أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-8-2022
4075
التاريخ: 20-3-2018
4075
التاريخ: 15-5-2017
7097
التاريخ: 16-5-2017
8120
|
الأصل في قانون أصول المحاكمات الجزائية إن المحكمة الجزائية تبني عقيدتها على ما تطمئن إليه من أدلة وعناصر في الدعوى ما دامت مطروحة على بساط البحث(1). وبعبارة أخرى، إن العبرة في الإثبات في الإجراءات الجزائية هي باقتناع القاضي الجزائي بناءً على التحقيقات التي يجريها بنفسه واطمئنانه إلى الأدلة التي عول عليها في قضائه بإدانة المتهم أو براءته (2) . وأهم ما يبرر هذا المبدأ هو أن الأمر يتعلق في الدعوى الجزائية بإثبات وقائع قانونية وليس بإثبات أعمال قانونية، ذلك لأن الجناة يحرصون على إخفاء أفعالهم وإحاطة نشاطهم بنطاق من السرية يصعب معه استظهار وجه الحق في الدعوى الجزائية فيما لو أخذ المشرع بنظام مقيد للإثبات، ولكن مجال هذا المبدأ هو إثبات أركان الجريمة. أما المسائل الأولية، فأنها وإن كانت تدخل على نحو ما في البنيان القانوني للجريمة إلا أنها في حقيقتها تقابل مراكز قانونية تستمد مصدرها أما من أعمال قانونية أو وقائع قانونية لا تتضمن في ذاتها أي صفة غير مشروعة(3) ، لذا فيكون إثباتها وفقاً لوسائل الإثبات المقررة في القانون الذي تنتمي إليه. إذ أن من غير المتصور أن يكون مسموحاً للقاضي التحلل عند إثباته من القواعد المقررة في القانون المدني والتي تحظر عليه استمداد عقيدته بشأن قيام هذه المسألة إلا من الأدلة التي حددتها هذه القواعد، فهذه القاعدة تقرر مبدأ عاماً وهو مبدأ ارتباط قواعد الإثبات بطبيعة الموضوع الذي ترد عليه لا بنوع القضاء الذي يطبقه. وبعبارة أخرى، أن الإثبات يرتبط بنوع الموضوع المطروح على القضاء لا بنوع القضاء المطروح عليه الموضوع محل النزاع. فإذا كانت المسألة أو الموضوع ذا طبيعة مدنية خضع إثباتها أو إثباته للقواعد المدنية ولو كانت معروضة على القضاء الجزائي(4). ويعلل البعض هذه القاعدة، أنه إذا خول المشرع القضاء الجزائي أن يفصل في حقوق مدنية، فأن ذلك لا يخول صاحب الحق أن يصل إلى حقه بغير الطريق الذي كان يسلكه أمام القضاء ذي الاختصاص الأصلي، إضافة إلى أن قضاء القاضي الجزائي له حجيته على القاضي المدني ومن ثم يتعين ألا يكتسبها إلا إذا أستند إلى ذات وسائل الإثبات التي يقررها القانون المدني، وتطبق هذه القاعدة ولو لم يكن في الدعوى مدعٍ مدني(5). وبالتالي فإنه لو قيل بغير ذلك لكان للمدعي المدني أن يتهرب من قيود الإثبات المدنية باختيار الطريق الجزائي كلما أمكنه ذلك(6). وتجدر الإشارة إلى أن تقيد القاضي الجزائي بقواعد الإثبات المقررة في القانون المدني يمتد إلى المسائل المستأخرة التي قد يفصل فيها القاضي الجزائي استثناء، ومن أمثلة ذلك، مسائل الأحوال الشخصية إذا أنقضت المدة التي حددها القاضي لصاحب الشأن دون أن يستصدر فيها حكماً من الجهة المختصة(7). ولما كان التزام المحكمة الجزائية بوسائل الإثبات المدنية ما هو إلا قيدٌ يرد على حرية القاضي الجزائي في الإثبات، فلا بد من توافر شروط معينة لكي يلتزم بهذه الوسائل، وهي:-
أولاً: ألا تكون واقعة الإثبات هي بذاتها واقعة التجريم.
