أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-07-2015
1998
التاريخ: 21-3-2018
837
التاريخ: 28-3-2018
1064
التاريخ: 29-3-2018
910
|
[ وسيتم طرحهُ البرهان من خلال اربعة تقارير ]
التقرير الأول : يبتني برهان النَّظم على مقدمات أربع :
الأولى : إِنَّ وراء الذهن الإِنساني عالماً مليئاً بالموجودات ، محتفاً بالظواهر الطبيعية. و إِنَّ ما يتصوره الإِنسان في ذهنه هو انعكاس للواقع الخارجي ، و هذه المقدمة قد أطبق عليها الإِلهيّ والماديّ رافضَيْن كل فكرة قامت على نفي الواقعية ولجأت إلى المثالية ، بمعنى نفي الحقائق الخارجية.
إِنَّ كل إِنسان واقعي يعتقد بأَنَّ هناك قمراً و شمساً و بحراً و محيطاً وغير ذلك. كما يعتقد بوجوده ، و ذهنه والصور المنعكسة فيه ، وهذه هي الخطوة الأُولى في مضمار معرفة الله ، وهي التصديق بالواقعيات. و يشترك فيها الفلاسفة الواقعيون ، دون المثاليين بمعنى الخياليين.
وبذلك يظهر أنَّ رمي الإِلهي بالمثالية بمعنى نفي الواقعيات ، افتراءٌ و كذبٌ عليه ، إِذ لا يوجد على أديم الأرض من يكون إِلهيا و في الوقت نفسه ينفي واقعيات الأَشياء و الظواهر الطبيعية. ولو وجد هناك إِنسان بهذه العقيدة فليس من تلك الزمرة ، و إِنما هو من المنحرفين عن الفطرة السليمة الإِنسانية.
... يحكى عن بعض العرفاء من أَنَّ الموجود الحقيقيّ هو الله سبحانه و ما سواه موجود بالمجاز، فله معنى لطيف لا يضرّ بما قلناه ، و هذا نظير ما إِذا كان هناك مصباح في ضوء الشمس، فيقال : إِنَّ الضوء ضوء الشمس ولا ضوء لغيرها ، فهكذا وجود الممكنات ، المفتقرات المتدليات بالذات ، بالنسبة إلى واجب الوجود القائم بالذات.
الثانية : إِنَّ عالم الطبيعة خاضع لنظام محدد ، و إِنَّ كل ما في الكون لا ينفك عن النّظم والسنن التي كشفت العلوم الطبيعية عن بعضها ، و كل ما تطورت هذه العلوم خطا الإِنسان خطوات أُخرى في معرفة الكون و القوانين السائدة عليه.
الثالثة : أصل العلية ، و المراد منه أنَّ كل ما في الكون من سنن و قوانين لا ينفكّ عن علة توجده و أنَّ تكون الشيء بلا مكوّن وتحققه بلا علة ، أمر محال لا يعترف به العقل ، بالفطرة ، و بالوجدان و البرهان. و على ذلك فكل الكون و ما فيه من نظم وعلل نتيجة علة أوجدته و كونته.
الرابعة : إِنَّ دلالة الأَثر تتجلى بصورتين :
أ ـ وجود الأَثر يدل على وجود المؤثر ، كدلالة المعلول على علّته ، والآية على صاحبها ، و قد نقل عن أَعرابي أَنَّه قال : « البعرة تدل على البعير ، و أَثر الأقدام يدل على المسير » ، إلى غير ذلك من الكلمات التي تقضي بها الفطرة. و هذه الدلالة مما لا يفترق فيها المادي و الإِلهي ، و إِنما المهمّ هو الصورة الثانية من الدَّلالة.
ب ـ إِنَّ دلالة الأَثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثر ، بل لها دلالة أُخرى في طول الدلالة الأُولى ، و هي الكشف عن خصوصيات المؤثر من عقله و علمه و شعوره ، أو تجرده من تلك الكمالات و الصفات و غيرها. و لنوضح ذلك بمثال :
إِنَّ كتاب « القانون » المؤلف في الطب ، كما له الدَّلالة الأُولى و هي وجود المؤثر ، له الدَّلالة الثانية و هي الكشف عن خصوصياته التي منها أَنَّه كان إنساناً خبيراً بأُصول الطب و قوانينه ، مطّلعاً على الدَّاء و الدَّواء ، عارفاً بالأَعشاب الطبية ، إلى غير ذلك من الخصوصيات.
والملحمة الكبيرة الحماسية لشاعر إيران (الفردوسي) لها دلالتان :
دلالة على أَنَّ تلك الملحمة لم تتحقق إلا بظل علَّة أَوجدتها ، و دلالة على أَنَّ المؤلف كان شاعراً حماسياً مطلعاً على القصص والتواريخ ، بارعاً في استعمال المعاني المتناسبة مع الملاحم. و مثل ذلك كل ما تمر به مما بقي من الحضارات الموروثة كالأبنية الأثرية ، و الكتب النفيسة ، و الصنائع المستظرفة اليدوية و المعامل الكبيرة و الصغيرة ، إلى غير ذلك مما يقع في مرأى و منظر كل إِنسان. فالمهم في هذا الباب هو عدم الإِقتصار على الدلالة الأُولى بل التركيز على الدلالة الثانية بوجه علمي دقيق.
وعلى ضوء هذه القاعدة يقف العقل على الخصوصيات الحافة بالعلة ، و يستكشف الوضع السائد عليها ، و يقضي بوضوح بأَنَّ الأَعمال التي تمتاز بالنظام و المحاسبة الدقيقة ، لا بد أَنْ تكون حصيلة فاعل عاقل ، إستطاع بدقته أن يوجد أثره و عمله ، هذا.
كما يقضي بأنَّ الأَعمال التي لا تُراعَى فيها الدّقة اللازمة و النظام الصحيح ، تكون ناشئة عن عمل عامل غير عاقل ، و فاعل بلا شعور و لا تفكير ، فهذا ما يصل إليه العقل السليم بدرايته. و لتوضيح الحال نأتي بالمثالين التاليين :
المثال الأول : لنفترض أَنَّ هنا مخزناً حاوياً لأطنان عدة من مواد البناء بما فيها الحجر و الحديد و الإِسمنت و الجص و الخشب و الزجاج و الأَسلاك و الأنابيب و غيرها من لوازم البناء ، ثم وضع نصف ما في هذا المخزن تحت تصرف أَحد المهندسين أَو المعماريين ، لينشئ به عمارة ذات طوابق متعددة على أَرض منبسطة.
