أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-7-2016
3876
التاريخ: 3-8-2016
3063
التاريخ: 31-7-2016
3347
التاريخ: 3-8-2016
2946
|
يعتبر مجلس المأمون الذي عقده للمناظرة بين الإمام الرضا عليه السلام وبين علماء الأديان والمذاهب ، مجلساً فريداً حيث لم ينعقد مجلس مثله من ظهور الإسلام إلى غيبة ولي الأمر أرواحنا فداه ! فلم يحدث أن جمع رئيس أقوى دولة كل القدرات العلمية على وجه الأرض ، وعرضوا قوتهم في مناظرة مع إمام معصوم عليه السلام !
لقد استعمل المأمون كل ما أوتي من دهاء وشيطنة ليحرج الإمام الرضا عليه السلام ويغلبه ولو واحد من أولئك العلماء فباؤوا جميعاً بالفشل !
وقد ورد في الحديث القدسي الذي أهداه جبرئيل عليه السلام مكتوباً على لوح إلى الصديقة الكبرى فاطمة عليها السلام فيه أسماء الأئمة من ولدها عليهم السلام ، ورد وصف المأمون بأنه : عفريت مستكبر ! ( الكافي ج 1 ص 527 ) ، والعفريت أطلق في القرآن في قصة سليمان عليه السلام على ذلك الجني الذي كان في مقابل وصي سليمان الذي عنده علمٌ من الكتاب : قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ . ( سورة النمل : 38 - 40 ) .
والتعبير عن المأمون بعفريت يدل على أنه جمع القدرة والشيطنة ، مع تكبره وتمرده !
إن ابتلاء كل معصوم بحاكم عصره يتم بقانون للإبتلاء حسب خصائص ذلك العصر والإمام وعلى هذا الامتحان الرباني يبتني مقام الإمام ودرجته عليه السلام !
كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في وصف الإمام الرضا عليه السلام قولها : ( يخرج رجل من ولد ابني موسى اسمه اسم أمير المؤمنين عليه السلام إلى أرض طوس وهي بخراسان يقتل فيها بالسم فيدفن فيها غريباً . من زاره عارفاً بحقه أعطاه الله عز وجل أجر من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) . ( من لا يحضره الفقيه : 2 / 583 ، وعيون أخبار الرضا : 1 / 285 ) .
وروى حمزة بن حمران قال : ( قال أبو عبد الله عليه السلام : يقتل حفدتي بأرض خراسان في مدينة يقال لها طوس ، من زاره إليها عارفاً بحقه أخذته بيدي يوم القيامة فأدخلته الجنة ، وإن كان من أهل الكبائر . قال : قلت جعلت فداك وما عرفان حقه ؟ قال : يعلم أنه إمامٌ مفترض الطاعة شهيد . من زاره عارفاً بحقه أعطاه الله تعالى أجر سبعين ألف شهيد ممن استشهد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله على حقيقة ) ( من لا يحضره الفقيه : 2 / 584 ، وعيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 289 )[1]
وإن كان من أهل الكبائر . . هذا تعبير عجيب يدل على مقام الإمام الرضا عليه السلام ومقام زواره ! والكلمة المحيرة أكثر بعده : أجر سبعين ألف شهيد . . الخ ! حيث إن المستشهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله منهم شهداء على المعنى الحقيقي ، ومنهم شهداء على المعنى المجازي ، وزائر الإمام الرضا عليه السلام له أجر سبعين ألف شهيد حقيقي ! !
إن فرق الإكسير عن الكيمياء كما يقول القدماء ، أن الكيمياء مادة تُحول المعدن إلى ذهب ، لكن الإكسير مادة تغير طبيعة المواد الأخرى وتعطيها خصائص الإكسير ! والإنسان إذا وصل إلى مرحلة من النجاح في الامتحان الإلهي الذي قرره الله له واختصه به ، يصبح مثل الإكسير بحيث لو تحركت شفتا إنسان عند قبره ينتقل أثر الإكسير عبر ضريحه اليه ، فَيُحْدِثُ انقلاباً في روح الزائر ، ويصير شهيداً مع النبي صلى الله عليه وآله في بدر !
إن ذلك من تأثير الإمام فيمن يزوره ، وخاصية إكسيره التي أثرت في زائره !
فماذا فعل الإمام الرضا عليه السلام حتى وصل إلى هذه الدرجة ؟
لقد عَبَرَ امتحانات ربه ، ومنها ابتلاؤه بذلك العفريت المستكبر ! وتحمل في جميع تلك الشدائد وصبَر ، حتى تعجبت الأنبياء عليهم السلام من صبره !
وماذا عسانا عرفنا عن الإمام الرضا عليه السلام : عن شخصيته ، وكيف عاش ، وكيف كان يمضي نهاره وليله ؟ وكيف امتحنه الله ، ونجح في الامتحان ؟ !
عندما أهدى قميصه إلى دعبل قال له : إحتفظ بهذا القميص ، فقد صليت فيه ألف ليلة ألف ركعة ، وختمت فيه القرآن ألف ختمة . ( أمالي الطوسي ص 359 )[2]
وكان يختم القرآن في ثلاثة أيام ، لكن كيف ؟ لا يمر بآية حتى يرى جوانبها وأطرافها ، وسبعة أعماقها ، ويستخرج من جواهرها ولآليها !
هذا عمله اليومي عليه السلام ، وعندما ابتلي بولاية العهد للمأمون كان مجلسه ينعقد كل يوم ، ويواجه أنواع الأحداث والمؤامرات !
ذات يوم قرر المأمون أن يجمع كيده فيجمع له ( السحرة ) من العلماء والمفكرين من أقطار الدنيا ليناظروه ويفحموه ! وخطط لذلك واستعمل فنون دهائه ، وأنواع سلطته ، وبريق ذهبه ! ( أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ( رئيس الأساقفة ) ورأس الجالوت ( عالم اليهود ) ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر ( عالم المجوس وقيل عظماء الهنود ) وأصحاب زردهشت ( زرادشت ) ونسطاس الرومي ( عالم بالطب ) والمتكلمين ( الفلاسفة وعلماء المذاهب الإسلامية ) ليسمع كلامه وكلامهم ، فجمعهم الفضل بن سهل ثم أعلم المأمون باجتماعهم ! ) ( عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2 / 139 )
إقرؤوا هذه المناظرة واعرفوا أئمة المسلمين عليهم السلام ! فقد روى العلماء والرواة قطعاً من أخبار ذلك المجلس حسب استيعابهم ، أو حسب ما وصلهم منها ، ومن ذلك : ( عن الحسن بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده علي بن موسى الرضا عليه السلام وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة ، فسأله بعضهم فقال له : يا بن رسول الله بأي شئ تصح الإمامة لمدعيها ؟
قال بالنص والدليل .
قال له : فدلالة الإمام فيما هي ؟
قال في العلم ، واستجابة الدعوة ) . ( عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 216 )[3]
ما معنى هذه الكلمة : قال بالنص والدليل ؟ هل فكرت لماذا ذكر الإمام عليه السلام طريقين لمعرفة الإمام ، فأضاف الدليل والمعجزة إلى النص ؟ !
روحي وأرواح العالمين لتراب مرقدك الفداء ، ماذا جمع الله فيك ؟ لستَ بحر علم فقط ، بل لقد لخص الله فيك عالم الوجود فقلت : بالنص والدليل !
مع ضيق الوقت ، نستفيد من هذه الكلمة الشريفة من ولي الله وحجته الإمام الرضا عليه السلام ، فإن الإمامة دعوى تثبت عن طريقين : النص والدليل ، أي بالعلم الذي خص الله به الامام ، والقدرة التي منحه الله إياها !
ذلك أن الإمام موجود تجتمع فيه خلاصة المقامات الإلهية التي يعطيها الله لخاصة أوليائه ! فله صفة : أمين الله ، التي نقرؤها في زيارة : أمين الله ، وهذه الزيارة على علو سندها تبدأ بعبارة : السلام عليك يا أمين الله في أرضه ، وفيها فصول من العلم ، كقوله بعد وصف الإمام بأمين الله : أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده ، وفي الربط بينهما بحث مهم ، فالإمام إنسان كامل ، وأحد مقومات كماله أنه أمين الله ، ومعناه أن الإمام عنده خزائن التشريع والتكوين !
راجعوا معنى الأمانة والأمين في القرآن والأحاديث لتعرفوا هذا المقام العظيم ، فقد وصف الله به كبار الرسل : إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، ووصف به سيد الملائكة جبرئيل : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم . ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ . ( سورة التكوير : 19 - 21 ) ووصف مسؤولية الأمانة الإلهية وثقلها : إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً . ( سورة الأحزاب : 72 ) .
وإضافة الأمانة إلى " الله " من بين الأسماء الحسنى ، تعطيها الشمولية التي ذكرناها ، لأن لفظ الجلالة " الله " يحوي خصائص الأسماء الحسنى كلها !
هذا هو معنى : أمين الله في أرضه . والأمين يحتاج إلى سند من المستأمِن يثبت أنه مستأمَن ، وإلا كانت دعوى استئمانه بلا دليل ، ولذا احتاج الإمام عليه السلام إلى نص يشهد له ! وهذا معنى قوله عليه السلام : بالنص والدليل .
والدليل هنا معناه الدلالة : وأن الإمام مضافاً إلى النص عليه من النبي صلى الله عليه وآله أو ممن نص عليه النبي صلى الله عليه وآله ، يعرف بدلالة العلم واستجابة الدعاء !
أما لماذا صار الدليل مركباً منهما ؟ فلأن الكمال في العالم منحصر فيهما ، فكل الكمالات الإنسانية ترجع إلى العلم والقدرة ! والإنسان الكامل هو المتصل بمنبع علم : لا نفاد لكلماته ، وبمخزن القدرة الذي : إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون . ( سورة آل عمران : 47 )
هذا هو البرهان ، أما العيان فقد تجسدت الدلالة في علم الإمام الرضا عليه السلام ودعواته المستجابة ومعجزاته الباهرة ! ويكفي في إثبات علمه عليه السلام هذه المناظرة التي هي مؤتمر ، بل مباهلة ، أعدَّ لها المأمون بكل ما أعطي من قدرة ، وكان حاكم أكبر دولة في العالم ، وكانت دولته في أوج قوتها ، فأمر رئيس وزرائه الفضل بن سهل أن يكتب إلى حكام الولايات ويجمع له من أرجاء البلاد علماء الأديان ، والمذاهب ، والفلاسفة ، وأصحاب الاتجاهات الفكرية ، حتى الإلحادية !
إن ما وصلنا عن مؤتمر المأمون ، يدل على أنه كان أعظم مما عرفنا عنه ! فقد جمعوا كبار علماء العالم من بلاد الهند وفارس والروم وبلاد العرب ، وذكرت بعض الروايات أنهم كانوا أربعة آلاف شخص ، جمعهم العفريت المستكبر ليحاجوا الإمام الرضا عليه السلام ، واستضافهم وبذل لهم ، وشجعهم على مناقشته حتى بالكفر والإلحاد ، وربما جعل الجوائز العظيمة لمن يغلب الإمام ! وقد امتدت الجلسة من بكرة الصباح إلى الظهر ، ثم استؤنفت بعد الظهر إلى المغرب !
وعندما أرسل المأمون ياسر الخادم وهو برتبة وزير إلى الإمام عليه السلام قبل يومٍ من المؤتمر يدعوه إلى الحضور غداً ، أجابه الإمام عليه السلام : أبلغه السلام وقل له قد علمتُ ما أردت ، وأنا صائرٌ إليك بكرةً إن شاء الله ! وهو تعبير كافٍ لإفهام المأمون بقبول التحدي !