بمعنى أنه يلزم أن تكون الواقعة بالقوانين غير الجزائية هي مفترض للجريمة وليست هي المكونة للسلوك الإجرامي ذاته(8). فإذا كانت المسألة المدنية داخلة في تكوين ركن من أركان الجريمة فأن القيد ينحسر ليعود إلى القاعدة العامة في الإثبات الجزائي، وهي حرية القاضي الجزائي في تكوين عقيدته من أي دليل، فلا تتقيد بطرق الإثبات المدنية في إثبات هذه الواقعة(9). إذ أن التقيد بقواعد الإثبات المدني في الإثبات لا يكون له محل إذا كانت الواقعة المراد إثباتها تكون ذات النشاط الإجرامي أو الفعل المادي المكون للجريمة(10). فالفعل المادي إذا كان عبارة عن نفس واقعة التعاقد مثلاً، فلا مجال للتقيد بقيود الإثبات المدنية، ذلك أن إثبات عدم مشروعية العقد أو الغش في القانون مما يجوز إثباته بالطرق كافة بما فيها البينة والقرائن(11). هذا ومن باب أولى، إذا وصل عدم المشروعية أو الغش في القانون إلى حد الخضوع لإحكام قانون العقوبات، فضلاً عن توافر مانع حينئذ من الحصول على كتابة بسبب خوف المتعاقدين أو أحدهم من الوقوع تحت طائلة العقاب(12). لذا فيجوز بكافة الطرق إثبات قيمة القروض وفوائدها الحقيقية المتفق عليها في جرائم الاعتياد على الإقراض بالربا الفاحش بالغة مهما بلغت قيمتها، ولو بإثبات عكس المكتوب بالبينة والقرائن(13). وفي هذا الصدد فقد قضت محكمة النقض السورية (… إذ أن المحكمة مصدرة الحكم المطعون فيه أحاطت بواقعة الدعوى وناقشت الأدلة مناقشة صحيحة وتبين أن العقد هو دين بربا فاحش وهذا يجوز إثباته بكافة وسائل الإثبات، لذلك جاء الحكم في حكمه القانوني ……)(14). وفي خيانة الأمانة فأن الجريمة ليست في العقد الذي حصل الإخلال به، وإنما في الإخلال بالثقة، أي إذا تعلق الإثبات بتصرف المتهم المسلم إليه الشيء واستعماله، فأنه يكون للقاضي الجزائي أن يثبت هذا التصرف بكافة طرق الإثبات، وذلك لأن هذا التصرف هو المكون للسلوك الإجرامي في ذاته والذي يعاقب عليه القانون(15). وبالمثل فأنه في جريمة خيانة الأمانة يجوز إثبات بيع المتهم للمال المسلم إليه على سبيل الأمانة بطرق الإثبات كافة مهما أزدادت قيمته، لأن هذا البيع يتكون فيه النشاط الإجرامي الدال على تغير نية المتهم من الحيازة الناقصة إلى الحيازة على سبيل التملك(16). عليه فأن المسألة التي تخضع لقواعد الإثبات المدنية لابد أن يكون لها كيانها القانوني الذاتي، فتبقى لها طبيعتها غير الجزائية على الرغم من افتراض الجريمة لها، ذلك لأن موضع تطبيق قواعد الإثبات المدنية أن يكون التصرف القانوني مجرد مفترض للجريمة سابق في وجوده على ارتكاب الفعل الإجرامي، إذ يظل بذلك محتفظاً بطبيعته المدنية، أما إذا كان هذا التصرف هو ذات الفعل الإجرامي فأنه يعد تبعاً لذلك مسألة جزائية ويجوز إثباتها بجميع طرق الإثبات(17).
ثانياً: أن تكون الواقعة المتعلقة بالقوانين غير الجزائية لازمة للفصل في الدعوى الجزائية.
