أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-12-2015
5356
التاريخ: 21-12-2015
4992
التاريخ: 26-09-2014
6574
التاريخ: 24-09-2014
5507
|
اتفقت الاشاعرة على وجود نوع آخر من الكلام غير النوع اللفظي المعروف وقد سموه بالكلام النفسي ، ثم اختلفوا فذهب فريق منهم إلى أنه مدلول الكلام اللفظي ومعناه ، وذهب آخرون إلى أنه مغاير لمدلول اللفظ ، وأن دلالة اللفظ عليه دلالة غير وضعية ، فهي من قبيل دلالة الافعال الاختيارية على إرادة الفاعل وعلمه وحياته.
والمعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام ، إلا أن الفاضل القوشجي نسب إلى بعضهم القول بقدم جلد القرآن وغلافه أيضا (1). وقد عرفت أن غير الاشاعرة متفقون على حدوث القرآن ، وعلى أن كلام الله اللفظي ككلماته التكوينية مخلوق له ، وآية من آياته. ولا يترتب على الكلام في هذه المسألة وتحقيق القول فيها غرض مهم ، لأنها خارجة عن أصول الدين وفروعه ، وليست لها أية صلة بالمسائل الدينية ، والمعارف الالهية ، غير أنني أحببت التكلم فيها ليتضح لإخواننا الاشاعرة ـ وهم أكثر المسلمين عددا ـ أن ما ذهبوا إليه واعتقدوا به وحسبوه مما يجب الاعتقاد به أمر خيالي لا أساس له من العقل والشرع.
وتوضيح ذلك :
أنه لا خلاف في أن الكلام المؤلف من الحروف الهجائية المتدرجة في الوجود أمر حادث يستحيل اتصاف الله تعالى به في الازل وغير الازل. والخلاف إنما هو في وجود سنخ آخر من الكلام مجتمعة أجزاؤه وجودا ، فأثبتته الاشاعرة وقالت بأنه من صفات الله الذاتية كما يتصف غيره به أيضا. ونفاه غيرهم وحصروا الكلام في اللفظي ، وقالوا : إن قيامه بالمتكلم قيام الفعل بالفاعل والصحيح هو القول الثاني.
ودليلنا على ذلك :
أن الجمل : إما خبرية وإما إنشائية. أما الجمل الخبرية ، فإنا إذا فحصنا مواردها لن نجد فيها إلا تسعة أمور ، وهي التي لا بد منها في الاخبار عن ثبوت شيء لشيء أو عدم ثبوته له :
أولا ـ مفردات الجملة بموادها ، وهيئاتها.
ثانيا ـ معاني المفردات ، ومداليلها.
ثالثا ـ الهيئة التركيبية للجملة.
رابعا ـ ما تدل عليه الهيئة التركيبية.
خامسا ـ تصور المخبر مادة الجملة ، وهيئتها.
سادسا ـ تصور مدلول الجملة بمادتها ، وهيئتها.
سابعا ـ مطابقة النسبة لما في الخارج ، أو عدم مطابقتها له
ثامنا ـ علم المخبر بالمطابقة ، أو بعدمها ، أو شكه فيها.
تاسعا ـ إرادة المتكلم لإيجاد الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها.
وقد اعترفت الاشاعرة بأن الكلام النفسي ليس شيئا من الامور المذكورة وعلى هذا فلا يبقى للكلام النفسي عين ولا أثر ، أما مفاد الجملة فلا يمكن أن يكون هو الكلام النفسي ، لان مفاد الجملة الخبرية ـ على ما هو المعروف ـ ثبوت شيء لشيء أو سلبه عنه ، وعلى ما هو التحقيق ـ عندنا ـ هو قصد الحكاية عن الثبوت أو السلب ، فقد أثبتنا أن الهيئة التركيبية للجملة الخبرية بمقتضى وضعها أمارة على قصد المتكلم للحكاية عن النسبة ، وشأنها في ذلك شأن ما سوى الالفاظ من الامارات الجعلية.
وقد حققنا : أن الوضع هو التعهد بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلق غرض المتكلم بتفهيمه ، وقد أوضحنا ذلك كله في محله (2) هذا هو مفاد الجملة الخبرية ، والكلام النفسي ـ عند القائل به ـ موجود نفساني من سنخ الكلام مغاير للنسبة الخارجية ولقصد الحكاية.
وأما الجمل الانشائية فهي كالجمل الخبرية ، والفارق بينهما أن الجمل الانشائية ليس في مواردها خارج تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه وعليه فالامور التي لا بد منها في الجمل الانشائية سبعة ، وهي بذاتها الامور التسعة التي ذكرناها في الجمل الخبرية ما عدا السابع والثامن منها ، وقد علمت أن الكلام النفسي عند القائلين به ليس واحدا منها.