وقل له قد علمتُ ما أردت ! واطلعت على نيتك وخطتك ، فقد استعملت أقصى شيطنتك ، وجمعت لي شياطين العلم في الأرض ، لكنك لن تستطيع إطفاء نور الله تعالى ، ولا إبطال حجته !
قال الحسن بن النوفلي : ( فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي : يا نوفلي أنت عراقي ورقَّة العراقي غير غليظة ، فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات ؟ ! فقلت : جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك ؟ ! ) .
ومع أن الإمام أعرف من النوفلي والحاضرين في مجلسه بنوايا المأمون وخططه ، لكنه أراد أن يكشفها لهم ، وأن يتم حجة الله تعالى .
وقد خاف النوفلي على الإمام عليه السلام من ذلك المجلس ، ليس من علم العلماء بل من شيطنتهم ، لأنهم رؤساء أديان وفرق ومذاهب واتجاهات ، ومن شيطنة المأمون الذي يقف وراءهم ! فالعالم يدلي برأيه لكن إذا ظهر له الحق يقبله ، أما رئيس الفرقة والمذهب فليس عنده استعداد لقبول الحق مهما كان واضحاً ، فهو يدافع عن دينه ومنصبه حتى بإنكار البديهيات !
قال النوفلي : قلت : ( إن أصحاب الكلام والبدعة خلاف العلماء ، وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة ، إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا صحح وحدانيته ! وإن قلت إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله قالوا أثبت رسالته ! ثم يباهتونه وهو يبطل عليهم بحجته ، ويغالطونه حتى يترك قوله ، فاحذرهم جعلت فداك . قال النوفلي : فتبسم الإمام عليه السلام ثم قال لي : يا نوفلي أفتخاف أن يقطعوا عليَّ حجتي ؟ ! فقلت : لا والله ما خفت عليك قط ، وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله تعالى .
فقال لي : يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ قلت : نعم .
قال : إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ! فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته ، وترك مقالته ورجع إلى قولي . . علم المأمون الموضع الذي هو سبيله ليس بمستحق له ! فعندها تكون الندامة ، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم ) .
يعني بذلك عليه السلام أنه إذا وصل الأمر من النص إلى الدلالة ، ومن النظري إلى العملي ، فسوف يندم المأمون لأنه سيتضح له ولغيره أن كرسيه في خلافة النبي صلى الله عليه وآله كرسي ، مغصوب ، وأن صاحب هذا الكرسي غيره !
وبدأ المجلس بكرةً ، بهجوم من رئيس الأساقفة ، وامتد إلى العصر بهجوم الفيلسوف العلماني عمران الصابي ! ولا يتسع الوقت لبيان تلك المطالب واللطائف التي استطاعت أن تحملها روايات النوفلي ، وهو عالم هاشمي له علاقة حسنة بالإمام عليه السلام وبالمأمون !
وما لبث رئيس الأساقفة أن هوى أرضاً ، وتحول حاخام اليهود رأس الجالوت إلى مسكين منكسر ، وآمن الهزبر الأكبر ، وتمرغ نسطاس الرومي بالتراب ! وواصل الإمام عليه السلام عمله يحصد بمنجل علومه الربانية أباطيل علماء الأديان والمذاهب واحداً بعد الآخر ، وهم يتهاوون صرعى في قاعة المجلس ! ولم يبق إلا بهلوان العلمانيين الملحدين عمران الصابي الذي ادخره المأمون ليكون آخر نبل في كنانته !
ونزل عمران الصابي إلى الميدان فإذا هو بحرٌ في علوم عصره ، متضلعٌ في كل فروع الفلسفة التي كانت في ذلك العصر ، لم يغلبه أحد في مناظرة في كل عمره ! وتكلم بما يملك من تعمق وتفنن في مبدأ الوجود وفي أفعال الله تعالى من المبدأ إلى المنتهى ، وطرح إشكالاته وأسئلته ، وأخذ الإمام عليه السلام يفندها ويجيبه عليها ، حتى وصل عمران إلى سؤال مفصلي ، وما أن أجابه الإمام عليه السلام بعلمه الرباني حتى خرَّ عمران أرضاً وهو يعلن أمام أربعة آلاف حاضر : أشهد أن لا إله إلا الله . . أشهد أن لا إله إلا الله !
لقد خُتم المجلس بعد الظهر بإسلام عمران الصابي ، ورأى النوفلي والجميع أن الإمام عليه السلام هو المعني بالنص والمعجزة التي تصدق كلامه ![4]
لقد رأى المأمون والمسلمون من الإمام الرضا عليه السلام آيات في العلم وفي استجابة الدعوة ! لكن المأمون عفريت متكبر وقد قال الله تعالى : قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ( سورة يونس : 101 )
رأوها في قضايا صغيرة وكبيرة ، وظهرت للعيان الحجج الرضوية من عالم آل محمد صلى الله عليه وآله ، أمام نخبة العالم من شرقه وغربه .
ثم رأوها في صلاة الاستسقاء العجيبة وما تلاها مما هو أعجب !
قال الصدوق في عيون أخبار الرضا : 1 / 179 : ( باب استسقاء المأمون بالرضا عليه السلام وما أراه الله عز وجل من القدرة في الاستجابة له ، وفي إهلاك من أنكر دلالته تلك : حدثنا أبو الحسن محمد بن القسم المفسر رضي الله عنه قال : حدثنا يوسف بن محمد بن زياد وعلي بن محمد بن سيار ، عن أبويهما ، عن الحسن بن علي العسكري ، عن أبيه علي بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي صلى الله عليه وآله أن الرضا عليه السلام علي بن موسى لما جعله المأمون ولي عهده ، احتبس المطر فجعل بعض حاشية المأمون والمتعصبين على الرضا يقولون أنظروا لمَّا جاءنا علي بن موسى وصار ولي عهدنا فحبس الله عنا المطر ! واتصل بالمأمون فاشتد عليه فقال للرضا عليه السلام قد احتبس المطر ، فلو دعوت الله عز وجل أن يمطر الناس ؟
فقال الرضا عليه السلام : نعم . قال : فمتى تفعل ذلك ؟ وكان ذلك يوم الجمعة . قال يوم الاثنين فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أتاني البارحة في منامي ومعه أمير المؤمنين عليه السلام وقال : يا بني انتظر يوم الاثنين فابرز إلى الصحراء واستسق ، فإن الله تعالى سيسقيهم وأخبرهم بما يريك الله مما لا يعلمون من حالهم ، ليزداد علمهم بفضلك ومكانك من ربك عز وجل !
فلما كان يوم الاثنين غدا عليه السلام إلى الصحراء وخرج الخلائق ينظرون فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : اللهم يا رب ، أنت عظمت حقنا أهل البيت فتوسلوا بنا كما أمرت ، وأملوا فضلك ورحمتك ، وتوقعوا إحسانك ونعمتك ، فاسقهم سقياً نافعاً عاماً غير رايث ولا ضائر ، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارهم .
قال : فوالذي بعث محمداً بالحق نبياً ، لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم وأرعدت وأبرقت ، وتحرك الناس كأنهم يريدون التنحي عن المطر ، فقال الرضا عليه السلام : على رسلكم أيها الناس فليس هذا الغيم لكم ، إنما هو لأهل بلد كذا ! فمضت السحابة وعبرت ، ثم جاءت سحابة أخرى تشتمل على رعد وبرق فتحركوا فقال : على رسلكم فما هذه لكم ، إنما هي لأهل بلد كذا ، فما زالت حتى جاءت عاشر سحابة وعبرت ، ويقول علي بن موسى الرضا في كل واحدة : على رسلكم ليست هذه لكم إنما هي لأهل بلد كذا ، ثم أقبلت سحابة حادية عشر فقال : أيها الناس هذه سحابة بعثها الله عز وجل لكم ، فاشكروا الله على تفضله عليكم ، وقوموا إلى مقاركم ومنازلكم ، فإنها مسامتة لكم ولرؤوسكم ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا إلى مقاركم ثم يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله .
ونزل من على المنبر وانصرف الناس ، فما زالت السحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم ثم جاءت بوابل المطر فملأت الأودية والحياض والغدران والفلوات ، فجعل الناس يقولون : هنيئاً لولد رسول الله كرامات الله عز وجل .
ثم برز إليهم الرضا عليه السلام وحضرت الجماعة الكثيرة منهم فقال : يا أيها الناس اتقوا الله في نعم الله عليكم فلا تنفروها عنكم بمعاصيه ، بل استديموها بطاعته وشكره على نعمه وأياديه ، واعلموا أنكم لا تشكرون الله بشئ بعد الايمان بالله وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد رسول الله صلى الله عليه وآله أحب إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم ، التي هي معبر لهم إلى جنان ربهم ، فإن من فعل ذلك كان من خاصة الله تبارك وتعالى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك قولاً ما ينبغي لقائل أن يزهد في فضل الله عليه فيه ، إن تأمله وعمل عليه ، قيل يا رسول الله هلك فلان وكان يعمل من الذنوب كيت وكيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : بل قد نجى ولا يختم الله عمله إلا بالحسنى ، وسيمحو الله عنه السيئات ويبدلها حسنات ! إنه كان يمر مرة في طريق عرض له مؤمن قد انكشفت عورته وهو لا يشعر فسترها عليه ولم يخبره مخافة أن يخجل !
ثم إن ذلك المؤمن عرفه في مهواه فقال له : أجزل الله لك الثواب وأكرم لك المآب ولا ناقشك في الحساب ، فاستجاب الله له فيه ! فهذا العبد لا يختم الله له إلا بخير بدعاء ذلك المؤمن ، فاتصل قول رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا الرجل فتاب وأناب وأقبل على طاعة الله عز وجل ، فلم يأت سبعة أيام حتى أغير على سرح المدينة ، فوجه رسول الله صلى الله عليه وآله في أثرهم جماعة ذلك الرجل أحدهم ، فاستشهد فيهم !
قال الإمام محمد بن علي بن موسى عليهم السلام : وعظم الله تبارك وتعالى البركة في البلاد بدعاء الرضا عليه السلام وقد كان للمأمون من يريد أن يكون هو ولي عهده من دون الرضا عليه السلام وحساد كانوا بحضرة المأمون للرضا عليه السلام فقال للمأمون بعض أولئك : يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تكون تاريخ الخلفاء في إخراجك هذا الشرف العميم والفخر العظيم من بيت ولد العباس إلى بيت ولد علي ! لقد أعنت على نفسك وأهلك ، جئت بهذا الساحر ولد السحرة ، وقد كان خاملاً فأظهرته ، ومتضعاً فرفعته ، ومنسياً فذكرت به ، ومستخفاً فنوهت به ، قد ملأ الدنيا مخرقةً وتشوفاً بهذا المطر الوارد عند دعائه ! ما أخوفني أن يخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي ! بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره إلى إزالة نعمتك والتواثب على مملكتك ، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك ؟ !
فقال المأمون : كان هذا الرجل مستتراً عنا يدعو إلى نفسه ، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ليكون دعاؤه لنا ، وليعترف بالملك والخلافة لنا ، وليعتقد فيه المفتونون به أنه ليس مما ادعى في قليل ولا في كثير وأن هذا الأمر لنا دونه ، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسده ويأتي علينا منه ما لا نطيقه ! والآن فإذ قد فعلنا به ما فعلنا ، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا ، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا ، فليس يجوز التهاون في أمره ، ولكنا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتى نصوره عند الرعايا بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه !
