المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8120 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05



إجتماع الأمر والنهي  
  
1728   09:55 صباحاً   التاريخ: 25-8-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 1 ص 512.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث العقلية /

وقبل الخوض في أصل المقصود لا بدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في عنوان المسألة وبيان موضع النزاع.

قد وردت تعابير مختلفة في مقام بيان عنوان المسألة ومحلّ النزاع فقال المحقّق الخراساني(رحمه الله): «اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه»، وقال المحقّق النائيني(رحمه الله): «الأولى تبديل العنوان بأن يقال: إذا اجتمع متعلّق الأمر والنهي من حيث الإيجاد والوجود فهل يلتزم من الاجتماع كذلك أن يتعلّق كلّ من الأمر والنهي بعين ما تعلّق به الآخر كما هو مقالة القائل بالامتناع أو لا يلزم ذلك كما هو مقالة القائل بالجواز»(1)؟

ولبعض الأعلام في المحاضرات كلام هو في الحقيقة توضيح لكلام اُستاذه وتعليل لاختياره العنوان المزبور وحاصله: «إنّ عنوان النزاع في هذه المسألة على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم كون النزاع فيها كبرويّاً، أي مردّ النزاع في المسألة إلى دعوى المضادّة بين الأحكام الشرعيّة بعضها مع بعض وعدم المضادّة، مع أنّه لا يعقل أن يكون كبرويّاً، بداهة استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ووجود المضادّة بينهما مطلقاً حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري، وذلك لأنّ اجتماعهما في نفسه محال، لا أنّه من التكليف بالمحال ضرورة استحالة كون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً للمولى معاً على جميع المذاهب والآراء فما ظنّك بغيره، إذن لا نزاع في الكبرى بل النزاع في المسألة إنّما هو في الصغرى، أي في أنّ النهي المتعلّق بطبيعة الغصب مثلا هل يسري منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصّلاة المأمور بها في الخارج أم لا؟ ومن الواضح جدّاً أنّ سراية النهي من متعلّقه إلى متعلّق الأمر ترتكز على نقطة واحدة، وهي اتّحاد المجمع وكونه موجوداً بوجود واحد، كما أنّ عدم السراية ترتكز على تعدّد المجمع وكونه موجوداً بوجودين، فيكون مركز النزاع حينئذ أنّ المجمع لمتعلّقي الأمر والنهي في مورد التصادق والاجتماع هل هو وجود واحد حقيقة وبالذات وأن التركيب بينهما اتّحادي، أو هو متعدّد كذلك وأنّ التركيب بينهما انضمامي فالقائل بالامتناع يقول بالأوّل، والقائل بالجواز يقول بالثاني»(2).

وقال في تهذيب الاُصول: «الأولى أن يقال: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد في الخارج أو لا؟» واستدلّ له بأنّ «ظاهر كلمة الواحد في عنوان المشهور أنّ الهوية الخارجيّة من المتعلّقين يكون محطّ عروض الوجوب والحرمة مع أنّه من البطلان بمكان لأنّ الخارج لا يكون ظرف ثبوت التكاليف، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممّا لا معنى له»(3).

أقول: ما أفاده في المحاضرات في مقام تنقيح محلّ النزاع وتقرير مختار اُستاذه جيّد جدّاً، إلاّ أنّ الأحسن والأولى في مقام بيان عنوان للمسألة هو التعبير الأخير لكن بعد ضمّ كلمة «أحياناً» في ذيله حيث إنّ العنوانين المتعلّقين للأمر والنهي يتصادقان على الواحد في الخارج أحياناً وفي بعض الموارد لا دائماً كما لا يخفى، وحينئذ يكون العنوان المختار في المسألة هكذا: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد أحياناً، أم لا؟

الأمر الثاني: في المراد من كلمة «الواحد» الوارد في عنوان المسألة

فهل المراد منها الواحد الشخصي، أو النوعي، أو الجنسي؟

لا إشكال في أنّ الحقّ ـ كما ذكروا ـ أنّ المراد من الواحد في ما نحن فيه إنّما هو الواحد الشخصي، لا بمعنى ما لا يصدق على كثيرين حتّى يقال: الصّلاة في الدار الغصبي أمر كلّي على كلّ حال، بل بمعنى أنّ الوحدة هنا هي الوحدة الخارجيّة المصداقيّة في مقابل الوحدة المفهوميّة  (كوحدة السجدة لله مع السجدة للصنم فإنّهما متّحدتان في المفهوم فقط كما هو واضح، والوحدة الخارجيّة نظير اتّحاد الصّلاة والغصب في الدار الغصبي حيث إنّهما إنطبقا في الخارج على حركة خاصّة وتصرّف خاصّ في العمل) حيث إنّ اجتماعهما في الواحد النوعي أو الجنسي جائز بلا إشكال بأن يكون نوع من أنواع الجنس مطلوباً ونوع آخر مبغوضاً، وكذا في أصناف نوع واحد.

الأمر الثالث: في بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة «النهي في العبادة»

فقد ذكر كلّ وجهاً لبيان الفرق بينهما، فقال بعض بأنّ الفرق بين المسألتين إنّما هو في الموضوع وهو قول صاحب الفصول(رحمه الله)، فإنّه قال بأنّ الموضوع في ما نحن فيه طبيعتان متغايرتان بحسب الحقيقة والذات وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق كعنوان الحركة وعنوان القرب في الصّلاة والغصب، وفي المسألة الآتية فالموضوع هو طبيعتان متّحدتان بحسب الذات والحقيقة ومختلفتان بحسب الإطلاق والتقييد بأنّ تعلّق الأمر بالمطلق، أي الصّلاة مطلقاً، وتعلّق النهي بالمقيّد، أي الصّلاة في الدار المغصوبة، وقال بعض آخر: أنّ الفرق بينهما إنّما هو في المحمول، فإنّ المحمول في هذه المسألة إنّما هو جواز الاجتماع جوازاً عقليّاً. وفي تلك المسألة هو جواز الاجتماع جوازاً شرعيّاً يستفاد من دليل لفظي.

وذهب ثالث ـ وهو المحقّق الخراساني(رحمه الله) ـ إلى أنّ الفرق بين المسألتين إنّما هو في الجهة، فإنّ الجهة المبحوث عنها في المقام هي رفع غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بتعدّد العنوان وعدمه، وأنّه هل يسري كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقيهما وجوداً، أو لا يسري لتعدّدهما وجهاً؟ وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الآتية، فإنّ البحث فيها في أنّ النهي في العبادة أو المعاملة هل يوجب فسادها بعد الفراغ عن السراية والتوجّه إليها؟

وقال رابع بنفس القول الثالث ولكن ببيان آخر، وهو أنّ الجهة المبحوث عنها في ما نحن فيه جهة اْصوليّة، وهي الجواز وعدم الجواز عقلا، وفي تلك المسألة جهة لفظيّة بمعنى أنّ النهي المتعلّق بعبادة هل يدلّ بظاهره على فسادها، أو لا؟

وذهب في المحاضرات إلى أنّ النزاع هنا صغروي، لأنّه يبحث عن السراية وعدمها، بينما النزاع في تلك المسألة كبروي حيث إنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت تلك الصغرى أي صغرى السراية وتعلّق النهي بالعبادة(4).

ولقائل أن يقول خامساً: إنّ التغاير بين المسألتين إنّما هو في الملاك، فإنّ الملاك في ما نحن فيه هو ملاك باب التزاحم، أي يوجد الملاك لكلّ من المأمور به والمنهي عنه المجتمعين في المجمع، فيبحث في أنّه هل يكون الحكمان من قبيل المتزاحمين حتّى نقول بالامتناع، أو لا يكون حتّى نقول بالجواز؟ بينما الملاك في مسألة النهي في العبادة إنّما هو ملاك باب التعارض، أي أنّ الملاك الموجود في المجمع واحد إمّا المفسدة وإمّا المصلحة، فلسان الأدلّة متعارضة.

أقول: الإنصاف أنّه لا ربط بين المسألتين حتّى يبعث عن وجه التمايز بينهما لأنّهما متغايرتان موضوعاً ومحمولا، ملاكاً وجهة، ولا إشكال في أنّ التمايز بجميع هذه الاُمور ينتج تمايزاً جوهريّاً بين المسألتين، ولذلك لا يهمّنا البحث في كلّ واحد واحد من الوجوه المذكورة ونقدها.

أضف إلى ذلك أنّ البحث في المقام بحث عن حكمين تكليفيين وجواز اجتماعهما أو امتناعه، بينما البحث هناك بحث في الحكم الوضعي وهو الصحّة والفساد.

الأمر الرابع: هل المسألة اُصوليّة أم لا؟

هل المسألة اُصوليّة أو أنّها من المباديء التصديقية للمسائل الاُصوليّة أو أنّها من مبادئها التصوّريّة أو من مبادئها الأحكاميّة أو تكون المسألة فقهيّة أو كلاميّة؟

ربّما يقال: إنّها مسألة اُصوليّة لأنّ نتيجتها إثبات حكم شرعي فرعي وهو جواز الصّلاة وصحّتها في الدار المغصوبة مثلا بناءً على جواز الاجتماع، وبطلانها بناءً على الامتناع.

ولكنّه ظاهر الفساد، لأنّ نتيجة المسألة إنّما هي جواز الاجتماع أو امتناع، ولا إشكال في أنّهما ليسا حكمين فرعيين شرعيين بل إنّهما يقعان في طريق استنباط الحكم الفرعي الشرعي.

ويمكن أن يقال: أنّها مسألة كلاميّة من باب أنّ المسألة عقليّة ويكون البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي وإمكانه عقلا، والبحث عن الاستحالة والإمكان يناسب المباحث الكلاميّة.

وكأنّ القائل بهذا الوجه توهّم أنّ كلّ ما يكون البحث فيه عقليّاً يكون كلامياً مع أنّه كما ترى، لأنّ البحث في علم الكلام يقع عن أحوال المبدأ والمعاد، والمسألة الكلاميّة تترتّب عليها معرفة المبدأ أو المعاد، وأين هذه من مسألة جواز الاجتماع وامتناعه.

إن قلت: يمكن إرجاع هذه المسألة إلى أحوال المبدأ والمعاد بتقريب أنّه في الحقيقة يبحث فيها عن أنّه هل يترتّب على الصّلاة في الدار المغصوبة مثلا ثواب أو لا؟ ولا ريب في أنّ الثواب والعقاب من شؤون البحث عن المعاد.