وبعد فترة من الزمن جاء سيل جارف و جرف ما تبقى في المخزن من مواد الإِنشاء و تركها على شكل تل على وجه الأرض.
إِنَّ العمل الأَول (العمارة) قد نتج عن عمل و إِرادة مهندس عالم.
أَمَّا الثَّاني (التل) فقد حدث بالفعل الطبيعي للسيل من دون إِرادة و شعور.
فالعقلاء بمختلف مراتبهم و قومياتهم و عصورهم يحكمون بعقلانية صانع العمارة ، و مدى قوة إِبداعه في البناء ، من وضعه الأعمدة في أَماكنها المناسبة و إِكسائه الجدران بالمرمر ، و نصبه الأَبواب في مواضعها الخاصة ، و مدّه الأَسلاك و أَنابيب المياه الحارة و الباردة و وصلها بالحمامات و المغاسل ، و غير ذلك مما يتبع هندسة خاصة ودقيقة.
ولكن عندما نخرج إلى الصحراء كي نشاهد ما صنعه السيل ، فغاية ما نراه هو انعدام النَّظام و الترتيب فالحجر و المرمر قد اندثر تحت الطين و التراب ، و القضبان الحديدية قد طرحت إلى جانب ، و الأَسلاك تراها مقطعة بين قطعات الآجرّ ، و الأَبواب مرمية هنا و هناك ، و غير ذلك من معالم الفوضى و التبعثر. و بشكل عام ، إِنَّ المعدوم من هذا الحشد هو النظام و المحاسبة ، إِذ لا هندسة و لا تدبّر.
فالذي يُستنتج أنَّ المؤسس للبناء ذو عقل و حكمة ، و المُحْدِث للتل فاقد لهما ، فالمهندس ذو إِرادة والسيل فاقد لها، والأَول نتاج عقل وعلم ، والثاني نتاج تدفق الماء وحركته العمياء.
المثال الثاني : لنفترض أنَّنا دخلنا إلى غرفة فيها شخصان كل منهما جالس أمام آلة طابعة يريدان تحرير قصيدة لأحد الشعراء فالأول يحسن القراءة و الكتابة ، و يعرف مواضع الحروف من الآلة و الآخر أمّي لا يجيد سوى الضغط بأصابعه على الأزرار ، فيشرعان بعملهما في لحظة واحدة.
الذي نلاحظه أنَّ الأول دقيق في عمله يضرب بأصابعه حسب الحروف الواردة في القصيدة دون أن يسقط حرفاً أو كلمة منها.
وأَمَّا الآخر ، الأُمي البصير ، فيضرب على الآلة دون علم أَو هدىً و لا يستطيع أَنْ يميز العين من الغين ، و السين من الشين : ونتيجة عمله ليست إِلاّ الهباء و إِتلاف الأَوراق ، و لا يأتي بشيء مما أَردناه :
فنتاج الأول محصول كاتب متعلّم ، و نتاج الثاني محصول جاهل لا علم له و لا خبرة و لو أُعطي المجال للألوف ممن كف بصرهم و حرموا لذة العلم و التعلم أَنْ يحرروا نسخة صحيحة من ملايين النسخ التي يحررونها لاستحال ذلك ، لأَنهم يفقدون ما هو العمدة و الأَساس.
ولعلَّنا نشاهد في كل جزء من هذا الكون مثل تلك الصفحة التي حررت فيها قصيدة الشاعر و ترانا ملزمين بالاعتراف بعلم و معرفة و حسن أُسلوب كاتبها و نجزم بأَنه بصير لم يكن فاقداً للعلم ، و لم يكن فعله مشابهاً لفعل صبي رأى نفسه في غرفة خالية ، فطرق في خياله أَنْ يلهو و يلعب على آلة طابعة كي ينتج تلك الصفحة من قصيدة الشاعر.
وبعد ذكر الأَمثلة المتقدّمة يتَّضح لنا الفرق بين الأعمال التي تصدر عن إِرادة و تدبّر ، و التي تحدث عن طريق الصدفة ، إِذ لا إرادة فيها و لا تدبر.
وهذه القاعدة التي يدركها العقل (لا بفضل التجربة بل في ضل التفكر و التعقل) هي روح برهان النَّظم الذي هو من أَوضح براهين الإِلهيين في إِثبات الصانع و رفض الإِلحاد و المادية ، و اشملها لجميع الطبقات. و ملخص بيانهم في تطبيق هذه المقدمة على العالم ، هو أَنَّ العلم لم يزل يتقدم و يكشف عن الرموز و السنن الموجودة في عالم المادة و الطبيعة و العلوم كلها بشتى أَقسامها و أَصنافها و تشعبها و تفرعها تهدف إلى أمر واحد و هو أَنَّ العالم الذي نعيش فيه ، من الذرة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أَدق الأَنظمة و الضوابط.
فما هي تلك العِلَّة؟
أقول : إنها تتردد بين شيئين لا غير. الأول : إنَّ هناك موجوداً خارجاً عن إطار المادة عالماً قادراً واجداً للكمال و الجمال ، قام بإيجاد المادة و تصويرها بأدق السنن ، و تنظيمها بقوانين و ضوابط دقيقة ، فهو بفضل علمه الوسيع وقدرته اللامتناهية ، أوجد العالم و أجرى فيه القوانين ، و أضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهداً في كشفها ، و مستغرقاً في تدوينها ، وهذا المؤثر الجميل ذو العِلم و القدرة هو الله سبحانه.
الثاني : إِنَّ المادة الصَّماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة ، و ليست مسبوقة بالعدم ، قامت بنفسها بإِجراء القوانين الدقيقة ، وأَضفت على نفسها السُّنن القويمة في ظل إِنفعالات غير متناهية حدثت في داخلها و انتهت على مر القرون و الأَجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أَدهش العقول و أبهر العيون.
إِذا عرضنا هاتين النظريتين على المقدمة الرابعة لبرهان النظم ، وهي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما ، فلا شك أنها ستدعم أُولاهما و تبطل ثانيتهما لما عرفت من أنَّ الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول والأَثر ، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر و العلّة ، فالسّنن و النُّظم تكشف عن المحاسبة والدقة ، وهي تلازم العِلْم و الشعور في العلَّة ، فكيف تكون المادة العمياء الصمَّاء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السُّنن والنُّظم؟.