قال الرجل : يا أمير المؤمنين فولني مجادلته فإني أفحمه وأصحابه وأضع من قدره ، فلولا هيبتك في نفسي لأنزلته منزلته ، وبينت للناس قصوره عما رشحته له . قال المأمون : ما شئ أحب إليّ من هذا .
قال فاجمع جماعة وجوه مملكتك من القواد والقضاة وخيار الفقهاء ، لأبين نقضه بحضرتهم ، فيكون أخذاً له عن محله الذي أحللته فيه ، على علم منهم بصواب فعلك ! قال فجمع الخلق الفاضلين من رعيته في مجلس واسع قعد فيه لهم ، وأقعد الرضا عليه السلام بين يديه في مرتبته التي جعلها له ، فابتدأ هذا الحاجب بالكلام المتضمن للوضع من الرضا عليه السلام ، وقال له :
إن الناس قد أكثروا عنك الحكايات وأسرفوا في وصفك بما أرى إنك أن وقفت عليه برئت إليهم منه ، قال وذلك أنك قد دعوت الله في المطر المعتاد مجيئه ، فجاء فجعلوه آية معجزة لك أوجبوا لك بها أن لا نظير لك في الدنيا ، وهذا أمير المؤمنين أدام الله ملكه وبقاءه لا يوازى بأحد إلا رجح به ، وقد أحلك المحل الذي قد عرفت ، فليس من حقه عليك أن تسوغ الكاذبين لك وعليه ما يتكذبونه .
فقال الرضا عليه السلام : ما أدفع عباد الله عن التحدث بنعم الله عليَّ ، وإن كنت لا أبغي أشراً ولا بطراً . وأما ما ذكرت عن صاحبك الذي أحلني ما أحلني ، فما أحلني إلا المحل الذي أحله ملك مصر يوسف الصديق عليه السلام وكانت حالهما ما قد علمت ! فغضب الحاجب عند ذلك وقال :
يا ابن موسى لقد عدوت طورك وتجاوزك قدرك ، إن بعث الله بمطر مقدر وقته لا يتقدم ولا يتأخر ، جعلته آيةً تستطيل بها ، وصولةً تصول بها ، كأنك جئت بمثل آية الخليل إبراهيم عليه السلام لما أخذ رؤوس الطير بيده ودعا أعضاءها التي كان فرقها على الجبال فأتينه سعياً وتركَّبْنَ على الرؤوس وخَفَقْنَ وطِرْنَ بإذن الله تعالى ، فإن كنت صادقاً فيما توهم فأحييِ هذين وسلطهما علي ، فإن ذلك يكون حينئذ آية معجزة ، فأما المطر المعتاد مجيؤه ، فلست أنت أحق بأن يكون جاء بدعائك من غيرك الذي دعا كما دعوت !
وكان الحاجب أشار إلى أسدين مصورين على مسند المأمون الذي كان مستنداً إليه ، وكانا متقابلين على المسند ، فغضب علي بن موسى صلى الله عليه وآله وصاح بالصورتين : دونكما الفاجر فافترساه ولا تبقيا له عيناً ولا أثراً ! فوثبت الصورتان وقد عادتا أسدين فتناولا الحاجب ورضضاه وهشماه وأكلاه ولحسا دمه ! والقوم ينظرون متحيرين مما يبصرون ! فلما فرغا منه أقبلا على الرضا عليه السلام وقالا : يا ولي الله في أرضه ماذا تأمرنا نفعل بهذا ، أنفعل به ما فعلنا بهذا ؟ يشيران إلى المأمون ! فغشي على المأمون مما سمع منهما ، فقال الرضا عليه السلام : قفا ، فوقفا ! قال الرضا عليه السلام : صبوا عليه ماء ورد وطيبوه ، ففعل ذلك به وعاد الأسدان يقولان : أتأذن لنا أن نلحقه بصاحبه الذي أفنيناه ؟ قال : لا ، فإن لله عز وجل فيه تدبيراً هو ممضيه . فقالا : ماذا تأمرنا ؟ قال : عودا إلى مقركما كما كنتما ، فصارا إلى المسند وصارا صورتين كما كانتا ! !
فقال المأمون : الحمد لله الذي كفاني شر حميد بن مهران ، يعني الرجل المفترَس ، ثم قال للرضا عليه السلام : يا ابن رسول هذا الأمر لجدكم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم لكم ، فلو شئت لنزلت عنه لك ! فقال الرضا عليه السلام : لو شئت ناظرتك ولم أسألك ، فإن الله تعالى قد أعطاني من طاعة سائر خلقه مثل ما رأيت من طاعة هاتين الصورتين ، إلا جهال بني آدم فإنهم وإن خسروا حظوظهم فلله عز وجل فيه تدبير ، وقد أمرني بترك الاعتراض عليك وإظهار ما أظهرته من العمل من تحت يدك ، كما أمر يوسف بالعمل من تحت يد فرعون مصر !
قال : فما زال المأمون ضئيلاً في نفسه إلى أن قضى في علي بن موسى الرضا عليه السلام ما قضى ) ! ( ورواه الطبري في دلائل الإمامة ص 376 ، وابن حمزة في المناقب ص 467 )[5]
هذا هو علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه ، الذي سطعت شمس براهينه على العالم ، وأفحمت عدوه وحاسده المستكبر ، فرأى أنه لا بد أن يتخلص منه بقتله ، قبل أن يعشو المسلمون إلى ضوء هداه .
اللهم بجاه الرضا عندك ، وبحرمته لديك :
أكتب أسماءنا في دفتر محبيه ومواليه ، ولا تمحها .
ولنتوجه جميعاً في صباحنا ومسائنا إلى حرمه المقدس ولو بكلمتين :
اللهم صل على وليك علي بن موسى الرضا ، عددَ ما في علمك صلاةَ دائمة بدوام ملكك وسلطانك . اللهم سلم على وليك علي بن موسى الرضا ، عددَ ما في علمك ، سلاماً دائماً بدوام مجدك وعظمتك وكبريائك .
والحمد لله رب العالمين
[1] في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 288 : ( حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد قال : حدثنا محمد بن سليمان المصري عن أبيه عن إبراهيم بن أبي حجر الأسلمي ، قال : حدثنا قبيصة بن جابر بن يزيد الجعفي قال : سمعت وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول : حدثني سيد العابدين علي بن الحسين ، عن سيد الشهداء الحسين بن علي ، عن سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ستدفن بضعة مني بأرض خراسان ما زارها مكروب إلا نفس الله كربته ، ولا مذنب إلا غفر الله ذنوبه ) .
وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 290 : ( حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رضي الله عنه قال : حدثنا الحسين بن محمد بن عامر عن عمه عبد الله بن عامر ، عن سليمان بن حفص المروزي قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر صلى الله عليه وآله يقول : من زار قبر ولدي علي كان له عند الله تعالى سبعون حجة مبرورة قلت : سبعون حجة ؟ قال : نعم وسبعون ألف حجة ثم قال : رب حجة لاتقبل . ومن زاره أو بات عنده ليله كمن زار الله تعالى في عرشه قلت : كمن زار الله في عرشه ؟ قال : نعم إذا كان يوم القيامة كان على عرش الله تعالى أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين ، فأما الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، وأما الأربعة الآخرون فمحمد وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم ، ثم يمد المطمار فتقعد معنا زوار قبور الأئمة . ألا إن أعلاهم درجة وأقربهم حبوةً زوار قبر ولدي علي . قال مصنف هذا الكتاب رحمة الله عليه : معنى قوله عليه السلام : كان كمن زار الله تعالى في عرشه ليس بتشبيه ، لأن الملائكة تزور العرش وتلوذ به وتطوف حوله ، وتقول نزور الله في عرشه كما نقول : نحج بيت الله ونزور الله ، لأن الله تعالى ليس بموصوف بمكان ، تعالى عن ذلك علواً كبيرا ) .
[2] في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 294 : ( حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدب وعلي بن عبد الله الوراق رضي الله عنهما قالا : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : دخل دعبل بن علي الخزاعي رحمه الله علي موسى الرضا عليه السلام بمرو فقال له : يا بن رسول الله إني قد قلت فيك قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك . فقال عليه السلام : هاتها ، فأنشده :
مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ * ومنزل وحي مقفر العرصات . . .
فلما بلغ إلى قوله :
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً * وأيديهم من فيئهم صفرات
بكى أبو الحسن الرضا عليه السلام وقال له : صدقت يا خزاعي .
فلما بلغ إلى قوله :
إذا وُتروا مدوا إلى واتريهم * أكفاً عن الأوتار منقبضات
جعل أبو الحسن عليه السلام يقلب كفيه ويقول : أجل والله منقبضات !
فلما بلغ إلى قوله :
لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها * وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
قال الرضا عليه السلام : آمنك الله يوم الفزع الأكبر .
فلما انتهى إلى قوله :
وقبر ببغداد لنفس زكية * تضمنها الرحمن في الغرفات
قال له الرضا عليه السلام : أفلا ألحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك ؟
فقال : بلى يا ابن رسول الله ، فقال عليه السلام :
وقبر بطوس يا لها من مصيبة تَوقَّدُ في الأحشاء بالحرقات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائما يفرج عنا الهمَّ والكربات
فقال دعبل : يا ابن رسول الله هذا القبر الذي بطوس قبر من هو ؟
فقال الرضا عليه السلام : قبري ، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزواري ، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له .
ثم نهض الرضا عليه السلام بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة ، وأمره أن لا يبرح من موضعه ، فدخل الدار فلما كان بعد ساعة خرج الخادم إليه بمائة دينار رضوية فقال له : يقول لك مولاي إجعلها في نفقتك . فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شئ يصل إليَّ ، ورد الصرة وسأل ثوباً من ثياب الرضا عليه السلام ليتبرك ويتشرف به ، فأنفذ إليه الرضا عليه السلام جبة خز مع الصرة وقال للخادم : قل له خذ هذه الصرة فإنك ستحتاج إليها ، ولا تراجعني فيها ، فأخذ دعبل الصرة والجبة وانصرف وسار من مرو في قافلة ، فلما بلغ ميان قوهان وقع عليهم اللصوص فأخذوا القافلة بأسرها ، وكتفوا أهلها وكان دعبل فيمن كتف وملك اللصوص القافلة وجعلوا يقسمونها بينهم ، فقال رجل من القوم متمثلاً بقول دعبل في قصيدته :
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات
فسمعه دعبل فقال له : لمن هذا البيت ؟ فقال لرجل من خزاعة يقال له دعبل بن علي ، قال : فأنا دعبل قائل هذه القصيدة التي منها هذا البيت ! فوثب الرجل إلى رئيسهم وكان يصلي على رأس تل ، وكان من الشيعة فأخبره فجاء بنفسه حتى وقف على دعبل وقال له : أنت دعبل ؟ فقال نعم . فقال له أنشدني القصيدة فأنشدها فحل كتافه وكتاف جميع أهل القافلة ، ورد إليهم جميع ما أخذ منهم لكرامة دعبل !