قلنا: إنّ البحث عن الثواب والعقاب في علم الكلام بحث عن كلّي الثواب والعقاب كالبحث عن وجود الثواب والعقاب في عالم البرزخ وعدمه مثلا لا عن مصاديقهما الجزئيّة وأنّه هل يترتّب على هذا المورد الخاصّ وهذا العمل الخاصّ ثواب أو لا؟

إن قلت: يمكن إرجاع هذه المسألة إلى المسألة الكلاميّة ببيان ثالث وهو أنّ البحث فيها بحث عن قبح صدور الأمر والنهي معاً من الباري تعالى بالنسبة إلى شيء واحد، فيكون بحثاً عن أحوال المبدأ.

قلنا: البحث عن أحوال المبدأ في علم الكلام بحث كبروي حيث يبحث فيه عن جواز صدور أمر قبيح من الله تعالى وعدمه بعد الفراغ عن كونه قبيحاً، بينما البحث هنا صغروي فيبحث في صغرى كون اجتماع الأمر والنهي قبيحاً وعدمه.

وقد يقال: أنّها من المباديء الأحكاميّة حيث إنّ فيها يبحث عن أحوال الحكم وأوصاف الوجوب والحرمة وأنّهما هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟

واُجيب عنه: أيضاً بأنّا «لا نعقل المباديء الأحكاميّة في مقابل المباديء التصوّريّة والتصديقية، بداهة أنّه إن اُريد منها تصوّر نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما فهو من المباديء التصوّريّة، إذ لا يعني من المباديء التصوّريّة إلاّ تصوّر الموضوع والمحمول، وإن اُريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه (ومنه الحكم بسراية النهي إلى متعلّق الأمر في محلّ الكلام) فهي من المباديء التصديقية لعلم الفقه، كما هو الحال في سائر المسائل الاُصوليّة»(5).

أقول: يمكن الجواب عن هذا الوجه ببيان آخر، وهو أنّه كما يبحث في المباديء التصوّريّة عمّا يرجع إلى تصوّر الموضوع والمحمول كذلك يبحث فيها عمّا يرجع إلى تصوّر غاية ذلك العلم، ولا إشكال في أنّ غاية علم الاُصول إنّما هي استنباط الحكم الشرعي، فيكون الحكم مأخوذاً في غايته، فالبحث عن أحوال الحكم وأوصافه (نظير البحث عن أنّ الحرمة والوجوب هل يجتمعان في شيء واحد أو لا) داخل في المباديء التصوّريّة لعلم الاُصول، فيرجع كون البحث في المقام من المباديء الأحكاميّة لعلم الاُصول إلى أنّه من المباديء التصوّريّة لعلم الاُصول.

نعم، إنّ هذا كلّه تامّ لو كان البحث في المقام بحثاً عن كبرى تضادّ الأمر والنهي (أي تضادّ الوجوب والحرمة) فيكون بحثاً عن أوصاف الوجوب والحرمة وأنّهما هل يكونان متضادّين، أو لا؟ مع أنّه ليس كذلك حيث إنّه بحث عن صغرى التضادّ وعن أنّ تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد ذي عنوانين هل يوجب اجتماع المتضادّين بعد الفراغ عن كبرى تضادّ الأحكام الخمسة، أو لا؟

فظهر أنّ البحث في ما نحن فيه ليس من المباديء الأحكاميّة التي ترجع في الواقع إلى المباديء التصوّريّة.

وذهب المحقّق النائيني(رحمه الله) إلى أنّها من المباديء التصديقية لعلم الاُصول وليست من مسائله، وحاصل بيانه أنّ هذه المسألة على كلا القولين فيها لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الشرعي بلا واسطة ضمّ كبرى اُصوليّة، وقد تقدّم أنّ الضابط لكون المسألة اُصوليّة هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة، والمفروض أنّ هذه المسألة ليست، كذلك فإنّ فساد العبادة لا يترتّب عليه القول بالامتناع فحسب بل لا بدّ من ضمّ كبرى اُصوليّة إليه، وهي قواعد مسألة التعارض، فإنّ هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى تلك المسألة وتكون من إحدى صغرياتها، فيترتّب فساد العباد بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في المسألة لا مطلقاً، وهذا شأن كون المسألة من المباديء التصديقية لمسائل علم الاُصول دون المسائل الاُصوليّة نفسها، كما أنّها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم فتدخل في مباديء بحث التزاحم(6).

ويرد عليه: أنّ الميزان في المسألة الاُصوليّة وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي سواءً كان بضمّ ضميمة أم لا؟ وإلاّ يلزم خروج عدّة من المسائل الهامّة لعلم الاُصول عن كونها اُصوليّة كمسألة حجّية خبر الواحد التي يستنتج منها الحكم الشرعي بعد ضمّ مسألة حجّية الظواهر إليها، وكذلك قواعد جهة الصدور.

فالحقّ أنّ المسألة اُصوليّة لوجود ضابطها فيها حتّى لو سلّمنا وجود سائر الجهات فيها أيضاً.

بقي هنا شيء:

وهو أنّه قد ظهر من تضاعيف المقدّمات المذكورة أنّ المسألة عقليّة حيث إنّه من الواضح أنّ قضيّة جواز اجتماع الأمر والنهي المتعلّقين على عنوانين متصادقين على عمل واحد وعدمه لا يدور مدار الألفاظ قطعاً، كما لا دلالة لذكرها ضمن مباحث الألفاظ على أنّها لفظيّة، وكم لها من نظير كمسألة مقدّمة الواجب ومسألة دلالة النهي على الفساد ومسألة الإجزاء ومسألة الضدّ والترتّب ونظير البحث عن حقيقة الواجب الكفائي والواجب التخييري، فإنّ جميع هذه المسائل عقليّة، أو أن لأكثر المباحث فيها جهة عقليّة ومع ذلك ذكرت في مباحث الألفاظ، ولا إشكال في أنّ هذا بنفسه من مشكلات علم الاُصول في يومنا هذا، ولا بدّ من ملاحظة طريق حلّ لها في المستقبل إن شاء الله.

الأمر الخامس: هل النزاع في ما نحن فيه مختصّ مرتبط بقسم خاصّ من الأمر والنهي، أو أنّه يعمّ جميع أقسامهما سواء كان الأمر أو النهي نفسيّاً أو غيريّاً، وسواء كان تعيينياً أو تخييريّاً، وعينياً أو كفائيّاً؟ ذهب المحقق الخراساني(رحمه الله) إلى أنّ النزاع عامّ يشمل جميع الأقسام، وتبعه كثير من الأعلام، لكن قد ورد في بعض الكلمات إستثناء مورد واحد، وهو ما إذا كان الواجب والحرام كلاهما تخييريين.

والقائلون بعموم النزاع استدلّوا لذلك بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: إطلاق عنوان البحث فإنّه شامل بإطلاقه لجميع الأقسام.

الوجه الثاني: إطلاق الأدلّة التي يستدلّ بها على الجواز أو الامتناع كالاستدلال بتضادّ الأحكام الخمسة لسراية أحد الحكمين بمتعلّق الآخر، فإنّه مطلق يعمّ جميع الأفراد.

الوجه الثالث: عموم الملاك في البحث، وهو تعدّد العنوان من جانب ووحدة المعنون والمصداق من جانب آخر.

وأمّا الإستثناء المذكور، أي صورة ما إذا كان الحكمان تخييريين فقبل توضيحه وبيان مثال له وذكر أحكامه ينبغي تقديم مقدّمة، وهي البحث في أنّه هل يتصوّر الحرام التخييري والحرام الكفائي في الفقه كالواجب التخييري والواجب الكفائي أم لا؟

فنقول: أمّا الحرام التخييري فيمكن تصويره في حرمة نكاح الاُختين حيث إنّ الحرام التخييري يرجع حقيقة إلى حرمة الجمع بين شيئين كما أفاده المحقّق الإصفهاني(رحمه الله) في حاشيته على الكفاية، وهذا صادق في هذا المثال، وأمّا الحرام الكفائي فيمكن تصويره أيضاً في حرمة بيع السلاح للأعداء فيما إذا فرضنا تركيب السلاح من موادّ مختلفة منتشرة عند المكلّفين، فكلّ مادّة من تلك المواد وكلّ جزء من السلاح يوجد عند مكلّف خاصّ ويكفي في عدم تأثير السلاح بنفع الأعداء عدم بيع بعض المكلّفين المادّة الموجودة عنده، وحينئذ يحرم كفائيّاً بيع تلك الأجزاء للسلاح.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ القائل بعدم جريان النزاع في التخييريين بأنّه لا تضادّ بين النهي التخييري والأمر التخييري، لأنّ متعلّق الأمر فيه عنوان أحد الشيئين، ومتعلّق النهي هو الجمع بينهما لا عنوان أحدهما كما إذا نذر أن يأتي بالصّلاة أو الصّيام، ونذر ثانياً أن لا يصلّي إمّا في الحمام أو في البادية لكراهة الصّلاة فيهما فهاهنا، تعلّق النذر الأوّل (وهو النذر الفعلي) بعنوان أحدهما، بينما النذر الثاني (أي النذر التركي) تعلّق بالجمع بين الصّلاة في الحمام والصّلاة في البادية، ولا إشكال في أنّه لا تضادّ بين المتعلّقين حتّى إذا قلنا بإمتناع الاجتماع في سائر الموارد.

الأمر السادس: في اعتبار قيد المندوحة ولزوم أخذه في محلّ النزاع:

والمراد من المندوحة كون المكلّف في فسحة من إتيان المأمور به في غير مورد الاجتماع كأن وجد أرضاً مباحة لإتيان الصّلاة فيها في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة في مقابل من لا يتمكّن من الإتيان بها إلاّ في الدار المغصوبة كالمحبوس فيها، وهذه الكلمة من «ندح» بمعنى الوسعة كما ورد في الحديث: «أنّ في المعاريض مندوحة من الكذب» (والمراد من المعاريض التورية) فوقع النزاع في أنّه هل يجري النزاع في خصوص موارد وجود المندوحة أو يجري في موارد عدم وجودها أيضاً؟

والأقوال في اعتبارها وعدمه ثلاثة:

القول الأوّل: القول بعدم الاعتبار وعليه أكثر الأعلام منهم المحقّق الخراساني(رحمه الله).

القول الثاني: القول باعتبارها وعليه المحقّق الحائري(رحمه الله) في درره وصاحب الفصول.

القول الثالث: القول بالتفصيل بين ما إذا حصل الاجتماع بسوء الاختيار كمن أوقع نفسه عملا في الأرض المغصوبة في ضيق الوقت فلا يكون معتبراً، بل يجري النزاع مع عدم وجودها أيضاً، وما إذا لم يكن بسوء الاختيار فيكون معتبراً، أي يجري النزاع حينئذ في خصوص ما إذا كانت المندوحة موجودة، وقد ذهب إليه الميرزا القمّي (رحمه الله).

