أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-10-2014
733
التاريخ: 24-10-2014
2613
التاريخ: 24-10-2014
1272
التاريخ: 24-10-2014
5292
|
في بيان عموم علمه :
وهو إن فسّرناه بتعلّق علمه بكلّ شيء موجود أو كان موجوداً ... فأنّه تعالى عالم بجميع مخلوقاته ، سواء كانت ذواتاً ، أو معاني ، أو غير ذلك ، فهو عالم بالموجودات وبالمحالات التي يعلمها العلماء ، فإنّ الصور المرتسمة في أذهان العلماء مخلوقة لله تعالى ، فهو عالم بها بطريق أَولى ، بل يمكن الاستدلال عليه بالوجه الأَوّل والخامس والسابع أيضاً كما لا يخفى .
وهنا وجه آخر دالّ على المراد ذَكَره غير واحد ، وهو أنّ الموجب للعلم هو ذاته تعالى ، والمقتضي للمعلومية هو ذات الممكن ، ونسبة ذاته تعالى إلى جميع الممكنات نسبة متساوية ، فإذا علم بعضها فقد علم الجميع ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح وهو باطل .
أقول : الظاهر أنّ الدليل تامّ لا بأس به ، غير أنّه يجب أن يقال في تقريبه : إنّه قد ثبت له العلم في الجملة ، بدل قولهم : الموجب للعلم هو ذاته ، فإنّه ناظر إلى زيادة الصفات على ذاته تعالى ، وهي باطلة عندنا ، وما ذكرنا يشمل كلا المذهبين .
قال الله تعالى : {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] وقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3] وقال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ... وإلى غير ذلك من الآيات الشريفة ، وعن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) (1) : ( يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ ، وَمَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ ، وَاخْتِلافَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ ، وَتَلاطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ ). ومِثله كثير .
وإن فسّرناه بأنّه تعالى عالم من الأزل ، بجميع الأشياء والأحوال والتقادير إلى الأبد ، فهذا هو البحث الغامض المعضل ، الذي لا نظير له في الصعوبة في علم الكلام ، والإنصاف أنّ إثبات هذه المسألة عقلاً مشكل جداً ، ولم أرَ له أثراً في كتب الكلام أصلاً ، وكيفما كان فهنا أمران :
الأَوّل : إنّ الله عالم بجميع الأشياء من الأزل ، وعلمه كذاته أزلي ، كما اتّفق عليه الفلاسفة والمتكلّمون سوى قوم شاذّ ونفر قليل منهما ، وهذا هو الثابت من الديانة الإسلامية ثبوتاً قطعياً .
الأمر الثاني : إنّ العلم إمّا صفة حقيقية ذات إضافة ، أو صفة إضافية محضة فلا يمكن إلاّ بمتعلّق ، وإن شئت فقل : إنّه إمّا نفس انكشاف الواقع أو ما يستلزمه ، وعلى كل تقدير لابدّ له من معلوم ، فإذا قلنا : إنّه تعالى عالم بجميع الأشياء أزلاً ، لابدّ أن نلتزم بوجود جميع الأشياء خارجاً أو ذهناً في الأزل ، مع أنّه لا يلتزم به أحد ، فإنّ العالَم أو حوادثه غير موجودة في الأزل ، والواجب تعالى لا ذهن له حتى تنطبع فيه الصور ، هذا مع أنّ صورة الشيء لا تتولّد إلاّ من إدراك الشيء ولو بوجه ، وهو هاهنا ( أي في القِدم ) أَوّل الكلام ، فإذن لا يتعقلّ معنى أنّه تعالى عالم بالأشياء أزلاً ، فظهر أنّ الجمع بين الأمرين صعب أو غير ممكن عقلاً ؛ فلذا اختلفت الأنظار ، وتشتّت الأفكار ، وكثرت الأقوال ، ومع ذلك لم تنجلِ المسألة ولم تنحل المشكلة ، بل ازدادت مصاعبها .
وأحسن ما قيل في المقام بحيث يمكن أن يعوّل عليه في المقال مسلكان :
المسلك الأَوّل : ما ذكره أرسطو في أثولوجيا (2) ، من أنّ الأشياء عند الباري جلّ ذكره كاملة تامّة ، زمانيةً كانت أو غير زمانية ، وهي عنده كانت أَوّلاً كما تكون عنده أخيراً ، وقال : الأشياء هناك دائمة لا تتغيّر بل على حال واحد ... إلخ .