أن المحاكم الجزائية وهي تفصل في الدعوى الجزائية لا تتقيد بقواعد الإثبات الواردة في القانون المدني إلا إذا كان قضاؤها في الواقعة الجزائية يتوقف على وجوب الفصل في المسألة المدنية بحيث تكون عنصراً من عناصر الجريمة المطلوب منها الفصل فيها(18). وإذا لم تكن الواقعة المدنية عنصراً من عناصر الجريمة بل مجرد دليل استدلت به المحكمة على ثبوتها فلا تثريب عليها إن لم تلجأ إلى قواعد الإثبات المدني(19). ومثال ذلك أن تكون الجريمة سرقة، وأن تعول المحكمة على شهادة الشهود في إثبات أن المتهم هو الذي باع الأشياء المسروقة إلى من ضبطت عنده، ولو كانت قيمتها تزيد على ما يجوز فيه الإثبات بالبينة، ذلك لأن سماعها الشهود لم يكن في مقام إثبات تعاقد المتهم مع المشتري، وإنما كان في خصوص واقعة مادية بحتة جائز إثباتها بالبينة والقرائن وغير ذلك من طرق الإثبات المختلفة وهي مجرد اتصال المتهم بالأشياء المسروقة قبل انتقالها من يده إلى يد من ضبطت عنده بغض النظر عن حقيقة سند هذا الانتقال الذي لم يكن يدور حوله الإثبات لأنه مهما كان لا يؤثر في الدعوى(20). والشيء ذاته يقال، بأن تكون الجريمة هي إخفاء أشياء مسروقة فتعول المحكمة على بخس ثمن الشراء – ولو تجاوز الخمسة آلاف – لإثبات توافر العلم بمصدر الشيء المسروق على الرغم من عدم وجود محرر بالثمن.
ثالثاً: أن يكون الحكم صادر بالإدانة لا البراءة
لقد وضعت محكمة النقض المصرية شرطاً آخر لأجل تقيد المحكمة الجزائية بقواعد الإثبات المدني، وهو أن التزام القاضي الجزائي بقواعد الإثبات المدنية مقصور على الحالة التي يقضي فيها بالإدانة دون البراءة، وحجتها في ذلك أن القانون لم يوجب على القاضي الجزائي التقيد بتلك القواعد إلا رعاية لمصلحة المتهم حتى لا تقرر مسؤوليته وعقابه بناءً على دليل غير معتبر في القانون. وهذا الاحتياط لا موجب له عند الحكم بالبراءة، ولذلك يصح للقاضي التحلل من قواعد الإثبات المدنية تحقيقاً لمقصد المشرع في ألا يعاقب برئ مهما توافر في حقه من ظواهر الأدلة (21) . ومؤدى ذلك انه إذا قدم المجني عليه للمحكمة دليلاً كتابياً قاطعاً في إثبات التصرف القانوني المنشىء للأمانة، فذلك لا يقتضي بالضرورة وجوب اقتناع المحكمة بهذا الدليل، بل يظل لها مع ذلك حق حرمانه والقضاء ببراءة المتهم وأن لم يثبت لها بالدليل الكتابي ما يدحض دليل خصمه. وقد أيد جانب من الفقه في مصر الاتجاه الذي أخذت به محكمة النقض، ذاهبين بأن للمحكمة الجزائية في حالة الحكم بالبراءة أن تستمد اقتناعها بعدم وجود العلاقة المدنية التي تفترضها الجريمة من أي دليل (22). غير أن هناك رأي في الفقه(23). أراه صائباً، يذهب إلى أن اتجاه محكمة النقض محل نظر في أساسه ونتيجته، وحجته في ذلك.
1.انه ليس صحيحا ً القول أن التزام القضاء الجزائي بقواعد الإثبات المدنية مقصود به في المقام الأول مصلحة المتهم، وإنما المقصود به أساساً توكيد قاعدة أصولية تتحصل في أن طرق الإثبات تتبع موضوع الدعوى لا قاضيها، وهذا ما رددته أحكام القضاء مراراً، وعللت به التزام المحاكم الجزائية بقواعد الإثبات المدنية. وإذا كان هذا هو الأساس فلا مجال للتفرقة في المعاملة بين حالة الحكم بالإدانة وحالة الحكم بالبراءة، لأنها تفرقة لا تستقيم مع تلك القواعد، ولهذا يتعين التسليم بأنه إذا ثبت عقد الأمانة بدليل كتابي صحيح فلا يجوز القضاء ببراءة المتهم بحجة انتفاء هذا الشرط إلا إذا دحض هذا الدليل بدليل كتابي يعادله.