والقائلون بعدم اعتبارها مطلقاً لهم بيانات مختلفة:

منها: ما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله)، وهو أنّ المهمّ المبحوث عنه في المقام هو استحالة اجتماع الأمر والنهي من ناحية وحدة المتعلّق وتعدّده وأنّه هل يستلزم الاجتماع، التكليف المحال أو لا؟ (والمراد من «التكليف المحال» هو عدم تمشّي الإرادة للمولى بالإضافة إلى مورد الاجتماع) وهو غير «التكليف بالمحال» الذي معناه التكليف بما لا يطاق، واعتبار وجود المندوحة وعدمه مرتبط به (أي بالتكليف بالمحال) حيث إنّه إذا لم توجد المندوحة يلزم التكليف بما لا يطاق وإذا وجدت المندوحة فلا يلزم ذلك، فاعتبار هذا القيد غير لازم.

ولكن يرد عليه: أنّه لا دليل على اختصاص محلّ النزاع بلزوم التكليف المحال وعدمه ودورانه مداره، فإنّ عنوان البحث عامّ والتعبير بـ «هل يجوز اجتماع ...» أي التعبير بالإمكان وعدم الإمكان يعمّ الإمكان من ناحية التكليف المحال، والإمكان من ناحية التكليف بالمحال.

ومنها: ما ذهب إليه في تهذيب الاُصول من عدم اعتبار قيد المندوحة سواءً كان النزاع صغرويّاً، أي كان البحث في أنّ تعدّد العنوان هل يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو لا؟ أو كان النزاع كبرويّاً وكان محطّ البحث جواز اجتماع الأمر والنهى على عنوانين متصادقين على واحد، وحيث إنّ مختاره في المقام هو كبرويّة النزاع، فإليك نصّ كلامه بناءً على هذا الفرض:

«أنّه إن اُريد بقيد المندوحة حصول المندوحة لكلّ واحد من المكلّفين فهو غير لازم لأنّ البحث في جواز تعلّق الحكمين الفعليين على عنوانين ولا يتوقّف ذلك على المندوحة لكلّ واحد منهم لأنّ الأحكام المتعلّقة على العناوين لا تنحلّ إلى إنشاءات كثيرة حتّى يكون الشرط تمكّن كلّ فرد بالخصوص. وإن اُريد بقيد المندوحة كون العنوانين ممّا ينفكّان بحسب المصداق في كثير من الأوقات وإن لم يكن كذلك بحسب حال بعض المكلّفين فاعتبار المندوحة وإن كان لازماً في هذه المسألة لكن لا يحتاج إلى تقييد البحث به فإنّ تعلّق الحكم الفعلي بعنوان ملازم لمنهي عنه فعلا ممّا لا يمكن، للغويّة الجعل على العنوانين بل لا بدّ للجاعل من ترجيح أحد الحكمين على الآخر أو الحكم بالتخيير مع عدم الرجحان فتقييد العنوان بالمندوحة غير لازم على جميع التقادير»(7).

أقول: قد مرّ في الأبحاث السابقة الإشكال في ما اختاره من المبنى الذي بنى عليه كثيراً من المباحث، وهو أنّ المخاطب في الخطابات القانونيّة إنّما هو الأفراد الموجودة في الخارج لا العنوان، حيث إنّ العناوين إشارات إلى الخارج، والواضع وضعها والمقنّن المشرّع يستخدمها للإشارة إلى الخارج والعبور إليه، وعليه فلا إشكال في اعتبار قيد المندوحة كما يستفاد من مطاوي كلماته، نعم لو قبلنا مبناه المعروف في الخطابات القانونيّة فلا إشكال في ما تبنّاه عليه، وهو عدم اعتبار قيد المندوحة، ولكنّه مبنى غير صحيح.

ومنها: ما أفاده في المحاضرات من أنّ توهّم اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع خاطىء جدّاً وغير مطابق للواقع قطعاً، والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر وبالعكس وعدم سرايته، وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين:

الأمر الأوّل: كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً (أي يكون التركيب بين العنوانين اتّحاديّاً).

الأمر الثاني: الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر (وإن كان التركيب بين العنوانين انضماميّاً) ومن الواضح جدّاً أنّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً  (لأنّ اعتبار قيد المندوحة وعدمه أمر مربوط بمقام الامتثال والإثبات، وهذان الأمران.

وبتعبير آخر: وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع وعدمه أمر مربوط بمقام الجعل والثبوت)، ثمّ قال في ذيل كلامه: نعم ـ بناءً على الجواز وعدم السراية ـ إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما لعدم تمكّن المكلّف وقتئذ من امتثال كليهما معاً فيكون تكليف المكلّف بامتثال كلا التكليفين معاً من التكليف بالمحال،

فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة، فيقدّم أحدهما على الآخر لمرجّح أن كان، وإلاّ فهو مخيّر بين أن يصرف قدرته في امتثال هذا وإن يصرف قدرته في امتثال ذاك، فعدم المندوحة في البين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين على القول بالجواز في المسألة لا أنّه يوجب عدم صحّة النزاع فيها كما هو ظاهر»(8).

أقول: إنّ روح كلامه يرجع إلى مقالة المحقّق الخراساني(رحمه الله) في المقام من أنّ محلّ البحث هو التكليف المحال لا التكليف بالمحال، والنكتة المضافة في كلامه إنّما هو ما ذكره في الذيل من «أنّ عدم المندوحة يوجب دخول المسألة في باب التزاحم بناءً على الجواز لا أنّه يوجب عدم صحّة النزاع فيها» ولكن الإنصاف أنّ هذا بنفسه اعتراف من جانبه باعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع لأنّه إذا لم تكن في البين مندوحة لا يمكن القول بجواز الاجتماع لأنّ من الواضحات وقوع التزاحم بين الحكمين ولزوم تقديم أحدهما على الآخر في فرض وجود مرجّح، والتخيير بينهما في فرض عدم وجود المرجّح، وهذا ما اعترف به المحقّق الخراساني(رحمه الله) أيضاً في ذيل كلامه بقوله: «نعم لا بدّ من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا لمن يرى التكليف بالمحال محذوراً» حيث إنّ المعنون في عنوان المسألة إنّما هو جواز اجتماع الأمر والنهي الفعليين، ولا إشكال في عدم كون أحد الحكمين فعليّاً في صورة فقدان المندوحة ووقوع التزاحم، لأنّه تكليف بالمحال، فالحقّ اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع.

وأمّا القول بالتفصيل بين ما إذا كان الاجتماع بسوء الاختيار وما إذا لم يكن بسوء الاختيار فسيأتي أنّه أيضاً خاطئ، لأنّ المولى لا يكلّف بما لا يطاق سواء كان عدم الطاقة والقدرة بسوء اختيار المكلّف أو لم يكن.

الأمر السابع : في ابتناء النزاع في هذه المسألة على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد وعدمه.

وفيه ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه ‌الله من أنّه لا ربط بين المسألتين.

القول الثاني : القول بوجود الربط بينهما ببيانين :

أحدهما : أنّ النزاع في الجواز والامتناع مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، وأمّا على القول بتعلّقها بالأفراد فلا محيص عن الامتناع ، ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي حينئذٍ.

ثانيهما : أنّ الجواز مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع لتعدّد متعلّق الأمر والنهي ذاتاً حينئذٍ وإن اتحد وجوداً ، والقول بالامتناع على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد لاتّحاد متعلّق الحكمين حينئذٍ شخصاً وخارجاً.

القول الثالث : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌ الله وفي تهذيب الاصول من التفصيل بين التفاسير المتصوّرة في تلك المسألة وإنّ الابتناء موجود بناءً على بعض التفاسير وغير موجودة على بعضها الآخر وسيوافيك بيانه إن شاء الله تعالى.

أمّا القول الأوّل : فبيانه واضح ، لأنّ القائل به يدّعي أنّ النزاع في المقام يرتكز على أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟ من دون فرق بين أن يتعلّق الأحكام بالطبائع أو بالأفراد، لأنّه إذا تعلّق الحكم بالفرد فالبرغم من كونه واحداً في بدو النظر ولكنّه إذا كان له عنوانان وقلنا بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون يصير المتعلّق متعدّداً فيقع النزاع في جواز الاجتماع وامتناعه.

وأمّا القول بالتفصيل فقال المحقّق النائيني رحمه ‌الله ما حاصله : أنّ النزاع في تلك المسألة إن كان مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه فلا تبتني على ذلك مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي بل إنّ للبحث عن المسألة مجالاً سواء قلنا بوجود الكلّي الطبيعي أو لم نقل ، غايته أنّه بناءً على عدم وجود الطبيعي يكون المتعلّق للأحكام هو منشأ الانتزاع ، ويجري فيه ما يجري على القول بوجود الطبيعي من كون الجهة تقييديّة أو تعليلية وأنّ التركيب اتّحادي أو انضمامي ، لوضوح أنّ انتزاع الصّلاة لا بدّ أن يكون لجهة غير جهة انتزاع الغصب ، ولكن يبعد أن يكون النزاع هناك مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه ، إذ الظاهر أنّ من يقول بتعلّق الأحكام بالأفراد لا ينكر وجود الطبيعي ، بل الذي يمكن أن يكون محلّ النزاع على وجه يرجع إلى أمر معقول هو أن يكون النزاع في سراية الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيّات ولو على النحو الكلّي ، أي خصوصيّة ما بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطلب تبعاً ، فالقائل بتعلّق الأحكام بالأفراد يدّعي السراية والتبعيّة والقائل بتعلّق الأحكام بالطبائع يدّعي عدم السراية ، فلو كان النزاع هناك على هذا الوجه فألحق أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي تبتني على ذلك » (9).

هذا هو إجمال ما أفاده المحقّق النائيني رحمه ‌الله ، وأمّا في تهذيب الاصول فقد ذكر لمسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد تفاسير ستّة ، وقال بعدم وجود الربط بين المسألتين بناءً على اثنين منها ، ووجود الربط بينهما بناءً على الأربعة الاخرى (10). وتشابه مقالته مقالة المحقّق النائيني رحمه ‌الله من بعض الجهات فلا بأس بتركها.

أقول : الصحيح هو التفصيل المزبور ، لأنّه بناءً على التفسير الأوّل ( وهو كون النزاع في تلك المسألة مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه ) وإن كانت الأحكام تتعلّق بالأفراد ( التي هي منشأ لانتزاع الكلّي الطبيعي ) ولكنّها تتعلّق بها مجرّدة عن الخصوصيّات الفرديّة في الخارج ، فيمكن حينئذٍ أن يكون الفرد معنوناً بعنوانين ويصحّ النزاع في جواز الاجتماع وعدمه ، فلا تبتني مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي على مسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد ، لأنّه حتّى بناءً على تعلّقها بالأفراد أيضاً يتصوّر جواز الاجتماع كما يتصوّر امتناعه ، فيتصوّر جريان النزاع في الجواز وعدمه على كلا القولين.

