أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2016
928
التاريخ: 10-8-2016
666
التاريخ: 4-9-2016
680
التاريخ: 2-9-2016
557
|
بعد أن آمن الانسان بالله والاسلام والشريعة وعرف أنه مسؤول بحكم كونه عبدا لله تعالى عن إمتثال أحكام الله تعالى، يصبح ملزما بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الإسلامية، ومدعوا بحكم عقله إلى بناء كل تصرفاته الخاصة علاقاته مع الافراد الآخرين على أساسها، أي اتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة بوصفه عبدا للمشرع سبحانه الذي أنزل الشريعة على رسوله.
ولأجل هذا كان لزاما على الانسان أن يعين الموقف العملي الذي تفرضه هذه التبعية عليه في كل شأن من شؤون الحياة ويحدده، فهل يفعل أو يترك ? وهل يتصرف بهذه الطريقة أو بتلك؟. ولو كانت أحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها في كل الاحداث والوقائع واضحة وضوحا كاملا بديهي للجميع، لكان تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة أمرا ميسورا لكل أحد، لان كل انسان يعرف أن الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة في الواجبات هو أن يفعل وفي المحرمات هو أن يترك وفي المباحات هو أنه بالخيار إن شاء فعل وان شاء ترك . فلو كانت الواجبات والمحرمات وسائر الاحكام الشرعية محددة ومعلومة بصورة عامة وبدهية لكان الموقف العملي المحتم على الانسان بحكم تبعيته للشريعة واضحا في كل واقعة، ولما احتاج تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة إلى بحث علمي ودراسة واسعة.
ولكن عوامل عديدة - منها بعدنا الزمني عن عصر التشريع - أدت إلى عدم وضوح عدد كبير من أحكام الشريعة واكتنافها بالغموض.
فنشأ نتيجة لذلك غموض في الموقف العملي الذى تفرضه على الانسان تبعيته تجاه الشريعة في كثير من الوقائع والاحداث، لان الانسان إذا لم يعلم نوع الحكم الذي تقرره الشريعة في واقعة ما أهو وجوب أو حرمة أو إباحة فسوف لن يعرف طبيعة الموقف العملي الذي يتحتم عليه أن يتخذه تجاه الشريعة في تلك الواقعة بحكم تبعيته للشريعة. وعلى هذا الاساس كان من الضروري أن يوضع علم يتولى رفع الغموض عن الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة بإقامة الدليل على تعيين الموقف العملي الذي تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة وتحديده. وهكذا كان، فقد أنشئ علم الفقه للقيام بهذه المهمة، فهو يشتمل على تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا. والفقيه في علم الفقه يمارس إقامة الدليل على تعيين الموقف العملي في كل حدث من أحداث الحياة وناحية من مناحيها، وهذا ما نطلق عليه في المصطلح العلمي اسم عملية استنباط الحكم الشرعي ، فاستنباط الحكم الشرعي في واقعة معناه إقامة الدليل على تحديد الموقف العملي للإنسان تجاه الشريعة في تلك الواقعة، أي تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا. ونعني بالموقف العملي تجاه الشريعة السلوك الذي يفرض على الانسان بجم تبعيته للشريعة أن يسلكه تجاهها لكي يفي بحقها ويكون تابعا مخلصا لها.
فعلم الفقه إذن هو العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كل واقعة، والموقف العملي من الشريعة الذي يقيم علم الفقه الدليل على تحديده، هو السلوك الذى تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة لكي يكون تابعا مخلصا لها وقائما بحقه ، وتحديد الموقف العملي بالدليل هو ما نعبر عنه ب عملية استنباط الحكم الشرعي .