وسار دعبل حتى وصل إلى قم ، فسأله أهل قم أن ينشدهم القصيدة فأمرهم أن يجتمعوا في المسجد الجامع ، فلما اجتمعوا صعد المنبر فأنشدهم القصيدة ، فوصله الناس من المال والخلع بشئ كثير ، واتصل بهم خبر الجبة فسألوه أن يبيعها بألف دينار ، فامتنع من ذلك ، فقالوا له : فبعنا شيئاً منها بألف دينار فأبى عليهم ، وسار عن قم ، فلما خرج من رستاق البلد لحق به قوم من أحداث العرب وأخذوا الجبة منه ، فرجع دعبل إلى قم وسألهم رد الجبة فامتنع الأحداث من ذلك وعصوا المشايخ في أمرها ، فقالوا لدعبل : لا سبيل إلى لك إلى الجبة ، فخذ ثمنها ألف دينار فأبى عليهم ، فلما يئس من ردهم الجبة سألهم أن يدفعوا إليه شيئاً منها فأجابوه إلى ذلك ، وأعطوه بعضها ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار . وانصرف دعبل إلى وطنه فوجد اللصوص قد أخذوا جميع ما كان في منزله فباع المأة الدينار التي كان الرضا عليه السلام وصله بها فباع من الشيعة كل دينار بمأة درهم ، فحصل في يده عشرة آلاف درهم ، فذكر قول الرضا عليه السلام : إنك ستحتاج إلى الدنانير ، وكانت له جارية لها من قلبه محل فرمدت عينها رمداً عظيماً ، فأدخل أهل الطب عليها فنظروا إليها فقالوا : أما العين اليمنى فليس لنا فيها حيلة وقد ذهبت ، وأما اليسرى فنحن نعالجها ونجتهد ونرجو أن تسلم ، فاغتم لذلك دعبل غماً شديداً وجزع عليها جزعاً عظيماً ، ثم إنه ذكر ما كان معه من وصلة الجبة فمسحها على عيني الجارية وعصبها بعصابة منها ، أول الليل فأصبحت وعيناها أصح ما كانتا من قبل ببركة أبي الحسن الرضا عليه السلام . قال مصنف هذا الكتاب رحمة الله عليه : إنما ذكرت هذا الحديث في هذا الكتاب وفي هذا الباب ، لما فيه من ثواب زيارة الرضا عليه السلام .
ولدعبل بن علي خبر عن الرضا عليه السلام في النص على القائم عليه السلام أحببت ايراده على أثر هذا الحديث : حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول : لما أنشدت مولاي الرضا عليه السلام قصيدتي التي أولها :
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
فلما انتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرضا عليه السلام بكاء شديداً ثم رفع رأسه إلي فقال لي : يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ؟ ومتى يقوم ؟ فقلت : لا يا سيدي ، إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً ، فقال : يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم ، المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره . لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً . وأما متى ؟ فإخبار عن الوقت ، ولقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قيل له : يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال : مثله مثل الساعة لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إلا بَغْتَةً ( سورة الأعراف : 187 ) .
[3] في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 216 : ( حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه قال : حدثني أبي قال : حدثنا أحمد بن علي الأنصاري عن الحسن بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده علي بن موسى الرضا عليه السلام وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة ، فسأله بعضهم فقال له :
يا بن رسول الله بأي شئ تصح الإمامة لمدعيها ؟ قال عليه السلام : بالنص والدليل .
قال له : فدلالة الإمام فيما هي ؟ قال عليه السلام : في العلم واستجابة الدعوة .
قال : فما وجه إخباركم بما يكون ؟ قال عليه السلام : ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال : فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس ؟ قال عليه السلام له : أما بلغك قول الرسول صلى الله عليه وآله : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ؟ قال : بلى .
قال عليه السلام : وما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه ، وقد جمع الله للأئمة ما فرقه في جميع المؤمنين وقال عز وجل في محكم كتابه : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ( سورة الحجر : 75 ) فأول المتوسمين رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أمير المؤمنين عليه السلام من بعده ، ثم الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين عليهم السلام إلى يوم القيامة .
قال : فنظر إليه المأمون فقال له : يا أبا الحسن زدنا مما جعل الله لكم أهل البيت .
فقال الرضا عليه السلام : إن الله عز وجل أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك ، لم تكن مع أحد ممن مضى إلا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهي مع الأئمة منا تسددهم وتوفقهم ، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عز وجل !
قال له المأمون : يا أبا الحسن بلغني أن قوماً يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد !
فقال الرضا عليه السلام : حدثني أبي موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لا ترفعوني فوق حقي ، فإن الله تبارك تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً ، قال الله تبارك وتعالى : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( سورة آل عمران : 79 - 80 )
وقال علي عليه السلام : يهلك فيَّ اثنان ولا ذنب لي : محب مفرط ، ومبغض مفرط .
وأنا أبرأ إلى الله تبارك وتعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدنا ، كبراءة عيسى بن مريم عليه السلام من النصارى ، قال الله تعالى : وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ . مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَئٍ شَهِيدٌ ( سورة المائدة : 116 - 117 ) . وقال عز وجل : لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ( سورة النساء : 172 )
وقال عز وجل : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ( سورة المائدة : 75 ) ومعناه أنهما كانا يتغوطان ، فمن ادعى للأنبياء ربوبية وادعى للأئمة ربوبية أو نبوة ، أو لغير الأئمة إمامة ، فنحن منه براء في الدنيا والآخرة .
فقال المأمون : يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة ؟
فقال الرضا عليه السلام : إنها لحق ، قد كانت في الأمم السالفة ، ونطق به القرآن وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة . وقال صلى الله عليه وآله : إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم عليه السلام فصلى خلفه . وقال : إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء . قيل يا رسول الله ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يرجع الحق إلى أهله .
فقال المأمون : يا أبا الحسن فما تقول في القائلين بالتناسخ ؟
فقال الرضا عليه السلام : من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم ، مكذب بالجنة والنار .
قال المأمون : ما تقول في المسوخ ؟
قال الرضا عليه السلام : أولئك قوم غضب الله عليهم فمسخهم ، فعاشوا ثلاثة أيام ثم ماتوا ولم يتناسلوا . فما يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك مما وقع عليهم اسم المسوخية ، فهو مثل ما لا يحل أكلها والانتفاع بها .
قال المأمون : لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن ، فوالله ما يوجد العلم الصحيح إلا عند أهل البيت ، وإليك انتهت علوم آبائك ، فجزاك الله عن الاسلام وأهله خيراً .
قال الحسن بن جهم : فلما قام الرضا عليه السلام تبعته ، فانصرف إلى منزله فدخلت عليه وقلت له : يا ابن رسول الله الحمد لله الذي وهب من جميل رأي أمير المؤمنين عليه السلام ما حمله ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك .
فقال عليه السلام : يا ابن الجهم لا يغرنك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني فإنه سيقتلني بالسم وهو ظالم لي ! أن أعرف ذلك بعهد معهود إليَّ من آبائي عن رسول الله صلى الله عليه وآله فاكتم هذا ما دمت حياً . قال الحسن بن الجهم : فما حدثت أحداً بهذا الحديث إلى أن مضى عليه السلام بطوس مقتولاً بالسم ، ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائي ، في القبة التي فيها قبر هارون الرشيد ، إلى جانبه ! ) .
[4] في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2 / 139 : ( باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع أهل الأديان وأصحاب المقالات في التوحيد عند المأمون :
حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه القمي ثم الإيلاقي رضي الله عنه قال : أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقه القمي قال : حدثنا أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري الكجي قال : حدثني من سمع الحسن بن محمد النوفلي ثم الهاشمي يقول : لما قدم علي بن موسى الرضا عليه السلام على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ( رئيس الأساقفة ) ورأس الجالوت ( عالم من اليهود ) ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر ( الهرابذة خدم نار المجوس وقيل عظماء الهنود ) وأصحاب زردهشت ( زرادشت ) ونسطاس الرومي ( بالرومية عالم بالطب ) والمتكلمين ( تشمل الفلاسفة وعلماء المذاهب الإسلامية ) ليسمع كلامه وكلامهم ، فجمعهم الفضل بن سهل ، ثم أعلم المأمون باجتماعهم فقال : أدخلهم عليَّ ففعل ، فرحب بهم المأمون ثم قال لهم : إني إنما جمعتكم لخير وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم عليَّ ، فإذا كان بكرةً فاغدوا ولا يتخلف منكم أحد ، فقالوا : السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله .
قال الحسن بن محمد النوفلي : فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم ( خادم للمأمون برتبة وزير ) وكان يتولى أمر أبي الحسن عليه السلام فقال له : يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول : فداك أخوك إنه جُمع اليَّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل ، فرأيك في البكور إلينا إن أحببت كلامهم ، وإن كرهت ذلك فلا تتجشم ، وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا . فقال أبو الحسن : أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرةً إن شاء الله .
قال الحسن بن النوفلي : فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي : يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة ، فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات ؟ ! فقلت : جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك ؟ ولقد بني على أساس غير وثيق البنيان ، وبئس والله ما بنى !
فقال لي : وما بناؤه في هذا الباب ؟ قلت : إن أصحاب الكلام والبدعة خلاف العلماء ، وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة ، إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا صحح وحدانيته ! وإن قلت إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله قالوا أثبت رسالته ! ثم يباهتونه وهو يبطل عليهم بحجته ، ويغالطونه حتى يترك قوله ! فاحذرهم جعلت فداك .
قال فتبسم ثم قال لي : يا نوفلي أفتخاف أن يقطعوا عليَّ حجتي ؟ !
فقلت : لا والله ما خفت عليك قط ، وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله تعالى .
فقال لي : يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ قلت : نعم .
قال : إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ! فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته ، وترك مقالته ورجع إلى قولي ، علم المأمون الموضع الذي هو سبيله ليس بمستحق له ! فعندها تكون الندامة ، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم .
فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له : جعلت فداك إن ابن عمك ينتظرك ، وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه ؟
فقال له الرضا عليه السلام : تقدمني فإني صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله .
ثم توضأ وضوء للصلاة ، وشرب شربه سويق وسقانا منه ، ثم خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون ، وإذا المجلس غاص بأهله : محمد بن جعفر وجماعة من الطالبيين والهاشميين ، والقواد حضور ، فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم ، فما زالوا وقوفاً والرضا جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا ، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدثه ساعة ، ثم التفت إلى الجاثليق فقال يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا ، وابن علي بن طالب صلوات الله عليهم ، فأحب أن تكلمه أو تحاجه وتنصفه . فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلاً يحتج على بكتاب أنا منكره ، ونبي لا أؤمن به ؟
فقال له الرضا عليه السلام : يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به ؟ قال الجاثليق : وهل أقدر على رفع ما نطق الإنجيل ؟ نعم والله أقرُّ به على رغم أنفي .
فقال له الرضا عليه السلام : سل عما بدا لك واسمع الجواب .
فقال الجاثليق : ما تقول في نبوة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئاً ؟
قال الرضا عليه السلام : أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشر به أمته وأقرت به الحواريون ،
وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وبكتابه ، ولم يبشر به أمته .
قال الجاثليق : أليس إنما نقطع الأحكام بشاهدي عدل ؟ قال عليه السلام : بلى .
قال : فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد صلى الله عليه وآله ممن لا تنكره النصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا .
قال الرضا عليه السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصراني ، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ؟
قال الجاثليق : ومن هذا العدل ؟ سمه لي .
قال عليه السلام : ما تقول في يوحنا الديلمي ؟
قال : بخ بخ ، ذكرت أحب الناس إلى المسيح .