2.الحكم الجزائي الذي يقضي ببراءة المتهم يكون حجة أمام القضاء المدني، فإذا كان مبنى البراءة هو قيام المتهم بالرد أو حصول المقاصة بينه وبين المجني عليه، واعتمدت المحكمة الجزائية في ثبوت ذلك على البينة حيث كانت الكتابة واجبة، ثم رفعت الدعوى المدنية بعد ذلك أمام قاضيها الأصيل، حيل بين القاضي المدني وبين إلزام الأمين بما كان يمكنه إلزامه به لولا سبق رفع الدعوى أمام القضاء الجزائي، وهذه النتيجة غير ممكنة القبول. وتجدر الإشارة إلى أن العديد من القوانين المقارنة قد نصت صراحة على وجوب التزام القاضي الجزائي وسائل الإثبات المدنية حينما يفصل في المسائل العارضة الأولية ذات الطبيعة المدنية. فقد نص قانون الإجراءات الجنائية المصري في المادة (225) منه على أن (تتبع المحاكم الجنائية في المسائل غير الجنائية التي تفصل فيها تبعاً للدعوى الجنائية طرق الإثبات المقررة في القانون الخاص بتلك المسائل)(24). وقد اتجه الفقه(25). والقضاء في مصر على توكيد ما قننه قانون الإجراءات الجنائية المصري، وتطبيقاً لذلك فقد قضت محكمة النقض المصرية تقريراً لهذه القاعدة (لا يجوز لمحكمة الجنح قبول الإثبات بالبينة لإثبات الوديعة التي صار اختلاسها، متى كانت قيمتها أزيد من ……لأن تحريم القانون المدني هذا الإثبات يكون عديم الجدوى فيما لو أكتفى لأجل التخلص من هذا التحريم بالالتجاء لمحاكم الجنح)(26). وفي ليبيا فأن قانون الإجراءات الجنائية الليبي هو كذلك قد قنن هذا القيد في المادة (198) منه وعلى نفس الصيغة أو المبنى الذي جاء به قانون الإجراءات الجنائية المصري(27). وقد كان الفقه(28). والقضاء هناك مؤيدين ما جاء به القانون المذكور. فقد قضت المحكمة العليا الليبية (يتبين من نصوص قانون الإجراءات الجنائية أنه إذا أراد الإحالة على قانون آخر في شأن الدعوى المدنية، فأنه ينص على هذه الأحكام كما فعل في المادة (198) إجراءات)(29). وقد عالج قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري رقم 112 لسنة 1950 هذه المسألة ضمن المادة (175-2) والتي تنص على (إذا نص القانون على طريقة معينة للإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة)(30). والمادة (177) والتي تنص على (إذا كان وجود الجريمة مرتبطاً بوجود حق شخصي، وجب على القاضي إتباع قواعد الإثبات الخاصة به). وقد توجه الفقه في سوريا كذلك إلى أن المحاكم الجزائية تتبع عند الفصل في هذه المسائل الأولية أو الدفوع العارضة قواعد الإثبات المقررة في القانون الخاص بهذه المسائل.(31). وهو ما أخذ به القضاء الجزائي السوري أيضاً، وتطبيقاً لذلك فقد قضت محكمة النقض السورية بأنه (لما كانت مصلحة العدالة تقضي بانسجام قواعد الإثبات أمام المحاكم، فلا تختلف البينة لدى القضاء الجزائي عن القضاء المدني حينما يكون موضوع النزاع واحداً، ولذلك جاءت المادة (177) من الأصول الجزائية ونصت على انه إذا كان وجود الجريمة مرتبطاً بوجود حق شخصي وجب إتباع قواعد الإثبات الخاصة به، ومؤدى ذلك أن مبدأ حرية الاقتناع لدى المحاكم الجزائية لا يعمل به فيما إذا نص الشارع على طريقة معينة للإثبات. والمبدأ القانوني في ذلك هو أن طريقة الإثبات تتبع جوهر الخلاف فإذا كان النزاع مدنياً ويراد إثباته أمام المحاكم الجزائية فيجب التقيد بالقواعد المدنية، أما إذا كان النزاع في جريمة جزائية، فللقاضي أن يقوم بالتحقيق وفقاً للأصول الجزائية وغير مقيد بنوع خاص من البيانات، وإذا كان الفصل في الواقعة الجزائية يتوقف على إثبات مسألة مدنية تكون عنصراً من عناصر الجريمة فيجب تطبيق المادة (177) من الأصول الجزائية