ولأجل هذا يمكن القول بأن علم الفقه هو علم استنباط الاحكام الشرعية، أو علم عملية الاستنباط بتعبير آخر. وتحديد الموقف العملي بدليل يزيل الغموض الذي يكتنف الموقف، يتم في علم الفقه باسلوبين:
أحدهما الاسلوب غير المباشر، وهو تحديد الموقف العملي الذي تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي الذى قررته الشريعة في الواقعة وإقامة الدليل عليه، فيزول الغموض عن الحكم الشرعي وبالتالي يزول الغموض عن طبيعة الموقف العملي تجاه الشريعة فنحن إذا أقمنا الدليل على أن الحكم الشرعي في واقعة ما هو الوجوب استطعن أن نعرف ما هو الموقف الذي تحتم تبعيتنا للشريعة أن نقفه تجاهها وهو أن نفعل .
والاسلوب الآخر لتحديد الموقف العملي هو الاسلوب المباشر الذى يقام فيه الدليل على تحديد الموقف العملي لا عن طريق اكتشاف الحكم الشرعي الثابت في الواقعة - كما في الاسلوب الاول، بل يقام الدليل على تحديد الموقف العملي مباشرة، وذلك في حالة ما إذا عجزنا عن اكتشاف نوع الحكم الشرعي الثابت في الواقعة وإقامة الدليل على ذلك فلم ندر ما هو نوع الحكم الذي جاءت به الشريعة، أهو وجوب أو حرمة أو إباحة ؟ ففي هذه الحالة لا يمكن استعمال الاسلوب الاول لعدم توفر الدليل على نوع الحكم الشرعي، بل يجب أن نلجأ إلى أدلة تحدد الموقف العملي بصورة مباشرة وتوجهنا كيف نفعل ونتصرف في هذه الحالة؟ وأي موقف عملي نتخذ تجاه الحكم الشرعي المجهول الذي لم نتمكن من اكتشافه؟ وما هو السلوك الذي تحتم تبعيتنا للشريعة أن نسلكه تجاهه لكي نقوم بحق التعبية ونكون تابعين مخلصين وغير مقصرين؟. وفي كلا الاسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه إستنباط الحكم الشرعي، أي يحدد بالدليل الموقف العملي تجاه الشريعة بصورة غير مباشرة أو مباشرة. ويتسع علم الفقه لعمليات استنباط كثيرة بقدر الوقائع والاحداث التي تزخر بها حياة الانسان، فكل واقعة لها عملية استنباط لحكمها يمارس الفقيه فيها أحد ذينك الاسلوبين المتقدمين.
وعمليات الاستنباط تلك التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعددها وتنوعها تشترك في عناصر موحدة وقواعد عامة تدخل فيها على تعددها. وتنوعها، ويتشكل من مجموع تلك العناصر المشتركة الاساس العام لعملية الاستنباط. وقد تطلبت هذه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علم خاص بها لدراستها وتحديده وتهيئتها لعلم الفقه، فكان علم الاصول.
تعريف علم الاصول: وعلى هذا الاساس نرى أن يعرف علم الاصول بأنه العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي .
ولكي نستوعب هذا التعريف بفهم يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟. ولنذكر - لأجل ذلك - نماذج بدائية من هذه العملية في صيغ مختصرة، لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. أفرضوا أن فقيها واجه هذه الاسئلة :
1 - هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء؟
2 - هل يجب على الشخص إذا ورث مالا من أبيه أن يؤدي خمسه؟
3 - هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها؟
وأراد الفقيه ان يجيب على هذه الاسئلة، فانه سوف يجيب على السؤال الاول مثل نعم يحرم الارتماس على الصائم . ويستنبط الفقيه هذا الحكم الشرعي بالطريقة التالية:
قد دلت رواية يعقوب بن شعيب عن الامام الصادق عليه السلام على حرمة الارتماس على الصائم، فقد جاء: فيها إن الصادق (عليه السلام) قال: لا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم. والجملة بهذا التركيب تدل في العرف العام - أي لدى أبناء اللغة بصورة عامة - على الحرمة، وراوي النص يعقوب بن شعيب ثقة، والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذ أحيان ولكن الشارع أمرنا بعدم إتهام الثقة بالخطأ والشذوذ واعتبر روايته دليلا وأمرنا باتباعها، دون أن نعير احتمال الخطأ أو الشذوذ بالا.
