المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9111 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

أساس السلطة التقديرية للإدارة
5-4-2017
Clark,s Triangle
7-1-2021
ما هي الامومة ؟
12-1-2016
Alkalosis
1-5-2017
جوزيف جوبلز- وزير الدعاية النازية
1-8-2022
التطور السريع‏ للإسلام
6-12-2015


وصاياه الخالدة للإمام الحسن (عليه السلام)  
  
4163   02:47 مساءاً   التاريخ: 21-4-2016
المؤلف : باقر شريف القرشي
الكتاب أو المصدر : موسوعة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب
الجزء والصفحة : ج6, ص11-34.
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام علي بن أبي طالب / التراث العلوي الشريف /

إنّ وصايا الإمام (عليه السلام) دنيا من الفضائل والكمال والآداب ومن حقّها أن تكون منهجا للتربية العامّة في الجامعات والمعاهد في البلاد الإسلامية ليغذّى بها النشئ الذي يجهل كلّ شيء عن مقومات التربية الإسلامية وما تنشده من القيم والمبادئ التي تصنع الحضارة الإنسانية بأروع صورها وأبدع معانيها وهي من أهمّ ما عنى بها الإمام (عليه السلام) فيما قنّنه في ميادين الإصلاح الاجتماعي من الاسس التربوية القائمة على كلّ ما يصلح الإنسان ويهديه للتي هي أقوم ؛ أنّ من أهمّ وصاياه هي وصيته للإمام الحسن (عليه السلام) هذه الوصية الذهبية الخالدة قد أتحف بها الإمام (عليه السلام) ولده الزكي الإمام الحسن (عليه السلام) سبط رسول الله (صلى الله عليه واله) وريحانته وهي تحمل أشعة من نور النبوّة والإمامة ترشد الضالّ وتهدي الحائر وتضيء العقول وتهذّب النفوس ونظرا لأهمّيتها البالغة فقد ترجمت إلى غير واحدة من اللغات وشرحت بعدّة شروح كان منها

1 ـ منثور الأدب الإلهي وهو لمحمّد صالح بن محمّد الروغني القزويني وهو أحد شرّاح نهج البلاغة.

2 ـ الأخلاق المرضية في شرح الوصية.

3 ـ هداية الامم .

4 ـ نظمها بالفارسية السيد حسن بن ابراهيم القزويني وهو من مشايخ السيّد بحر العلوم وقد طبعت في استانبول.

5 ـ الاسس التربوية في شرح الوصية للعلاّمة الخطيب السيّد حسن القبانجي .

ونعرض النصّ الكامل لهذه الوصية التي كتبها الإمام بـ حاضرين التي هي بلدة في نواحي صفّين وذلك في حال انصرافه منها قال (عليه السلام) : من الوالد الفان المقرّ للزّمان المدبر العمر المستسلم للدّهر الذّام للدّنيا السّاكن مساكن الموتى والظّاعن عنها غدا ؛ إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك السّالك سبيل من قد هلك غرض الأسقام ورهينة الأيّام ورمية المصائب وعبد الدّنيا وتاجر الغرور وغريم المنايا وأسير الموت وحليف الهموم وقرين الأحزان ونصب الآفات وصريع الشّهوات وخليفة الأموات.

أمّا بعد فإنّ فيما تبيّنت من إدبار الدّنيا عنّي وجموح  الدّهر عليّ وإقبال الآخرة إليّ ما يزعني عن ذكر من سواي والاهتمام بما ورائي غير أنّي حيث تفرّد بي دون هموم النّاس همّ نفسي فصدفني رأيي وصرفني عن هواي وصرّح لي محض أمري فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب وصدق لا يشوبه كذب ووجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتّى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني وكأنّ الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي فكتبت إليك كتابي مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت ...

حكى هذا المقطع من كلام الإمام (عليه السلام) الامور التالية :

أوّلا : عرض الإمام (عليه السلام) إلى فنائه وإدبار عمره ؛ لأنّه في سنّ الشيخوخة ولا بدّ من مغادرته لدار الفناء إلى دار الخلود والبقاء.

ثانيا : أنّه حكى رغبات المولود في الدنيا وما يواجهه من الخطوب والتي منها :

1 ـ أنّه مستهدف للمصائب والمحن والخطوب.

2 ـ أنّه عبد الدنيا وتاجر الغرور.

3 ـ أنّه أسير الموت لا يدري متى سيرحل عن هذه الدنيا.