وأمّا بناءً على التفسير الثاني ( وهو كون النزاع في تلك المسألة في سراية الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيّات بحيث تكون الخصوصيّة أيضاً داخلة تحت الطلب ) فالربط بين المسألتين واضح، فيصحّ النزاع بناءً على تعلّقها بالطبائع ولا إشكال فيه ، ولا يصحّ بناءً على تعلّقها بالأفراد بل من الواضح حينئذٍ القول بالامتناع لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ الأحكام تعلّقت بالخصوصّيات والتشخّصات الفرديّة أيضاً ، وهي لا يمكن أن تصير مجمعاً لعنوانين.

إن قلت : بناءً على القول بتعلّق الأوامر بالأفراد ولحاظ الخصوصيّات الفرديّة إنّما تلاحظ الخصوصيّات التكوينيّة الخارجيّة فحسب نظير خصوصيّة الكمّ والكيف والزمان والمكان لا الخصوصيّات الاعتباريّة التشريعيّة نظير خصوصيّة الإباحة والغصب ، وحينئذٍ يمكن الجمع بين الأمر بالصّلاة في الدار المغصوبة والنهي عن الغصب لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ خصوصيّة الغصب ليست داخلة تحت الطلب.

قلنا : المهمّ في المقام أنّ الحركة الخارجيّة المقيّدة بهذا المكان وذاك الزمان ( وهو أمر تكويني ) صارت مطلوبة ومحبوبة بتعلّق الأمر الصلاتي بها ، فكيف تصير نفس تلك الحركة مبغوضة بتعلّق النهي بها؟ وبعبارة اخرى : حركة خاصّة واحدة تكوينيّة صارت متعلّقة حينئذٍ للأمر والنهي معاً ، وهو المراد من المستحيل في المقام.

إن قلت : لا إشكال في أنّ الخصوصيّات الفرديّة في جانب الأمر بناءً على تعلّق الأوامر بالأفراد تكون مطلوبة على نحو التخيير ، ولازمه أن تصير خصوصيّة الغصب المنهي عنها تعييناً مطلوبة للمولى في مورد اجتماع العنوانين تخييراً ، ولا منافاة بين الأمر التخييري والنهي التعييني.

قلنا : قد مرّ أنّه لا فرق في امتناع الاجتماع بين أن يكون الأمر والنهي كلاهما تعيينيين أو تخييريين أو كان أحدهما تعيينياً والآخر تخييريّاً ، أي أنّ الامتناع يتصوّر في التخييريين فضلاً عن ما إذا كان أحدهما تعيينياً والآخر تخييريّاً.

إن قلت : بناءً على تعلّق الأمر بالأفراد تكون الخصوصيّات أيضاً مطلوبة ولكن تبعاً لا استقلالاً، لأنّ الأمر بالطبيعة ـ كما صرّح به المحقّق النائيني رحمه ‌الله ـ يسري إلى الخصوصيّات ولو على النحو الكلّي أي خصوصيّة ما ، بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطلب تبعاً.

وبعبارة اخرى : إنّه يسري إلى الخصوصيّات من باب أنّ وجود المأمور به في الخارج لا يكون منفكّاً عنها ، وهذا بخلاف النهي فإنّه يتعلّق بخصوصيّة الغصب أصالةً واستقلالاً ، ولا منافاة بين الأمر التبعي والنهي الأصلي الاستقلالي.

قلنا : إنّ الأمر والنهي لا يجتمعان في خصوصيّة واحدة سواء كانا أصليين أو تبعيين أو مختلفين ، لأنّه على أيّ حال تصير الخصوصيّة مطلوبة للمولى فعلاً ، والمطلوبيّة الفعليّة لا تجتمع مع المبغوضيّة الفعليّة من أيّ منشأ نشأت المطلوبيّة.

ولكن والإنصاف أنّه مع ذلك كلّه يمكن أن يقال أنّه لا ربط بين المسألتين مطلقاً ، لأنّه بناءً على تعلّق الأوامر بالأفراد وتعلّقها بالخصوصّيات الفرديّة كخصوصيّة الغصب يمكن للقائل بجواز الاجتماع أن يدّعي أنّ الحركة الخاصّة في الدار المغصوبة معنونة بعنوانين ، وتعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، وحينئذ يمكن جواز الاجتماع كما يمكن امتناعه ، فيصحّ النزاع في الجواز والامتناع.

وإن شئت قلت : الموجود في الخارج هو الحركة الخاصّة الواقعة في دار الغير ، وأمّا المبغوضيّة أو عدمها فهي من باب الأحكام ، وكذلك عنوان الغصب فإنّه أمر انتزاعي ذهني أو اعتباري ، ومن الواضح أنّ الحركة الخاصّة تكون محلّ الانطباق لعنوان الغصب والصّلاة ، فتدبّر.

الأمر الثامن : في اعتبار وجود الملاكين في المجمع:

يعتبر في باب الاجتماع أن يكون كلّ واحد من الأمر والنهي واجداً للملاك والمناط ، فلو كان كلّ من المناطين موجوداً في المجمع فهو من باب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وحينئذٍ يكون المجمع محكوماً بكلا الحكمين بناءً على مبنى الجواز ، ويدخل في باب التزاحم بناءً على الامتناع ، وأمّا إذا كان أحد المناطين فقط موجوداً فيه دون الآخر ، أو لم يوجد شيء من المناطين فهو محكوم بحكم آخر ولا يكون من باب الاجتماع.

والمراد من وجود الملاكين كما سيأتي أعمّ من وجود المصلحة أو كونه جامعاً لجميع شرائط الفعليّة مع قطع النظر عن المزاحمة.

هذا بحسب مقام الثبوت ، وأمّا مقام الإثبات : فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌ الله فيه أنّه تارةً : يحرز أنّ المناط من قبيل الثاني ، بمعنى أنّ أحد المناطين بلا تعيين موجود فيه دون الآخر ، وفي هذه الصورة الدليلان الدالاّن على الحكمين متعارضان بالنسبة إلى المجمع على كلّ من الجواز والامتناع ، ولا بدّ من علاج المعارضة حينئذٍ بينهما بالترجيح أو التخيير ، واخرى : يحرز أنّ المناط من قبيل الأوّل ، بمعنى أنّ كلاً من المناطين موجود في المجمع ، وفي هذه الصورة يكون الدليلان متزاحمين بالنسبة إلى المجمع ، فربّما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلاً لكونه أقوى مناطاً ، ولكن التزاحم إنّما هو على الامتناع وإلاّ فعلى الجواز لا تعارض ولا تزاحم أصلاً ، لعدم التنافي بينهما باعتقاد المجوّز ، فيعتبر في دخول المجمع في باب الاجتماع عنده وجود الملاكين فيه.

ولكن قد أنكر عليه جماعة من أعاظم المتأخّرين فلم يعتبروا هذا الشرط ونحن ننقل هنا بعض كلماتهم في المقام :

قال في المحاضرات ما حاصله : إنّ النزاع في مسألتنا هذه لا يرتكز على وجهة نظر مذهب الاماميّة القائلين بتبعيّة الأحكام للملاكات الواقعيّة والجهات النفس الأمريّة ، بل يعمّ وجهة نظر جميع المذاهب حتّى مذهب الأشعري المنكر للتبعيّة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى أنّ النزاع في المسألة في سراية النهي من متعلّقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته ، والقول بالسراية يبتني على أحد الأمرين : الأوّل أن يكون المجمع واحداً وجوداً وماهيّة ، الثاني أن لا يختلف اللازم عن الملزوم في الحكم ، بمعنى أنّ الحكم الثابت له لا يسري إلى لازمه ، وبانتفاء أحدهما ينتفي هذا القول ، ولا إشكال أنّ هذه المسألة أجنبية عن مسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد (11).

وقال في تهذيب الاصول بما يكون في الواقع كتكملة لبيان المحاضرات حيث قال : « التحقيق عدم ابتناء النزاع في المقام على إحراز المناط في متعلّقي الإيجاب والتحريم ، أمّا على القول بأنّ النزاع صغروي والبحث راجع إلى أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا فواضح ، لأنّ اشتمالهما على المناط وعدمه لا دخل له في أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا ، وأمّا على ما حرّرناه من أنّ النزاع كبروي وأنّ البحث في أنّ الأمر والنهي هل يجوز اجتماعهما في عنوانين متصادقين على واحد أو لا ، فالأمر أوضح لأنّ إحراز المناط ليس دخيلاً في الإمكان وعدمه بل لا بدّ من أخذ القيود التي لها دخل تامّ في إثبات الإمكان والامتناع» (12).

أقول : الحقّ هو اعتبار ما اعتبره المحقّق الخراساني رحمه ‌الله من وجود الملاكين في المجمع، حيث إنّ مراده من وجود الملاك إنّما هو كون كلّ واحد من الدليلين تامّ الاقتضاء بالنسبة إلى المجمع ، أي لم يكن لفعليته في المجمع أي نقصان ، وبعبارة اخرى : يكون كلّ واحد من الحكمين ـ مع قطع النظر عن اجتماعهما فعلاً ـ واجداً لجميع شرائط الفعليّة ، ولا إشكال في أنّ النزاع في باب الاجتماع إنّما هو في جواز اجتماع الحكمين الفعليين لا غير.

إن قلت : من شرائط الفعليّة إباحة مكان المصلّي مثلاً في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة ، ومع وجود هذا الشرط لا معنى للاجتماع.

قلنا : المقصود من شرائط الفعليّة إنّما هي ما يكون شرطاً مع قطع النظر عن هذه المسألة ولا دليل على اشتراط إباحة مكان المصلّي كذلك ( أي مع قطع النظر عن مسألة اجتماع الأمر والنهي ) من آية أو رواية أو إجماع يكون حجّة.

الأمر التاسع : في بيان ما يحرز به المناطان في المجمع:

لا إشكال في أنّه بحث صغروي بالنسبة إلى سابقه ، فنقول : يمكن إحراز الملاك وكشف المناط من طرق ثلاثة :

الطريق الأول : الإجماع كما إذا قام الإجماع على عدم إستثناء مورد من موارد الغصب وأنّه حرام حتّى بالنسبة إلى مكان المصلّي ، كما أنّه كذلك ، حيث إنّه لا دليل لفظيّاً على اعتبار إباحة مكان المصلّي بل الإجماع قام على عدم الإستثناء في حرمة الغصب ، وهذا لا ينافي ما مرّ في الأمر السابق من عدم وجود دليل على اشتراط إباحة مكان المصلّي من آية أو رواية أو إجماع ، فإنّ الكلام هنا في عموم دليل الغصب لا في اشتراط الصّلاة بعدمه.