وعلى ضوء ذلك فالسُّنن والنُّظم ، التي لم يتوفق العلم إِلا لكشف أَقل القليل منها ، تثبت النظرية الأولى و هي احتضان العلَّة و اكتنافها للشعور و العِلْم و ما يناسبهما ، و تبطل النظرية الثانية و هي قيام المادة الصَّماء العمياء بإِضفاء السُّنن على نفسها بلا محاسبة و دقة بتخيل أَنَّ انفعالات كثيرة ، حادثة في صميم المادة ، انتهت إلى ذاك النظام المبهر تحت عنوان « الصدفة » أو غيرها من الصراعات الداخلية التي تلوكها أَلسنة الماركسيين.
وعلى ذلك فكل علم من العلوم الكونية ، التي تبحث عن المادة و خصوصياتها و تكشف عن سننها وقوانينها ، كعملة واحدة لها وجهان ، فمن جانب يعرّف المادة بخصوصياتها ، ومن جانب آخر يعرّف موجدها وصانعها. فالعالم الطبيعي ينظر إلى واحد من الوجهين كما أَنَّ العارف ينظر إلى الجهة الأخرى والعالم الربّاني ينظر إلى كلتا الجهتين و يجعل الأُولى ذريعة للثانية. و بهذا نستنتج أنَّ العلوم الطبيعية كلها في رحاب إثبات المقدمة الرَّابعة لبرهان النظم ، وأَنَّ اكتمال العلوم يعين ذلك البرهان بأوضح الوجوه وأدقّ الطرق ، وأَنَّ الإِعتقاد بالصانع العالم القادر يصاحب العِلْم في جميع العصور والأَزمان.
وفي الختام نركز على نقطتين :
الأُولى : إِنَّ القرآن الكريم مليء بلفظة « الآية » و « الآيات » ، فعندما يسرد نُظُم الطبيعة و سُنَنَها ، و يعرض عجائب العالم وغرائبه ، يعقبه بقوله :
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 11] أو { يَذَّكَّرُونَ} [النحل: 13] أَو { يَعْقِلُونَ} [النحل: 67] إلى غير ذلك من الكلمات الحاثة على التفكر و التدبر ، و هذه الآيات تعرض برهان النَّظم بأوضح أشكاله على لسان الفطرة ، بدلالة آيوية - الآيوية : منسوب إلى الآية ، و هي دلالة خاصة إبتكرها القرآن الكريم وراء سائر الدلالات التي كشف عنها المنطقيون في أبحاثهم العلمية ، و المراد من الدلالة الآيوية هو ما ركَّزنا عليه من أَنَّ التعمق في الأَثر و التدبر في خصوصياته ، يهدينا إلى وجود المؤثر وخواصه ، ففي تلك الدلالة ، الآية ملموسة و محسوسة ، وإِنْ كان ذو الآية غير محسوس و لا ملموس.- مشعرة بأَنَّ التفكر في هذه السنن ... والنظم المحيَّرة يكشف بوضوح عن أَنَّ جاعلها موجود ، عالم قادر ، بصير و من المحال أَنْ تقوم المادة الصمّاء العمياء بذلك. و لأجل أَنْ يقف القارئ الكريم على بعض هذه الآيات نشير إلى ما ورد في سورة النحل في هذا المضمار :
1 ـ قوله سبحانه : { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 11]
2 ـ قوله سبحانه : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل: 13]
3 ـ قوله سبحانه : {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65] ـ
4.قوله سبحانه : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67]
5 ـ قوله سبحانه : {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69].
الثانية : إِنَّ برهان النَّظم و إِنْ كان يعتمد على مقدمات أَربع غير أَنَّ الثلاثة الأُول مما اتفق فيه جميع العقلاء إلاّ شذّاذ الآفاق من المثاليين المنكرين للحقائق الخارجية. و إِنما المهم هو التركيز على توضيح المقدمة الرابعة باستعانة من العلوم الطبيعية و الفلكية و غيرها التي تعد روحاً و أَساساً لتلك المقدمة. و في هذا المضمار نجد كلمات بديعة لخبراء العلم من المخترعين و المكتشفين : يقول « كلودم هزاوي » مصمم العقل الإِلكتروني : طلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية ، تستطيع أَنْ تحل الفرضيات و المعادلات المعقدة ذات البعدين ، و استفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات و اللوازم الالكتروميكانيكية ، و كان نتاج عملي وسعيي هذا هو « العقل الالكتروني ».
وبعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل ، و تحمل شتّى المصاعب و أَنا أَسعى لصنع جهاز صغير،يصعب عليَّ أن أتقبل هذه الفكرة و هي أَنَّ الجهاز هذا ، يمكن أَنْ يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم.
إِنَّ عالمنا مملوء بالأَجهزة المستقلة لذاتها و المتعلقة بغيرها في الوقت ذاته ، و تعتبر كل واحدة منها أَعقد بكثير من العقل الإِلكتروني الذي صنعته ، و إِذا استلزم أَنْ يكون للعقل الالكتروني هذا مصمم فكيف يمكننا إِذن أَنْ ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة و أعمال فيزيائية و تفاعلات كيميائية ، فلا بد من وجود مصمّم حكيم خالق لهذا الكون و الذي أنا جزء حقير منه (1).
والعجب من الفرضية التي يعتمد عليها الماديون خلفاً عن سلف ، و يقولون بأنّ الإِنفعالات اللامتناهية اللاشعورية انتهت صدفة إلى هذا النظام البديع.
يقول البروفسور « أَدوين كونكلين » في حق هذه النظرية : إِنَّ هذا الإِفتراض لا يختلف عن قولنا : « اِنَّ قاموساً لغوياً ضخماً أَنتجته المطبعة إِثْر انفجار فيها ».
إِنَّ نظام الكون الدقيق يجعل العلماء يتنبأون بحركة السيارات و الأَقمار الفلكية ، و التعبير عن الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية.
إِنَّ وجود هذا النظام في الكون بدلا من الفوضى ، لدليل واضح على أَنَّ هذه الحوادث تجري وفق قواعد و أسس معينة و أنّ هناك قوة عاقلة ، مهيمنة عليه ، و لا يستطيع كل من أوتي حظاً من العقل أَنْ يعتقد بأَنَّ هذه المادَّة الجامدة الفاقدة للحس و الشعور ـ و في إِثْر الصدفة العمياء ـ قد منحت نفسها النظام ، و بقيت و لا تزال محافظة عليه (2).
التقرير الثاني لبرهان النظم:
التقرير السابق لبرهان النَّظم كان يعتمد على ملاحظة كل ظاهرة مادية ، مستقلة و منفصلة عن سائر الظواهر ، فالنظام السائد على الخلية منفصلا عن سائر الظواهر ، كان محل البحث والنظر.