4 ـ أنّ الإنسان في هذه الحياة تحالفه الهموم والأحزان.

5 ـ أنّه خليفة الأموات فقد خلف من كان قبله ولا بدّ أن يخلفه من يأتي بعده.

ثالثا : أنّ الإمام (عليه السلام) قد أيقن بإدبار الدنيا عنه وإقبال الآخرة عليه الأمر الذي صرفه عن كلّ شيء من امور الدنيا وجعله يتصرّف في جميع اموره بجدّ لا لعب فيه.

رابعا : أعرب الإمام عن مدى حبّه وودّه لولده الإمام الحسن (عليه السلام) فإنّه بعضه بل كلّه فهو بمنزلة نفسه فاهتمّ بأمره كما اهتمّ باموره فلذا وجّه إليه النصائح التالية :

قال الإمام (عليه السلام) : فإنّي أوصيك بتقوى الله ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله وأيّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به! ...

حكت هذه الكلمات الذهبية ما يقرّب الإنسان إلى الله تعالى زلفى ومن أوثقها تقوى الله تعالى ولزوم أمره وعمارة القلب بذكره والاعتصام بحبله فإنّها من موجبات القرب إلى الله تعالى والفوز برضاه.

ويستمر الإمام المربّي العظيم في وصيّته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) قال (عليه السلام) :

أحي قلبك بالموعظة وأمته بالزّهادة وقوّه باليقين ونوّره بالحكمة وذلّله بذكر الموت وقرّره بالفناء وبصّره فجائع الدّنيا وحذّره صولة الدّهر وفحش تقلّب اللّيالي والأيّام واعرض عليه أخبار الماضين وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا! فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة وحلّوا ديار الغربة وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك ؛ ودع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لم تكلّف , وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال , وأمر بالمعروف تكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك وجاهد في الله حقّ جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم , وخض الغمرات للحقّ حيث كان وتفقّه في الدّين وعوّد نفسك التّصبّر على المكروه ونعم الخلق التّصبّر في الحقّ! وألجئ نفسك في الأمور كلّها إلى إلهك فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز , وأخلص في المسألة لربّك فإنّ بيده العطاء والحرمان وأكثر الاستخارة وتفهّم وصيّتي ولا تذهبنّ عنك صفحا فإنّ خير القول ما نفع واعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع ولا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه ...

وحوى هذا المقطع امورا بالغة الأهمّية في تربية النفس وغيرها من وسائل الاصلاح وهي :

أوّلا : وسائل إصلاح النفس :

وأدلى الإمام (عليه السلام) بالوسائل التي يسيطر بها الإنسان على نفسه ويكبح جماحها وهي :

1 ـ الموعظة : لا شكّ أنّ المواعظ توجب صفاء النفس وهي من أهمّ الأدوية لعلاجها.

2 ـ الزهد : إنّ الزهد في رغائب الحياة والإعراض عن ملاذّها وشهواتها يطهّر النفس من مآثم هذه الحياة.

3 ـ الحكمة : لا شبهة أنّ الحكمة والتبصّر بها تنوّر العقول وتصفّي النفوس.

 

4 ـ ذكر الموت : أمّا ذكر الموت فإنّه يذلّل النفس ويصدّها عن اقتراف المحارم والآثام ويهديها إلى الصراط المستقيم.

5 ـ التبصّر في فجائع الدنيا : إنّ النظر والتبصّر في فجائع الدنيا وخطوبها وآلامها من أهمّ وسائل التربية الروحية التي تدعو إلى تهذيب النفس.

6 ـ أخبار الماضين : دعا الإمام إلى النظر في تاريخ الامم الماضية وغيرها فإنّ الإنسان يجدهم قد انتقلوا عن هذه الدنيا وحلّوا ديار الغربة وأنّ كلّ إنسان على هذا الكوكب لا بدّ أن يلاقي نفس هذا المصير .

ثانيا : فضائل وآداب :

وحوى هذا المقطع اصول الفضائل والآداب التي يسمو بها الإنسان والتي منها :

1 ـ الاجتناب عن القول فيما لا يعرفه الإنسان فإنّ الخوض فيه منقصة وجهل ؛ لأنّه قد يجيب بما خالف الواقع.

2 ـ عدم التسرّع في الخطاب الذي لا يكلّف فيه فإنّ التسرّع في ذلك من ألوان الفضول.