والنتيجة هي أن الارتماس حرام على الصائم والمكلف ملزم بتركه في حالة الصوم بحكم تبعيته للشريعة. ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي، أي لا يجب على الولد أن يدفع الخمس من تركة أبيه، لان رواية علي بن مهزيار التي حدد فيها الامام الصادق (عليه السلام) نطاق الاموال التي يجب أداء الخمس منها، ذكرت ان الخمس ثابت في الميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن.
والعرف العام يفهم من هذه الجملة أن الشارع لم يجعل خمسا على الميراث الذى ينتقل من الاب إلى ابنه ، والرواي وان كان من المحتمل وقوعه في خطأ أو شذوذ بالرغم من وثاقته، ولكن الشارع أمرنا باتباع روايات الثقات والتجاوز عن احتمال الخط والشذوذ، فالمكلف إذن غير ملزم بحكم تبعيته للشريعة بدفع خمس المال الذي يرثه من أبيه. ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالإيجاب: القهقهة تبطل الصلاة بدليل رواية زرارة عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة.
والعرف العام يفهم من النقض أن الصلاة إذا وقعت فيه القهقهة اعتبرت لغوا ووجب استئنافها، وهذا يعني بطلانها. ورواية زرارة هي من تلك الروايات التي أمرنا الشارع باتباعها وجعله أدلة كاشفة، فيتحتم على المصلي بحكم تبعيته للشريعة أن يعيد صلاته، لان ذلك هو الموقف العملي الذي تتطلبه الشريعة منه.
وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أن الاحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبواب شتى، فالحكم الاول يرتبط بالصوم والصائم، والحكم الثاني يرتبط بالخمس والنظام المالي في الإسلام، والحكم الثالث يرتبط بالصلاة ويحدد بعض حدودها. كما نرى أيضا أن الادلة التي استند إليها الفقيه مختلفة، فبالنسبة إلى الحكم الاول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية علي بن مهزيار، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة. ولكل من الروايات الثلاث نصها. وتركيبه اللفظي الخاص الذي يجب أن يدرس بدقة ويحدد معناه، ولكن توجد في مقابل هذا التنوع وهذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعا: فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم النص (1)، فان الفقيه اعتمد في فهمه للنص في كل موقف على طريقة فهم العرف العام للنص، وذلك يعني أن العرف العام حجة ومرجع في تعيين مدلول اللفظ. وهذا ما يطلق عليه في علم الاصول اسم حجية الظهور (2) فحجية الظهور إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث. كذلك أيضا يوجد عنصر مشترك آخر، وهو أمر الشارع باتباع روايات الثقات، لان الفقيه في كل عملية من عمليات الاستنباط الثلاث كان يواجه نصا يرويه ثقة قد يحتمل فيه الخطأ والشذوذ لعدم كونه معصوما ولكنه تجاوز هذا الاحتمال وأخرجه من حسابه إستنادا إلى أمر الشارع باتباع روايات الثقات، وهو ما نطلق عليه اسم حجية الخبر . ومعنى هذا أن حجية الخبر عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث، ولولا هذا العنصر المشترك لما أمكن للفقيه أن يستنبط حرمة الارتماء في الموقف الاول، ولا عدم وجوب الخمس من رواية علي بن مهزيار في الموقف الثاني، ولا بطلان الصلاة بالقهقهة في الموقف الثالث. وهكذا نستنتج أن عمليات الاستنباط للأحكام في الفقه تشتمل على عناصر خاصة كما تشتمل على عناصر مشتركة، ونعني بالعناصر الخاصة تلك العناصر التي تتغير من مسألة إلى مسألة، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر خاص في عملية استنباط حرمة الارتماس، لانها لم تدخل في عمليات الاستنباط الاخرى، بل دخل بدلا عنها عناصر خاصة أخرى، كرواية علي بن مهزيار ورواية زرارة.