ومثله سائر الظواهر المادية ذات الأَنظمة البديعة كحركة الشمس و القمر وغيرها ، غير أَنَّه يمكن تقرير هذا البرهان بشكل آخر يعتمد على الإِنسجام السائد على العالم ، والإِتصال البديع بين أَجزائه فيستدل بالإِنسجام و الإِتصال على أَنَّ ذاك النظام المتصل المنسجم إِبداع عقل كبير وعلم واسع ، ولولا وجوده لما تحقق ذلك النظام المعجب المتصل المتناسق.
إِنَّ الأبحاث العلمية كشفت عن الإِتصال الوثيق بين جميع أَجزاء العالم و تأثير الكل في الكل ، حتى أَنَّ صفصفة أَوراق الشجر غير منقطعة عن الريح العاصف في أقاصي بقاع الأرض وحتى أَنَّ النجوم البعيدة التي تحسب مسافاتها بالسنين الضوئية ، مؤثرة في حياة النبات و الحيوان و الإِنسان ، وهذا الإِنسجام الوثيق ، الذي جعل العالم كمعمل كبير يشدّ بعضه بعضاً ، أَدل دليل على تدخل عقل كبير في إِبداعه وإِيجاده بحيث جعل الكل منسجماً مع الكل.
وبعبارة واضحة ، إِنَّ الضبط والتوازن في الكون السائدين على الطبيعة أَوضح دليل على تدخل عقل كبير في طروئهما ، و لأجل أن تتبين ملامح هذا التقريب نأْتي بالأَمثلة التالية :
1 ـ إِنَّ حياة كل نبات تعتمد على مقدار صغير من غاز ثاني أوكسيد الكاربون ، الذي يتجزأ بواسطة أَوراق هذا النبات إلى كاربون و أوكسجين ، ثم يحتفظ النبات بالكاربون ليصنع منه و من غيره من المواد ، الفواكه و الأَثمار و الأَزهار و يلفظ الأوكسجين الذي نستنشقه في عملية الشهيق والزفير الأساسية في حياة الإِنسان.
ولو أَنَّ الحيوانات لم تقم بوظيفتها في دفع ثاني أو كسيد الكاربون ، أو لم يلفظ النبات الأوكسجين ، لا نقلب التوازن في الطبيعة و استنفذت الحياة الحيوانية ، أو النباتية كل الأوكسجين أو كل ثاني أوكسيد الكاربون ، وذوى النبات و مات الإِنسان.
فمن ذا الذي أَقام مثل هذه العلاقة بين النبات و الحيوان و أَوجد هذا النظام التبادلي بين هذين العالمين المتباينين؟ أَلا يدل ذلك على وجود فاعل مدبر وراء ظواهر الطبيعة هو الذي أَقام مثل هذا التوازن؟.
2 ـ منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبَّار في أوستراليا كسياج وقائي ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة واسعة وزاحم أَهالي المدن و القرى ، و أتلف مزارعهم و لم يجد الأَهالي وسيلة لصده عن الإِنتشار و صارت أوستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت ، يتقدم في سبيله دون عائق!!.
وطاف علماء الحشرات في أرجاء المعمورة إلى أَنْ وجدوا أَخيراً حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبار ، ولا تتغذى بغيره وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدو يعوقها في أوستراليا و ما لبثت هذه الحشرة أَنْ تغلب على الصبار ، ثم تراجعت و لم يبق منها سوى بقية للوقاية تكفي لصد الصبار عن الإِنتشار إلى الأَبد (3).
فكيف عرفت هذه الحشرة أَنَّ عليها أَنْ تقضي على الزائد من الصبار و تكف عن الباقي لتحفظ أَشجار الصبار على توازنها فلا تطغى على الأَشياء الأُخرى؟ أَلا يكشف هذا التوازن و الضبط عن خالق مدبر حكيم؟.
3 ـ كان ملاّحُو السفن الكبيرة في العهود الماضية يصابون بمرض الأسقربوط (و هو من أَمراض سوء التغذية و ينشأ عن نقص فيتامين (ث)) ، ولكن أحد الرحالة اكتشف دواءً بسيطاً لذلك المرض و هو عصير الليمون ، ترى من أَين نشأت هذه العلاقة بين الفواكه التي تحوي فيتامين (ث) وهذا المرض ، ألا يدل ذلك على أَنَّ خالق الداء خلق الدواء المناسب له ، و لولا هذا التوازن لعمّت الكارثة وانعدم النوع الإِنساني وغاب كليا عن وجه البسيطة؟.
4 ـ عندما نزل المهاجرون الأولون أوستراليا و استقروا فيها ، استوردوا اثني عشر زوجاً من الأرانب وأطلقوها هناك ، و لم يكن لهذه الأَرانب أَعداء طبيعيون في أوستراليا ، فتكاثرت بشكل مذهل ، مما تسبب بإِحداث أَضرار بالغة بالأَعشاب و الحشائش ، ولم تنفع المحاولات الكثيرة لتقليل نسل هذه الأَرانب حتى اكتشف فيروس خاص يسبب مرضاً قاتلا لها ، فعادت المروج الخضراء يانعة ، وزاد على أَثر ذلك إِنتاج الأغنام و المواشي.
أليس هذا التوازن الدقيق المبرمج في مظاهر الطبيعة و الذي يؤدي أَي تخلخل فيه إلى أَضرار بالغة، دليلا قاطعاً على وجود الخالق الخبير والإِله المدبر وراء الطبيعة؟
5 ـ الماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمد ، و لهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد ، بدلا من أَنْ يغوص إلى قاع المحيطات و البحيرات و الأَنهار ، ويكون تدريجياً كتلة صلبة لا سبيل إلى إخراجها و إذابتها. والجليد الذي يطفو على سطح البحر يكون طبقة عازلة تحفظ الماء تحتها عند درجة حرارة فوق درجة التجمد ، وبذلك تبقى الأسماك و غيرها من الحيوانات المائية حية ، فإِذا جاء الربيع ذاب الجليد بسرعة و بلا عائق.
فهل يمكن إِعزاء كل هذا الضبط والدقة في المقاييس والنسب إلى فعل المادة الصمَّاء العمياء البكماء ، والحال إِنَّه يكشف عن تدبير وحساب ويحكي عن نظام متقن وعظيم و يدل على أَنَّ وراء كل ذلك خالقاً حكيماً هو الذي أَوجد هذا التوازن المدهش والضبط الدقيق.