3 ـ ترك السلوك في طريق يخاف ضلالته ؛ لأنّه قد يقع في الضلالة التي تجرّ إلى الندم.

4 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّ فيهما صلاح المجتمع.

5 ـ الجهاد في سبيل الله.

6 ـ خوض الغمرات والمصاعب لإحقاق الحقّ . التفقّه في الدين ومعرفة أحكام الله تعالى.

7 ـ الصبر على المكروه.

8 ـ الالتجاء إلى الله تعالى في جميع الامور والأحوال فإنّ بيده العطاء والحرمان.

9 ـ الاستخارة وهي إحالة الرأي في جميع الامور إلى الله تعالى ليكون الإنسان على بصيرة من أمره .

ويستمرّ الإمام الحكيم في وصيّته قائلا : أي بنيّ! إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّا ورأيتني أزداد وهنا بادرت بوصيّتي إليك وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدّنيا فتكون كالصّعب النّفور , وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته , فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التّجارب بغيته وتجربته فتكون قد كفيت مؤونة الطّلب وعوفيت من علاج التّجربة فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه ...

أعرب الإمام العظيم (عليه السلام) في حديثه أنّه قد بلغ من السنّ الذي أشرف به على عتبة الشيخوخة وأنّه قد ازداد وهنا وضعفا في جسمه فلذا بادر بتسجيل وصيّته إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام) هذه الوصية الممتلئة بالحكم والتجارب والنصائح التي أحاطت بجميع شئون الحياة ووضعت لها أسمى المناهج , لقد بادر الإمام بوصيّته إلى ولده وهو في شرخ الشباب قبل أن يجتاز هذا السنّ فربّاه بحكمه وآدابه وأفاض عليه مكرمات نفسه ليكون نسخة تحكيه وتمثّله ويأخذ الإمام المربّي في وصيّته قائلا : أي بنيّ! إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكّرت في أخبارهم وسرت في آثارهم ؛ حتّى عدت كأحدهم ؛ بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله وتوخّيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشّفيق وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدّهر ذو نيّة سليمة ونفس صافية وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف النّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الّذي التبس عليهم فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة ورجوت أن يوفّقك الله فيه لرشدك وأن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيّتي هذه .

يقدّم الإمام (عليه السلام) لولده الزكي في وصاياه زبدة التجارب وخلاصة النصائح التي أخذت بها الامم السابقة وأنّه (عليه السلام) وإن لم يكن شاهدهم إلاّ أنّه نظر بعمق وشمول إلى تاريخهم وأحوالهم فوقف على أسباب سعادتهم وأسباب شقائهم وقدّم ذلك لولده , وكان من أهمّ ما عنى به الإمام في هذا المقطع تعليم ولده لكتاب الله تعالى وتفسيره والأخذ بأحكامه ومعرفة حلاله وحرامه .

ويستمرّ الإمام في وصيّته فيقول : واعلم يا بنيّ! أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك والصّالحون من أهل بيتك فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر وفكّروا كما أنت مفكّر ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عمّا لم يكلّفوا فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهّم وتعلّم لا بتورّط الشّبهات وعلق الخصومات وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرّغبة إليه في توفيقك وترك كلّ شائبة أولجتك في شبهة أو أسلمتك إلى ضلالة فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع وتمّ رأيك فاجتمع وكان همّك في ذلك همّا واحدا فانظر فيما فسّرت لك وإن لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء وتتورّط الظّلماء وليس طالب الدّين من خبط أو خلط والإمساك عن ذلك أمثل ...

من بنود هذا المقطع من كلام الإمام (عليه السلام) ما يلي :

1 ـ الوصية بتقوى الله تعالى فإنّها سبب النجاة في الدنيا والآخرة.

2 ـ الإتيان بما فرضه الله تعالى من الواجبات وترك المحرّمات.

3 ـ الأخذ بسيرة الصالحين والمتّقين من السلف الصالح من أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة.

4 ـ الاستعانة بالله تعالى في جميع الامور وطلب التوفيق.

5 ـ ترك كلّ شبهة تولج الإنسان في الشبهات وتسلّمه إلى الضلال .