ونعني بالعناصر المشتركة القواعد العامة التي تدخل في عمليات استنباط أحكام عديدة على مواضيع مختلفة، كعنصر حجية الظهور وعنصر حجية الخبر.
وفي علم الاصول تدرس العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي لا يقتصر ارتباطها على مسألة فقهية خاصة بالذات. وفي علم الفقه تدرس العناصر الخاصة بكل عملية من عمليات الاستنباط في المسألة التي ترتبط بتلك العملية.
وهكذا يترك للفقيه في كل مسألة أن يفحص بدقة الروايات الخاصة التي ترتبط بتلك المسألة ويدرس قيمة تلك الروايات ويحاول فهم نصوصها وألفاظها على ضوء العرف العام. بينما يتناول الاصولي البحث عن حجية العرف العام بالذات والبحث عن حجية الخبر، ويطرح أسئلة ليجيب عليها من هذا القبيل. هل العرف العام حجة؟ وما هو مدى النطاق الذي يجب الرجوع فيه إلى العرف العام؟ وبأي دليل نثبت حجية الخبر؟ وما هي الشروط العامة في الخبر الذي منحه الشارع صفة الحجية واعتبره دليلا؟ إلى غير ذلك من الاسئلة التي تتصل بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط. وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم التعريف الذي أعطيناه لعلم الاصول، إذن : إن علم الاصول هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط أي إنه علم يبحث عن العناصر التي تدخل في عمليات استنباط متعددة لأحكام مواضيع متنوعة، كحجية الظهور العرفي وحجية الخبر، العنصرين المشتركين اللذين دخلا في استنباط أحكام الصوم والخمس والصلاة. ولا يحدد علم الاصول العناصر المشتركة فحسب، بل يحدد أيضا درجات استعمالها في عملية الاستنباط والعلاقة القائمة بينها، كما سنرى في البحوث المقبلة انشاء الله تعالى.
وبهذا يضع للعملية الاستنباطية نظامها العام الكامل. ونستخلص من ذلك أن علم الاصول وعلم الفقه مرتبطان معا باستنباط الحكم الشرعي، فعلم الفقه هو علم نفس عملية الاستنباط، وعلم الاصول علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. والفقيه يمارس في علم الفقه عملية استنباط الحكم الشرعي بإضافة العناصر الخاصة للعملية في البحث الفقهي إلى العناصر المشتركة التي يستمدها من علم الاصول، والاصولي يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويضعها في خدمة الفقيه.
موضوع علم الاصول: لكل علم - عادة - موضع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله وتستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالات وقوانين، فالفيزياء مثل موضعها الطبيعة، وبحوث الفيزياء ترتبط كلها بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالته وقوانينها العامة. والنحو موضوعه الكلمة، لانه يبحث عن حالات إعرابها وبنائه ورفعها ونصبها، فما هو موضوع علم الاصول الذى يتوفر هذا العلم على دراسته وتدور بحوثه حوله؟.
ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدمناه لعلم الاصول استطعنا أن نعرف أن علم الاصول يدرس في الحقيقة نفس عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه في علم الفقه، وتتعلق بحوثه كلها بتدقيق هذه العملية وإبراز ما فيها من عناصر مشتركة، وعلى هذا الاساس تكون عملية الاستنباط هي موضوع علم الاصول باعتباره علما يدرس العناصر المشتركة التي تدخل في تلك العملية من قبيل حجية الظهور العرفي وحجية الخبر.
علم الاصول منطق الفقه: ولابد ان معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدم علم المنطق كمثال لعلم الاصول، فإن علم المنطق - كما تعلمون - يدرس في الحقيقة عملية التفكير، مهما كان لونها ومجالها وحقلها العلمي، ويحدد النظام العام الذي يجب أن تتبعه عملية التفكير لكي يكون التفكير سليما.