وإلا فلا..... وفي جريمة إساءة الأمانة يجب إثبات عقد الأمانة بالوسائل المدنية، أما الجريمة نفسها والتصرف بالأمانة فيمكن إثباتها بكل أنواع الإثبات)(32). أما في فرنسا فقد تناولت مذكرة (Barris) هذه المسألة، في معرض تبريرها لما اتجه إليه قضاء محكمة النقض (33). إذ تقرر (إن إثبات الجريمة أمر يخضع للاقتناع، والاختصاص بالجريمة التي تشكل الفعل الأصلي يستتبع حتماً الاختصاص بالعقد (المسالة الأولية) الذي يكون إنكاره دفعاً لهذه المسألة… ومن أجل تقدير وجود العقد غير المعترف بوجوده ينبغي على المحاكم أن ترجع إلى قواعد القانون المدني، وقواعد الإثبات المحددة في هذه المواد ليست مقتصرة على المحاكم المدنية ولكن المحاكم الجزائية ملزمة أيضاً بأتباعها). أما من جانب الفقه فقد ذهب - مقرراً هذا الاتجاه – إلى أن الصلاحية الممنوحة للقاضي الجزائي لأجل الفصل في المسألة العارضة الأولية لا تجيز له تطبيق قواعد الإثبات في المواد الجزائية، بل يجب عليه اللجوء إلى قواعد الإثبات التي يفرضها موضوع المسألة غير الجزائية (34). أما في العراق فلم يكن قانون أصول المحاكمات الجزائية النافذ، وبخلاف ما جاءت به القوانين العربية، قد نص صراحة بشأن معالجة هذه المسألة. ولكن على الرغم من التزام المشرع جانب الصمت بهذا الشأن، فأن الفقه الجزائي في العراق قد استقر على تقييد حرية القاضي الجزائي في الإثبات إذا كان الفصل في الدعوى الجزائية يقتضي الفصل في تصرف قانوني أو واقعة مدنية (مسألة أولية)(35). إذ يلتزم القاضي الجزائي قواعد الإثبات المنصوص عليها في قانون الإثبات المدني، ولهذا إذا كانت قيمة عقد الأمانة في جريمة خيانة الأمانة أكثر من خمسة آلاف دينار فلا يجوز إثباته إلا بالكتابة. ما لم يوجد مبدأ ثبوت بالكتابة(36).أو مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على الدليل الكتابي أو قد فقد السند بسبب أجنبي وعندئذ يجوز الإثبات بكافة طرقه(37). وقد أخذت محكمة التمييز العراقية بهذه القاعدة، وتطبيقاً لذلك قضت (إن طلب إحالة مدعى عليه إلى محكمة جزاء بتهمة حلف اليمين الكاذبة لا يسوغ، إذا كان المدعى به مما يحتم القانون إثباته بالدليل الكتابي، لأن معنى ذلك تحايل على القانون، والسماح بإثبات مبلغ يزيد على العشرة دنانير بالشهادة مع عدم جواز ذلك قانوناً)(38). وقبل الانتهاء من بحث هذا الموضوع، لابد من الإشارة إلى أن التزام القاضي الجزائي بتطبيق قواعد الإثبات في المواد المدنية متى توافرت في المسألة العارضة الأولية الشروط التي تم ذكرها، هو وجوبي، ذلك لأن الإثبات في المسائل المدنية مختلف عن الإثبات في المواد الجزائية. إذ أن في إباحة إثبات هذه الأوضاع المدنية بكافة طرق الإثبات طبقاً للنظرية الجزائية، فأن الموازين التي وضعها القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية لمراكز الأطراف فيها يختل. فلو تم تطبيق حرية الإثبات لأسفر ذلك من أن العقد الذي شكل مسألة أولية في الدعوى قد يكون قائماً في نظر القانون الجزائي وغير قائم في نظر القانون المدني، لأن القاعدة في القانون المدني هي أن الإثبات يعتمد على طبيعة الواقعة المراد إثباتها (39). ولكن الالتزام بإتباع وسيلة معينة من وسائل الإثبات المدنية ذاتها لا تعلق لها بالنظام العام، فالقيود التي جاء بها القانون المدني في مواد الإثبات لم توضع للمصلحة العامة وإنما وضعت لمصلحة الأفرا(40). لذا فأنه يجوز للخصم أن يتنازل صراحة أو ضمنا عن حقه في التمسك بالإثبات بالطريق الذي رسمه القانون، ويقبل منه أي دليل سواه(41). ويترتب على ذلك أن قضاء المحكمة الذي لا يتبع