قال : فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال : إنما المسيح أخبرني بدين محمد العربي ، وبشرني به أنه يكون من بعده ، فبشرت به الحواريين فآمنوا به .
قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشر بنبوة رجل ، وبأهل بيته ووصيه ، ولم يلخص متى يكون ذلك ، ولم يسم لنا القوم فنعرفهم . قال الرضا عليه السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به ؟ قال : سديداً .
قال الرضا عليه السلام : لنسطاس الرومي كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل ؟ قال : ما أحفظني له . ثم التفت عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال : ألست تقرأ الإنجيل ؟ قال : بلى لعمري .
قال : فخذ عليَّ السفر ، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي ، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي !
ثم قرأ عليه السلام السفر الثالث حتى بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وقف ، ثم قال : يا نصراني إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل ؟ قال : نعم .
ثم تلا عليه السلام علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته ، ثم قال : ما تقول يا نصراني هذا قول عيسى مريم عليه السلام ؟ فإن كذبت بما ينطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى عليها السلام ! ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لأنك تكون قد كفرت بربك ونبيك وبكتابك !
قال الجاثليق : لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل ، وإني لمقر به .
قال الرضا عليه السلام : اشهدوا على إقراره .
ثم قال عليه السلام : يا جاثليق سل عما بدا لك ؟
قال الجاثليق : أخبرني عن حواري عيسى بن مريم عليه السلام كم كان عدتهم ؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟
قال الرضا عليه السلام : على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً ، وكان أعلمهم وأفضلهم ألوقا ، وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنا الأكبر بأج ( قيل موضع بالبصرة ) ، ويوحنا بقرقيسيا ( بلد على الفرات بسوريا ) ، ويوحنا الديلمي برجاز ( رجاز واد بنجد وأج مكان هناك ) وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله وذكر أهل بيته وأمته ، وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به ، ثم قال له :
يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وما ننقم على عيساكم شيئاً إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته !
قال الجاثليق : أفسدت والله علمك ، وضعفت أمرك ! وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الاسلام ! قال الرضا عليه السلام : وكيف ذاك ؟
قال الجاثليق : من قولك إن عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة وما أفطر عيسى يوماً قط ، ولا نام بليل قط ، وما زال صائم الدهر ، وقائم الليل ! قال الرضا عليه السلام : فلمن كان يصوم ويصلي ؟ !
قال فخرس الجاثليق وانقطع ! !
قال الرضا عليه السلام : يا نصراني أسألك عن مسألة .
قال : سل فإن كان عندي علمها أجبتك .
قال الرضا عليه السلام : ما أنكرت أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله عز وجل ؟
قال الجاثليق : أنكرت ذلك من أجل أن من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، فهو رب مستحق لأن يعبد .
قال الرضا عليه السلام : فإن اليسع قد صنع مثل صنع عيسى عليه السلام مشى على الماء وأحيا الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم تتخذه أمته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل !
ولقد صنع حزقيل النبي عليه السلام مثل ما صنع عيسى بن مريم ، فأحيا خمسة وثلاثين ألف
رجل من بعد موتهم بستين سنة !
ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له : يا رأس الجالوت ، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة ، اختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل ، فأرسله الله عز وجل إليهم فأحياهم ؟ ! هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم !
قال رأس الجالوت : قد سمعنا به وعرفناه . قال : صدقت .
ثم قال : يا يهودي خذ عليَّ هذا السفر من التوراة . فتلا عليه السلام علينا من التوراة آيات ، فأقبل اليهودي يترجج لقرائته ويتعجب !
ثم أقبل على النصراني فقال : يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم ؟ قال : بل كانوا قبله .
فقال الرضا عليه السلام : لقد اجتمعت قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له : إذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك : يا فلان ويا فلان ويا فلان ، يقول لكم محمد رسول الله قوموا بإذن الله عز وجل ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ! فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ثم خبروهم أن محمداً بعث نبياً ، فقالوا : وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ! ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين ، وكلمه البهايم والطير والجن والشياطين ، ولم نتخذه رباً من دون الله عز وجل ، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم ، فمتى اتخذتم عيسى رباً جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل رباً ، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم عليهم السلام من إحياء الموتى وغيره . وإن قوماً من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة ، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة ، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميماً ، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ، ومن كثرة العظام البالية ، فأوحى الله عز وجل إليه : أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم ؟ قال : نعم يا رب ، فأوحى الله عز وجل إليه : أن ناداهم فقال : أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عز وجل ، فقاموا أحياء أجمعون ، ينفضون التراب عن رؤوسهم !
ثم إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام حين أخذ الطير فقطعهن قطعاً ، ثم وضع على كل جبل منهن جزءً ، ثم ناداهن فأقبلن سعياً إليه .
ثم موسى بن عمران عليه السلام وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له : إنك قد رأيت الله سبحانه فأرناه ، فقال لهم إني لم أره فقالوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ( سورة البقرة : 55 ) فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً فقال : يا رب اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم ، وأرجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به ؟ ! فلو شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ( سورة الأعراف : 155 ) فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم .
وكل شئ ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه ، لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به . فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين ، يتخذ رباً من دون الله ، فاتخذ هؤلاء كلهم أرباباً ! ! ما تقول يا يهودي ؟ !
فقال الجاثليق : القول قولك ، ولا إله إلا الله .
ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال : يا يهودي أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران عليه السلام هل تجد في التوراة مكتوباً بنبأ محمد صلى الله عليه وآله وأمته : إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبحون الرب جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد ، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم ، لتطمئن قلوبهم ، فإن بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض ! أهكذا هو في التوراة مكتوب ؟
قال رأس الجالوت : نعم إنا لنجده كذلك .
ثم قال للجاثليق : يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا عليه السلام ؟
قال : أعرفه حرفاً حرفاً .
قال لهما : أتعرفان هذا من كلامه : يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر !
فقالا : قد قال ذلك شعيا عليه السلام .
قال الرضا عليه السلام : يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى عليه السلام : إني ذاهب إلى ربكم وربي والبارقليطا جاءٍ هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت ، وهو الذي يفسر لكم كل شئ ، وهو الذي يبدأ فضائح الأمم وهو الذي يكسر عمود الكفر !
فقال الجاثليق : ما ذكرت شيئاً من الإنجيل إلا ونحن مقرون به .
فقال : أتجد هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليق ؟ قال : نعم .
قال الرضا عليه السلام : يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول ، حين افتقدتموه عند من وجدتموه ؟ ومن وضع لكم هذا الإنجيل ؟
فقال له : ما افتقدنا الإنجيل إلا يوماً واحداً حتى وجدناه غضاً طرياً فأخرجه الينا يوحنا ومتى .
فقال له الرضا عليه السلام : ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه ؟ ! فإن كان هذا كما تزعم ، فلم اختلفتم في الإنجيل وإنما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أياديكم اليوم ، فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه ، ولكني مفيدك علم ذلك : إعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم : قتل عيسى بن مريم عليه السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم ؟ فقال لهم ألوقا ومرقابوس : إن الإنجيل في صدورنا ونحن نخرجه إليكم سفراً سفراً في كل أحد ، فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنائس ، فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفراً سفراً ، حتى نجمعه كله . فقعد ألوقا ومرقابوس ويوحنا ومتى ، فوضعوا لكم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول ، وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأولين ! أعلمت ذلك ؟
فقال الجاثليق : أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن ، وبان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء مما علمته شهد قلبي أنها حق فاستزدت كثيراً من الفهم .
فقال له الرضا عليه السلام : فكيف شهادة هؤلاء عندك ؟
قال : جائزة ، هؤلاء علماء الإنجيل وكلما شهدوا به فهو حق .
قال الرضا عليه السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيره : اشهدوا عليه ، قالوا : قد شهدنا .
ثم قال عليه السلام للجاثليق : بحق الابن وأمه هل تعلم أن متى قال : إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب يهوذا بن خضرون ، فقال مرقابوس في نسب عيسى مريم :
إنه كلمة الله أحلها في جسد الآدمي فصارت إنساناً ، وقال ألوقا : إن عيسى بن مريم عليه السلام وأمه كانا إنسانين من لحم ودم ، فدخل فيها الروح القدس .
ثم إنك تقول من شهادة عيسى على نفسه : حقاً أقول لكم : يا معشر الحواريين إنه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها ، إلا راكب البعير خاتم الأنبياء فإنه يصعد إلى السماء وينزل . فما تقول في هذا القول ؟
قال الجاثليق : هذا قول عيسى لا ننكره .
قال الرضا عليه السلام : فما تقول في شهادة ألوقا ومرقابوس ومتى على عيسى وما نسبوه إليه ؟
قال الجاثليق : كذبوا على عيسى .
فقال : الرضا عليه السلام : يا قوم أليس قد زكاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق ؟
فقال الجاثليق : يا عالم المسلمين أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء .
قال الرضا عليه السلام : فإنا قد فعلنا . سل يا نصراني عما بدا لك ؟
قال الجاثليق : ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك .
فالتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال له : تسألني أو أسألك ؟
فقال : بل أسألك ولست أقبل منك حجه إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو بما في صحف إبراهيم وموسى .
قال الرضا عليه السلام : لا تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران ، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم ، والزبور على لسان داود .
فقال رأس الجالوت : من أين تثبت نبوة محمد ؟
قال الرضا عليه السلام : شهد بنبوته موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عز وجل في الأرض . فقال له : ثبت قول موسى بن عمران ؟
فقال له الرضا عليه السلام : هل تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم : إنه سيأتيكم نبي من إخوانكم فبه فصدقوا ، ومنه فاسمعوا ؟ فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل ؟ ! إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والسبب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه السلام ؟ !
فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لا ندفعه .
فقال له الرضا عليه السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد صلى الله عليه وآله ؟
قال : لا . قال الرضا عليه السلام : أوليس قد صح هذا عندكم ؟
قال : نعم ، ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة .
فقال له الرضا عليه السلام : هل تنكر أن التوراة تقول لكم : جاء النور من قبل طور سيناء ، وأضاء لنا من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران ؟
قال رأس الجالوت : أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها !
قال الرضا عليه السلام : أنا أخبرك به : أما قوله جاء النور من قبل طور سيناء ، فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على جبل طور سيناء . وأما قوله : وأضاء لنا من جبل ساعير ، فهو الجبل الذي أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام . وأما قوله : واستعلن علينا جبل فاران ، فذلك جبل من جبال مكة بينه وبينها يوم ، وقال شعياء النبي عليه السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة رأيت راكبين أضاءت لهم الأرض ، أحدهما على حمار والآخر على جمل ، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل ؟
قال رأس الجالوت : لا أعرفهما فخبرني بهما .
قال : أما راكب الحمار فعيسى عليه السلام ، وأما راكب الجمل فمحمد صلى الله عليه وآله أتنكر هذا من التوراة ؟ ! قال : لا ما أنكره .
ثم قال الرضا عليه السلام : هل تعرف حيقوق النبي عليه السلام ؟ قال : نعم إني به لعارف .
قال عليه السلام : فإنه قال : وكتابكم ينطق به جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته ، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البر ، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس ، يعني بالكتاب الفرقان ! أتعرف هذا وتؤمن به ؟
قال رأس الجالوت : قد قال ذلك حيقوق النبي عليه السلام ولا ننكر قوله .