أقول : وتوضيح ذلك : أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى كانت واحدة ، كما أنّ نسبة جميع الأمكنة إليه تكون واحدة ، بمعنى أنّ أعيان الموجودات الزمانية ـ قديمة أو حادثة حاضرة عنده تعالى دفعةً واحدة ، بلا اختلاف في القبلية ، والمعية ، والبعدية والمضي ، والحال ، والاستقبال ؛ لكونه تعالى بريئاً عن الوقوع في شيء من الأزمنة ، كبراءته عن الوقوع في شيء من الأمكنة ، بل هو محيط بقاطبة الزمانيات والمكانيات إحاطةً واحدة ، وإنّما ذلك الاختلاف لها بقياس بعضها إلى بعض وفيما بينها ، لا بالقياس إلى الحضور عنده تعالى والمعية عنه .
وقد نسبه اللاهيجي في شوارقه إلى ظنّ جماعة منهم الدواني في بعض رسائله ، وصاحب القبسات ، بل نسبه المجلسي (3) إلى محقّقي الحكماء ، بل نقله بعض عن جميع الحكماء، ومثّلوا ذلك بخيط مختلف الأجزاء بالسود والبيض ، فإنّه إذا نظر إليه الإنسان مثلاً يلاحظ مجموع تلك الأجزاء المختلفة الألوان دفعةً واحدة ، ويرى الجزء الأسود في موضعه والأبيض في موضعه ، كليهما معاً وفي آن واحد ، بخلاف الحيوان الضيّق الحدقة كالنملة ، فإنّه يرى كل جزء يوصل إليه في آن وصوله إليه ، ولا يرى الجزء الذي بعده أو قبله في هذا الآن ، بل في آن هو بعد ذلك الآن أو قبله .
وقد ارتضاه اللاهيجي في كتابه المسمّى بـ ( گوهر مراد ) (4) وقال : إنّ هذا التحقيق منقول من الحكماء السالفين ، وإنّ المحقّق الطوسي قدّس سره قرّره في شرح رسالة العلم بأتمّ الوجوه ، وذكره غيره من المحقّقين أيضاً ، وجعل تصحيح العلم الحضوري في الواجب معلّقاً على هذا التحقيق ، وقال : إنّا بيّنا هذا المعنى في حواشي إلهيات التجريد ، بحيث لم يبقَ للتأمّل فيه مجال . هذا ولكن المذكور في شوارقه عدم ارتضائه ذلك .
وأمّا نسبته إلى المحقّق الطوسي فهي في محلها ، كما يظهر من عبارته المحكية في الشوارق (5).
وممّن اختار هذا الطريق ، المحدّث الكاشاني في كتابه الوافي (6) ، فإنّه ذكر في باب نفي الزمان والمكان والكيف عنه كلاماً طويلاً نذكر شطراً منه ، قال : إنّ المخلوقات ، وإن لم تكن موجودةً في الأزل لا نفسها وبقياس بعضها إلى بعض ، على أن يكون الأزل ظرفاً لوجوداتها كذلك ، إلاّ أنّه موجودة في الأزل لله سبحانه وجوداً جمعياً وحدانياً غير متغيّر ، بمعنى أنّ وجوداتها اللايزالية الحادثة ثابتة لله سبحانه في الأزل كذلك ، وهذا كما أنّ الموجودات الذهنية موجودة في الخارج إذا قيّدت قيامها بالذهن ، وإذا أطلقت من هذا القيد فلا وجود لها إلاّ في الذهن، فالأزل يتّسع القديم والحادث والأزمنة وما فيها وما خرج عنها ... إلخ .
فهو وإن لم يصرّح هنا بأنّ هذا هو طريق تعلّق علمه بالأشياء أزلاً ، لكنّه سلّم وأصرّ على أنّ نسبة الأزمنة إليه كالأمكنة واحدة ، وإنّما الاختلاف بالقياس إلى الحوادث نفسها ، فيسهل استنتاج المطلوب منه ، بل صرّح به في موضع آخر من ذلك الكتاب (7) .