فيه تلك الطرق لا يكون باطلاً إلا إذا كان صاحب المصلحة قد تمسك صراحة بضرورة الإثبات بالطرق الواردة في القوانين غير الجزائية وذلك أمام محكمة الموضوع. إذ أن إغفاله التمسك بذلك أمام المحكمة المذكورة يجعل من الحكم الذي أصدرته صحيحاً(42). وبالتالي فيصح إثبات العقود التي تزيد قيمتها على خمسة آلاف دينار بالبينة بقبول المدعى عليه، صراحة أو ضمناً، ويجب على من يريد التمسك بالدفع بعدم جواز إثبات الحق المدعى به عليه بالبينة أن يتقدم بذلك إلى محكمة الموضوع قبل سماع الشهود، فإذا سكت فلا يجوز له بعد ذلك أن يتمسك به ولا للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها(43). وبهذا فإذا فاته التمسك أمام محكمة الموضوع بهذا الدفع فلا يقبل منه أن يثيره لأول مرة أمام محكمة التمييز، إضافة إلى ذلك فأنه ينبغي للمتمسك بهذا الدفع، أن يكون سابقاً على التعرض لموضوع الدعوى، فأن لم يوجه أي اعتراض على سماع الشهود قبل البدء في إدلائهم بالشهادة سقط حقه في التمسك بعد ذلك بضرورة الإثبات بالبينة الخطية(44). وتجدر الإشارة إلى أن الدفع بعدم جواز الإثبات بالبينة وأن كان لا يتعلق بالنظام العام إلا انه يعد من الدفوع الجوهرية التي يجب على محكمة الموضوع أن تعرض له وترد عليه(45). ولكن لا يتوجب على المحكمة بيانها لطريق الإثبات في الحكم الذي يصدر عنها، لعدم تعلق ذلك بواقعة في الدعوى وإنما هو خاص بإجراءات الإثبات، فلا تلتزم المحكمة بتعليل إجراءاتها في الحكم(46).
______________
[1]- لقد نص المشرع العراقي صراحة على هذا المبدأ في المادة(213) فقرة(أ) منه والتي تنص على أن(تحكم المحكمة في الدعوى بناء على اقتناعها الذي تكونَ لديها من الأدلة المقدمة في أي دور من أدوار التحقيق والمحاكمة…)
2- نقض19/1/1975-س 25- 15- 15، طعن رقم 1794 السنة44 قضائية، نقلا عن د. مأمون محمد سلامة- قانون الإجراءات الجنائية معلقاً عليه- المرجع السابق- ص522 .
3- يراجع ص 24من الرسالة.
4- د. كامل السعيد- شرح قانون العقوبات الأردني – الجرائم الواقعة على الأموال- دراسة تحليلية مقارنة- طبعة ثانية- مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع- عمان- 1993- ص313، 314.
5- د. محمود نجيب حسني- شرح قانون العقوبات- القسم الخاص- دار النهضة العربية- القاهرة- 1992- ص1157
6- د. رؤوف عبيد- المرجع السابق- ص746
7- د. فوزية عبد الستار- المرجع السابق- ص518
8- د. مأمون محمد سلامة- الإجراءات الجنائية في التشريع المصري- المرجع السابق- ص180 .
9- د. فوزية عبد الستار- المرجع السابق- ص519 .
0[1]- د. عمر السعيد رمضان- المرجع السابق- ص439 .
1[1]- د. محمد محي الدين عوض- الإثبات بين الازدواج والوحدة في الجنائي والمدني في السودان- دراسة مقارنة- مطبوعات جامعة القاهرة بالخرطوم- 1974-ص131
2[1]- د. رؤوف عبيد- المرجع السابق-ص478.
3[1]- د. رؤوف عبيد – المرجع نفسه اعلاه- ص 478.
4[1]- نقض سوري، قضية رقم 1435، أساس لعام 2000، رقم القرار 14736، تاريخ القرار 3/12/2000- مجلة المحامون السورية- العددان الخامس والسادس- السنة السابعة والستون- 2002ص520
5[1]- د. فاضل زيدان محمد- سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة- مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع- عمان – 1999-ص217.
6[1]- د. عادل محمد فريد قورة – المرجع السابق- ص522.
7[1]- د.محمود نجيب حسني – المرجع السابق-ص432.
8[1]- نقض مصري- 23/ 2/1959أحكام النقض س10 ق 31 ص143، نقلاً عن معوض عبد التواب- المرجع السابق-ص440.
9[1]- د. رؤوف عبيد- المرجع السابق- ص748.