مثلا : يعلمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه عملية تفكير لكي يكون الاستدلال صحيحا ؟ كيف نستدل على أن سقراط فان؟ وكيف نستدل على أن نار الموقد الموضوع امامي محرقة ؟ وكيف نستدل على أن مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين؟ وكيف نستدل على أن الخط الممتد بدون نهاية مستحيل؟ وكيف نستدل على أن الخسوف ينتج عن توسط الارض بين الشمس والقمر ؟. كل هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامة للاستدلال، كالقياس والاستقراء التي تطبق في مختلف هذه الحقول من المعرفة، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقا، إذ يضع المناهج والعناصر العامة فيها.
وعلم الاصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية، غير أنه يبحث عن نوع خاص من عملية التفكير، أي عن عملية التفكير الفقهي في استنباط الاحكام، ويدرس العناصر المشتركة العامة التي يجب أن تستوعبها عملية الاستنباط ، وتتكيف وفقا لها، لكي يكون الاستنباط سليما والفقيه موفقا في استنتاجه. فهو يعلمنا: كيف يجب أن ننهج في استنباط الحكم الشرعي؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم؟ كيف نستنبط الحكم باعتصام ماء الكر؟ كيف نستنبط الحكم بوجوب صلاة العيد؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة تنجيس المسجد؟ كيف نستنبط الحكم ببطلان البيع الصادر عن إكراه؟. كل هذا يوضحه علم الاصول بوضع المناهج العامة لعملية الاستنباط والكشف عن عناصرها المشتركة.
وعلى هذا الاساس قد نطلق على علم الاصول اسم منطق علم الفقه لأنه يلعب بالنسبة إلى علم الفقه دورا ايجابيا مماثلا للدور الايجابي الذي يؤديه علم المنطق للعلوم والفكر البشري بصورة عامة، فهو على هذا الاساس منطق علم الفقه أو منطق عملية الاستنباط بتعبير آخر. ونستخلص من ذلك كله أن علم الفقه هو العلم بعملية الاستنباط، وعلم الاصول هو منطق تلك العملية الذي يبرز عناصرها المشتركة ونظامه العام الذي يجب على علم الفقه الاعتماد عليه.
أهمية علم الاصول في عملية الاستنباط : ولسنا بعد ذلك بحاجة إلى التأكيد على أهمية علم الاصول وخطورة دوره في عالم الاستنباط ، لأنه ما دام يقدم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة يضع لها نظامها العام، فهو عصب الحياة في عملية الاستنباط والقوة الموجهة، وبدون علم الاصول يواجه الشخص في الفقه ركاما متناثرا من النصوص والادلة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط كإنسان يواجه أدوات النجارة ويعطى منشارا وفاسا وما اليهما من أدوات دون أن يملك أفكارا عامة عن عملية النجارة وطريقة استخدام تلك الادوات. وكما أن العناصر المشتركة في الاستنباط التي يدرسه علم الاصول ضرورية لعملية الاستنباط، فكذلك العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى اخرى، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة التي تشكل العناصر الخاصة والمتغيرة في علمية الاستنباط، فأنها الجزء الضروري الآخر فيها الذي لا تتم العملية بدونه، ول يكفي في إنجاحها مجرد الاطلاع على العناصر المشتركة التي يمثلها علم الاصول واستيعابها.
ومن يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الاصولي فحسب نظير من يملك معلومات نظرية عامة عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما اليهما من أدوات النجارة، فكما يعجز هذا الشخص عن وضع سرير خشبي مثلا فكذلك يعجز الاصولي عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقة العناصر الخاصة المتغيرة. وهكذا نعرف أن العناصر المشتركة والعناصر الخاصة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط ولا غنى للعملية عنهم معا، ولهذا يتحتم على المستنبط أن يدرس العناصر المشتركة في علم الاصول ثم يضيف إليها في بحوث علم الفقه العناصر الخاصة لتكتمل لدية عملية الاستنباط التي يمارسها في علم الفقه.