أقول : قياس الأزمنة على الأمكنة ، واضح الفساد ولائح الفرقان ، فإنّ الأُولى غير قارّة لا يمكن وجودها بجميع أفرادها دفعةً واحدة ، وإن قايسناها إلى مَن هو خارج عن سجن المكان والزمان ، فإنّ القصور راجع إلى الزمان نفسه لا إلى غيره حتى يفرّق بين الزماني وغيره ، وهذا بخلاف الأمكنة فإنّها غير تدريجية الحصول بل هي من الأُمور القارّة ، وكذا الخيط المختلف الألوان ، وبالجملة : هذا الوجه وإن كان له صورة في بدء النظر ، ويرتضيه العقل والنقل من نتيجته على تقدير تماميته ، لكنّه ضعيف الأساس عند التأمل ، بل لم أجد دليلاً عليه في كلمات مَن ذكره غير ذكر المثال المذكور .
المسلك الثاني : ما سلكه صاحب الأسفار ومَن تبعه ، وقد نسبه في أسفاره إلى طريقة قدماء الحكماء ، وهو أنّ الواجب تعالى هو المبدأ الفيّاض لجميع الحقائق والماهيات ، فيجب أن يكون ذاته تعالى مع بساطته وأحديته كلّ الأشياء ، وقال : نحن قد أقمنا البرهان على أنّ البسيط الحقيقي من الوجود ، يجب أن يكون كلّ الأشياء ، فإذن لمّا كان وجوده تعالى وجود كلّ الأشياء ، فمَن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأشياء ، وذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته وعاقل ، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته ، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه، وعقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه ، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه ، فثبت أنّ علمه تعالى بجميع الأشياء حاصل في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه، سواء كانت صوراً عقلية قائمة بذاته ، أو خارجة منفصلة عنها ، فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه ، والإجمالي بوجه ؛ وذلك لأنّ المعلومات على كثرتها وتفصيلها بحسب المعنى ، موجودة بوجود واحد بسيط ، ففي هذا المشهد الإلهي والمجلي الأَوّلي ينكشف ويتجلّى الكلّ من حيث لا كثرة فيها ، فهو الكلّ في وحدة .
ثمّ قال بعد كلام طويل : فإن قلت فإذا ثبت كون الأشياء كلّها معقولةً له تعالى ـ كما هي عليها ـ بعقل واحد بسيط فما الحاجة في علمه تعالى إلى إثبات الصور العقلية الزائدة مقارنةً كانت أو مباينة ؟ وأيضاً إذا كان ذاته تعالى بحيث ينكشف له الحقائق المتخالفة في وجودها الخارجي ، فما الحجّة على إثبات العقل من طريق أحدية المبدأ الأعلى ؟ إذ مبناه على أنّه واحد من كل وجه بلا اختلاف حيثية ، وأنتم أثبتم في ذاته معاني كثيرة .
قلت : أمّا إثبات الصور فهو لازم من تعقّله لذاته المستلزم لتعقّل ما هو معلوله القريب ، ومَن تعقّل معلوله تعقّل معلول معلوله الثالث ، وهكذا الرابع والخامس إلى الآخر المعلولات على الترتيب العلّي والمعلولي ؛ فإنّ ذاته لمّا كان علّةً للأشياء بحسب وجودها ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها على الوجه الذي هو معلولها ، فتعقّلها من هذه الجهة لابدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد ، وهذا غير تعقّلها على وجه لا يكون هو بحسبه معلولة .
وأمّا وجوب كون المعلول الأَوّل واحداً لا متعدّداً وبسيطاً لا مركّباً ، مع كون المبدأ الأعلى مصداقاً ومظهراً لماهيّات الممكنات كلها ، فذلك ؛ لأجل أنّ تكثّر العنوانات لا يقدح في أحدية ذات الموضوع ؛ فإنّ الحيثيات المختلفة التي توجب كثرة في الذات ، هي الحيثيات التي اختلافها بحسب الوجود ، لا التي تعدّدها واختلافها بحسب الآثار .
فمثال الأَوّل كالاختلاف في القوّة والفعل ، والتقدّم والتأخّر ، والعلّية والمعلولية ، والتحريك والتحرّك .
ومثال القسم الثاني كالعلم والقدرة ، وكالعاقلية والمعقولية ، وكالوجود والتشخّص وغيرها . انتهى كلامه .
أقول : هذه النظرية وإن كان مبنيّة على أصالة الوجود ووحدته ، إلاّ أنّ العمدة في طريقها هي القاعدة القائلة ، بأنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء ، كما صرّح به نفسه ؛ وحيث إنّ القاعدة المذكورة عندنا ضعيفة الأركان منهدمة الأساس ، فقد سقط هذا المسلك أيضاً بلا كلام ...
