل هي من خصوصيات لسان الدليل يفهمها أهل المحاورة . فلو قال الشارع «المشكوك طاهر» يرى العرف المتوجّه إلى أحكام الشريعة ونسكها وشروطها حكومة هذا الدليل وتقدّمه على أدلّة الشروط ، التي منها قوله مثلا : «صلّ في الطاهر» ، ولا يلزم فيها التصريح بأنّ الشرط أعمّ من الواقعي والظاهري ، كما لا يخفى .
ومنها : أنّ الحكومة وإن كانت مسلّمة إلاّ أ نّها لا تستلزم تعميم الشرط ; لكونها على قسمين :
قسم لا يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً في لسان الحاكم ، كما في قوله : «لاشكّ لكثير الشكّ» بالنسبة إلى أدلّة الشكوك ، ويكون معمّماً ومخصّصاً ، ويسمّى حكومة واقعية .
وقسم يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً فيه ، فلا محالة يكون متأخّراً عنه لأخذ الشكّ في موضوعه ، فيستحيل كونه معمّماً أو مخصّصاً ، بل يكون حكومة ظاهرية يترتّب عليه الأثر ما دام شاكّاً .
وفيه : ـ مضافاً إلى أنّ الحكم يوصف بالظاهري والواقعي لا الحكومة ـ يرد عليه : أنّ ما ذكره على فرض صحّته إنّما يتمّ لو كان حاكماً على أدلّة نجاسـة الأشياء وطهارتها إذا قلنا بقبولها الجعل ، فيكون الشكّ متأخّـراً عـن أدلّتهما ، وليس كذلك ، وإنّما هو حاكم على دليل الشرط ; أعني قوله «صلّ في الطاهر» مثلا ، وهما في رتبة واحدة .
والحاصل : أنّ القائل بالإجزاء لا يدّعي أنّ أصالة الطهارة ـ مثلا ـ حاكمة على أدلّة النجاسات ، وأ نّها في زمان الشكّ طاهرة ، بل يقول : إنّها محفوظة في واقعيتها ، وإنّ ملاقيها نجس ; حتّى في زمان الشكّ ، لكن يدّعي حكومتها على الدليل الذي دلّ على طهارة ثوب المصلّي ، وأنّه لابدّ أن يكون طاهراً .
وخلاصة حكومتها : أنّ ما هو نجس واقعاً يجوز ترتيب آثار الطهارة عليه في ظرف الشكّ ، ومن تلك الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها ، لكن بلسان تحقّق الطهارة ، ولازمه تحقّق مصداق المأمور به لأجل حكومتها على أدلّة الشرائط والموانع ، فراجع وجدانك ترى الحقّ ظاهراً .
ومن ذلك يظهر ضعف ما أفاده في رابع الوجوه : من أنّ الحكومة لو كانت واقعية فلابدّ من ترتيب جميع آثار الواقع لا خصوص الشرطية ، وأن لا يحكم بنجاسة الملاقي لما هو محكوم بالطهارة ظاهراً ; ولو انكشف نجاسته بعد ذلك ، انتهى . أنّ الخلط بين المقامين أوقع المستشكل فيما أوقعه ، وقد عرفت أنّ الحكومـة بين القاعدة ودليل شرطية طهارة لباس المصلّي وبدنه لا بينها وبين أدلّة النجاسات ; إذ الحكومة عليها باطلة بضرورة الفقه ، لا ينبغي للفقيه أن يتفوّه بها أو يحتملها .
ولكن أين هذا من الحكومة على أدلّة الشروط ، وحينئذ يصير نتيجتها توسيع الأمر من الشارع في كيفية أداء العبادة ، ولا يأبى تلك الحكومة شيء ; لا ضرورة الفقه ولا فهم العرف . وأنت إذا كنت ذا تفحّص في الفقه ومآثر الفقهاء تجد أنّ الأكابر من القدماء كلّهم قائلون بالإجزاء في الأحكام الظاهرية ; أمارة كان أو أصلا تعبّدياً .
وأ مّا البراءة الشرعية :
فلمّا كان الظاهر من قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «رفع عن اُمّتي تسعة . . .»(29) إلى آخره هو رفع الحكم في الشبهات الحكمية حقيقة واختصاصه بالعالمين ، ولمّا كان ذلك مستلزماً للتصويب الباطل حمل ـ لا محالة ـ على رفعه ظاهراً بعد ثبوته واقعاً ، ووجه الرفع هو الامتنان للاُمّة وتوسيع الأمر عليهم ، فحينئذ إذا شكّ في جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته ، أو شكّ في كون شيء مانعاً من جهة الشبهة الموضوعية فمقتضى حديث الرفع هو مرفوعية المشكوك ظاهراً ، وجواز ترتيب آثار الرفع عليه كذلك ، ومن الآثار إتيان العبادة على مقتضى الرفع في مقام الفراغ عن عهدتها ، فيكون رخصة في ترك المشكوك ، وإتيانها مع الأجزاء الباقية .