ويأخذ الإمام (عليه السلام) في وصيّته قائلا : فتفهّم يا بنيّ! وصيّتي واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة وأنّ الخالق هو المميت وأنّ المفني هو المعيد وأنّ المبتلي هو المعافي وأنّ الدّنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها الله عليه من النّعماء والابتلاء والجزاء في المعاد أو ما شاء ممّا لا تعلم فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك فإنّك أوّل ما خلقت به جاهلا ثمّ علّمت وما أكثر ما تجهل من الأمر! ويتحيّر فيه رأيك ويضلّ فيه بصرك ثمّ تبصره بعد ذلك! فاعتصم بالّذي خلقك ورزقك وسوّاك وليكن له تعبّدك وإليه رغبتك ومنه شفقتك ...

أعرب الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع أنّ جميع مجريات الأحداث وشئون الكون كلّها بيد الخالق العظيم فهو مالك الحياة ومالك الموت فعلى الإنسان أن يوكل اموره إليه ولا يلتجأ إلى غيره كما أعرب (عليه السلام) عن تقلّب الدنيا وأنّها لم تستقرّ على حال فكما تري الإنسان السعادة تريه التعب والعناء والشقاء كما وأنّ جزاء من يعمل خيرا فيها أو شرّا يلاقيه في معاده وفي يوم حشره هذا بعض ما حواه المقطع .

ويأخذ الإمام في وصيّته الحافلة بالنصائح قائلا : واعلم يا بنيّ! أنّ أحدا لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه الرّسول (صلى الله عليه واله) فارض به رائدا وإلى النّجاة قائدا فإنّي لم آلك نصيحة وإنّك لن تبلغ في النّظر لنفسك ـ وإن اجتهدت ـ مبلغ نظري لك ...

وفي هذه الكلمات أعرب الإمام (عليه السلام) أنّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) قد أنبأ عن الله تعالى بما لم ينبّئ عنه أحد قبله فقد أخبر عن قدرة الله تعالى اللاّمتناهية وعن علمه كذلك وعن صفاته الثبوتية والسلبية فهو رائد التوحيد وداعية الله الأكبر في الأرض واللازم أن يتّخذه إلى النجاة قائدا وهاديا ومرشدا .

ويستمر الإمام في عرض وصيّته قائلا : واعلم يا بنيّ! أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه لا يضادّه في ملكه أحد ولا يزول أبدا ولم يزل أوّل قبل الأشياء بلا أوّليّة وآخر بعد الأشياء بلا نهاية عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره وقلّة مقدرته وكثرة عجزه وعظيم حاجته إلى ربّه في طلب طاعته والخشية من عقوبته والشّفقة من سخطه ؛ فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح ...

تحدّث الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع الذهبي من كلامه عن بعض قضايا التوحيد وهي :

1 ـ نفي الشريك عن الله تعالى في خلقه للأكوان وإحاطته التامّة بجميع شئون الموجودات ولو كان له تعالى شريك لأتت به رسله ورأينا آثار ملكه التي تدلّ على وجوده إنّه ليس هناك إلاّ إله واحد لا شريك له.

2 ـ أنّ الله تعالى الخالق المبدع الذي لا أوّلية له ولا ابتداء لوجوده كما أنّه الآخر بلا نهاية له أمّا تفصيل هذه البحوث والاستدلال عليها فقد عرضت لها كتب الكلام ..

3 ـ أنّ الخالق العظيم أعظم من أن تحيط بمعرفته القلوب والأبصار التي هي محدودة المدارك..

كما تحدّث الإمام في آخر المقطع عن الأوامر والنواهي التي صدرت من الشارع فقد ذهبت العدلية من الإمامية والمعتزلة إلى أنّ الأمر من الشارع لم يتعلّق إلاّ بشيء حسن فيه مصلحة تعود على العباد ولم ينه عن شيء إلاّ وهو قبيح وفيه مفسدة كامنة تعود بالضرر على الناس ..

ثمّ يستمر الإمام (عليه السلام) في وصيّته الخالدة قائلا : يا بنيّ! إنّي قد أنبأتك عن الدّنيا وحالها وزوالها وانتقالها وأنبأتك عن الآخرة وما أعدّ لأهلها فيها وضربت لك فيهما الأمثال لتعتبر بها وتحذو عليها إنّما مثل من خبر الدّنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جديب فأمّوا منزلا خصيبا وجنابا مريعا فاحتملوا وعثاء الطّريق وفراق الصّديق وخشونة السّفر وجشوبة المطعم ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم فليس يجدون لشيء من ذلك ألما ولا يرون نفقة فيه مغرما ولا شيء أحبّ إليهم ممّا قرّبهم من منزلهم وأدناهم من محلّتهم , ومثل من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب فليس شيء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه ...