قال الرضا عليه السلام : فقد قال داود في زبوره وأنت تقرأه : اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة ، فهل تعرف نبياً أقام السنة بعد الفترة غير محمد صلى الله عليه وآله ؟ !
قال رأس الجالوت : هذا قول داود نعرفه ، ولا ننكر ولكن عنى بذلك عيسى وأيامه هي الفترة . قال له الرضا عليه السلام : جهلت أن عيسى عليه السلام لم يخالف السنة وكان موافقاً لسنة التوراة ، حتى رفعه الله إليه ، وفي الإنجيل مكتوب : إن ابن البرة ذاهب والبارقليطا جاءٍ من بعده ، وهو الذي يحفظ الآصار ويفسر لكم شئ ، ويشهد لي كما شهدت له . أنا جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل ! أتؤمن بهذا في الإنجيل ؟ قال : نعم . فقال له الرضا عليه السلام : يا رأس الجالوت أسألك عن نبيك موسى بن عمران عليه السلام . فقال : سل .
قال : ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته ؟
قال اليهودي : إنه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله .
قال له : مثل ماذا ؟ قال : مثل فلق البحر وقلبه العصا حية تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، وإخراجه يده بيضاء للناظرين ، وعلاماته لا يقدر الخلق على مثلها .
قال له الرضا عليه السلام : صدقت في أنه كانت حجته على نبوته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله . أفليس كل من ادعى أنه نبي ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ ! قال : لا ، لأن موسى عليه السلام لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه ولا يجب علينا الإقرار بنبوة من ادعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به .
فقال الرضا عليه السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام ولم يفلقوا البحر ، ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشره عيناً ، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء ، ولم يقلبوا العصا حية تسعى ؟ قال اليهودي : قد خبرتك أنه متى ما جاؤوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ، ولو جاؤوا بما يجئ به موسى ، أو كان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم .
قال له الرضا عليه السلام : يا رأس الجالوت ، فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم وقد كان يحيى الموتى ويبرء الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله تعالى ؟ قال رأس الجالوت : يقال إنه فعل ذلك ولم نشهده .
قال الرضا عليه السلام : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته ؟ أليس إنما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك ؟ قال : بلى . قال : فكذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم عليه السلام فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى ؟
فلم يحر جواباً .
قال الرضا عليه السلام : وكذلك أمر محمد صلى الله عليه وآله وما جاء به ، وأمر كل نبي بعثه الله . ومن آياته أنه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً ، لم يتعلم كتاباً ولم يختلف إلى معلم ، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبارهم حرفاً حرفاً وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى .
قال رأس الجالوت : لم يصح عندنا خبر عيسى ولا خبر محمد ، ولا يجوز لنا أن نقر لهما بما لا يصح . قال الرضا عليه السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد صلى الله عليه وآله شاهد زور ؟ فلم يحر جواباً .
ثم دعا بالهربذ الأكبر ، فقال له الرضا عليه السلام : أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي ما حجتك على نبوته ؟
قال : إنه أتى بما لم يأتنا أحد قبله ، ولم نشهده ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحله غيره فاتبعناه .
قال عليه السلام : أفليس إنما أتتكم الأخبار فاتبعتموه ؟ قال : بلى .
قال : فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون ، وأتى به موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام فما عذركم في ترك الإقرار لهم إذ كنتم إنما أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة بأنه جاء بما لم يجئ به غيره ؟ فانقطع الهربذ مكانه .
فقال الرضا عليه السلام : يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم . فقام إليه عمران الصابي وكان واحداً من المتكلمين فقال :
يا عالم الناس لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل ، فلقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ، ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيته ، أفتأذن لي أسألك ؟
قال الرضا عليه السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو ؟ قال : أنا هو .
قال عليه السلام : سل يا عمران وعليك بالنصفة وإياك والخطل والجور .
فقال : والله يا سيدي ما أريد إلا أن تثبت لي شيئاً أتعلق به فلا أجوزه .
قال عليه السلام : سل عما بدا لك ، فازدحم الناس وانضم بعضهم إلى بعض .
فقال عمران الصابي : أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق .
فقال له عليه السلام : سألت فافهم ، أما الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شئ معه بلا حدود وأعراض ، ولا يزال كذلك ، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة ، لا في شئ أقامه ولا في شئ حده ولا على شئ حذاه ومثله له ، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة ، واختلافاً وائتلافاً ، وألواناً وذوقاً وطعماً ، لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به ، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً تعقل هذا يا عمران ؟ قال : نعم والله يا سيدي .
قال عليه السلام : واعلم يا عمران أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة ، لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق ، لأن الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى ، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنه كان لم يحدث من الخلق شيئاً إلا حدثت به حاجة أخرى ، ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجة ، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض ، وفضل بعضهم على بعض ، بلا حاجة منه إلى فضل ، ولا نقمة منه على من أذل ، فلهذا خلق .
قال عمران : يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه ؟
قال الرضا عليه السلام : إنما يكون المعلمة بالشئ لنفي خلافه ، وليكون الشئ نفسه بما نفى عنه موجوداً ، ولم يكن هناك شئ يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشئ عن نفسه بتحديد ما علم منها ، أفهمت يا عمران ؟ قال : نعم والله سيدي فأخبرني بأي شئ علم ما علم ، أبضمير أم بغير ذلك ؟ قال الرضا عليه السلام : أرأيت إذا علم بضمير هل يجد بداً من أن يجعل لذلك الضمير حداً تنتهي إليه المعرفة ؟ قال عمران : لا بد من ذلك .
قال الرضا عليه السلام : فما ذلك الضمير ؟ ! فانقطع ولم يحر جواباً .
قال الرضا عليه السلام : لا بأس إن سألتك عن الضمير نفسه تعرفه بضمير آخر ؟ فإن قلت نعم أفسدت عليك قولك ودعواك . يا عمران أليس ينبغي أن تعلم أن الواحد ليس يوصف بضمير ، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع ، وليس يتوهم منه مذاهب وتجزية كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم ، فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صواباً .
قال عمران : يا سيدي ألا تخبرني حدود خلقه كيف هي ، وما معانيها وعلى كم نوع تكون ؟
قال : قد سألت فاعلم أن حدود خلقه على ستة أنواع ، ملموس وموزون ومنظور إليه وما لا ذوق له وهو الروح ، ومنها منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولاحس ولا لون ولا ذوق ، وهو التقدير والأعراض والصور والطول والعرض ، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها وتغيرها من حال إلى حال ، وتزيدها وتنقصها . فأما الأعمال والحركات فإنها تنطلق ، لأنه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه ، فإذا فرغ من الشئ انطلق بالحركة وبقى الأثر ويجري مجرى الكلام يذهب ويبقى أثره . قال عمران : يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شئ غيره ولا شئ معه ؟ أليس قد تغير بخلقه الخلق ؟
قال له الرضا عليه السلام : قديم لم يتغير عز وجل بخلقه الخلق ، ولكن الخلق يتغير بتغيره .
قال عمران : يا سيدي فبأي شئ عرفناه ؟ قال : بغيره . قال : فأي شئ غيره ؟ قال الرضا عليه السلام : مشيته واسمه وصفته وما أشبه ذلك ، وكل ذلك محدث مخلوق مدبر .
قال عمران : يا سيدي فأي شئ هو ؟
قال : هو نور بمعنى أنه هاد خلقه من أهل السماء وأهل الأرض ، وليس لك عليَّ أكثر من توحيدي إياه . قال عمران : يا سيدي أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق ثم نطق ؟
قال الرضا عليه السلام : لا يكون السكوت إلا عن نطق قبله ، والمثل في ذلك أنه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق ولا يقال إن السراج ليضئ فيما يريد أن يفعل بنا ، لأن الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون ، وإنما هو ليس شئ غيره ، فلما استضاء لنا قلنا قد أضاء لنا حتى استضأنا به ، فبهذا تستبصر أمرك .
قال عمران : يا سيدي فإن الذي كان عندي أن الكائن قد تغير في فعله عن حاله بخلقه الخلق ؟ قال الرضا عليه السلام : أحلت يا عمران في قولك إن الكائن يتغير في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره ! يا عمران هل تجد النار تغيرها تغير نفسها ؟ وهل تجد الحرارة تحرق نفسها ؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره ؟
قال عمران : لم أر هذا إلا أن تخبرني يا سيدي أهو في الخلق ؟ أم الخلق فيه ؟
قال الرضا عليه السلام : أجلُّ يا عمران عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه ، تعالى عن ذلك ، وساء علمك ، ما تعرفه ، ولا قوه الا بالله . أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك ؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه ، فبأي شئ استدللت بها على نفسك يا عمران ؟
قال : بضوء بيني وبينها .
قال الرضا عليه السلام : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر مما تراه في عينك ؟ قال : نعم .
قال الرضا عليه السلام : فأرناه ! فلم يحر جواباً .
قال : فلا أرى النور إلا وقد دلك ودل المرآة على أنفسكما ، من غير أن يكون في واحد منكما . ولهذا أمثال كثيرة غير هذا ، لا يجد الجاهل فيها مقالاً ، ولله المثل الأعلى .
ثم التفت إلى المأمون فقال : الصلاة قد حضرت . فقال عمران : يا سيدي لا تقطع عليَّ مسألتي فقد رق قلبي . قال الرضا عليه السلام : نصلي ونعود ، فنهض ونهض المأمون فصلى الرضا عليه السلام داخلاً ، وصلى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر ، ثم خرجا فعاد الرضا عليه السلام إلى مجلسه ودعا بعمران فقال : سل يا عمران .
قال : يا سيدي ألا تخبرني عن الله عز وجل هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف ؟
قال الرضا عليه السلام : إن الله المبدئ الواحد الكائن الأول ، لم يزل واحداً لا شئ معه ، فرداً لا ثانيَ معه ، لا معلوماً ولا مجهولاً ولا محكماً ولا متشابهاً ، ولا مذكوراً ولا منسياً ولا شيئاً يقع عليه اسم شئ من الأشياء غيره ، ولا من وقت كان ، ولا إلى وقت يكون ، ولا بشئ قام ، ولا إلى شئ يقوم ، ولا إلى شئ استند ، ولا في شئ استكن ، وذلك كله قبل الخلق إذ لا شئ غيره ، وما أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم . واعلم أن الابداع والمشيئة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة ، وكان أول إبداعه وإرادته ومشيته الحروف التي جعلها أصلا لكل شئ ، ودليلا على كل مدرك ، وفاصلا لكل مشكل ، وبتلك الحروف تفريق كل شئ من اسم حق وباطل ، أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى ، وعليها اجتمعت الأمور كلها . ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها تتناهى ، ولا وجود لها لأنها مبدعة بالإبداع .
والنور في هذا الموضع أول فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض ، والحروف هي المفعول بذلك الفعل ، وهي الحروف التي عليها مدار الكلام والعبارات ، كلها من الله عز وجل ، علمها خلقه وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً ، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على لغات العربية ، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفاً تدل على لغات السريانية والعبرانية ، ومنها خمسة أحرف متحرفة في سائر اللغات من العجم والأقاليم . واللغات كلها وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات ، فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً ، فأما الخمسة المختلفة ف ( يتجحخ ) لا يجوز ذكرها أكثر مما ذكرناه ، ثم جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدتها فعلاً منه كقوله عز وجل : ( كُنْ فَيَكُون ) ، وكن منه صنع ، وما يكون به المصنوع . فالخلق الأول من الله عز وجل الإبداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حس . والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها ، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً إليه ، والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنه ليس قبله عز وجل شئ ، ولا كان معه شئ ، والإبداع سابق للحروف ، والحروف لا تدل على غير نفسها .