وإن شئت قلت : إنّ الأمر قد تعلّق بعنوان الصلاة الصادق على فاقد الجزء وواجده ، وحديث الرفع ناظر إلى العنوان الذي قيد لبّاً ، ولكن نظره ليس نظر وضع بل نظر رفع ; بمعنى أنّ العنوان الذي تعلّق به الأمر يجوز إتيانها بلا هذا الشرط أو هذا الجزء أو غير ذلك ، ويكون العبد ذا حجّة في امتثاله وتركه .
ولا معنى ـ حينئذ ـ للإعادة والقضاء ; لأنّ عنوان الصلاة منطبق عليه ، وترك القيد نشأ من إذنه وإشارته إلى كيفية امتثال أمرها في ظرف الشكّ .
فإذا ورد قوله سبحانه : {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } [الإسراء: 78] وفرضنا أنّ السنّة دلّت على اعتبار أجزاء وشرائط ، ثمّ حكم الشارع ـ امتناناً ـ برفع ما لا يعلمون من الأجزاء والشرائط يفهم العرف أنّ كيفية إطاعة الأمر في حال الشكّ في وجوب السورة مثلا هو إتيانها بلا سورة ، وفي حال الشكّ في مانعية شيء جواز إتيانها معه . فإذا امتثله كذلك فقد امتثل قوله سبحانه (أَقِمِ الصَّلاةَ) بحكومة أدلّة الرفع على أدلّة الجزء والشرط والمانع .
وأمّا الاستصحاب :
فمفاده متّحد مع ما مرّ من قاعدتي الحلّ والطهارة من حكومته على أدلّة الشرائط والموانع ; قائلا بأنّ الشاكّ بعد اليقين يبني عليه ، فهو متطهّر في هذا الحال ، وليس له أن يرفع اليد عن يقينه أبداً . وبعبارة اُخرى : أنّ الظاهر من دليله هو البناء العملي على بقاء المتيقّن في زمان الشكّ أو البناء العملي على وجوب ترتيب آثاره ; وإن كانت الآثار ثابتة بالأدلّة الاجتهادية .
والاستصحاب محرز موضوعها تعبّداً ; لأنّ استصحاب عدالة زيد لا يثبت عدا بقاء عدالته ، وأمّا جواز الطلاق عنده وإقامة الصلاة خلفه فلا يثبت بدليل الاستصحاب ، بل بالكبريات الكلّية الأوّلية التي هي المجعولات الأوّلية ، فيكون دليله حاكماً على الأدلّة ، فيفيد الإجزاء كما مرّ .
وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ :
فقد أشبعنا فيها الكلام ، وحقّقناها بما لا مزيد عليه في مباحث الوضوء وخاتمـة الاستصحاب ، وأثبتنا أنّ مفاد الأخبار هـو جعل قاعـدة واحـدة ; هي قاعـدة التجاوز لا قاعـدتين ، وأنّ مـا قيل أو يمكن أن يقال فـي إثبات كونهما قاعدتين غير مقبول أصلا(30) .
وأمّا البحث عن إجزائها : فإن ثبت كونه طريقاً عقلائياً إلى وجود الشيء الذي شكّ في إتيانه في محلّه ، أو ثبت كونها أصلا عقلائياً بالبناء على تحقّق الشيء عند مضيّ محلّه فلابدّ من تنزيل أدلّتها على ما هو المرتكز عندهم ; لصلاحيتها للقرينية على المراد من الأخبار .
والذي يسهّل الخطب هو عدم وجود تلك المزعمة عند العقلاء ; لا بنحو الطريقية كما هو واضح ولا بنحو التعبّدية أيضاً ، ويتّضح ذلك : إذا راجعت سيرتهم في مهامّ الاُمور وفي تركيب المعاجن وتأسيس الأبنية ، فلا أقلّ من عدم إحراز بنائهم على عدم الاعتبار .
فإذن لابدّ في فهم المراد من التفحّص في لسان الروايات ، فنقول : ربّما يتوهّم ظهور بعضها في الأمارية ، كما في قوله ـ عليه السَّلام ـ : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(31) ; قائلا بأنّه من باب إقامة العلّة مقام المعلول ، والمراد : أنّ الذاكر بما له جهة الذكر يأتيه في محلّه البتّة .