تحدّث الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع عن فناء الدنيا وزوالها وأنّ الدار الآخرة هي دار الخلود والبقاء وحذّر (عليه السلام) من حبّ الدنيا والغرور بها وضرب لذلك بعض الأمثال الهادفة إلى الاستقامة ونبذ التهالك في حبّ الدنيا التي ليس وراءها إلاّ السراب .

ويستمرّ الإمام (عليه السلام) في وصيّته قائلا : يا بنيّ! اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها ولا تظلم كما لا تحبّ أن تظلم وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من النّاس بما ترضاه لهم من نفسك ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك , واعلم أنّ الإعجاب ضدّ الصّواب وآفة الألباب فاسع في كدحك ولا تكن خازنا لغيرك وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك ...

وضع الإمام المربّي (عليه السلام) في هذه الفقرات الذهبية آداب السلوك ومحاسن الأخلاق التي يسمو بها الإنسان فقد حفلت بما يلي :

1 ـ أن يجعل الإنسان نفسه ميزانا فيما بينه وبين غيره فيحبّ له ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها ومن الطبيعي أنّ هذه الظاهرة الفذّة إذا سادت في المجتمع فإنّه يبلغ القمّة في كماله وآدابه.

2 ـ التحذير من ظلم الغير فكما أنّ الإنسان يشجب من يعتدي عليه كذلك عليه أن يحمل هذا الشعور مع الغير.

3 ـ على الإنسان أن يحسن للغير كما يحبّ أن يحسن إليه.

4 ـ أن يستقبح الأعمال السيّئة التي تصدر منه كما يستقبح صدورها من الغير كما عليه أن يرضى من الناس ما يرضاه لنفسه.

5 ـ أنّه (عليه السلام) نهى عن القول بغير علم ؛ فإنّه يؤدّي إلى المضاعفات السيّئة للشخص ولغيره.

6 ـ حذّر الإمام من إعجاب الإنسان بنفسه فإنّه من مساوئ الرذائل التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق.

7 ـ أنّه (عليه السلام) نهى من الافراط في جمع الأموال التي تجرّ الويل والعطب فإنّ من يبتلى بذلك يكون خازنا لغيره وذلك إذا فارقته الحياة خصوصا إذا لم يؤدّ الإنسان حقوق الله منها فإن الوزر يكون عليه والمهنأ بها لغيره .

ويأخذ الإمام (عليه السلام) في وصيّته قائلا : واعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة ومشقّة شديدة وأنّه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد وقدّر بلاغك من الزّاد مع خفّة الظّهر فلا تحملنّ على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالا عليك وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمّله إيّاه وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه فلعلّك تطلبه فلا تجده واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك ...

إنّ الإنسان إذا فكّر عن وعي لوجد أنّ الحياة الدنيا التي يعيشها إنّما هي لحظات ولا بدّ أن يغادرها ويرحل عنها وإنّ أمامه طريقا شائكا ذا مسافة بعيدة يحتاج إلى وفرة من الزاد ليوصله إلى مأمنه وهو العمل الصالح الذي ينجيه من عذاب الله تعالى هذا بعض ما حفلت به هذه الكلمات .

ولنقرأ بندا آخر من هذه الوصية قال (عليه السلام) : واعلم أنّ أمامك عقبة كئودا المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح حالا من المسرع وأنّ مهبطك بها لا محالة إمّا على جنّة أو على نار فارتد لنفسك  قبل نزولك ووطّئ المنزل قبل حلولك فليس بعد الموت مستعتب ولا إلى الدّنيا منصرف ...

إنّ الإنسان أمامه عقبة كئود تحفّ بها المخاطر والأهوال والشدائد فعليه أن ينقذ نفسه فلا يقترف ما يبعده عن الله تعالى وعليه أن يمهّد الطريق لرضاه .