الاصول والفقه يمثلان النظرية والتطبيق: ونخشى أن نكون قد أوحينا اليكم بتصور خاطئ، حين قلنا ان المستنبط يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة ويحدده ويتناول في بحوث علم الفقه العناصر الخاصة ليكمل بذلك عملية الاستنباط ، إذ قد يتصور البعض أنا إذا درسنا في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط . وعرفنا مثلا حجية الخبر وحجية الظهور العرفي وما اليهما من العناصر الاصولية فلا يبقى علينا بعد ذلك أي جهد علمي، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر الا إلى مجرد استخراج الروايات والنصوص من مواضعها، نظير من يستخرج تاريخ غزوة خيبر أو روايات الهجرة من تاريخ السيرة النبوية، وبهذا يكون عمل الفقيه في علم الفقه مقتصرا على مجرد التفتيش عن العناصر الخاصة من الروايات والنصوص، لكي تضاف إلى العناصر المشتركة ويستنبط منها الحكم الشرعي، وهو عمل سهل يسير بطبيعته لا يشتمل على جهد علمي، ونتيجة ذلك أن الجهد العلمي الذي يبذله المجتهد في عملية الاستنباط يتمثل في وضع العناصر المشتركة وتنظيمها ودراستها في علم الاصول، لا في جمع العناصر الخاصة من النصوص والروايات وغيرها في علم الفقه، ولكن هذا التصور خاطئ إلى درجة كبيرة! ، لان المجتهد إذا درس العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحددها في علم الاصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميع أعمى للعناصر الخاصة من كتب الاحاديث والروايات مثلا، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها العامة على العناصر الخاصة. والتطبيق مهمة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى درس وتمحيص، ولا يغني الجهد العلمي المبذول أصوليا في دراسة العناصر المشتركة وتحديد نظرياتها العامة عن بذل جهد جديد في التطبيق. ولا نستطيع الآن أن نضرب الامثلة المتنوعة لتوضيح دقة التطبيق، لان فهم الامثلة يتوقف على اطلاع مسبق على النظريات الاصولية العامة. ولهذا نكتفي بمثال واحد بسيط، فنفرض أن المجتهد آمن في علم الاصول بحجية الظهور العرفي بوصفه عنصرا مشتركا في عملية الاستنباط، فهل يكفيه بعد هذا أن يضع اصبعه على رواية علي بن مهزيار التي حددت مجالات الخمس مثلا، ليضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الاب؟ أو ليس المجتهد بحاجة إلى تدقيق مدلول النص في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كل ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفي من قرائن وأمارات داخل أطار النص أو خارجه، لكي يتمكن بأمانة من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي؟
فهناك إذن بعد اكتشاف العنصر المشترك والايمان بحجية الظهور، مشكلة تعيين نوع الظهور في النص ودراسة جميع ملابساته، حتى إذا تأكد المجتهد من تعيين الظهور في النص ودلالته على عدم وجوب الخمس في الميراث، طبق على النص النظرية العامة التي يقررها العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي، واستنتج من ذلك أن الحكم الشرعي هو عدم وجوب الخمس. وفي هذا الضوء نعرف أن البحث الفقهي عن العناصر الخاصة في عملية الاستنباط ليس مجرد عملية تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريات العامة التي تقررها العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وتطبيق النظريات العامة له دائما موهبته الخاصة ودقته، ومجرد الدقة في النظريات العامة لا يغني عن الدقة في تطبيقها.