أَجل إِنَّ ذلك التوازن وهذا الضبط يشهدان على دخالة الشعور والحكمة والعقل في إِدارة هذا العالم وتدبيره وتسييره وهي أمور لا تتوفر في الصدفة بل تتوفر في قوة عليا شاعرة هادفة تدرك مصلحة الكون واحتياجات الحياة إِدراكاً كاملا وشاملا ، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط والعلاقات.
التقرير الثالث لبرهان النظم :
النظرة الدقيقة في عالم الكون تهدينا إلى نظام خاص نسميه بنظام الخدمة ، بحيث نرى أنَّ أَنظمة خاصة في الكون جعلت في خدمة أَنظمة كونية أُخرى بحيث لا بقاء للثانية بدون الأُولى ، ولذلك نلاحظ صلة قويمة بين المظاهر المختلفة. فعندئذ يطرح السؤال التالي : إِنَّ هذه الكيفية الملموسة في عالم الكون كيف برزت في عالم الوجود؟
أَمِنْ ناحية الصدفة ، وهي أقل شأناً من أَنْ تبدع أَنظمة يكون قسم منها في خدمة القسم الآخر ، وهي عاجزة عن إِيجاد فرد بهذا الشكل الدقيق فكيف بهذه المجموعة الكبيرة؟.
أَمْ من ناحية « خاصية المادة » التي ربما يلتجئ إِليها بعض الماديين. وهي أَيضاً أَعجز عن القيام بالتفسير. فإِنَّ « فرضيّة الخاصية » تهدف إلى أَنَّ لكل خلية ، أَوْ لكل ذرة من الذرات أَثراً خاصاً ينتهي إلى موجود خاص و هو ذو نظام. وأَمَّا كون أنظمة كبيرة في خدمة أَنظمة مثلها فلا يمكن أَنْ يفسر بخاصية المادة ، فإِن هذا أثر المجموع لا أثر كل جزء من أجزاء المادة. ولنأتي بمثال : لا شك أنَّ لتكون المرأة والأجهزة التي خلقت بها عللا مادية تظهرها على صفحة الوجود ، فلها مع ثدييها والخصوصيات الحافَّة بها واللبن الذي يتكون في صدرها عللا مادية تنتهي إلى تلك الظواهر.
كما أَنَّ لتكون الطفل في رحمها وولادته على نحو يتناسب والخصوصيات القائمة بها و تكونه بفم خاص و مجاري تغذية خاصة تعتمد على اللبن فقط ، إِنَّ لكل ذلك عللا مادية لا تُنكر.
إِلا أَنَّ هناك أَمراً ثالثاً وهو كون المرأة بأجهزتها الماديّة في خدمة الظاهرة الثَّانية بعامة أجهزتها بحيث لولا الأُولى لما كان للثانية مجال العيش و إِدامة الحياة. فعندئذ نسأل عن هذه الكيفية التي سميناها بنظام الخدمة ، هي وليدة أَية علة؟ هل الصدفة جعلت الأولى وسيلة للثانية ، وهي عاجزة عن إِيجادها بهذه الكمية الهائلة ، ولو صح التفسير بها لصح في مولود أو مولودين لا في هذه المواليد غير المتناهية وغير المعدودة ، إِلاَّ بالأَرقام النجومية.
أو من ناحية خاصية المادة وهو إِذن عقيم ، لأن فرضية الخاصية ، على فرض صحتها ، تهدف إلى تفسير النظام الجزئي بخاصية المادة ، وأَمَّا تفسير الكمية من النُّظُم التي يقع بعضها في خدمة البعض بخاصية المادة فهو مما لا تفي به تلك الفرضية ، ولا يقول به أصحابها ، والإِنسجام والتخادم مما لا يمكن أَنْ يكون أَثراً لخلية واحدة أو نحوها.
إِنَّ العقل في هذا الموقف يقضي بوجه بات بأَنَّ هذا النظام وهذه الخصوصية وليدة مبدع عالم قادر قد نسّق هذه النُّظُم بأطروحة علمية ، و خريطة خاصة جعلت الظاهرة الأُولى ذريعة للثانية ، وأَوجد الأُولى قبل أَنْ يبدع الثانية بزمن ، وهذا ما نسميه بالهادفية ، وأنَّ الخلقة غير منفكَّة عن الهدف ، كما أنَّ القول به لا ينفك عن إِشراف مبدع عالم قادر على الكون و هو الذي يتبناه الإِلهيون باسم إِله العالم.
وبعبارة واضحة نرى أَنَّ يد القدرة والإِبداع قد هيَّأتْ قبل ولادة الطفل بأَعوام ، أَجهزة كثيرة يتوقف عليها عيش الطفل وحياته في مسير الحياة ، وتداركت ما يتوقف عليه حياة الطفل في أوليات عمره بوجه بديع ، وهذا أَوضح دليل على أنَّ الكون لا يخلو من هدف ، وأَنَّ مبدعه كان هادفاً. وهو لا ينفك عن تدخل الشعور ، ورفض الصدفة عن قاموس تفسير الكون وتحليله.
وكم ترى من نظائر بارزة وأَمثلة رائعة لهذا النوع من الهادفية في صفحة الكون طوينا عنها الكلام.
التقرير الرابع لبرهان النظم :
يمكن تقرير برهان النَّظم بصورة رابعة وليست هي دليلا مستقلا وإِنما هو اختلاف في التقرير ، فروح البرهان واحدة ، وصور التقرير مختلفة ، وهذا التقرير ما نسميه ب ـ « برهان حساب الإِحتمالات في نشأة الحياة ».
الحياة رهن قيود و شروط انَّ تكوّن الحياة فوق الأرض نتيجة اجتماع شروط عديدة يكون كل شرط منها بمثابة جزء علّة لوجود ظاهرة الحياة ، و تكون ظاهرة الحياة مستحيلة بفقدان واحد منها فضلا عن كثير منها أو جميعها، وهذه الشروط منها ما يرتبط بالفلك ، ومنها ما يرتبط بالهواء المحيط و الغازات ، ومنها ما يرتبط بالأرض و ما فيها من نبات و حيوان و جماد. وقد تكفلت العلوم الطبيعية بتبيين تلك الشروط ونحن في غنى عن سردها ، غير أَنَّا نقول : إِنَّ هذه الشروط من الكثرة إلى درجة يكون احتمال اجتماعها بالترتيب والنسق الذي يؤدي إلى استقرار ظاهرة الحياة عن طريق الصدفة ، احتمالا في مقابل ما لا يحصى من الإِحتمالات ، ويكون الإِحتمال في الظآلة على وجه لا يعتمد عليه. مثلا إِنَّ تحقق الحياة يحتاج إلى عوامل وأَسباب نشير إلى أَقل القليل منها:
1 ـ يحيط بالأَرض التي نعيش على متنها غلاف سميك من الغازات يسمى بالغلاف الجوي يبلغ سمكه ثمانمائة كيلومتر و هو بمثابة مظلة و اقية تصون الكرة الأَرضية من التعرض لخطر النيازك التي تنفصل يومياً من الكواكب و تتناثر في الفضاء منذ ما يقرب من عشرين مليوناً من السنين ولولا هذا الغلاف لسقطت على كل بقعة من الأَرض ملايين النيازك المحرقة.