ويأخذ الإمام في وصيّته قائلا : واعلم أنّ الّذي بيده خزائن السّماوات والأرض قد أذن لك في الدّعاء وتكفّل لك بالإجابة وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه ولم يمنعك إن أسأت من التّوبة ولم يعاجلك بالنّقمة ولم يعيّرك بالإنابة ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى ولم يشدّد عليك في قبول الإنابة ولم يناقشك بالجريمة ولم يؤيسك من الرّحمة بل جعل نزوعك عن الذّنب حسنة وحسب سيّئتك واحدة وحسب حسنتك عشرا وفتح لك باب المتاب وباب الاستعتاب ؛ فإذا ناديته سمع نداك وإذا ناجيته علم نجواك فأفضيت إليه بحاجتك وأبثثته ذات نفسك وشكوت إليه همومك واستكشفته كروبك واستعنته على أمورك وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار وصحّة الأبدان وسعة الأرزاق ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنّطنّك إبطاء إجابته فإنّ العطيّة على قدر النّيّة , وربّما أخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل وأجزل لعطاء الآمل وربّما سألت الشّيء فلا تؤتاه وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله ؛ فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له ...

حوى هذا المقطع بعض الامور البالغة الأهمّية وهي :

1 ـ أنّ الله تعالى قد أذن لعباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة.

2 ـ أنّ الله تعالى لم يجعل بينه وبين عباده حجابا فقد فتح أبوابه للسائلين تفضّلا منه ورحمة.

3 ـ أنّ الله تعالى قد تفضّل وتكرّم على عباده ففتح لهم أبواب التوبة إذا شذّوا في سلوكهم واقترفوا ما لا يرضيه ولم يعجّل لهم بالعقوبة ولم يفضحهم بين العباد.

4 ـ وكان من لطف الله تعالى على عباده بأن جعل من يرتكب سيّئة تسجّل له سيّئة واحدة ومن يفعل حسنة تسجّل له عشر حسنات تشجيعا على عمل الخيرات والمبرّات.

5 ـ أنّ من ألطاف الله تعالى على عباده أن جعل بأيديهم مفاتيح خزائنه وهو الدعاء فإنّه من فيوضاته تعالى على العباد والدعاء ربّما يجاب بالوقت وربّما يؤخّر لمصلحة تعود على العبد يجهلها .

ويستمرّ الإمام (عليه السلام) في وصيّته قائلا : واعلم يا بنيّ! أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدّنيا وللفناء لا للبقاء وللموت لا للحياة ؛ وأنّك في منزل قلعة ودار بلغة وطريق إلى الآخرة وأنّك طريد الموت الّذي لا ينجو منه هاربه ولا يفوته طالبه ولا بدّ أنّه مدركه فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيّئة قد كنت تحدّث نفسك منها بالتّوبة فيحول بينك وبين ذلك فإذا أنت قد أهلكت نفسك ...

انّ الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا وللموت لا للبقاء وأنّ الموت يلاحقه حتى ينتزعه من الدنيا وعلى الإنسان الواعي أن يبادر للتوبة عمّا صدر منه من المعاصي قبل فوات الأوان منه .

ثمّ قال الإمام (عليه السلام) : يا بنيّ! أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه حتّى يأتيك وقد أخذت منه حذرك وشددت له أزرك ولا يأتيك بغتة فيبهرك , وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها وتكالبهم عليها فقد نبّأك الله عنها ونعت هي لك عن نفسها وتكشّفت لك عن مساويها فإنّما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية يهرّ بعضها على بعض ويأكل عزيزها ذليلها ويقهر كبيرها صغيرها , نعم معقّلة وأخرى مهملة قد أضلّت عقولها وركبت مجهولها , سروح عاهة  بواد وعث ليس لها راع يقيمها ولا مسيم يسيمها , سلكت بهم الدّنيا طريق العمى وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى فتاهوا في حيرتها وغرقوا في نعمتها واتّخذوها ربّا فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها , رويدا يسفر الظّلام كأن قد وردت الأظعان ؛ يوشك من أسرع أن يلحق! واعلم يا بنيّ أنّ من كانت مطيّته اللّيل والنّهار فإنّه يسار به وإن كان واقفا ويقطع المسافة وإن كان مقيما وادعا ...

تحدّث الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع عن الاكثار لذكر الموت والتبصّر بما بعده فإنّه يصرف الإنسان من فتن الدنيا وبوائقها ويهدي إلى الطريق المستقيم كما حذّر (عليه السلام) من الافتتان بما يراه الإنسان من تكالب أهل الدنيا وتصارعهم على الحصول على غنائمها فإنهم الكلاب العاوية والسباع الضارية يأكل القوي منهم الضعيف ويقهر الكبير الصغير فهم كالأنعام بل أضلّ سبيلا هذا بعض ما احتوت عليه هذه الكلمات .