قلت وفيه ـ مضافاً إلى أنّ مـدّعي الطريقية لابـدّ وأن يدّعي : أنّ الظـنّ النوعي بالإتيان لأجل الغلبة جعل طريقاً إلى الواقع ، والحال أنّ الرواية لا يتعرّض لحاله . وكون الذكر طريقاً لامعنى له ، ومضافاً إلى أ نّه يحتمل أن يكون وارداً لأجـل نكتة التشريع ، كما هو غير بعيد ـ يرد عليه : أ نّه لو سلّمنا أ نّه مـن باب إقامـة العلّة مقام المعلول ، ولكن المعلول كما يحتمل أن يكون ما ذكره من أ نّه أتى بـه في محلّه لأذكـريته ، كـذا يحتمل أن يكون المعلول أ نّه يبنى على وجـوده ، أو «فأمضه»(32) أو «شكّك ليس بشيء»(33) أو غير ذلك ممّا يناسب كونه أصلا محرزاً أو أصلا مطلقاً ; وإن كان كونه أصلا محرزاً حيثياً غير بعيد ; لأنّه مقتضى قوله ـ عليه السَّلام ـ : «بلى قد ركعت»(34) . وغير ذلك من الشواهد التي تؤيّد كونه أصلا محرزاً حيثياً .
فحينئذ إنّ البناء التعبّدي على وجود المشكوك فيه ـ كما يستفاد من صحيحة حمّاد(35) وموثّقة عبد الرحمان(36) أو الأمر بالمضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ ـ كلّ ذلك يساوق معنى جواز إتيان المأمور به بهذه الكيفية أو لزوم إتيانه كذلك ، فيصير المأتي به مصداقاً للمأمور به ، ويصدق عليه عنوان الصلاة ، ولازمه سقوط أمره ، ولا نعني من الإجزاء إلاّ هذا .
فتلخّص : أنّ مقتضى التحقيق عدم الإجزاء في الأمارات ، والإجزاء في الاُصول . وأمّا حال تبديل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله وأعمال مقلّديه فقد أسهبنا فيه الكلام في بحث الاجتهاد والتقليد(37) ، فارتقب حتّى حين .
___________
1 ـ الفصول الغروية : 116 / السطر9 .
2 ـ مطـارح الأنظـار : 18 / السطر23 ، كفايـة الاُصـول : 104 ، نهايـة الأفكـار 1 : 222 ، درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 77 .
3 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 260 و 261 .
4 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 261 .
5 ـ كفاية الاُصول : 105 و 106 .
6 ـ كفاية الاُصول : 105 .
7 ـ تقدّم في الصفحة 208 .
8 ـ كفاية الاُصول : 106 ـ 107 .
9 ـ نفس المصدر : 456 ـ 457 .
10 ـ اُنظر وسائل الشيعة 3 : 381 ، كتاب الطهارة ، أبواب التيمّم ، الباب 21 ، الحديث 1 .
11 ـ يأتي في الصفحة 265 ـ 266 .
12 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني(قدس سره) : 68 ـ 70 .
13 ـ الكافي 3 : 379 / 1 ، وسائل الشيعة 8 : 403 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ، الباب 54 ، الحديث 11 .
14 ـ الصلاة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم(رحمه الله) 7 : 363 .
15 ـ الدروس الشرعية 1 : 223 ، مسالك الأفهام 1 : 311 .
16 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 263 .
17 ـ يأتي في الصفحة 343 .
18 ـ كفاية الاُصول : 108 .
19 ـ تقدّم في الصفحة 255 .
20 ـ كفاية الاُصول : 110 .
21 ـ نهاية الأفكار 1 : 230 .
22 ـ كفاية الاُصول : 111 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 246 ، درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 81 .
23 ـ نهاية الاُصول : 144 ـ 145 .
24 ـ نفس المصدر : 138 ـ 139 .
25 ـ تهذيب الأحكام 1 : 49 / 144 ، وسائل الشيعة 1 : 365 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .
26 ـ تهذيب الأحكام 1 : 284 / 832 ، وسائل الشيعة 3 : 467 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 37 ، الحديث 4 .
27 ـ الفقيه 3 : 216 / 1002 ، وسائل الشيعة 17 : 87 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به، الباب 4 ، الحديث 1 .
28 ـ أجود التقريرات 1 : 198 .
29 ـ التوحيد : 353 / 24 ، الخصال : 417 / 9 ، وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الباب 56 ، الحديث 1 .
30 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني(قدس سره) : 315 .
31 ـ تهذيب الأحكام 1 : 101 / 265 ، وسائل الشيعة 1 : 471 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 42 ، الحديث 7 .
32 ـ تهذيب الأحكام 2 : 344 / 1426 ، وسائل الشيعة 8 : 237 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 3 .
33 ـ تهذيب الأحكام 2 : 352 / 1459 ، وسائل الشيعة 8 : 237 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 1 .
34 ـ تهذيب الأحكام 2 : 151 / 592 ، وسائل الشيعة 6 : 317 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 3 .
35 ـ تهذيب الأحكام 2 : 151 / 594 ، وسائل الشيعة 6 : 317 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 2 .
36 ـ تهذيب الأحكام 2 : 151 / 596 ، وسائل الشيعة 6 : 318 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 6 .
37 ـ الاجتهاد والتقليد ، الإمام الخميني(قدس سره) : 135 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|