الطريق الثاني : إطلاق الدليلين ، وفيه تفصيل من المحقّق الخراساني رحمه ‌الله وحاصله : أنّ الإطلاقين إن كانا لبيان الحكم الاقتضائي فهما محرزان للملاكين في المجمع ، وإن كانا بصدد بيان الحكمين الفعليين فإن قلنا بجواز الاجتماع فهما أيضاً محرزان لهما لعدم التنافي بينهما ، وإن قلنا بالامتناع فالإطلاقان متنافيان ، أي متعارضان فيسقط كلاهما عن الفعليّة ، فلا يثبت بهما المناطان جميعاً حيث إنّ عدم الفعليّة كما يحتمل أن يكون لوجود المانع مع وجود المقتضي يحتمل أيضاً أن يكون لعدم المقتضي فلا يحرز حينئذٍ المناط ، لكنّه رجع عنه أخيراً بقوله « إلاّ أنّ قضيّة التوفيق بينهما هو حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي » فجعل عدم تلائمهما في مقام الفعليّة قرينة على أنّ كليهما في مقام بيان الحكم الاقتضائي فيثبت بهما المناطان في هذه الصورة أيضاً.

أقول : إنّ مقصوده من اقتضائيّة الحكم ما مرّ في الأمر السابق من حال الحكم مع قطع النظر عن حال الاجتماع في المجمع ، أي يكشف الحكم عن المناط والملاك إذا جمع فيه جميع شرائط الفعليّة وكان اقتضائه تامّاً مع قطع النظر عن حال الاجتماع ، وإلاّ لو كان ناظراً إلى حال الاجتماع أيضاً لزم التفصيل بين القول بالامتناع والقول بالجواز واختصاص كشف المناطين بمبنى القائلين بالجواز فقط كما لا يخفى.

وبهذا يردّ ما أورد عليه المحقّق النائيني رحمه ‌الله ( وتبعه في المحاضرات ) « بأنّ الحكم قبل وجود موضوعه خارجاً يكون إنشائيّاً ثابتاً لموضوعه المقدّر وجوده وبعد وجود موضوعه خارجاً يستحيل أن لا يكون فعلياً فكون الحكم في محلّ الاجتماع فعليّاً مرّة واقتضائيّاً مرّة اخرى غير معقول » (13).

فإنّ مقصود المحقّق الخراساني رحمه ‌الله من الاقتضاء ليس هو مرحلة الإنشاء من الحكم بل المراد كما مرّ كون كلّ واحد من الحكمين واجداً لجميع شرائط الفعليّة مع قطع النظر عن حال الاجتماع في المجمع وعدم كون أحدهما كذباً فاقداً للملاك.

وإن شئت قلت : إنّ مقصوده من كون الإطلاق في مقام بيان الحكم الاقتضائي كونه في مقام بيان حكم الطبيعة بما هي هي مع قطع النظر من طروّ الطوارىء من المزاحمات وغيرها ، كما أنّ مقصوده من كونه في مقام بيان الحكم الفعلي كونه بصدد بيان حكم الطبيعة مع طروّ الطواريء.

الطريق الثالث : الاصول العمليّة فيما إذا لم يكن إطلاق للدليلين حيث إنّ الأصل الجاري حينئذٍ إنّما هو البراءة عن اشتراط إباحة المكان في الصّلاة ولازمه عدم نقصان للدليل بالنسبة إلى المجمع من ناحية جامعيته للشرائط.

إن قلت : أكثر ما يثبت بأصالة البراءة هو كون المكلّف معذوراً ولا يكشف به الملاك والمصلحة.

قلنا : ليس المراد من المناط الذي اشترط وجوده في المجمع خصوص المصلحة بل هو أعمّ منها ومن كون كلّ واحد من الأمر والنهي جامعاً لشرائط التنجيز وتامّ الاقتضاء ، وهذا يحصل بعد جريان البراءة ، مضافاً إلى أنّ المصلحة أيضاً موجودة هنا بناءً على بعض المباني وهو مبنى القائلين بالمصلحة السلوكيّة أي وجود المصلحة في سلوك المكلّف على وفق أصالة البراءة.

الأمر العاشر : في ثمرة بحث الاجتماع:

وقد ذكر لها المحقّق الخراساني رحمه‌ الله في الكفاية خمسة صور :

الصورة الاولى : ما إذا قلنا بالجواز ، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ الإتيان بالمجمع يوجب سقوط الأمر وحصول الامتثال سواء كان العمل تعبّديّاً أو توصّلياً وسواء كان الفاعل عالماً أو جاهلاً ، نعم إتيان العالم عصيان للنهي.

الصورة الثانيّة : ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب الأمر ، فلا إشكال أيضاً في وقوع الامتثال بالنسبة إلى الأمر والعصيان بالنسبة إلى النهي.

الصورة الثالثة : ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الواجب توصّلياً فيكون العمل حينئذٍ صحيحاً مع حصول العصيان كغسل ثوبه بالماء الغصبي للصّلاة.

الصورة الرابعة : ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الواجب تعبّديّاً مع كون الفاعل جاهلاً معذوراً كالجاهل في الموضوعات مطلقاً لعدم وجود الفحص فيها وكالجاهل القاصر في الحكم ، ففي هذه الصورة يقع العمل أيضاً صحيحاً لأنّه لا فعليّة للنهي بالنسبة إلى الجاهل المعذور.

إن قلت : لا فعلية للأمر أيضاً بالنسبة إلى الجاهل لأنّ المفروض هو الامتناع وترجيح جانب النهي.

قلنا : المفروض أيضاً وجود الملاك لكلّ من الأمر والنهي ، ولا إشكال في أنّ قصد الملاك كقصد الأمر كافٍ في صحّة العمل ، كما أنّه يكفي قصد الأمر المتعلّق بطبيعة المأمور به الموجودة ضمن سائر الأفراد غير المجمع.

الصورة الخامسة : ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الفعل تعبّديّاً والفاعل مقصّراً ، ففي هذه الصورة يقع العمل باطلاً لأنّه مع تقصيره لا يحصل التقرّب بالعمل ، ومعه لا يكاد يحصل به الغرض المطلوب من العبادة. ( انتهى ).

أقول : يمكن أن يقال بفساد العمل في الصورة الاولى أيضاً لأنّه وإن كان العنوان متعدّداً ، وبتعدّده تعدّد المعنون على مبنى الجواز ولكن لا حسن للعمل العبادي فعلاً ولا فاعلاً إذا انطبق عليه عنوان محرّم ، ومعه لا يحصل التقرّب ولا يسقط الأمر.

أمّا عدم حسنه الفعلي فلأنّ المفروض أنّ العنوانين ـ وهما عنوان الصّلاة وعنوان الغصب ـ متلازمان في المجمع كمال الملازمة ، فتسري مبغوضيّة أحدهما إلى الآخر عند العرف والعقلاء ، فلا يمكن التقرّب به ، بل هذا ثابت حتّى في بعض المقارنات الخارجيّة ، وهذا ما ندركه بوجداننا العرفي العقلائي فيمن يعصي الله بسمعه أو لسانه في مجلس الذكر أو مجلس إقامة العزاء لأبي عبدالله عليه‌ السلام فنحكم بعدم كون عمله مقرّباً إلى الله وأنّه لا يمكن له أن يقول : « إنّي أتقرّب بهذا العمل إلى الله » ولذلك قلنا في محلّه ببطلان الصّلاة إذا تقارنت مع المعاصي الكبيرة التي يحكم العرف بعدم كونها مقرّبة إلى الله في ذلك الحال حتّى على مبنى جواز الاجتماع بحسب حكم العقل ، فإنّ الدقّة العقليّة غير كافية في هذه المباحث ، وسيأتي من المحقّق البروجردي رحمه ‌الله ضمن بيان أدلّة المجوّزين أنّ المبعّد لا يكون مقرّباً فانتظر.

وللمحقّق النائيني رحمه ‌الله في هذا المجال بيان لبطلان الصّلاة فيما إذا كان المكلّف عالماً بالحرمة على القول بالجواز ( أي نفس الصورة الاولى في المسألة ) وحاصله على حكاية تلميذه المحقّق في المحاضرات : إنّ منشأ اعتبار القدرة في التكليف إنّما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، والوجه في ذلك هو أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه كان جعل الداعي للمكلّف نحو الفعل فمن الواضح أنّ هذا بنفسه يقتضي كون متعلّقه مقدوراً ، ضرورة استحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلاً وشرعاً ، ونتيجة ذلك هي أنّ متعلّقه حصّة خاصّة من الطبيعة ـ وهي الحصّة المقدورة عقلاً وشرعاً وهي الصّلاة في غير المكان المغصوب ، وأمّا الصّلاة في المكان المغصوب فهي خارجة عن متعلّقه ولا تكون مصداقاً للمأمور به وفرداً له فإنّها وإن لم تكن متّحدة مع الحرام في الخارج إلاّ أنّها ملازمة له خارجاً ، فلأجل ذلك لا تكون مقدورة شرعاً وإن كانت مقدورة عقلاً ، والمفروض أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي فلا يمكن الحكم بصحّة العبادة في مورد الاجتماع بناءً على القول بالجواز وتغاير متعلّق الأمر والنهي فضلاً عن غيره (14). ( انتهى ).

وهذا الكلام يرجع إلى ما ذكرنا من بعض الجهات.

الأمر الحادي عشر : في توقّف النزاع في باب الاجتماع على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد وعدمه:

والحقّ في هذه المقدّمة ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه ‌الله من عدم التوقّف ، لأنّ النزاع في ما نحن فيه مرتكز على تضادّ الأحكام وعدمه أوّلاً ، وعلى أنّ التركيب في مورد الاجتماع انضمامي أو اتّحادي ثانياً ، فمن قال بتضادّ الأحكام أو كان يرى أنّ الحيثيتين في مورد الاجتماع تعليليتان وأنّ التركيب اتّحادي ذهب إلى امتناع الاجتماع وإن التزم بكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد كالأشعري ، كما أنّ من لم يقل بتضادّ الأحكام أو كان يرى أنّ الحيثيتين تقييديتان وأنّ التركيب انضمامي ذهب إلى جواز الاجتماع ولو كان ممّن يلتزم بتبعيتها لها (15).

الأقوال في المسألة:

إلى هنا تمّ ما أردنا ذكره من المقدّمات.