قال المأمون : وكيف لا تدل على غير أنفسها ؟
قال الرضا عليه السلام : لأن الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً ، فإذا ألف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقل ، لم يؤلفها بغير معنى ، ولم يكن إلا لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شئ . قال عمران : فكيف لنا بمعرفة ذلك ؟
قال الرضا عليه السلام : أما المعرفة فوجه ذلك وبيانه أنك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير نفسها ذكرتها فرداً فقلت : ا ب ت ث ج ح خ ، حتى تأتي على آخرها ، فلم تجد لها معنى غير أنفسها ، وإذا ألفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها إسماً وصفةً لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت ، كانت دليلةً على معانيها داعيةً إلى الموصوف بما أفهمته ؟ قال : نعم .
قال الرضا عليه السلام : واعلم أنه لا يكون صفة لغير موصوف ، ولا اسم لغير معنى ، ولا حد لغير محدود ، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال والوجود ، ولا تدل على الإحاطة كما تدل الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس ، لأن الله عز وجل تدرك معرفته بالصفات والأسماء ، ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض والقلة والكثرة واللون والوزن وما أشبه ذلك ، وليس يحل بالله جل وتقدس شئ من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا ، ولكن يدل على الله عز وجل بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدل عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين ولا استماع أذن ولا لمس كف ولا إحاطة بقلب . ولو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدل عليها أسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه ، كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه ، فلولا أن ذلك كذلك لكان المعبود الموحد غير الله ، لأن صفاته وأسماءه غيره ، أفهمت ؟ قال : نعم يا سيدي زدني .
قال الرضا عليه السلام : إياك وقول الجهال من أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله جل وتقدس موجود في الآخرة للحساب في الثواب والعقاب ، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ، ولو كان في الوجود لله عز وجل نقص واهتضام ، لم يوجد في الآخرة أبداً ، ولكن القوم تاهوا وعموا وصموا عن الحق ، من حيث لا يعلمون ، وقوله عز وجل : وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( سورة الإسراء : 72 ) يعني أعمى عن الحقائق الموجودة ، وقد علم ذووا الألباب أن الاستدلال على ما هناك لا يكون إلا بما هاهنا ، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها ، لم يزدد من علم ذلك إلا بعداً ، لأن الله عز وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون .
قال عمران : يا سيدي ألا تخبرني عن الإبداع أخلق هو أم غير خلق ؟
قال الرضا عليه السلام : بل خلق ساكن لا يدرك بالسكون ، وإنما صار خلقاً لأنه شئ محدث والله تعالى الذي أحدثه فصار خلقاً له ، وإنما هو الله عز وجل وخلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما ، فما خلق الله عز وجل لم يعد أن يكون خلقه ، ويكون الخلق ساكناً ومتحركاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً ، وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عز وجل . واعلم أن كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس ، وكل حاسة تدل على ما جعل الله عز وجل لها في إدراكها ، والفهم من القلب بجميع ذلك كله .
واعلم أن الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقاً مقدراً بتحديد وتقدير وكان الذي خلق خلقين اثنين التقدير والمقدر ، وليس في كل واحد منهما لون ولا وزن ولا ذوق ، فجعل أحدهما يدرك بالآخر وجعلهما مدركين بنفسهما ، ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره ، للذي أراد من الدلالة على نفسه ، وإثبات وجوده ، فالله تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه ، ولا يعضده ، ولا يكنه ، والخلق يمسك بعضه بعضاً بإذن الله تعالى ومشيئته .
وإنما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة ، في وصفهم الله تعالى بصفة أنفسهم فازدادوا من الحق بعداً ، ولو وصفوا الله عز وجل بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ، ولما اختلفوا فلما طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه ارتكبوا ، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم .
قال عمران : يا سيدي أشهد أنه كما وصفت ، ولكن بقيت لي مسألة ؟
قال : سل عما أردت . قال : أسألك عن الحكيم في أي شئ هو ؟ وهل يحيط به شئ ؟ وهل يتحول من شئ إلى شئ ؟ أو به حاجه إلى شئ ؟
قال الرضا عليه السلام : أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه ، فإنه من أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم ، وليس يفهم المتفاوت عقله العازب حلمه ، ولا يعجز عن فهمه أولوا العقل المنصفون . أما أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول : يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك ، ولكنه عز وجل لم يخلق شيئاً لحاجة ، ولم يزل ثابتاً لا في شئ ولا على شئ ، إن الخلق يمسك بعضه بعضاً ، ويدخل بعضه في بعض ويخرج منه ، والله جل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله وليس يدخل في شئ ولا يخرج منه ، ولا يؤده حفظه ، ولا يعجز عن إمساكه ، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا الله عز وجل ، ومن أطلعه عليه من رسله ، وأهل سره ، والمستحفظين لأمره ، وخزانه القائمين بشريعته ، وإنما أمره كلمح البصر أو هو أقرب ، إذا شاء شيئاً فإنما يقول له ( كن فيكون ) بمشيئته وإرادته ، ولا شئ من خلقه أقرب إليه من شئ ، ولا شئ أبعد منه من شئ . أفهمت يا عمران ؟
قال : نعم يا سيدي قد فهمت ، وأشهد أن الله تعالى على ما وصفتَ ووحدتَ ، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده المبعوث بالهدى ودين الحق ، ثم خر ساجداً نحو القبلة وأسلم .
قال الحسن بن محمد النوفلي : فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي وكان جدلاً لم يقطعه عن حجته أحد منهم قط ، لم يدن من الرضا عليه السلام أحد منهم ، ولم يسألوه عن شئ ، وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام فدخلا ، وانصرف الناس .
وكنت مع جماعه من أصحابنا إذ بعث اليَّ محمد بن جعفر فأتيته فقال لي : يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك ؟ ! لا والله ما ظننت أن علي بن موسى الرضا عليه السلام خاض في شئ من هذا قط ، ولا عرفناه أنه كان يتكلم بالمدينة أو يجتمع إليه أصحاب الكلام !
قلت : قد كان الحاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم ، وربما كلم من يأتيه بحاجة . فقال محمد بن جعفر : يا أبا محمد إني أخاف عليه أن يحسده عليه هذا الرجل فيسمه ، أو يفعل به بلية ، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء . قلت : إذاً لا يقبل مني ، وما أراد الرجل إلا امتحانه ليعلم هل عنده شئ من علوم آبائه ؟ فقال لي : قل له إن عمك قد كره هذا الباب ، وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء لخصال شتى . فلما انقلبت إلى منزل الرضا عليه السلام أخبرته بما كان عن عمه محمد بن جعفر فتبسم عليه السلام ثم قال : حفظ الله عمي ما أعرفني به لم كره ذلك ؟ يا غلام صر إلى عمران الصابي فأتني به . فقلت : جعلت فداك أنا أعرف موضعه ، وهو عند بعض إخواننا من الشيعة ، قال : فلا بأس قربوا إليه دابة ، فصرت إلى عمران فأتيته به فرحب به ودعا بكسوة فخلعها عليه ، وحمله ودعا بعشرة آلاف درهم ، فوصله بها .
قلت : جعلت فداك حكيت فعل جدك أمير المؤمنين عليه السلام ، قال : هكذا نحب ، ثم دعا بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره حتى إذا فرغنا ، قال لعمران : انصرف مصاحباً وبكر علينا ، نطعمك طعام المدينة .
فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم ، حتى اجتنبوه ، ووصله المأمون بعشره آلاف درهم ، وأعطاه الفضل مالاً وحمله وولاه صدقات بلخ ، فأصاب الرغائب ) . انتهى .
* *
أقول : يظهر أن النوفلي وأبا الصلت الهروي والحسن بن الجهم وأمثالهم من العلماء ، الذين نقلوا مناظرات الإمام الرضا عليه السلام في مجلس المأمون مع أولئك العلماء والفلاسفة وغيرهم ، كانوا كتبوها أو كتبوا منها في المجلس ، لأن المناظرة كانت حدثاً وحديث الناس . وقد يكونوا نقلوها من حفظهم ، فإن ما ذكره العلماء في ترجماتهم خاصة النوفلي يدل على أنهم كانوا على درجة عالية من العلم والحفظ والفهم .
ويناسب هنا أن نورد مقطوعتين من مناظرات ذلك المجلس ، روتهما مصادر عديدة ، وكذلك مناظرة الإمام عليه السلام في البداء والإرادة مع سليمان المروزي متكلم خراسان في عصره ، ننقل ذلك من كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق أعلى الله مقامه :
قال في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2 / 170 :
( باب ذكر مجلس آخر للرضا عليه السلام عند المأمون مع أهل الملل والمقالات ، وما أجاب به علي بن محمد بن الجهم في عصمة الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين :
حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه ، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتب ، وعلي بن عبد الله الوراق رضي الله عنهم قالوا : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا القاسم بن محمد البرمكي قال : حدثنا أبو الصلت الهروي قال : لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر المقالات ، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجراً ، قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له : يا بن رسول الله أتقول بعصمه الأنبياء عليهم السلام ؟ قال عليه السلام : نعم .
قال : فما تعمل في قول الله عز وجل : وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ( سورة طه : 121 ) وفي قوله عز وجل : وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ( سورة الأنبياء : 87 ) وفي قوله عز وجل في يوسف عليه السلام : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ( سورة يوسف : 24 ) وفي قوله عز وجل في داود : قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ( سورة صّ : 24 ) وقوله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وآله : وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ( سورة الأحزاب : 37 )
فقال الرضا عليه السلام : ويحك يا علي إتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله عليهم السلام الفواحش ، ولا تتأول كتاب الله برأيك ، فإن الله عز وجل قد قال : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ( سورة آل عمران : 7 ) وأما قوله عز وجل في آدم : وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ( سورة طه : 121 ) فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده ، لم يخلقه للجنة . وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض وعصمته يجب أن تكون في الأرض لتتم مقادير أمر الله ، فلما أهبطه إلى الأرض وجعله حجة وخليفة عصمه بقوله عز وجل : إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( سورة آل عمران : 33 )
وأما قوله عز وجل : وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ، إنما ظن بمعنى استيقن أن الله لن يضيق عليه رزقه ، ألا تسمع قول الله عز وجل : وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ( سورة الفجر : 16 ) أي ضيق عليه رزقه ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر .
وأما قوله عز وجل في يوسف : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله ! فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله عز وجل : كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( سورة يوسف : 24 ) يعني القتل والزنا . وأما داود عليه السلام فما يقول من قبلكم فيه ؟
فقال علي بن محمد بن الجهم : يقولون إن داود عليه السلام كان في محرابه يصلي فتصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون الطيور ، فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير ، فخرج الطير إلى الدار فخرج الطير إلى السطح فصعد في طلبه ، فسقط الطير في دار أوريا بن حنان ، فاطلع داود في أثر الطير بامرأة أوريا تغتسل ، فلما نظر إليها هواها ، وقد أخرج أوريا في بعض غزواته ، فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام التابوت ، فقدم فظفر أوريا بالمشركين ، فصعب ذلك على داود ، فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا ، فتزوج داود بامرأته !