ألا ترون أن من يدرس بعمق النظريات العامة في الطب يحتاج في مجال تطبيقها على حالة مرضية إلى دقة وانتباه كامل وتفكير في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه؟ فالبحث الاصولي عن العناصر المشتركة وما تقرره من نظريات عامة يشابه بحث العالم الطبيب عن النظريات العامة في الطب، ودراسة الفقيه للعناصر الخاصة في مجال تطبيق تلك النظريات العامة من قبيل دراسة الطبيب لحالات المريض في مجال تطبيق النظريات العامة في الطب عليه، وكما قد يحتاج الطبيب إلى قدر كبير من الدقة والجهد لكي يوفق لتطبيق تلك النظريات العامة على مريضه تطبيقا صحيحا يمكنه من شفائه، فكذلك الفقه بعد أن يخرج من دراسة علم الاصول بالعناصر المشتركة والنظريات العامة ويواجه مسألة في نطاق البحث الفقهي من مسائل الخمس أو الصوم أو غيرهما، فهو يحتاج أيضا إلى دقة وتفكير في طريقة تطبيق تلك العناصر المشتركة على العناصر الخاصة بالمسألة تطبيقا صحيحا. وهكذا نعرف أن علم الاصول الذي يمثل العناصر المشتركة هو علم النظريات العامة ، وعلم الفقه الذي يشتمل على العناصر الخاصة هو علم تطبيق تلك النظريات في مجال العناصر الخاصة ، ولكل منهما دقته وجهده العلمي الخاص.
واستنباط الحكم الشرعي هو نتيجة مزج النظرية بالتطبيق، أي العناصر المشتركة بالعناصر الخاصة، وعملية المزج هذه هي عملية الاستنباط، والدقة في وضع النظريات العامة لا تغني عن الدقة في تطبيقها خلال عملية الاستنباط. وقد أشار الشهيد الثاني إلى أهمية التطبيق الفقهي وما يتطلبه من دقة إذ كتب في قواعده يقول: نعم يشترط مع ذلك - أي مع وضع النظريات العامة أن تكون له قوة يتمكن بها من رد الفروع إلى أصولها واستنباطه منها، وهذه هي العمدة في هذا الباب... وإنما تلك القوة بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهله مدخل عظيم في تحصيله .
التفاعل بين الفكر الاصولي والفكر الفقهي : عرفنا أن علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه، والعلاقة بينهما علاقة النظرية بالتطبيق، لان علم الاصول يمارس وضع النظريات العامة عن طريق تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وعلم الفقه يمارس تطبيق تلك النظريات والعناصر المشتركة على العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى أخرى. وهذا الترابط الوثيق بين علم الاصول وعلم الفقه يفسر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الاصولية ومستوى البحث العلمي على صعيد النظريات من ناحية، وبين الذهنية الفقهية ومستوى البحث العلمي على صعيد التطبيق من ناحية أخرى، لان توسع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوة إلى الامام، لأنه يثير أمامها مشاكل ويضطرها إلى وضع النظريات العامة لحلولها، كما أن دقة البحث في النظريات تنعكس على صيد التطبيق، إذ كلما كانت النظريات أدق تطلبت طريقة تطبيقها دقة وعمقا واستيعابا أكبر. وهذا التفاعل المتبادل بين الذهنيتين والمستويين الفكريين لعلم الاصول وعلم الفقه يؤكده تاريخ العلمين على طول الخط، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مر بها البحث الفقهي والبحث الاصولي في تاريخ العلم فقد كان علم الاصول يتسع ويثري تدريجا تبعا لتوسع البحث الفقهي، لان اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة وتتخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الاصول. كما أن تدقيق العناصر المشتركة في علم الاصول وتحديد حدودها بشكل صارم كان ينعكس على مجال التطبيق، إذ كلما كانت النظريات العامة موضوعة في صيغ أكثر صرامة وبدقة أكبر، كانت أكثر غموضا وتطلبت في مجال التطبيق التفاتا أكبر وانتباها أكمل.