إذا عرفت هذا فلنشرع في نقل الأقوال في المسألة فنقول : المهمّ فيها قولان : القول بالامتناع مطلقاً ، والقول بالجواز مطلقاً ، والأوّل منسوب إلى المشهور ولكن المحقّق البروجردي رحمه ‌الله قد أنكر هذه النسبة بدعوى أنّها نشأت من قول المشهور بفساد الصّلاة في الدار الغصبي مع أنّه لا يكشف عن كونهم قائلين بالامتناع لأنّ القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مقام توجّه الخطاب لا يستلزم القول بالصحّة في مقام الامتثال حتّى يقال إنّ كلّ من قال بعدم الصحّة في مقام الامتثال قال بالامتناع في مقام الخطاب بل يمكن أن يقال ببطلان الصّلاة لأنّ المبعّد ليس مقرّباً ( كما هو المختار ) وإن كان المبنى في المسألة الاصوليّة هو الجواز نعم ، مع الجهل أو النسيان يقع العمل صحيحاً لعدم ابتلائه في الحالين بما هو مبغوض وإن قلنا بالامتناع (16).

وكيف كان ، فقد استدلّ المحقّق الخراساني رحمه‌ الله على الامتناع بما يتشكّل من مقدّمات أربع:

المقدمة الاولى : أنّ الأحكام متضادّة في مقام الفعليّة وهي مقام البعث والزجر ، وإن لم يكن بينها تضادّ في مقام الاقتضاء والإنشاء.

المقدمة الثانية : أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف الخارجي لا ما هو اسمه وعنوانه لأنّ الأحكام إنّما تتعلّق بحقيقة الشيء وواقعه وما يترتّب عليه الخواص والآثار ، والاسم والعنوان إنّما يؤخذ في لسان الدليل لأجل الإشارة بهما إلى المسمّى والمعنون.

المقدمة الثالثة : أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ولا تنثلم وحدة المعنون ، بتعدّد العنوان والشاهد على ذلك صدق الصفات المتعدّدة على الواجب تبارك وتعالى مثل كونه حيّاً عالماً قادراً إلى غير ذلك من الصفات مع أنّه واحد أحد بسيط من جميع الجهات ، فإذا كانت الصفات المتعدّدة تصدق على الواحد البسيط من جميع الجهات ولا ينافي ذلك وحدته وعدم تعدّده ، فكذلك تصدق على غيره ممّا ليس كذلك بطريق أولى.

المقدمة الرابعة : أنّه لا يكاد يكون لوجود واحد إلاّ ماهية واحدة ويستحيل تغاير الوجود وماهيته في الوحدة والتعدّد ، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقاً الأمر والنهي إلاّ أنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهية وذاتاً ، فلا فرق في امتناع الاجتماع بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية ، كما أنّ العنوانين المتصادقين على المجمع ليسا من قبيل الجنس والفصل كي يبتني الجواز والامتناع على تمايزهما وعدمه.

ثمّ استنتج من هذه المقدّمات امتناع الاجتماع وقال : إذا عرفت ما مهّدناه عرفت أنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً كان تعلّق الأمر والنهي به محالاً ، ثمّ أشار إلى بعض أدلّة المجوّزين ثمّ أجاب عنه ونحن نذكره هنا تحت عنوان « إن قلت ، قلت » بمزيد توضيح :

إن قلت : إنّ الأمر قد تعلّق بطبيعة الصّلاة والنهي بطبيعة الغصب ، والطبيعة بما هي هي وإن لم تكن متعلّقة للطلب ، ولكنّها بما هي مقيّدة بالوجود ( بحيث كان القيد خارجاً والتقيّد داخلاً ) تكون متعلّقة للطلب ولازمه أن لا يكون المتعلّق واحداً لا في مقام تعلّق البعث والزجر ، وذلك لتعدّد الطلبيتين بما هما متعلّقان لهما وإن إتّحدتا في ما هو خارج عن الطلب وهو الوجود ، ولا في مقام الإطاعة والعصيان وذلك لسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان ، ولا إشكال في أنّ الإطاعة تحصل بطبيعة والعصيان يحصل بطبيعة اخرى ، ومعه ففي أي مقام اجتماع الحكمان في واحدِ؟

قلنا : إنّ الطبيعتين المتعلّقتين للأمر والنهي كعنواني الصّلاة والغصب إنّما يؤخذان في لسان الدليل للإشارة بهما إلى المعنون ، والمعنون هو أمر واحد لا يتعدّد بتعدّد العنوان.

 

إن قلت : إنّ الأمر متعلّق بطبيعة الصّلاة ، والنهي متعلّق بطبيعة الغصب ، والمجمع فرد لهما ، والفرد مقدّمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه ، فتكون الحرمة أو الوجوب المترشّح عليه من جانب الطبيعة وجوباً أو حرمة مقدّميّة غيريّة ، ولا ضير في كون المقدّمة مضافاً إلى وجوبها الغيري حراماً غيريّاً في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار.

قلنا : إنّ الفرد هو عين الطبيعي في الخارج ، وليس مقدّمة للطبيعي ، وعليه فإذا تعلّق الأمر والنهي بالطبيعتين فقد تعلّقا بالمجمع. ( انتهى ).

أقول : لا حاجة إلى المقدّمة الرابعة مع وجود المقدّمة الثالثة ، لأنّه مع كون المتعلّق هو المعنون الخارجي وكون المعنون هو الوجود لا الماهية فالمهمّ حينئذٍ في إثبات الامتناع إنّما هو كون الوجود في المجمع واحداً ، ولا أثر فيه لوحدة ماهيته وتعدّدها ، هذا أوّلاً.

وثانياً : إنّ البحث عن أصالة الماهية أو الوجود وعن وحدة الماهية وتعدّدها إنّما يتصوّر في الماهيات المتأصّلة الخارجيّة بينما العناوين المبحوث عنها في المقام ماهيات اعتباريّة انتزاعيّة.

وثالثاً : لا حاجة إلى المقدّمة الثالثة أيضاً لوضوحها بعد ملاحظة العناوين الانتزاعيّة لأنّ من الواضح أنّ تعدّد أمر انتزاعي ذهني لا يوجب تعدّد منشأ الانتزاع في الخارج.

فظهر أنّ العمدة في كلامه إنّما هي المقدّمتان الأوّليان ، وقد أورد المحقّق البروجردي رحمه ‌الله في حاشيته على الكفاية على أوّليهما بأنّ « الأحكام ليست من مقولة الاعراض كما يلوح من كلام المصنّف بل إنّما تكون من مقولة الإضافات ، والشاهد على ذلك أنّ الحكم يوجد قبل وجود متعلّقه ، بل لا يمكن تعلّقه به بعد وجوده للزوم تحصيل الحاصل كما برهن في محلّه ، لأنّ العرض لا يوجد قبل وجود معروضه بخلاف ما يكون من مقولة الإضافة فإنّه لا يحتاج إلى وجود طرفها حين انتزاعه ، بل إنّما يحتاج تعلّقه إلى تعقّل طرفها كالعلم والقدرة ، فإنّهما وإن كانا بالإضافة إلى العالم والقادر من مقولة العرض ، ويحتاج وجود كلّ منهما إلى وجود معروضة إلاّ أنّهما بالإضافة إلى المعلوم والمقدور كانا من مقولة الإضافة ، وكذلك الحكم والطلب فإنّه وإن كان بالإضافة إلى الحاكم والطالب من مقولة العرض ويحتاج وجوده إلى وجوده لقيامه بالطالب قياماً صدوريّاً إلاّ أنّه بالإضافة إلى المطلوب من مقولة الإضافة ، ولا يحتاج تعلّقه به إلى وجوده ، نعم إنّما يحتاج تعقّله إلى تعقّله ... وعليه ففي مورد تصادق العنوانين يمكن تعلّق أحد الحكمين به بعد فرض تعلّق الآخر به ، لأنّه حينئذٍ إنّما يتعلّق بالطبائع لا بما هو موجود في الخارج وصادر عن المكلّف ، فيصحّ أن يكون المجمع مأموراً به لا بما هو هو بل بما هو منطبق مع عنوان المأمور به ، ومنهياً عنه أيضاً لا بما هو هو بل بما هو منطبق مع عنوان المنهي عنه.

ومن ذلك كلّه ظهر لك أيضاً منع المقدّمة الثانيّة فإنّ الالتزام بأنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما يصدر عنه في الخارج وموجوداً فيه إنّما يبتني على القول بأنّ الأحكام اعراض لا إضافات فإنّها على هذا المبنى تحتاج في تحقّقها إلى وجود المعروض وتحقّق الموضوع ، وأمّا على القول بأنّها إضافات فلا يحتاج إلى وجود الموضوع ، وإذا عرفت أنّ متعلّق الحكم التحريمي غير ما يكون متعلّقاً للحكم الوجوبي حتّى في مورد التصادق والاجتماع فالقول بالجواز أقوى كما لا يخفى .... ( إلى أن قال : ) وإنّا إذا راجعنا إلى وجداننا في الأوامر التوصيلية والعرفيّة ونواهيها نرى الوجدان يحكم بجواز الاجتماع باعتبار إجماع ملاكهما في مورد واحد فيما إذا أمر المولى عبده بغسل ثوبه مثلاً ونهاه عن التصرّف في ملك الغير فغسله بسوء اختياره بماء مملوك للغير ـ يحكم الوجدان بأنّ العبد أتى بالمأمور به والمنهي عنه معاً ، هذا مع أنّ النزاع في التوصّليات والتعبّديات سواء كما لا يخفى ». ( انتهى ) (17).

أقول : الأولى في إثبات عدم وجود التضادّ بين الأحكام أن يقال : إنّ الأحكام امور اعتباريّة وهي ممّا لا تضادّ فيها لإمكان إنشاء امور مختلفة واعتبارها فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة كما لا يخفى ، نعم إنّه لا يتصوّر صدوره من الشارع الحكيم من باب اللغويّة ، ولعلّ هذا هو مراد من قال بتضادّ الأحكام الخمسة ، أي أنّه أيضاً يقول به من حيث المباديء والغايات وأنّ الإرادة والكراهة أعني الحبّ والبغض لا يجتمعان في نفس المولى بالإضافة إلى شيء واحد ـ وإن اجتمعت في ذلك الشيء جهات تقتضي الحبّ والإرادة وجهات اخرى تقتضي البغض والكراهة لأنّه بعد الكسر والانكسار وترجيح أحد الجانبين ينقدح أحدهما في نفس المولى فيوجب البعث أو الزجر.

هذا بحسب المباديء ، وكذلك بحسب الغايات ومقام الامتثال فلا يمكن للمولى أن يقول للعبد : «تحرّك » وفي نفس الوقت يقول : « لا تتحرّك » فإنّ الامتثال حركة خاصّة خارجيّة من حيث الزمان والمكان والكمّ والكيف وسائر الخصوصيّات ولا يمكن امتثال تكليفين في آنٍ واحد.