20- نقض جنائي- 22 يناير-40- رقم 362،ص759،س21،قاعدة 460 ،ص74- الجدول العشري، نقلاً عن د. علي عوض حسن- جريمة التبديد- الطبعة الثانية- دار الثقافة للطبع والنشر- القاهرة- 1988- ص174.
[1]2- نقض 20/12/ 1981 في الطعن رقم 1552،س51ق، س32، ص1153، أشار إليه كامل مصطفى- المرجع السابق- 242. وفي قرار آخر، فقد قضت محكمة النقض المصرية( بأن المحكمة الجنائية في جريمة خيانة الأمانة في حل من التقيد بقواعد الإثبات المدنية عند القضاء بالبراءة، لأن القانون لا يقيدها بتلك القواعد إلا عند الإدانة في خصوص إثبات عقد الأمانة، وبالتالي فأن ما ينعاه الطاعن على الحكم بدعوى الفساد في الاستدلال ومخالفة القانون يكون غير سديد)، الطعن رقم 4897 لسنة 51 ق جلسة 18/5/1982، نقلاً عن مصطفى مجدي هرجة – المرجع السابق- ص332.
22- د. محمود محمود مصطفى- المرجع السابق-ص427،د. محمود نجيب حسني- المرجع السابق-ص424، كامل مصطفى- المرجع السابق- 242.
23- د.عوض محمد – جرائم الأشخاص والأموال- دارالمطبوعات الجامعية–الإسكندرية- 1985-ص483.
24- كان قانون تحقيق الجنايات المصري السابق يقضي بأن المحاكم الجزائية تتبع دائما قواعد الإثبات الجزائية حتى في المسائل المدنية التي تفصل فيها. ينظر علي زكي العرابي- المرجع السابق- ص 438، هامش (1)
25- ينظر على سبيل المثال د. حسن صادق المرصفاوي- المرجع السابق-ص634، د. رؤوف عبيد – المرجع السابق- ص745،د. عمر السعيد رمضان- المرجع السابق- ص 438.
26- 24 فبراير سنة 1974، القضاء، س55، ص183، نقلاً عن د. محمود نجيب حسني- المرجع السابق- ص 1157 هامش (2).
27- وعلى نفس الصيغة عالجت المادة (152) من قانون الإجراءات الجزائية الاماراتي هذه القضايا.
28- د. مأمون محمد سلامة – الإجراءات الجنائية في التشريع الليبي- الجزء الثاني- منشورات الجامعة الليبية- بدون سنة طبع- ص63
29- 13 يونيو 1972 م، س 9، العدد الأول، ص 207، نقلاً عن د. محمد الجازوي – المرجع السابق- ص168.
30- تجدر الإشارة إلى أن المشرع الأردني قد عالج هذه المسألة في المادة( 147) من قانون أصول المحاكمات الجزائية وعلى نفس المبنى الذي جاءت به المادة( 175-2) إجراءات سوري. ولقد ذهب الفقه الجزائي في الأردن تبعاً لذلك بشأن تفسير هذه المادة إلى أنه على وفق هذا النص يلزم القاضي الجزائي بضرورة التقيد بقواعد الإثبات المنصوص عليها في القانون المدني في حالة فصله بواقعة مدنية أثناء نظر الدعوى الجزائية.
ينظر د. عادل إبراهيم عبد العاني- جرائم الإعتداء على الأموال في قانون العقوبات- الطبعة الثانية- مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع- عمان- 1997- ص249، د. نائل عبد الرحمن صالح- الوجيز في الجرائم الواقعة على الأموال- دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- عمان- 1996- ص260، د. كامل سعيد- المرجع السابق- ص313.
[1]3- د. محمد الفاضل – المرجع السابق-ص528، سعدي بسيسو- المرجع السابق-ص524-525
32- نقض سوري في 6 يونيو سنة 1965، مجموعة القواعد القانونية رقم 9،ص9، نقلاً عن د. محمود محمود مصطفى- الإثبات في المواد الجنائية في القانون المقارن – النظرية العامة- موسوعة القضاء والفقه للدول العربية- الجزء 91- الدار العربية للموسوعات- 1980- ص 92، 93.