ولعل سائلا يقول : ما هو مفاد هيئة الجملة الانشائية؟.
المعروف بين العلماء أنها موضوعة لإيجاد معنى من المعاني نحو إيجاد مناسب لعالم الانشاء ، وقد تكرر في كلمات كثير منهم أن الانشاء إيجاد المعنى باللفظ ، وقد ذكرنا في مباحثنا الاصولية أنه لا أصل للوجود الانشائي ، واللفظ والمعنى وإن كانت لهما وحدة عرضية منشأها ما بينهما من الربط الناشئ من الوضع ، فوجود اللفظ وجود له بالذات ووجود للمعنى بالعرض والمجاز ، ومن أجل ذلك يسري حسن المعنى أو قبحه إلى اللفظ ، وبهذا المعنى يصح أن يقال : وجد المعنى باللفظ وجودا لفظيا ، إلا أن هذا لا يختص بالجمل الانشائية ، بل يعم الجمل الخبرية والمفردات أيضا.
أما وجود المعنى بغير وجوده اللفظي فينحصر في نحوين ، وكلاهما لا مدخل للفظ فيه أبدا :
أحدهما : وجوده الحقيقي الذي يظهر به في نظام الوجود من الجواهر والاعراض ، ولا بد في تحقيق هذا الوجود من تحقق أسبابه وعلله ، والالفاظ أجنبية عنها بالضرورة.
ثانيهما : وجوده الاعتباري ، وهو نحو من الوجود للشيء إلا أنه في عالم الاعتبار لا في الخارج ، وتحقق هذا النحو من الوجود إنما هو باعتبار من بيده الاعتبار ، واعتبار كل معتبر قائم بنفسه ، ويصدر منه بالمباشرة ، ولا يتوقف على وجود لفظ في الخارج أبدا ، أما إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أو الايقاعات الصادرة من الناس ، فهو وإن توقف على صدور لفظ من المنشئ أو ما بحكم اللفظ ، ولا أثر لاعتباره إذا تجرد عن المبرز من قول أو فعل ، إلا أن الامضاء المذكور متوقف على صدور لفظ قصد به الانشاء ، وموضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ الذي جئ به في المرحلة السابقة على الامضاء.
وعلى الجملة : إن الوجود الحقيقي والاعتباري للشيء لا يتوقفان على اللفظ ، وإما إمضاء الشرع أو العقلاء للوجود الاعتباري فهو وإن توقف على صدور لفظ أو ما بحكمه من المنشئ ، إلا أنه يتوقف عليه بما هو لفظ مستعمل في معناه ، وأما الوجود اللفظي فهو عام لكل معنى دل عليه باللفظ ، فلا أساس للقول المعروف : « الانشاء إيجاد المعنى باللفظ ».
والصحيح : إن الهيئات الانشائية وضعت لإبراز أمر ما من الامور النفسانية وهذا الامر النفساني قد يكون اعتبارا من الاعتبارات كما في الامر والنهي والعقود والايقاعات ، وقد يكون صفة من الصفات ، كما في التمني والترجي ، فهيئات الجمل أمارات على أمر ما من الامور النفسانية وهو في الجمل الخبرية قصد الحكاية ، وفي الجمل الانشائية أمر آخر.
ثم إن الاتيان بالجملة المبرزة ـ بوضعها ـ لأمر نفساني قد يكون بداعي إبراز ذلك الامر ، وقد يكون بداع آخر سواه ، وفي كون الاستعمال في هذا القسم الاخير مجازا أو حقيقة كلام ليس هنا محل ذكره ، وللاطلاع على تفصيل الكلام في ذلك يراجع تعليقاتنا الاصولية.
والذي يظهر من موارد استعمال لفظ الطلب : أنه موضوع للتصدي لتحصيل شيء ما ، فلا يقال : طلب الضالة ، ولا طلب الاخرة ، إلا عند التصدي لتحصيلهما ، وفي لسان العرب الطلب محاولة وجدان الشيء وأخذه ، وبهذا الاعتبار يصدق على الامر أنه طالب ، لأنه يحاول وجدان الفعل المأمور به ، فإن الامر هو الذي يدعو المأمور إلى الاتيان بمتعلقه ، وهو بنفسه مصداق للطلب ، لا أن الامر لفظ والطلب معناه فلا أساس للقول بأن الامر موضوع للطلب ، ولا للقول بأن الطلب كلام نفسي يدل عليه الكلام اللفظي.
وقد أصابت الاشاعرة في قولهم : إن الطلب غير الارادة ولكنهم أخطأوا في جعله صفة نفسية ، وفي جعله مدلولا عليه بالكلام اللفظي.