ثمّ إنّا لو أغمضنا النظر عن هذه الناحية ، وفرضنا المقدمات صحيحةً لَما ترتّبت عليها هذه النتيجة ؛ وذلك لأنّ اندكاك الأشياء فيه تعالى ليس بنحو التعيين والتمييز ، وإلاّ للزم الكثرة فيه ، كما صرّح هو به أيضاً ، بل بنحو حذف حدودها وتشخّصاتها ، ومن الواضح أنّ العلم بمثل هذا الوجود الجمعي الفاقد للميزات ، لا يستلزم العلم بالأشياء تفصيلاً ، كما تخيّله المستدل ، بل لا يُستشمّ منه رائحة التفصيل ، فإنّه علم إجمالي تعلّق بأُصول الموجودات ، تعلّقاً في غاية الإجمال،
وشدّة الإبهام ، ونهاية الإهمال ، كما اعترف به اللاهيجي أيضاً حيث قال : بعد ما اختار هذا المسلك وبيّنه تحت عنوان ( تكميل عرشي ) : وهذا هو المراد من كون ذاته تعالى علماً إجمالياً بالأشياء ، وعقلاً بسيطاً لها على ما حصّلناه من كلام الشيخ ... إلى أن قال: فبالاضطرار لزم القول بالعقل التفصيلي المحقّق بحصول صور المهيات في العاقل ، متميّزةً بعضها عن بعض ، وعن الوجود في علمه تعالى بالأشياء ، وهذا العِلمان هما المشار إليهما بالكلّ الأَوّل والكلّ الثاني في كلام الفارابي في الفصوص(8) ... إلخ فهذا المسلك أيضاً غير مفيد .
هداية :
بعد ما بطل هذان المسلكان ولم يتمّا ، فلا تتمنّ الوصول إلى الواقع عن بقيّة المسالك الدائرة في بيان علمه بالأشياء أزلاً ، وكيفية تعلّقه بها : ( چون نديدند حقيقت ره افسانه زدند ) ، فالذي ينبغي أن يقال في هذا المقام : إنّا قد برهنّا سابقاً على أنّ فعل الفاعل المختار مسبوق بالعلم بالضرورة ، فإذن نعلم أنّ الذي خلق هذه الكائنات المختلفة المتعدّدة المتكثرة عالم قطعاً ، وإمّا خلق ما خلق عن علم سابق على خلقته بالضرورة العقلية ، فقد ثبت أنّه تعالى كان عالماً قبل فعله وخلقه بما يفعله ويخلقه ، ولو بلحظة ثبوتاً بتّياً ضرورياً عقلاً ، بحيث لا يمسّه شك ، فإذا أمكن العلم قبل المعلوم ولو بلحظة فقد أمكن قبله ولو بملايين السنين ؛ بداهة عدم تأثير قصر المدّة وطولها في الحكم العقلي من الإمكان والامتناع ؛ لأنّ الشيء إن كان ممكناً فهو ممكن أزلاً وأبداً ، وإن كان ممتنعاً فهو ممتنع كذلك ، ولا يعقل انقلاب الجهات الثلاث عقلاً واتّفاقاً ، فإذن نستيقن أنّ العلم بالأشياء قبل كونها ولو بقليل ثابت ، وبكثير ممكن ، وقد دريت أنّ ما أمكن في حقّه ، ولم يمتنع عليه ، فهو واجب له ، فنستنتج أنّه تعالى عالم بجميع الأشياء تفصيلاً في الأزل.
ولك أن تحصّل النتيجة المذكورة من دون توسيط قاعدة الملازمة المزبورة ، بأن تقول : حيث إنّه تعالى فاعل مختار ، فهو عالم بفعله قبل فعله كما مرّ ، وحينئذٍ نسأل عن حين حدوث هذا العلم ؟ وأنّه في أي جزء من الزمان أو غيره حدث ؟ فأي جزء اختير فيه حدوث علمه فهو ترجيح بلا مرجّح ، بل ترجّح بلا مرجّح ، وهو ضروري الاستحالة ؛ أو يقال : إنّ العلم عين ذاته ... ، فلا يمكن القول بحدوثه فيما لا يزال ، بل وجب الإذعان بثبوته فيما لم يزل .
وحاصل هذه الطرق الثلاثة ـ أي قاعدة الملازمة ، وحديث الترجّح بلا مرجّح ، وقانون العينية ـ أنّ جميع ما يصدر عن الخلاّق الحكيم المختار ، وما سيصدر عنه تعالى إلى الأبد فهو معلوم ومنكشف له تعالى من الأزل .