2 ـ الأَرض تبعد عن الشمس مسافة 93 مليون ميلا ، ولأجل ذلك تكون الحرارة التي تصل إليها من الشمس بمقدار يلائم الحياة ، ويتناسب مع متطلباتها ، فلو زادت المسافة بين الشمس و الأرض على المقدار الحالي إلى الضعف مثلا لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس ، ولو نقصت هذه المسافة إلى النصف لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض الضعف ، وفي كلتا الصورتين تصير الحياة غير ممكنة.
3 ـ إِنَّ الهواء الذي نستنشقه مزيج من غازات شتى منها النيتروجين 78% و الأوكسيجين 21% ، فلو تغير المقدار وصارت نسبة الأُوكسيجين في الهواء 50% لتبدلت جميع المواد القابلة للإِشتعال إلى مواد محترقة ، و لبلغ الأَمر إلى درجة لو أَصابت شرارة غابة ، لأحرقت جميع ما فيها دون أَنْ تترك غصناً يابساً ، ولو تضاءلت نسبة الأُكسجين في الهواء وبلغت 10% لفقدنا أكثر العناصر التي تقوم عليها حضارتنا اليوم.
هذه نماذج من الشروط العديدة التي يتوقف عليها إِمكان الحياة في هذه الكرة ، وهي إلى درجة من الكثرة تكاد لا تعد فيها ولا تحصى. وعلى هذا الأَساس نرجع إلى صلب الموضوع فنقول : إِنَّ لظهور الحياة على وجه البسيطة عوامل ضرورية لا بدّ منها فإِذا ما فقدت عاملا من عواملها اللامتناهية انعدمت الحياة واستحال على الكائنات الحية استمرارها.
وعلى ذلك فإِنَّ فرض توفر هذه الشروط اللازمة المتناسقة ، بانفجار المادة العمياء بنحو الصدفة ، احتمال ضئيل لا يعتمد عليه ، لأن المادة الأولى عند انفجارها كانت تستطيع أن تظهر بما لا يحصى. من الصور المختلفة التي لا تستقر فيها الحياة إلاّ بصورة خاصة أو بحالة واحدة ، فعندئذ يتساءل كيف تفجّرت المادة الأولى بلا دخالة شعور وعقل واسع إلى هذه الصورة الخاصة التي تمكّن الحياة من الإِستقرار.
فلنأخذ من جميع الظواهر الحيوية حشرة صغيرة بما تحويه من ملايين العناصر المختلفة وقد ركبت بنسبها المعينة الخاصة. فبوسع المادة الأُولى أَنْ تظهر بأَشكال مختلفة غير صالحة لحياة الحشرة ، وإِنَّما الصالحة لها واحدة منها. وعندئذ نتساءل : كيف استطاعت المادة الأُولى عن طريق « الصدفة » ، من بين الصور الكثيرة الخضوع لصورة واحدة صالحة لحياتها؟!
وهذا البرهان هو البرهان المعروف في العلوم الرياضية بحساب الإِحتمالات ، و على توضيحه نأتي بمثال :
نفترض أَنَّ شخصاً بصيراً جالساً وراء آلة طابعة و يحاول بالضغط على الأزرار ، و عددها مائة بما فيها الحروف الصغيرة والكبيرة ، أَنْ يحرر قصيدة لشاعر معروف كقصيدة لبيد التي يقول فيها:
ألا كُلُّ شَيء مَا خلا الله باطلُ ... وَ كُلُّ نَعيم لا محالةَ زائلُ
فاحتمال أَنَّ الضربة الأُولى أَصابت صدفة الحرف الأَول من هذه القصيدة (أ) ، و الضربة الثانية أصابت كذلك الحرف الثاني منها (لا) ، و الضربة الثالثة أَصابت صدفة الحرف الثالث منها (كـ ) ، و هلم جرّاً ....هو احتمال في مقابل احتمالات كثيرة لا يمكن بيانها بالأرقام الرياضية المقروءة.
وإِنْ أرْدتَ تحصيل ذلك الرقم الرياضي فعليكَ أَنْ تضرب عدد حروف الآلة الطابعة في نفسها بقدر عدد حروف القصيدة المراد تحريرها ، فلو كانت حروف الآلة الطابعة مائة ، وعدد حروف البيت من القصيدة (38) فسوف يكون عدد الاحتمالات واحد أمامه (76) من الأصفار.
ولو أَضفنا إلى البيت الأول بيتاً آخر ، فإِنَّ احتمال تحرير هذين البيتين على يد صاحبنا الأعمى صدفة ، سيصل إلى عدد يقرب من الصفر.
ويستحيل على المفكر أَنْ يتقبل هذا الإِحتمال الضئيل ـ الذي هو المناسب لتحقق المراد ـ من بين تلك الإِحتمالات و الفرضيات الهائلة. وكل من يرى البيتين و قد حُرّرا بالآلة الطابعة و بصورة صحيحة ، يقطع بحكمة وعلم محررها. ولم تكن لتحدث عن طريق الصدفة العمياء.
هذا بالنسبة إلى قصيدة فكيف بالكون و الحياة الناشئين من اجتماع ملايين الملايين من الشرائط و العوامل بنسب معينة في غاية الإِتقان والدّقة ، فهل يصح لعاقل أَنْ يتفوه بأَنَّ هذه الشرائط للحياة تواجدت عند انفجار المادة الأُولى و تحققت صدفة من بين هذه الاحتمالات الكثيرة. و يعد الإِعتماد على هذا الإِحتمال ، رياضياً ، اعتماداً على صفر ، وفي ذلك يقول العلامة (كريسي موريسن) :
« إِنَّ حجم الكرة الأَرضية و بعدها عن الشمس ، و درجة الحرارة في الشمس ، و أَشعتها الباعثة للحياة ، و سمك قشرة الأَرض ، و كمية الماء ، ومقدار ثاني أوكسيد الكاربون ، وحجم النيتروجين ، وظهور الإِنسان وبقاءه على قيد الحياة كل هذه الأُمور تدل على خروج النظام من الفوضى (أَي إِنَّه نظام لا فوضى) ، وعلى التصميم و القصد. كما تدل على أنهـ طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة ـ ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة. كان يمكن أَنْ يحدث هكذا ، ولكن لم يحدث هذا بالتأكيد » (4).