ونحن نظنّ أنّ هذا هو مراد القائلين بتضادّ الأحكام الخمسة كما يشهد بذلك تعبيرهم بأنّ الأحكام متضادّة في مقام الفعليّة ، والحاصل أنّها وإن لم تكن متضادّة بنفسها ولكن تترتّب عليها آثار التضادّ ، ومن هنا يعلم وجه الإشكال في كلام سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه‌ الله ، وسيأتي الإشكال في ما أورده على المقدّمة الثانيّة عند توضيح المذهب المختار.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه ‌الله قال في ذيل كلام المحقّق الخراساني رحمه ‌الله بعد إيراده على المقدّمة الثالثة ما نصّه : « القول بالامتناع يبتني على كون الجهتين اللتين لا بدّ منهما في صدق المفهومين على المجمع تعليليتين ليكون التركيب اتّحاديّاً فيستحيل الاجتماع ، كما أنّ القول بالجواز يبتني على كون الجهتين تقييديتين والتركيب انضمامياً فإنّه على ذلك لا يلزم محذور اجتماع الضدّين في شيء واحد ... ( إلى أن أثبت ) كون التركيب في المجمع انضمامياً لا اتّحاديّاً ، وعليه فلا مانع من كون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه إذ المستحيل إنّما هو توارد الأمر والنهي على محلّ واحد ، وبعد إثبات أنّ التركيب انضمامي يكون متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر لا محالة ، فيكون أحدهما متّصفاً بالوجوب محضاً والآخر متّصفاً بالحرمة كذلك ... ( إلى أن قال : ) ولا يفرق فيما ذكرناه من كون التركيب انضمامياً بين القول بأنّ المطلوب في الصّلاة هي الهيئة الخاصّة من الركوع والسجود والقيام لتكون المقدّمات من الهوي والنهوض خارجة عن حيّز الطلب والقول بأنّ المطلوب هي الأفعال الخاصّة إمّا مطلقاً أو بعضها كالركوع والسجود ليكون الهوي إليهما مقدّماً للمأمور به ، وذلك لأنّ المأمور به على كلا التقديرين من مقولة الوضع وأمّا الغصب فهو من مقولة الأين ، ويستحيل اتّحاد المقولتين في الخارج ، فلا مناص عن كون التركيب بينهما في محلّ الاجتماع انضمامياً » (18).

أقول : في كلامه أيضاً مواقع للنظر.

الموقع الأوّل : أنّه خارج عن محلّ النزاع لأنّ النزاع في عنوانين صادقين على محلّ واحد ، مع أنّ لازم كلامه إمّا عدم إمكان صدق العنوانين على موضوع واحد في الخارج ، أو أنّ ما يتصوّر واحداً يكون في الواقع متعدّداً وبه لا تحلّ المسألة الاصوليّة بل إنّما يرتفع الإشكال في مسألة فقهيّة وهي الصّلاة في الدار المغصوبة.

الموقع الثاني : ليس الركوع والسجود من مقولة الوضع بل من مقولة الفعل ، لأنّ الركوع ليس عبارة عن مجرّد الانحناء بل التحقيق أنّ الهويّ من حالة القيام أيضاً جزء للركوع كما أنّ الوقوع على الأرض أيضاً جزء للسجود ( ولذلك يجب على الساجد إذا سمع آية السجدة أن يرفع رأسه من الأرض ثمّ يضعه ثانياً بنيّة سجدة الآية ، ولا يكفي مجرّد الاستمرار والإبقاء في السجدة الاولى ) ولا إشكال في أنّ الهويّ أو الوقوع من مقولة الفعل.

مضافاً إلى أنّ التعبير الصحيح في المقام هو حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، وهو غير عنوان الغصب ، لأنّه لا يعتبر في الغصب التصرّف الخارجي في المال المغصوب بل إنّه صادق حتّى فيما إذا أخذ مفتاح دار الغير مثلاً من دون التصرّف الخارجي كما أنّ الركوب على مركب الغير مع كون لجامه بيد الغير تصرّف في مال الغير ولا يكون غصباً ، فالمهمّ في ما نحن فيه هو اجتماع الصّلاة مع التصرّف في مال الغير بغير إذنه وإن لم يصدق عليه عنوان الغصب ، ولا يخفى أنّ عنوان التصرّف من مقولة الفعل لا الأين.

الموقع الثالث : أنّ المبحوث عنه في كلامه من تعدّد مقولة الصّلاة والغصب بحث موضوعي مصداقي في خصوص مصداق الصّلاة في الدار المغصوبة وليس مسألة اجتماع الأمر والنهي على نحو كلّي.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول بالامتناع.

وأمّا القول بالجواز فحاصل ما استدلّ به في تهذيب الاصول ( الذي يرجع في الحقيقة إلى المقدّمة الثانيّة من المقدّمات الأربعة لصاحب الكفاية وطريق لإنكارها ) : أنّ القول بالجواز يبتني على أربع مقدّمات :

أوّلها : أنّ الحكم يمتنع أن يتجاوز من متعلّقه إلى مقارناته الاتفاقيّة ولوازمه الوجوديّة ، واستدلّ له بقياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة.

ثانيها : أنّ حقيقة الإطلاق هي حذف القيود ورفضها لا أخذها.

ثالثها : أنّ اتّحاد الماهية اللابشرط مع الف شرط في الوجود الخارجي لا يلزم منه حكاية المعروض عن عارضه إذا كان خارجاً من ذاتها ولاحقاً بها لأنّ حكاية اللفظ دائرة مدار الوضع منوطة بالعلقة الاعتباريّة وهو منتف في المقام.

رابعها : ( وهو العمدة والحجر الأساس لإثبات الجواز ) أنّ متعلّق الأحكام هو الطبيعة اللابشرط المنسلخة عن كافّة العوارض واللواحق ، لا الوجود الخارجي أو الإيجاد بالحمل الشائع لأنّ تعلّق الحكم بالوجود لا يمكن إلاّفي ظرف تحقّقه ، والبعث إلى إيجاد الموجود بعث إلى تحصيل الحاصل ، وقسّ عليه الزجر لأنّ الزجر عمّا تحقّق خارجاً أمر ممتنع ، ولا الوجود الذهني الموجود في ذهن الآمر لأنّه بقيد كونه في الذهن لا ينطبق على الخارج ، بل متعلّق الأحكام هو نفس الطبيعة غير المقيّدة بأحد الوجودين.

ثمّ قال : إذا عرفت ما رتّبناه من المقدّمات يظهر لك أنّ الحقّ هو جواز الاجتماع ( انتهى ملخّصاً ) (19).

أقول : وعمدة ما يرد عليه ما مرّ كراراً من أنّ البعث والطلب وهكذا الزجر والكراهة يتعلّق بالخارج من طريق العنوان ، أي إن العنوان قنطرة للعبور بها إلى الخارج فإنّ متعلّق الكراهة وتنفّر المولى في قوله « لا تشرب الخمر » إنّما هو الخمر الخارجي لا الخمر الذهني ولا الطبيعة من حيث هي هي ، فإنّ الوجود الخارجي مبدأ الآثار ومنشأ المصالح والمفاسد ، وقد عرفت أنّه بمعناه المصدري ليس تحصيلاً للحاصل ، نعم أنّه كذلك بمعناه اسم المصدري.

والحاصل أنّ المفاهيم الذهنيّة لا أثر لها وكذا الطبيعة لا بشرط ما لم يلبس لباس الوجود ، فلا تكون متعلّقة للحبّ والبغض والأمر والنهي إلاّمن باب الإشارة إلى الخارج ، وليس البحث بحثاً لفظيّاً وأنّ معنى الهيئة ماذا؟ والمتعلّق ماذا؟ كما يلوح من بعض كلماته.

وأمّا مسألة الجاهل المركّب فإنّها من قبيل الخطأ في التطبيق ولا ينافي كون متعلّق الحبّ أو البغض هو الخارج ، وسيأتي توضيحه في بيان المختار في المسألة فانتظر.

هذا كلّه في أدلّة الطرفين.

المختار في المسألة :

أمّا الحقّ والمختار في المسألة فهو امتناع الاجتماع ، وهو مبني على أمرين :

أحدهما : أنّ الأحكام التكليفية متضادّة لكن لا بذواتها لأنّها اعتباريّة من هذه الجهة ، والاعتبار كما مرّ خفيف المؤونة ، بل من حيث المباديء ، أي الكراهة والمحبّة في نفس المولى ، ومن حيث الغايات ومقام الامتثال ، أي مقام الإتيان والعصيان.

ثانيهما : أنّ متعلّق الأحكام هو الخارج لكن من طريق الصور والمفاهيم الذهنيّة ، فإنّ وزانها وزان العلم الحصولي ، فكما أنّ متعلّقه والمعلوم فيه إنّما هو الخارج لكن بواسطة الصور الذهنيّة لعدم إمكان حلول الخارج في الذهن ، كذلك الأحكام في الإخباريات والإنشائيات ، فإنّها من قبيل العلم الحصولي تتعلّق بالخارج ويكون موضوعها هو الخارج لكن بواسطة العناوين المتصوّرة في الذهن ومن طريق استخدام تلك العناوين ، فالحكم بأنّ الشمس موجودة مثلاً تعلّق بالشمس المتصوّر في الذهن ابتداءً ولكن لينتقل منه إلى الخارج.

إن قلت : إنّ هذا ينتقض بالجاهل المركّب فيما إذا رأى سراباً مثلاً بتوهّم أنّه الماء ، لأنّه لا إشكال في أنّ متعلّق حبّه وطلبه في قوله « ايتني الماء » حينئذٍ إنّما هو الصورة الذهنيّة من الماء لا الماء الخارجي لأنّه معدوم في الخارج على الفرض.

قلنا : إنّ مطلوب الجاهل المركّب ومحبوبه أيضاً هو الماء الخارجي وإنّما الخطأ في التطبيق ، نظير من حكم بإخراج إنسان من داره بتوهّم أنّه عدوّه وليس عدوّاً في الواقع ، فلا إشكال في أنّ بغضه وكراهته متعلّق بالعدوّ الخارجي أو السارق الخارجي ، ولكنّه خطأ في التطبيق ، فإنّ في ما نحن فيه أيضاً قد تعلّق الحبّ والطلب حقيقة وفي الواقع بالماء الذي يكون منشأ للأثر ويوجب رفع العطش ، وهذا أمر بديهي ، فهو طالب للماء الخارجي ولكنه طلب الصورة الذهنيّة بتوهّم أنّه ماء خارجي وإلاّ لا شكّ في أنّه لا يطلب السراب قطعاً.

إن قلت : المعروف في باب العلم الحصولي أنّ المعلوم بالذات إنّما هو الصور الذهنيّة ، وأمّا الخارج فهو معلوم بالعرض وبتبع الصور الذهنيّة ، فليكن المحبوب بالذات أيضاً في ما نحن فيه هو الصورة الذهنيّة.