ولا نستطيع الآن - ونحن في الحلقة الاولى - أن نقدم النماذج من العلمين على هذا التفاعل، لان الطالب لا يملك حتى الآن خبرة واسعة ببحوث علم الاصول، ولكن يكفينا أن يعرف الطالب الآن أن التفاعل بين البحث الفقهي والبحث الاصولي هو مصداق لخط عريض يعبر عن التفاعل المتبادل في كثير من الاحايين بين بحوث النظرية وبحوث تطبيقها. أو ليس ممارسة العالم الطبيب لتطبيق النظريات على مرضاه في نطاق واسع يوحي إليه بمشاكل جديدة باستمرار، فيتولى بحث النظريات العامة العلمية في الطب حل تلك المشاكل، ويتعمق تدريجا وينعكس بالتالي على التطبيق؟ إذ كلما ازداد الرصيد النظري للطبيب أصبح التطبيق بالنسبة إليه عمل واسعا. وكلنا نعلم أن طبيب الامس كان يكتفي في مجال التطبيق بإحصاء نبض المريض فينتهي عمله في لحظات، بينما يظل طبيب اليوم يدرس حالة المريض في عملية معقدة واسعة النطاق. ونفس ظاهرة التفاعل المتبادل بين الفكر الفقهي والفكر الاصولي الذي يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى الفقه، نجدها بين الفكر العلمي إطلاقا والفكر المنطقي العامي الذي يدرس النظام الاساسي للتفكير البشري، إذ كلما اتسع نطاق المعرفة البشرية وتنوعت مجالاتها تجددت مشاكل في مناهج الاستدلال والنظام العام للفكر، فيتولى المنطق تذليل تلك المشاكل وتطوير نظرياته وتكميلها بالشكل الذي يحتفظ لنفسه بقوة التوجيه والتنظيم العليا للفكر البشري. وعلى أي حال فإن فكرة التفاعل هذه سواء كانت بين علم الفقه ومنطقه الخاص المتمثل في الاصول، أو بين العلوم كلها ومنطقه العام، أو بين بحث أي نظرية وبحث تطبيقها، تحتاج إلى توضيح وشرح أوسع. ولا نستهدف الآن من الاشارة إلى الفكرة إلا أن ينفتح ذهن الطالب لها ولو على سبيل الاجمال.
نماذج من الاسئلة التي يجيب عليها علم الاصول: ويحسن بنا أن نقدم قائمة تشتمل على نماذج من الاسئلة التي يعتبر الجواب عليها من وظيفة علم الاصول، لنجسد بذلك للطالب الذي لا يملك الآن خبرة ببحوث هذا العلم أهمية الدور الذي يلعبه علم الاصول في عملية الاستنباط :
1 - ما هو الدليل على حجية خبر الثقة؟ 2 - لماذا يجب أن نفسر النص الشرعي على ضوء العرف العام؟ 3 - ماذا نصنع في مسألة إذا لم نجد فيها دليلا يكشف عن نوع الحكم الشرعي فيها؟. 4 - ما هي قيمة الاكثرية في المسألة الفقهية؟ وهل يكتسب الرأي طابعا شرعيا ملزما بالقبول إذا كان القائلون به أكثر عددا. 5 - كيف نتصرف إذ واجهنا نصين لا يتفق مدلول أحدهما مع مدلول الآخر؟ 6 - ما هو الموقف إذا كنا على يقين بحكم شرعي معين ثم شككنا في استمراره؟ 7 - ما هي الالفاظ التي تدل مباشرة على الوجوب والالزام؟ وهل يعتبر منها فعل الامر، من قبيل : اغتسل، توضأ ، صل؟. إلى عشرات من الاسئلة التي يتولى علم الاصول الجواب عليها، ويحدد بذلك العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، ويملا كل الثغرات التي يمكن أن تواجه الفقيه في عملية استنباطه للحكم الشرعي.
______________
(1) نريد بالنص هنا الكلام المنقول عن المعصوم عليه السلام.
(2) الحجية في مصطلح علم الاصول تعني كون الدليل صالحا لاحتجاج المولى به على العبد بقصد مؤاخذته إذا لم يعمل العبد به، ولاحتجاج العبد به على المولى بقصد التخليص من العقاب إذا عمل به. فكل دليل له هذه الصلاحية من كلتا الناحيتين يعتبر حجة في المصطلح الاصولي، وظهور كلام المولى من هذا القبيل، ولهذا يوصف بالحجية.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|