ويأخذ الإمام في عرض وصاياه قائلا : وأعلم يقينا أنّك لن تبلغ أملك ولن تعدو أجلك وأنّك في سبيل من كان قبلك فخفّض في الطّلب وأجمل في المكتسب فإنّه ربّ طلب قد جرّ إلى حرب  ؛ فليس كلّ طالب بمرزوق ولا كلّ مجمل بمحروم , وأكرم نفسك عن كلّ دنيّة وإن ساقتك إلى الرّغائب فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا , ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّا وما خير خير لا ينال إلاّ بشرّ ويسر لا ينال إلاّ بعسر؟! ...

وهذه اللوحة من كلام الإمام (عليه السلام) من ذخائر الآداب الإسلامية وقد حفلت بما يلي :

1 ـ الإجمال في طلب الرزق وأنّ ليس من الفكر التهالك على طلب الرزق فإنّه مكتوب للإنسان فليس الطالب بمرزوق ولا المجمل بمحروم.

2 ـ صيانة النفس عن كلّ دنيّة ومنقصة فإنّ كرامتها أغلى وأثمن من كلّ شيء.

3 ـ أن لا يكون الإنسان عبدا لغيره فقد جعله الله تعالى حرّا والحرية من أثمن ما يملكه الإنسان في حياته .

ومن بنود هذه الوصية قوله (عليه السلام) : وإيّاك أن توجف بك مطايا الطّمع فتوردك مناهل الهلكة , وإن استطعت ألاّ يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل فإنّك مدرك قسمك وآخذ سهمك وإنّ اليسير من الله سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كلّ منه ...

عرض الإمام (عليه السلام) إلى الكفّ عن الطمع الذي يورد الناس موارد الهلكة وعلى الإنسان أن يعتصم بالله تعالى الذي بيده جميع مجريات الأحداث فالتمسّك به من أثمن ما يظفر به الإنسان في حياته .

ومن مواد هذه الوصية قوله (عليه السلام) : وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك , وحفظ ما في الوعاء بشدّ الوكاء وحفظ ما في يديك أحبّ إليّ من طلب ما في يدي غيرك ومرارة اليأس خير من الطّلب إلى النّاس والحرفة مع العفّة خير من الغنى مع الفجور والمرء أحفظ لسرّه وربّ ساع فيما يضرّه! من أكثر أهجر ومن تفكّر أبصر , قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشّرّ تبن عنهم بئس الطّعام الحرام! وظلم الضّعيف أفحش الظّلم إذا كان الرّفق خرقا كان الخرق رفقا ربّما كان الدّواء داء والدّاء دواء وربّما نصح غير النّاصح وغشّ المستنصح  ...

عرض الإمام (عليه السلام) في هذه الكلمات إلى جواهر الحكمة وخلاصة العرفان والآداب فقد استهدفت بناء شخصيّة الإنسان على اصول الاستقامة والفضائل.

ويستمرّ الإمام المربّي في عرض وصاياه ونصائحه الذهبية قائلا : وإيّاك والاتّكال على المنى فإنّها بضائع النّوكى والعقل حفظ التّجارب وخير ما جرّبت ما وعظك , بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة ليس كلّ طالب يصيب ولا كلّ غائب يؤوب ومن الفساد إضاعة الزّاد ومفسدة المعاد ولكلّ أمر عاقبة سوف ياتيك ما قدّر لك التّاجر مخاطر وربّ يسير أنمى من كثير! لا خير في معين مهين ولا في صديق ظنين ساهل الدّهر ما ذلّ لك قعوده ولا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه ...

أرأيتم هذه الحكم التي صاغها أمير البيان والتي هي منحوتة من صميم الواقع وخلاصة التجارب .

ويقول (عليه السلام) : وإيّاك أن تجمح بك مطيّة اللّجاج احمل نفسك من أخيك عند صرمه  على الصّلة وعند صدوده على اللّطف والمقاربة وعند جموده على البذل وعند تباعده على الدّنوّ وعند شدّته على اللّين وعند جرمه على العذر حتّى كأنّك له عبد وكأنّه ذو نعمة عليك وإيّاك أن تضع ذلك في غير موضعه أو أن تفعله بغير أهله , لا تتّخذنّ عدوّ صديقك صديقا فتعادي صديقك وامحض أخاك النّصيحة حسنة كانت أو قبيحة وتجرّع الغيظ فإنّي لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذّ مغبّة , ولن لمن غالظك فإنّه يوشك أن يلين لك وخذ على عدوّك بالفضل فإنّه أحلى الظّفرين  وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما ومن ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه ولا تضيعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك وبينه فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ولا ترغبنّ فيمن زهد عنك ولا يكوننّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته ولا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان , ولا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك فإنّه يسعى في مضرّته ونفعك وليس جزاء من سرّك أن تسوءه ...