وأمّا كيفية هذا العلم ونحو تعلّقه بالأشياء فهي خارجة عن طاقة البشر ؛ وذلك لأنّ الممكن محدود والواجب غير محدود ، وهيهات أن يحيط المحدود بمَن هو خارج عن الحد والتناهي اتّفاقاً وبرهاناً ... ، فالممكن لا يدرك حقيقة الواجب الوجود باتّفاق الفلاسفة والمتكلّمين (9) ، وبدلالة العقل وهداية الشرع، والمفروض أنّ علمه عين ذاته ، فلا يمكن لنا الوصول إلى كيفية تعلّقه بالأشياء ، فالذي يمكن للعقل هو الإذعان بأنّه تعالى عالم بالأشياء أزلاً ... ، وأمّا أنّه كيف علم الأشياء مع أنّه لا وجود لها ؟ فهو أمر خارج عن وِسعنا ؛ لأنّا ما أُوتينا من العلم إلاّ قليلاً، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
نعم كلّ دون صفاته تعبير اللغات ، وضلّ هنالك تصاريف الصفات ، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير .
ثمّ إنّ هذا الدليل لا يثبت لنا تعلّق علمه بالممكنات التي لا تقع إلى الأبد كما في قوله تعالى : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، ولا بالملازمات الواقعية كما في قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، ولا بامتناع الممتنعات التي لم يعلم غيره ، وأمّا ما علمه غيره فهو يعلمه ؛ لأنّه الخالق للصور المذكورة في مشعر غيره ، وليس عدم إثبات تعلّق علمه تعالى بهذه الموارد الثلاثة من قصور طريقنا وحده ، بل المسلكان المتقدّمان أيضاً لا يثبتانه أيضاً كما هو ظاهر ، بل ما اخترعوه من العلم التفصيلي حضورياً كان ـ كما عليه الإشراقيون ـ أو حصولياً ـ كما عليه المشّاؤون ـ أيضاً لا يشمل هذه الموارد ، فلابدّ لإثبات ذلك من التماس قاعدة الملازمة ابتداءً ، أو الاعتماد على دلالة الشرع وحدها .
وهنا طريق آخر يمكن أن يفضي بنا إلى المطلوب ، وهو ما تقدّم من عدم اقتضاء الممكن للوجود والعدم ، واستواء ماهيّته بالنسبة إليهما وفقر وجوده ، فهو محتاج في عدمه إلى غيره ، كما يحتاج إليه في وجوده ، ومن هذا ينقدح أنّ الله المختار عالم بالأشياء الممكنة، سواء وقعت في الخارج أم لم تقع ، فإنّه هو الذي اختار عدمها على وجودها ، ولم يرد طرف وجودها في أَوّل ظروف إمكانها .
وبالجملة : عدم الأشياء مستند إلى عدم إرادته تعالى لوجوداتها ، وإرادة إيجادها تابعة لعلمه بالمصلحة ، فيكون عدم إرادته من جهة علمه بعدم المصلحة ، فهو عالم بكل شيء أزلاً .
وهذا الدليل أخصر وأعم ، أمّا الأخصرية فهي ظاهرة (10) ، وأمّا الأعميّة ؛ فلشموله الممكنات غير الواقعة في دار الوجود أصلاً فتأمّل فيه .
هذا كله من ناحية حكم العقل ، وأمّا من جهة الشرع فإليك نبذة ممّا ورد منه في الكتاب والسُنة :
أمّا الكتاب العزيز ففيه آيات بيّنات :
فمنها قوله تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } [الأنعام: 73] بناءً على تفسير الغيب بما لم يكن كما في الرواية ، لا بما هو الموجود الحاضر ، الغايب عن مشاعرنا .
ومنها قوله : {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34].
ومنها قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
ومنها قوله : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28].
ومنها قوله : {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
ومنها قوله : {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2، 3] ومثلها غيرها .
وأمّا الروايات فنُقل بعضها المذكور في الكافي ، وتوحيد الصدوق رحمه الله ، وقد نقلها المجلسي رحمه الله أيضاً .
1 ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر ( عليه السلام ) قال : سمعته يقول : ( كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل عالماً بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه ) .