وتقرير هذا البرهان و هذه الصورة الرياضية ، يدل على أنَّ برهان النَّظم يتماشى مع جميع العصور ، و يناسب جميع العقول والمستويات ، ولا ينحصر تقريره بصورة واحدة. و بهذا يعلم سر تركيز القرآن على ذاك البرهان، و في الآية التالية إشارات إليه. قال سبحانه : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] .
إشكال على برهان النظم :
اعترض الفيلسوف الإِنكليزي ديفيد هيوم (5) على برهان النَّظم بما حاصله أنَّ أساس برهان النَّظم ـ كما توهمه هيوم و فلاسفة الغرب ـ قائم على أنَّنا شاهدنا أنَّ جميع المصنوعات البشرية المنظَّمة لا تخلو من صانع ماهر ، فالبيت لا ينشأ بلا بنّاء ، والسفينة لا توجد بلا عمال ، فلا بدَّ للكون المنظّم من صانع خالق أيضاً لمشابهته بتلك المصنوعات البشرية.
ثم انتقد هذا الاستدلال بأَنَّه مبني على التَّشابه بين الكائنات الطبيعية، و المصنوعات البشرية. ولكن هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب و تعدية حكم أَحدهما إلى الآخر لاختلافهما ، فإِنَّ مصنوعات البشر موجود صناعي بينما الكون موجود طبيعي فهما صنفان لا تسانخ بينهما ، فكيف يمكن أَنْ نستكشف من أَحدهما حكم الآخر؟
وصحيح أنَّنا جرَّبنا مصنوعات البشر فوجدناها لا توجد إِلا بصانع عاقل ، و لكننا لم نجرّب ذلك في الكون ، فإِنَّ الكون لم يتكرر وجوده حتى يقف الإِنسان على كيفية خلقه و إِيجاده ، بل واجهه لأول مرة ، و بهذا لا يمكن أَنْ يثبت له علّة خالقة على غرار مصنوعات البشر إِلا إِذا جرّبه من قبل عشرات المرات ، و شهد عملية الخلق و التكوّن كما شاهد ذلك و جرَّبه في المصنوعات البشرية ، حتى يقف على أَنَّ الكون بما فيه من النّظام لا يمكن أَنْ يوجد من دون خالق عليم و صانع خبير. هذا هو محصل إِشكاله أَوردناه بغاية الوضوح.
إِنَّ ما ذكره من الإِشكال ينم عن فهم ساذج وسطحي للغاية لبرهان النَّظم ، و يعرب عن فقدان الغرب لمدرسة فلسفية متكاملة تدرك و تستوعب برهان النَّظم بصورته الصحيحة ،فأنَّ هذا البرهان لا يرتبط أَبداً بالتشابه و التمثيل و التجربة ، و إِنَّما هو برهان عقلي تام ، يحكم العقل فيه بعد ملاحظة طبيعة النظام و ماهيته بأَنَّه صادر من فاعل عاقل و خالق قدير.
توضيح ما ذكرناه أَنَّ برهان النَّظم ليس مبنياً على التشابه بين مصنوعات البشر و الموجود الطبيعي كما جاءَ في اعتراض « هيوم » ، حتى يقال بالفرق بين الصنفين ، و يقال هذا صناعي و ذاك طبيعي و لا يمكن إِسراء حكم الأَول إلى الثاني.
ولا على التماثل ـ الذي هو المِلاك في التجربة ـ حتى يقال إِنَّا جربنا ذلك في المصنوعات البشرية و لم نجرّبه في الكون لعدم تكرر وقوعه و عدم وقوفنا على تواجده مراراً ، فلا يصح سحب حكم الأَول على الثاني و تعديته إليه.
وإِنَّما هو قائم على ملاحظة العقل للنَّظم و التناسق و الانضباط بين أَجزاء الوجود ، فيحكم بما هو، من دون دخالة لأَية تجربة ومشابهة ، بأَنَّ موجد النَّظم لا محالة يكون موجوداً ذا عقل و شعور ، و إليك البيان :
إِنَّ برهان النَّظم مركَّب من مقدمتين ، إِحداهما حسّية و الأَخرى عقليَّة و دور الحسّ ينحصر في إِثبات الموضوع، أَيْ وجود النظام في الكون و السنن السائدة عليه ، و أَمَّا دور العقل فهو يرجع إلى أَنَّ هذا النّظام بالكيفيَّة و الكميَّة المحددة ، لا يمكن أنْ يكون نتيجة الصّدفة أَو أَيِّ عامل فاقد للشعور.
أَمّا الصغرى ، فلا تحتاج إلى البيان. فإِنَّ جميع العلوم الطبيعيَّة متكفلة ببيان النُّظُم البديعة السائدة على العالم من الذرة إلى المجرة ، و إِنَّما المهم هو بيان الكبرى ، و هي قضاء العقل بأَنه وليد دخالة عقل كبير في حدوثه من دون استعانة في حكمه بمسألة التشابه أَو التجربة. بل يستقل به مجرداً عن كل ذلك فنقول :
1 ـ الارتباط المنطقي بين النظام و دخالة الشعور :
إِنَّ العقل يحكم بوجود رابطة منطقية بين النظم و دخالة الشعور ، و ذلك لأَنَّ النظم ليس في الحقيقة إِلاّ أُمور ثلاثة:
1 ـ الترابط بين أَجزاء متنوعه مختلفة من حيث الكمية و الكيفية.
2 ـ ترتيبها و تنسيقها بنحو يمكن التعاون و التفاعل فيما بينها.
3 ـ الهادفية إلى غاية مطلوبة و متوخاة من ذلك الجهاز المنظم.
والنظام بهذا المعنى موجود في كل أَجزاء الكون من ذرته إلى مجرته ، فإذا نظر العقل في كل جوانب الكون ابتداءً من الذرة و مروراً بالإِنسان و الحيوان و النبات وانتهاءً بالنجوم و الكواكب و المجرّات و رأى فيها أجزاءً مختلفة في الكمية و الكيفية أَولا ، و منسقة و مرتبة بنحو خاص ثانياً ، ورأى كيف يتحقق بذلك الهدف المنشود من وجودها ثالثاً ، حكم من فوره بأَنَّ ذلك لا يمكن أَنْ يصدر إِلاّ من فاعل عاقل ، و خالق هادف شاعر ، يوجد الأجزاء المختلفة كمّاً و كيفاً ، و يرتبها و ينسّقها بحيث يمكن أَنْ تتفاعل فيما بينها و تتعاون لتحقيق الهدف المطلوب من وجودها.