قلنا : إنّ المراد من المعلوم بالذات هو ما حضر في الذهن ، ولا شكّ أنّ الحاضر في الذهن هو الصور الذهنيّة ، وأمّا الخارج فلا يحضر في الذهن بذاته ، ولكن الآثار المختلفة إنّما تترتّب على الخارج لا على الصور الذهنيّة ، فالعقرب أو السبع الذي يخاف منه الإنسان إنّما هو الخارجي منه فإنّه منشأ للضرر والخطر لا الصورة الذهنيّة منه ، وفي موارد الجهل المركّب يكون الخوف من باب الخطأ في التطبيق كما عرفت ، وكذا الحبّ والبغض والإرادة والكراهة إنّما يتعلّقان بالوجودات الخارجيّة من طريق الصور الذهنيّة فهي مشيرة إليها وطريقة لها.

هذا كلّه هو البحث في الكبرى ( أي كبرى جواز الاجتماع وامتناعه ).

وهيهنا بحث صغروي في الصغريات المطروحة في الفقه من باب أنّها مصاديق لتلك الكبرى كالصلاة في الدار المغصوبة أو في ثوب مغصوب ، وكالوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة والتيمّم على تراب مغصوب ، فهل هي في الواقع صغريات لتلك الكبرى ومصاديق لذلك الكلّي، أو لا؟

الحقّ هو التفصيل بين الموارد ، أمّا في مثل الوضوء والغسل بالماء المغصوب والتيمّم على التراب المغصوب فلا إشكال في أنّ الحركة العباديّة فيها متّحدة مع التصرّف في ملك الغير فينطبق على نفس ما ينطبق عليه الوضوء والغسل عنوان التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، وهكذا في التيمّم بناءً على كون ضرب اليد على الأرض أيضاً جزءً للتيمّم.

وأمّا في الصّلاة في الدار المغصوبة فلا إشكال في أنّ بعض أجزائها كالنيّة والأذكار والقراءات ليست متّحدة مع عنوان الغصب عرفاً وإن كان إيجاد الموج في الهواء بالذكر متّحداً مع نوع من التصرّف عقلاً ، إنّما الكلام في بعض الأجزاء الاخر كالركوع والسجود ، فإن قلنا بأنّ الهويّ إلى الركوع والسجود والنهوض عنهما جزء لهما كما أنّه كذلك وقد قرّر في محلّه أو قلنا باعتبار الاعتماد على الأرض في صدق السجدة فلا إشكال في أنّ الصّلاة متّحدة مع الغصب فتكون من صغريات تلك الكبرى ، أمّا بالنسبة إلى الهويّ والنهوض فالأمر واضح لأنّهما جزء للركوع والسجود على الفرض ، فتكون الصّلاة حينئذٍ متّحدة مع الغصب في الخارج ومصداقاً له ، وأمّا بالنسبة إلى الاعتماد على الأرض فلأنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهوم السجدة ولا يكفي في صدقها مجرّد مماسّة الجبهة على الأرض وحينئذٍ تتّحد الصّلاة أيضاً مع عنوان الغصب من دون فرق بين أن يكون ما يصحّ عليه السجود نفس أرض الغير أو شيئاً آخر، فتصير الصّلاة حينئذٍ أيضاً من صغريات تلك الكبرى.

نعم إلاّ أن يأتي بها إيماءً كصلاة النافلة على المركب المغصوب وكالصّلاة على الميّت في الدار المغصوبة حيث إنّ في الاولى لا يكون جزءً من أجزاء الصّلاة متّحداً مع الغصب عرفاً لعدم كون الايماء تصرّفاً وهو واضح ، وكذلك في الثانيّة لأنّ الاعتماد على الأرض ليس معتبراً في صدق القيام ، ولذا لو أتى بالصّلاة على الميّت معلّقاً على الهواء يصدق القيام وتصّح الصّلاة.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ العبادات على ثلاثة أقسام : ففي قسم منها تكون الأجزاء بأسرها غير النيّة متّحدة مع عنوان الغصب كما في الوضوء والغسل مع الماء المغصوب ، وفي قسم آخر لا تكون الأجزاء بتمامها متّحدة مع الغصب كالصّلاة إيماءً والصّلاة على الميّت ، وفي قسم ثالث يكون بعض الأجزاء متّحداً كصلاة المختار ، فالصحيح في المقام التفصيل بين الموارد كما قلنا.

بقي هنا شيئان :

أحدهما : ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه‌ الله من أنّ الصّلاة من مقولة الوضع وأنّ الغصب من مقولة الأين ، فلا اتّحاد بينهما فلا تكون الصّلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك الكبرى مطلقاً ، وقد مرّت المناقشة فيه أيضاً.

ثانيهما : ما أفاده في المحاضرات من أنّ الصّلاة ليست حقيقة مستقلّة ومقولة برأسها في قبال بقيّة المقولات بل هي مركّبة من مقولات عديدة : منها الكيف المسموع كالقراءة والأذكار ، ومنها الكيف النفساني كالقصد والنيّة ، ومنها الوضع كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد ، فإذن ليست للصّلاة وحدة حقيقية بل وحدتها بالاعتبار ، وأمّا الغصب فهو ممكن الانطباق على المقولات المتعدّدة ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يكون من الماهيات الحقيقية لما عرفت من استحالة اتّحاد المقولتين واندراجها تحت حقيقة واحدة ... إلى أن قال : ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الصّلاة لا تتّحد مع الغصب خارجاً لا من ناحية النيّة ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما ولا من ناحية الركوع والسجود والقيام والقعود ... إلى أن قال ما حاصله : وأمّا الهويّ إلى الركوع والسجود أو النهوض عنهما إلى القيام والجلوس فهما من مقدّمات الصّلاة لا من أجزائها ، بقي في المقام شيء وهو الاعتماد على أرض الغير ، فالظاهر عدم صدق السجدة الواجبة على مجرّد مماسّة الجبهة الأرض بل يعتبر في صدقها الاعتماد عليها ، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على أرض الغير نحو تصرّف فيها ، فلا يجوز ، وعليه فتتّحد الصّلاة المأمور بها مع الغصب المنهي عنه في الخارج ، فإذن لا مناصّ من القول بالامتناع ( انتهى ملخّصاً ) (20).

أقول : يرد عليه : أوّلاً : أنّ النيّة ليست من الكيف النفساني بل هي من أفعال النفس لأنّها ليست مجرّد شوق نفساني الذي يعبّر عنه بصيغة فعل الماضي « نَوى ».

ثانياً : أنّ الأذكار والقراءات أيضاً تكون من قبيل الفعل والإيجاد لا الكيف المسموع ، فهي حينئذٍ إمّا من مقولة الفعل لكونها حركة تدريجية ، وإمّا ليست داخلة في مقولة من المقولات بناءً على عدم كون الحركة من المقولات من باب أنّ الحركة من خصوصّيات الوجود وليست من شؤون الماهية ، وبالجملة أنّها ليست من مقولة الكيف المسموع ، نعم إنّ الحالة الصوتيّة كالجهر والإخفات التي تعرض القراءة تكون من قبيل الكيف المسموع كما لا يخفى.

ثالثاً : الحقّ أنّ الهويّ جزء للركوع أو السجود لا من مقدّماتهما ، فكأنّه لاحظ طائفة من الرّوايات الدالّة على أنّ الصّلاة ثلثها الركوع أو ثلثها السجود فاستظهر أنّ الركوع هو مجرّد الانحناء أو أنّ السجود هو مجرّد الانخفاض مع أنّ من جملة الأدلّة قوله تعالى : {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] مثلاً ولا ريب في أنّ ظاهرها أنّ الركوع هو الانحناء بضميمة الهويّ وهكذا في باب السجود ، ولذلك يجب على من سمع حين السجود آية السجدة الواجبة رفع الرأس عنها ثمّ وضعه بنيّة امتثال آية السجدة ، ولا يكفي مجرّد إبقائه على السجدة كما مرّ سابقاً ، وكذلك يجب على المكلّف في حال الانحناء إذا وجب عليه الركوع النهوض عنه ثمّ الانحناء بنيّة الركوع.

أضف إلى ذلك أنّه لو سلّمنا كون الهويّ من المقدّمات لا الأجزاء لكنّه من المقدّمات القريبة التي يسري القبح أو الحسن منها إلى ذي المقدّمة فتكون في حكم الأجزاء في ما نحن فيه كما مرّت الإشارة إليه سابقاً.

هذا كلّه في البحث عن صغريات المسألة ، ولا إشكال في أنّها ليست منحصرة في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة بل هناك موارد كثيرة في الفقه هي من مصاديق هذه المسألة وصغرياتها كالوقوف في عرفات أو منى تحت خيمة مغصوبة أو فوق حجر مغصوب ونظير الطواف مع دابة مغصوبة أو ثوب مغصوب ، وكالصّلاة مع ثوب مغصوب أو السجدة على التراب المغصوب وغير ذلك من الأمثلة التي محلّ البحث عنها هو الفقه ، والتكلّم عنها في الاصول يستلزم تداخل الفقه في الاصول ، فلا يغرنّك حصر المثال في كلماتهم في خصوص الصّلاة في الدار المغصوبة.

________________
1. فوائد الاُصول: ج1، ص396 ـ 397، طبع جماعة المدرّسين.

2. راجع المحاضرات: ج4، ص164 ـ 165.

3. تهذيب الاُصول: ج1، ص376 ـ 377، طبع جماعة المدرّسين.

4. راجع المحاضرات: ج4، ص165 ـ 166.

5. راجع المحاضرات: ج4، ص178 ـ 179.

6. راجع أجود التقريرات: ج1، ص333 ـ 334.

7. تهذيب الاُصول: ج1، ص381، طبع جماعة المدرّسين.

8. المحاضرات: ج4، ص189 ـ 190.

9. راجع فوائد الاصول : ج 1 ، ص 416 ـ 417.

10. راجع تهذيب الاصول : ج 1 ، ص 381 ـ 382 ، طبع جماعة المدرّسين.

11. راجع المحاضرات : ج 4 ، ص 303 ـ 304.

12. تهذيب الاصول : ج 2 ، ص 382 ـ 383 ، طبع جماعة المدرّسين.

13. أجود التقريرات : ج 1 ، ص 346.

14. راجع المحاضرات : ج 4 ص 217 ـ 218.

15. راجع أجود التقريرات : ج 1 ، ص 345 ـ 346.

16. راجع حاشيته على كفاية الاصول : ج 1 ، ص 365 ـ 366.

17. راجع حاشيته على الكفاية : ج 1 ، ص 376 ـ 379.

18. أجود التقريرات : ج 1 ، ص 352 ـ 355.

19. راجع تهذيب الاصول : ج 1 ، ص 391 ـ 394 ، طبع جماعة المدرّسين.

20. راجع المحاضرات : ج 4 ، ص 281 ـ 288.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.