نفي الكلام النفسي
ومن جميع ما ذكرناه يستبين القارئ : أنه ليس في موارد الجمل الخبرية ولا الانشائية ما يكون من سنخ الكلام قائما بالنفس ، ليسمى بالكلام النفسي ، نعم لا بد للمتكلم من أن يتصور كلامه قبل إيجاده ، والتصور وجود في النفس يسمونه بالوجود الذهني ، فإن أراد القائلون بالكلام النفسي هذا النحو من الوجود للكلام في النفس فهو صحيح ، ولكنك تعلم أنه غير مختص بالكلام ، بل يعم كل فعل اختياري ، والكلام إنما لزم تصوره لأنه فعل اختياري للمتكلم.
أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي
استدل القائلون بالكلام النفسي على مدعاهم بوجوه :
الاول : أن كل متكلم يرتب الكلام في نفسه قبل أن يتكلم به ، والموجود في الخارج من الكلام يكشف عن وجود مثله في النفس ، وهذا وجداني يجده كل متكلم في نفسه ، واليه أشار الاخطل بقوله :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ******** جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وجوابه قد تقدم :
فإن تركيب الكلام في النفس هو تصوره وإحضاره فيها ، وهو الوجود الذهني الذي يعم الافعال الاختيارية كافة ، فالكاتب والنقاش لا بد لهما من أن يتصورا عملهما أولا قبل أن يوجداه ، فلا صلة لهذا بالكلام النفسي.
الثاني : أنه يطلق الكلام على الموجود منه في النفس ، وإطلاقه عليه صحيح بلا عناية ، فيقول القائل : إن في نفسي كلاما لا اريد أن أبديه ، وقد قال الله عز اسمه :
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13] .
وجوابه يظهر مما تقدم :
فإن الكلام كلام في وجوده الذهني ، كما هو كلام في وجوده الخارجي ولكل شيء نحوان من الوجود : خارجي وذهني ، والشيء هو ذلك الشيء في كلا وجوديه ، وإطلاق الاسم عليه بلا عناية. ولا يختص هذا بالكلام ، فيقول المهندس : إن في نفسي صورة بناء سأنقشها في خارطة ، ويقول المتعبد : إن في نفسي أن أصوم غدا.
الثالث : أنه يصح إطلاق المتكلم على الله ، وهذا الهيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا. ولذا لا يطلق المتحرك والساكن والنائم إلا على من تلبس بالحركة والسكون والنوم ، دون من أوجدها. وواضح أن الكلام اللفظي لا يمكن أن يتصف به الله تعالى ، لاستحالة اتصاف القديم بالصفة الحادثة ، فلا مناص من الالتزام بالكلام القديم ، ليصح إطلاق المتكلم على الله سبحانه باعتبار اتصافه به.
وجوابه :
أن المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام ، فإنه غير قائم بالمتكلم قيام الصفة بموصوفها حتى في غير الله ، فإن الكلام كيفية عارضة للصوت الحاصل من تموج الهواء ، وهو أمر قائم بالهواء لا بالمتكلم ، والمبدأ في الصيغة المذكورة هو التكلم ، ولا نعقل له معنى غير إيجاد الكلام ، فإطلاقه على الله وعلى غيره بمعنى واحد.
وأما قول المستدل : إن هيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قيام الوصف بالموصوف فهو غلط بين ، فان الهيئة إنما تفيد قيام المبدأ بالذات نحوا من القيام. أما خصوصيات القيام من كونها إيجاديه أو حلولية أو غيرهما فهي غير مأخوذة في مفاد الهيئة وهي تختلف باختلاف الموارد ، ولا تدخل تحت ضابط كلي ، فالعالم والنائم مثلا لا يطلقان على موجد العلم والنوم ، لكن القابض والباسط والنافع والضار تطلق على موجد هذه المبادئ ، وعليه فعدم صحة إطلاق المتحرك على موجد الحركة لا يستلزم عدم صحة إطلاق المتكلم على موجد الكلام.
وحاصل ما تقدم :
أن الكلام النفسي أمر خيالي بحت لا دليل على وجوده من وجدان أو برهان.
ومن المناسب أن نختم الكلام بما ذكره الامام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في هذا الموضوع ، فقد روى الشيخ الكليني بإسناده عن أبي بصير قال : « سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : لم يزل الله عز وجل ربنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور. فلما أحدث الاشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر والقدرة على المقدور. قال : قلت : فلم يزل الله متحركا؟ قال : فقال : تعالى الله عن ذلك ، إن الحركة صفة محدثة بالفعل. قال : فقلت : فلم يزل الله متكلما؟ قال : فقال : إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية ، كان الله عز وجل ولا متكلم » (3).
__________________
1 ـ شرح التجريد : المقصد الثالث ص 354
2 ـ في كتابنا (أجود التقريرات) في الاصول ، المطبوع مع تعليقاتنا. (المؤلف )
3 ـ اصول الكافي باب صفات الذات ص 51.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|