وهذا الحكم الذي يصدره العقل لا يستند إلى شيء غير النظر إلى ماهية النظام و طبيعة الآبية للتحقق بلا فاعل عاقل مدبر. و هو لا يستند لا إلى التشابه و لا إلى التجربة كما تخيل (هيوم) و أَضرابه.
إِنَّ ملاحظة العقل لما في جهاز العين أَو الأذن أَو المخ أَو القلب أو الخلية من النظام ، بمعنى وجود أَجزاء مختلفة كمّاً و كيفاً ، أولا ، و تناسقها بشكل يمكنها من التفاعل فيما بينها ثانياً ، و تحقيق الهدف الخاص منها ثالثاً ، يدفع العقل إلى الحكم بأنها من فعل خالق عليم ، لاحتياجها إلى دخالة شعور و عقل و هادفة و قصد.
وبهذا تبين أَنَّ بين الجهاز المنظّم ، و دخالة العقل و الشعور رابطة منطقية. و إِنْ شئت قلت : إِنَّ ماهية نفس النظام بمقوّماته الثلاثة (الترابط ، و التناسق ، و الهادفية) تنادي بلسانها التكويني : إِنَّ النظام مخلوق عقل واسع و شعور كبير.
2 ـ تقرير الرابطة المنطقية بين النظام و دخالة الشعور بشكل آخر :
أجل العقل عندما يرى اجتماع ملايين الشرائط اللازمة لاستقرار الحياة على الأرض بحيث لو فقد بعضها لاختلت الحياة ، أو عندما يرى اجتماع آلاف الأَجزاء و العناصر اللازمة للإِبصار ، في العين ، بحيث لو فقد جزء واحد أو تقدم أو تأخر عن مكانه المعين لاختلت عملية الرؤية واستحال الإِبصار ، يحكم أَنَّ هناك عقلا جباراً أرسى مثل هذا النظام ، و أوجد مثل هذا التنسيق و الانسجام و الترتيب و التوفيق ، و يحكم بدخالة الشعور في ذلك و نفي حصوله بالصدفة و الاتفاق ، لأنَّ اجتماعها عن طريق الصدفة كما يمكن أن يكون بهذه الصورة المناسبة كذلك يمكنه أن يكون بما لا يعدّ ولا يحصى من الصور و الكيفياتْ الأُخرى غير المناسبة ، و حينئذ يكون احتمال استقرار هذه الصورة من بين تلكم الصور الهائلة ، احتمالا ضعيفاً جداً يكاد يبلغ الصفر الرياضي في ضآلته ، و هو ما لا يذهب إليه الإِنسان العادي فضلا عن العاقل المحاسب.
أَجل ، إِنَّ هذه المحاسبة الرياضيَّة التي يُجريها العقل إِذا هو شاهد النظام السائد في الكون ، تدفعه إلى الحكم بأَنَّ هناك علة عاقلة اختارت هذه الصورة من بين تلك الصور الهائلة بقصد و إِرادة ، و جمعت تلك الشرائط اللازمة بهذا الشكل المناسب للحياة (6).
وبهذا يبقى برهان النظم قوياً صامداً سليماً عن أَيَّ نقد و لا يرتبط بشيء من التمثيل أَوْ التجربة كما تصور « هيوم » ، و إِنما هو العقل وحده ينتهي إِليه عن طريق ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشيء ، و بهذا يتساوى الموجود الطبيعي والمصنوع البشري. فالعقل إذا رفض الإِذعان بأَنَّ الساعة وجدت بلا صانع أَو أنَّ السيارة وجدت بلا علة ، فإِنما هو لأَجل ملاحظة نفس الظاهرة (الساعة و السيارة) حيث يرى أَنَّها تحققت بعد ما لم تكن ، فيحكم من فوره بأَنَّ لها موجداً. و ليس هذا الحكم إِلا لأَجل الارتباط المنطقي بين وجود الشيء بعد عدمه، ولزوم وجود فاعل له ، و إِنْ شئت قلت لأَجل قانون العلية و المعلولة الذي يعترف به العقل في جميع المجالات.
كما أَنّ الكلام :عقل في المقام بأَنَّ الموجود المنظم مخلوق عقل كبير ، ناشئ من الارتباط المنطقي بين النظام و دخالة الشعور ، أَو استحالة ظهور النظام صدفة للمحاسبة الرياضية التي مرّت ، لا لأَن العقل مثل أَو جرّب فتوصل إلى هذه النتيجة.
وحصيلة الكلام : إِنَّ طبيعة النظام و ماهيته في الأشياء التي نراها تنادي بلسان تكوينها أَنَّها صادرة عن فاعل شاعر و خالق عاقل ، و هذا هو الذي يجعل العقل يذعن بوجود مثل هذا الخالق وراء النظام الكوني ، من دون النَّظر إلى شيء آخر (7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ العلم يدعو للإِيمان ، ص 159.
2 ـ المصدر السابق نفسه.
3 ـ العلم يدعو للإِيمان ، ص 159.
4 ـ العِلْم يدعو للإِيمان ،كريسي موريسن .
5ـ وهو اسكتلندي المولد، ولد عام 1711 م و توفي عام 1776 م. و كان يعد من أَكبر الفلاسفة المشككين، و قد أورد هذا الإِشكال في كتابه المسمى ب ـ « المحاورات » و هو مؤلف على شكل حوار بين شخصين افتراضيين أَحدهما يمثل مشككاً في برهان النَّظم باسم « فيلون » والآخر يمثل المدافع عنه باسم كلسانس .
6 ـ راجع التقرير الرابع لبرهان النَّظم ، فقد أَشرنا فيه إلى ماها هنا مفصّلا.
7 ـ إِنَّ الأسئلة المتوجهة إلى برهان النَّظم لا تنحصر بما ذكرناه، و إِنْ كان هو السبع،. و قد ذكر الأُستاذ (دام ظله) جميع الإِشكالات المطروحة حول هذا البرهان و تربو على السبع ، و أَجاب عنها في كتاب « الله خالق الكون » فمن أراد التوسع فيها فليرجع إلى الصفحات التالية من : (220 إلى 279).
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|