33- اتجهت هذه المذكرة في هذا الموضوع إلى تبرير ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية من أنه( إذا كانت الوقائع الجزائية يمكن إثباتها بشهادة الشهود وبكل طرق الاقتناع الأخرى البعيدة عن الإثبات الناجم عن الأعمال المكتوبة، فأن الوضع يختلف بالنسبة للوقائع المدنية التي يحكمها القانون المدني، والتي يكون إثباتها خاضعاً بمقتضاه للكتابة المثبتة له) نقض 17 يونيو 1813بلتان ق 129، ص 323، ينظر د. عبد العظيم مرسي وزير- المرجع السابق- ص 334.
-34 G.Vidal.G.Magnol-op-cit.p.783N655, J.M.Robert.op-cit.N33
35- د. حميد السعدي – المرجع السابق –ص136، د. علي جسين الخلف- المرجع السابق- ص 63، د. محمد ظاهر معروف – المرجع السابق- ص 94، د. فاضل زيدان محمد- المرجع السابق- ص 218، طه خضير القيسي- حرية القاضي في الاقتناع- دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد-2001-ص61.
36- فقد نصت المادة 77/ ثانياً من قانون الإثبات رقم 107 لسنة 1979 على ( إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على خمسة آلاف دينار أو كان غير محدد القيمة ، فلا يجوز إثبات هذا التصرف أو انقضائه بالشهادة ما لم يوجد أتفاق أو قانون خاص ينص على خلاف ذلك) وتنص المادة (78) على أنه( يجوز الإثبات بالشهادة في التصرفات القانونية حتى لو كان التصرف المطلوب تزيد قيمته على خمسة آلاف دينار إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة، ومبدأ ثبوت بالكتابة هو كل كتابة تصدر من الخصم يكون من شأنها أن تجعل وجود الحق المدعى به قريب الاحتمال)
37- حيث نصت المادة (18) من قانون الإثبات على ( يجوز أن يثبت بجميع طرق الإثبات ما كان يجب إثباته بالكتابة في حالتين الأول : إذا فقد السند الكتابي بسبب لا دخل لصاحبه به . ثانياً: إذا وجد مانع مادي أو أدبي حال دون الحصول على دليل كتابي).
38- إذ تتلخص هذه القضية في أن (ب) قد قدم عريضة إلى محكمة صلح بغداد طلب فيها إحالة (هـ) على الجهات المختصة لإجراء التحقيق ضده لحلفه يميناً كاذباً في الدعوى الصلحية المرقمة 10013-1959 من قبله على المدعي عليه (هـ). فقرر حاكم صلح بغداد في 5-4-1960 رفض طلب المدعي (ب) نظراً لأن مبلغ المدعى به يتجاوز العشرة دنانير وبموجب حكم صادر من محكمة فلا يجوز إثبات حلفها بالشهادة وإنما بالبينة التحريرية، فانه يؤدي إلى التحايل على القانون والسماح بإثبات المبلغ المذكور بالشهادة أمام حاكم التحقيق أو الجزاء. ميز المدعي (ب) القرار المذكور فجلبت محكمة التمييز أوراق الدعوى وتفرعاتها كافة لإجراء التدقيقات التمييزية عليها. ولدى التدقيق والمداولة – قرر تصديق القرار المميز لموافقته للقانون وصدر بالأكثرية. قرار محكمة التمييز المرقم 189/ التمييزية/ 1960 في 7/5/ 1960، مجلة القضاء – العدد الثالث- السنة الثالثة عشرة- 1960، ص 477.
39- د.محمد محي الدين عوض- المرجع السابق- ص130 هامش رقم(2) ، د. علي عوض حسن – المرجع السابق-ص173.
40- د. حسن صادق المرصفاوي- المرجع السابق- ص634.
[1]4- نقض مصري 110/ 5/1975، م.م.ق،س 27،ج،ص393،نقلاً عن أنور العمروسي- قانون الإجراءات الجنائية المعدل- القاهرة-بدون سنة طبع- ص101
42- د. مأمون محمد سلامة – المرجع السابق- ص182.
43- د. علي حسن عوض- المرجع السابق –ص 178.
44- د. كامل السعيد- المرجع السابق-ص323.
45- د. محمود نجيب حسني – شرح قانون الإجراءات الجنائية- المرجع السابق- ص423 هامش(6)، د. رؤوف عبيد – المرجع السابق-ص 747، د. فوزية عبد الستار- المرجع السابق – ص 519.
46-د. حسن صادق المرصفاوي- المرجع السابق- ص 635.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|