وضع الإمام الحكيم مناهج الاجتماع وقواعد الصداقة وما تستلزمه من الأخلاق والآداب وهذه النصائح من أثمن ما اثر عن علماء الأخلاق والاجتماع.

ولنستمع إلى بعض فصول هذه الوصية الخالدة يقول (عليه السلام) : واعلم يا بنيّ! أنّ الرّزق رزقان : رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى! إنّما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك وإن كنت جازعا على ما تفلّت من يديك فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك استدلّ على ما لم يكن بما قد كان فإنّ الأمور أشباه ؛ ولا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت في إيلامه فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب والبهائم لا تتّعظ إلاّ بالضّرب اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر وحسن اليقين من ترك القصد جار والصّاحب مناسب والصّديق من صدق غيبه  والهوى شريك العمى وربّ بعيد أقرب من قريب وقريب أبعد من بعيد والغريب من لم يكن له حبيب , من تعدّى الحقّ ضاق مذهبه ومن اقتصر على قدره كان أبقى له , وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله سبحانه ومن لم يبالك  فهو عدوّك قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطّمع هلاكا ليس كلّ عورة تظهر ولا كلّ فرصة تصاب وربّما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده , أخّر الشّرّ فإنّك إذا شئت تعجّلته وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل من أمن الزّمان خانه ومن أعظمه أهانه ليس كلّ من رمى أصاب إذا تغيّر السّلطان تغيّر الزّمان سل عن الرّفيق قبل الطّريق وعن الجار قبل الدّار ...

وحوت هذه البنود المشرقة آيات محكمات من الوصايا القيّمة والنصائح الرفيعة التي هي من ذخائر الحكمة ومن مناجم الآداب والتي لم يؤثر مثلها من أحد من عظماء الدنيا سوى الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) فقد وضعت المناهج الكاملة لحسن السلوك ولما يسمو به ويسعد به هذا الكائن الحيّ من بني الإنسان .

ولنقرأ البند الأخير من هذه الوصية قال (عليه السلام) : إيّاك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكا وإن حكيت ذلك عن غيرك , وإيّاك ومشاورة النّساء فإنّ رأيهنّ إلى أفن وعزمهنّ إلى وهن , واكفف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهنّ وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنّ وإن استطعت ألاّ يعرفن غيرك فافعل ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة  ولا تعد بكرامتها نفسها ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها وإيّاك والتّغاير في غير موضع غيرة فإنّ ذلك يدعو الصّحيحة إلى السّقم والبريئة إلى الرّيب , واجعل لكلّ إنسان من خدمك عملا تأخذه به فإنّه أحرى ألاّ يتواكلوا في خدمتك  وأكرم عشيرتك فإنّهم جناحك الّذي به تطير وأصلك الّذي إليه تصير ويدك الّتي بها تصول , استودع الله دينك ودنياك واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة والدّنيا والآخرة والسّلام .

وانتهت هذه الوصية وهي حافلة بالقيم الكريمة والمثل العليا والنصائح الرفيعة التي لم يؤثر نظيرها عن أي خليفة من خلفاء المسلمين وقد جاءت معبّرة عن مثل الإمام (عليه السلام) وطاقاته العلمية التي أضاءت سماء الإسلام.

وهناك وصيةٌ اخرى أوصى الإمام (عليه السلام) ولده الزكي الإمام الحسن (عليه السلام) بها حيث قال : اوصيك أي بنيّ! بتقوى الله وإقام الصّلاة لوقتها وإيتاء الزّكاة عند محلّها وحسن الوضوء ؛ فإنّه لا صلاة إلاّ بطهور ولا تقبل صلاة من مانع زكاة واوصيك بغفر الذّنب وكظم الغيظ وصلة الرّحم والحلم عند الجهل والتّفقّه في الدّين والتّثبّت في الأمر والتّعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجتناب الفواحش كلّها في كلّ ما عصي الله فيه .




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.