2 ـ رواية الحسين بن بشّار عن الرضا ( عليه السلام ) قال : سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن، أن لو كان كيف يكون ، أو لا يعلم إلاّ ما يكون ؟ فقال : ( إنّ الله تعالى هو العالِم بالأشياء قبل كون الأشياء ، قال عزّ وجل : {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وقال لأهل النار : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا} [الأنعام: 28] فقد علم الله عزّ وجل أنّه لو ردّهم لعادوا لِما نهوا عنه ، وقال للملائكة لمّا قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] فلم يزل الله عزّ وجل علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها ، فتبارك ربّنا وتعالى علوّاً كبيراً ، خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء ، كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيراً ) (11) .
3 ـ رواية فتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن ( عليه السلام ) ، قال : قلت له : يعلم القديم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ؟ قال : ( ويحك أنّ مسألتك لصعبة أَما سمعت الله يقول : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقوله : {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]وقال يحكي قول أهل النار {ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وقال : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] فقد علم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ... ) إلخ .
4 ـ رواية ابن حازم عن الصادق ( عليه السلام ) ، قال : قلت له : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، أليس كان في علم الله ؟ قال : ( بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض ) .
5 ـ روايته الأخرى عنه (عليه السلام ) ، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله عزّ وجل ؟ قال : ( لا ، بل كان في علمه قبل أن يُنشئ السماوات والأرض ) .
6 ـ رواية صفوان بن مسكان ، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الله تعالى : أَكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان ، أم علمه عندما خلقه وبعد ما خلقه ؟ فقال : ( تعالى الله ، بل لم يزل عالماً بالمكان قبل تكوينه ، كعلمه به بعدما كوّنه ، وكذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان ) .
7 ـ رواية الهروي عن الرضا ، قال ( عليه السلام ) في جواب المأمون السائل عن قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]: ( إنّه عزّ وجل خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته وعبادته ، لا على سبيل الامتحان والتجربة ؛ لأنّه لم يزل عليماً بكل شيء ) .
8 ـ رواية فضيل بن سكرة ، حيث قال أبو جعفر ( عليه السلام ) في جواب مَن سأله عن علمه بذاته قبل خلقه : ( ما زال الله عالماً تبارك وتعالى ذِكره ) .
9 ـ مكاتبة أيوب بن نوح ، أنّه كتب إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) يسأله عن الله عزّ وجل : أكان يعلم الأشياء قبل أن يخلق الأشياء وكونها ، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عندما خلق وما كوّن عندما كوّن ؟ فوقع بخطه ( عليه السلام ) : ( لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء ) .
10 ـ رواية ابن حازم قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : ( لا ، مَن قال هذا فأخزاه الله . قلت : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله ؟ قال : بلى قبل أن يخلق الخلق ) .
11 ـ رواية أبي هشام الجعفري المروية عن الخرائج حيث قال أبو محمد ( عليه السلام ): ( تعالى الجبّار الحاكم العالم بالأشياء قبل كونها ) .
12 ـ ما رواه الشيخ الطوسي قدّس سره في كتاب الغيبة ، عن سعد عن عيسى عن البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : ( قال : علي بن الحسين ، وعلي بن أبي طالب قبله ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ( عليهم السلام ) : كيف لنا بالحديث مع هذه الآية { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] فأمّا مَن قال بأنّ الله لا يعلم الشيء إلاّ بعد كونه ، فقد كفر وخرج عن التوحيد ) .
13 ـ رواية أبي بصير وسماعة عن الصادق ( عليه السلام ) ، كما عن إكمال الدين ، قال : ( مَن زعم أنّ الله عزّ وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس ، فابرؤوا منه ) .
14 ـ رواية هشام بن الحكم ، كما في الاحتجاج ، سأل الزنديق عن الصادق ( عليه السلام ) فقال : فلم يزل صانع العالم عالماً بالأحداث التي أحدثها قبل أن يحدثها ؟ قال : ( لم يزل يعلم فخلق ) (12) .
هذه جملة من الأخبار الواردة من أصحاب الحكمة والعصمة ، في هذه المسألة ممّا ذكرته لك ، ومن المعلوم أنّ مثل هذه الروايات أكثر من ذلك كما يجدها المتتبع ، ثمّ إنّ هنا روايات أُخر تدلّ على المطلوب ، وإليك فهرسها مجملاً :
الطائفة الأُولى : بعض ما ورد في موضوع البداء ، فلاحظ الجزء الرابع من بحار الأنوار وغيرها .
الطائفة الثانية : ما ورد من أنّ علمه عين ذاته ، وأنّه علم لا جهل فيه ، كما ستقف عليها في المقصد الرابع .
الطائفة الثالثة : ما دلّ على علم الأئمة بالأُمور الآتية ، وهي لعلّها بنفسها متواترة ...
الطائفة الرابعة : ما ورد في اللوح المحفوظ ، وأنّ الله كتب جميع الوقايع فيه أَوّلاً .
الطائفة الخامسة : ما ورد في الشقاوة والسعادة ، وما يكتب عند ولوج الروح في الجنين .
فقد ثبت من جميع ذلك ثبوتاً قطعياً بتيّاً ، أنّ السُنّة تنطق بعلمه تعالى بالأشياء أزلاً (13)، ثمّ إنّ من وراء العقل ، والقرآن ، والسنة ، الضرورة المذهبية أو الإسلامية ، قال الشيخ المفيد (14): أقول : إنّ الله عالم بكلّ ما يكون قبل كونه ، وأنّه لا حادث إلاّ وقد علمه قبل حدوثه ، ولا معلوم وممكن أن يكون معلوماً إلاّ وهو عالم بحقيقته ... وبهذا قضت دلائل العقول ، والكتاب المسطور ، والأخبار المتواترة عن آل الرسول ، وهو مذهب جميع الإمامية ... ومعنا فيما ذهبنا إليه في هذا الباب جميع المنتسبين إلى التوحيد ، سوى الجهم بن صفوان من المجبّرة ، وهشام بن عمر القوطي من المعتزلة ، فإنّهما كانا يزعمان أنّ العلم لا يتعلّق بالمعدوم ، ولا يقع إلاّ على موجود ، وأنّ الله تعالى لو علم الأشياء قبل كونها لَما حسن منه الامتحان .
وقال العلاّمة المجلسي : (15) ثمّ اعلم أنّ من ضروريات المذهب كونه تعالى عالماً أزلاً وأبداً ، بجميع الأشياء كليّاتها وجزئياتها ، من غير تغيّر في علمه تعالى ، ثمّ نقل بعض مذاهب الفلاسفة في علمه تعالى ، فأعقبه بقوله : وجميع هذه المذاهب الباطلة كفر صريح مخالف لضرورة العقل والدين ... إلخ .
فإذن ، لا دغدغة في المسألة ، فإنّها ممّا توافق عليه العقل والشرع ، كما قرّرناه بأوضح التقرير.
_______________________
(1) البحار 4 / 92.
(2) نقله العلاّمة المجلسي قدّس سره في بحار الأنوار 14 / 59.
(3) البحار 4 / 72.
(4) گوهر مراد / 195.
(5) الشوارق ، أواخر المجلد الثاني .
(6) الوافي 1 / 77.
(7) الوافي 1 / 98.
(8) الشوارق 2 / 251.
(9) وما نُسب إلى القوم الثاني أو جمع منهم ـ من إمكان معرفة ذاته ـ غير ثابت .
(10) هذا بناءً على إمكان أزلية الممكن ، وأمّا بناءً على عدمه فالدليل يحتاج إلى أحد الطرق الثلاثة المتقدمة كما لا يخفى .
(11) لاحظ البحار 4 / 78.
(12) البحار 4 / 67.
(13) قال بعض مَن في قلبه مرض في مختصر تحفة الاثني عشرية : قالت الشيطانية ـ وهم أتباع شيطان الطاق ـ : إنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل كونها ، وجماعة من الاثنا عشرية ، من متقدّميهم ومتأخّريهم منهم المقداد صاحب كنز العرفان قالوا : إنّ الله لا يعرف الجزئيات قبل وقوعها .
أقول : وقد عرفت مذهب الإمامية بأسرهم في عموم تعلّق علمه بالأشياء أزلاً ، ولا قائل من الإمامية بما افتراه أحد ، وإنّما هو قول غيرنا من العامّة وغيرهم ، فلعنة الله على الكاذبين .
ومؤمن الطاق رجل حاذق ، من أجلاّء متكلّمي الإمامية ، وأصحاب الصادق ( عليه السلام ) ، وليس له فِرقة وحزب خاصّ ، كما تخيّله هذا القائل تقليداً للشهرستاني وغيرها .
(14) أوائل المقالات / 21.
(15) بحار الأنوار 4 / 87.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|