قال : فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ! لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله عليهم السلام إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير ، ثم بالفاحشة ثم بالقتل !
فقال : يا بن رسول الله فما كان خطيئته ؟ فقال : ويحك ! إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقاً هو أعلم منه فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا المحراب ، فقالا : خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ . إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ . قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ( سورة ص : 22 - 24 ) فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه فقال : قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ! ألا تسمع الله عز وجل يقول : يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ( سورة ص : 26 ) .
فقال : يا بن رسول الله فما قصته مع أوريا ؟
فقال الرضا عليه السلام : إن المرأة في أيام داود عليه السلام كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبداً ، وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود عليه السلام فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها منه ، فذلك الذي شق على الناس من قبل أوريا .
وأما محمد صلى الله عليه وآله وقول الله عز وجل : وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ( سورة الأحزاب : 37 ) فإن الله عز وجل عرف نبيه صلى الله عليه وآله أسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء أزواجه في دار الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين ، وإحداهن من سمى له زينب بنت جحش ، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة ، فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه من أمهات المؤمنين ، وخشي قول المنافقين ، فقال الله عز وجل : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) ، يعني في نفسك . وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم عليه السلام وزينب من رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ( سورة الأحزاب : 37 ) ، وفاطمة من علي صلى الله عليه وآله .
قال : فبكى علي بن محمد بن الجهم وقال : يا بن رسول الله : أنا تائب إلى الله عز وجل من أن أنطق في أنبياء الله عليهم السلام بعد يومي إلا بما ذكرته ) . انتهى .
وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2 / 159 : ( باب في ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي متكلم خراسان عند المأمون في التوحيد :
حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه رضي الله عنه قال : حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقة القمي قال : حدثنا أبو عمرو محمد بن عمرو بن عبد العزيز الأنصاري الكجي قال : حدثني من سمع الحسن بن محمد النوفلي يقول : قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ، ثم قال له : ان ابن عمي علي بن موسى الرضا قدم عليَّ من الحجاز وهو يحب الكلام وأصحابه ، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته .
فقال سليمان : يا أمير المؤمنين إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم ، فينتقض عند القوم إذا كلمني ، ولا يجوز الاستقصاء عليه . قال المأمون : إنما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك ، وليس مرادي إلا إن تقطعه عن حجة واحدة فقط .
فقال سليمان : حسبك يا أمير المؤمنين ، إجمع بيني وبينه ، وخلني والذم ، فوجه المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال : إنه قدم الينا رجل من أهل مروز وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام ، فإن خف عليك أن تتجشم المصير الينا فعلت .
فنهض عليه السلام للوضوء وقال لنا : تقدموني وعمران الصابي معنا ، فصرنا إلى الباب فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون ، فلما سلمت قال : أين أخي أبو الحسن أبقاه الله ؟ قلت : خلفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدم . ثم قلت : يا أمير المؤمنين إن عمران مولاك معي وهو على الباب . فقال : ومن عمران ؟ قلت : الصابي الذي أسلم على يدك .
قال : فليدخل ، فدخل فرحب به المأمون ثم قال له : يا عمران لم تمت حتى صرت من بني هاشم ! قال : الحمد لله الذي شرفني بكم يا أمير المؤمنين .
فقال له المأمون : يا عمران هذا سليمان المروزي متكلم خراسان .
قال عمران : يا أمير المؤمنين إنه يزعم واحد خراسان في النظر ، وينكر البداء ؟
قال : فلم لا تناظروه ؟ قال عمران : ذلك إليه .
فدخل الرضا عليه السلام فقال : في أي شئ كنتم ؟
قال عمران : يا بن رسول الله هذا سليمان المروزي .
فقال له سليمان : أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه ؟ فقال عمران : قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجة أحتج بها على نظرائي من أهل النظر .
قال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه ؟
قال عليه السلام : وما أنكرت من البداء يا سليمان ، والله عز وجل يقول : أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً . ( سورة مريم : 67 ) ويقول عز وجل : وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( سورة الروم : 27 ) ويقول : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ( سورة البقرة : 117 ) ويقول عز وجل : يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ( سورة فاطر : 1 ) ويقول : وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ( سورة السجدة : 7 ) ويقول : ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ( سورة الأنعام : 2 ) ويقول عز وجل : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( سورة التوبة : 106 ) . ويقول عز وجل : وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ( سورة فاطر : 11 )
قال سليمان : هل رويت فيه من آبائك شيئاً ؟ قال : نعم رويت عن أبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : إن لله عز وجل علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلماً علمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله يعلمونه .
قال سليمان : أحب أن تنزعه لي من كتاب الله عز وجل قال : قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ( سورة الذريات : 54 ) أراد هلاكهم ثم بدا لله تعالى فقال : وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( سورة الذريات : 55 )
قال سليمان : زدني جعلت فداك . قال الرضا عليه السلام : لقد أخبرني أبي عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه أن أخبر فلاناً الملك أني متوفيه إلى كذا وكذا ، فأتاه ذلك النبي فأخبره فدعا إلى الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير ، وقال : يا رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري ، فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي أن أئت فلاناً الملك فأعلمه أني قد أنسأت في أجله وزدت في عمره إلى خمس عشرة سنة . فقال ذلك النبي عليه السلام : يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط . فأوحى الله عز وجل إليه : إنما أنت عبد مأمور فأبلغه ذلك . والله لا يسأل عما يفعل .
ثم التفت إلى سليمان فقال : أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود ؟
قال عليه السلام : قالت اليهود : يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ( سورة المائدة : 64 ) يعنون أن الله تعالى قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئاً . فقال الله عز وجل : غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر عليه السلام عن البداء فقال : وما ينكر الناس من البداء وأن يقف الله قوماً يرجيهم لأمره ؟ !
قال سليمان : ألا تخبرني عن إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ في أي شئ أنزلت ؟
قال عليه السلام : يا سليمان ليله القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق ، فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم .
قال سليمان : الآن قد فهمت جعلت فداك ، فزدني .
قال عليه السلام : يا سليمان إن من الأمور أموراً موقوفة عند الله عز وجل ، يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء . يا سليمان إن علياً عليه السلام كان يقول : العلم علمان ، فعلم علمه الله وملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله . وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء .
قال سليمان للمأمون : يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء ، ولا أكذب به إن شاء الله .
فقال المأمون : يا سليمان سل أبا الحسن عما بدا لك ، وعليك بحسن الاستماع والإنصاف قال سليمان : يا سيدي أسألك ؟ قال الرضا عليه السلام : سل عما بدا لك .
قال : ما تقول فيمن جعل الإرادة إسماً وصفة مثل حي وسميع وبصير وقدير ؟
قال الرضا عليه السلام : إنما قلتم حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد ، ولم تقولوا حدثت الأشياء واختلفت لأنه سميع بصير ، فهذا دليل على أنهما ليستا مثل سميع ، ولا بصير ، ولا قدير . قال : سليمان فإنه لم يزل مريداً ؟
قال عليه السلام : يا سليمان فإرادته غيره ؟ قال : نعم . قال : فقد أثبت معه شيئاً غيره لم يزل ؟ ! قال سليمان : ما أثبت ! قال الرضا عليه السلام : أهي محدثة ؟ قال سليمان : لا لا ما هي محدثة !
فصاح به المأمون وقال يا سليمان : مثله يعايا أو يكابر ؟ ! عليك بالإنصاف ، أما ترى من حولك من أهل النظر ؟ !
ثم قال : كلمه يا أبا الحسن فإنه متكلم خراسان ، فأعاد عليه المسألة فقال : هي محدثة يا سليمان فإن الشئ إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً ، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً .
قال سليمان : إرادته منه ، كما أن سمعه وبصره وعلمه منه . قال الرضا عليه السلام : فأراد نفسه ؟ قال : لا . قال عليه السلام : فليس المريد مثل السميع والبصير . قال سليمان : إنما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه . قال الرضا عليه السلام : ما معنى أراد نفسه ؟ أراد أن يكون شيئاً وأراد أن يكون حياً أو سميعاً بصيراً أو قديراً ؟ قال : نعم . قال الرضا عليه السلام : أفبإرادته كان ذلك ؟ قال سليمان : نعم . قال الرضا عليه السلام : فليس لقولك أراد أن يكون حياً سميعاً بصيراً معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته ؟ قال سليمان : بلى ، قد كان ذلك بإرادته .
فضحك المأمون ومن حوله . وضحك الرضا عليه السلام ثم قال لهم : إرفقوا بمتكلم خراسان . يا سليمان ، فقد حال عندكم عن حاله وتغير عنها ، وهذا ما لا يوصف الله عز وجل به . فانقطع ! !
ثم قال الرضا عليه السلام : يا سليمان أسألك عن مسألة . قال : سل جعلت فداك .
قال : أخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون ؟ أو بما لا تفقهون ولا تعرفون ؟ قال : بل بما نفقه ونعلم . قال الرضا عليه السلام : فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة ، وأن المريد قبل الإرادة ، وأن الفاعل قبل المفعول ، وهذا يبطل قولكم : إن الإرادة والمريد شئ واحد . قال : جعلت فداك ليس ذلك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون . قال الرضا عليه السلام : فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفه وقلتم : الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل ! فلم يحر جواباً !
ثم قال الرضا عليه السلام : يا سليمان هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار ؟ قال سليمان : نعم .
قال عليه السلام : أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك ؟ قال : نعم .
قال : فإذا كان حتى لا يبقى منه شئ إلا كان ، أيزيدهم أو يطويه عنهم ؟
قال سليمان : بل يزيدهم .
قال عليه السلام : فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون .
قال : جعلت فداك فالمريد لا غاية له . قال : فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك ، وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون ! تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً .
قال سليمان : إنما قلت لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا ، لأن الله عز وجل وصفهما بالخلود ، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً .
قال الرضا عليه السلام : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم ، لأنه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم ، وكذلك قال الله عز وجل في كتابه : كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ( سورة النساء : 56 ) وقال لأهل الجنة : عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( سورة هود : 108 ) وقال عز وجل : وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ( سورة الواقعة : 32 - 33 ) فهو عز وجل يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة !
أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا ليس يخلف مكانه ؟
قال : بلى . قال : أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه ؟ قال سليمان : لا .
قال : فكذلك كلما يكون فيها إذا ألف مكانه فليس بمقطوع عنهم .
قال سليمان : بلى يقطعه عنهم ولا يزيدهم .
قال الرضا عليه السلام : إذاً يبيد فيها وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف الكتاب ، لأن الله عز وجل يقول : لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( سورة قّ : 35 )
ويقول عز وجل : عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ويقول عز وجل : وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ( سورة الحجر : 48 ) ويقول عز وجل : ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) ( سورة النساء : 57 ) ويقول عز وجل : وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ( سورة الواقعة : 32 - 33 ) فلم يحر جوابا !
ثم قال الرضا عليه السلام : يا سليمان ، ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير فعل ؟ قال : بلى هي فعل . قال عليه السلام : فهي محدثة لأن الفعل كله محدث . قال : ليست بفعل . قال : فمعه غيره لم يزل ؟ قال سليمان : الإرادة هي الإنشاء . قال : يا سليمان هذا الذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم : إن كل ما خلق الله عز وجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر ، من كلب أو خنزير أو قرد أو إنسان أو دابة ، إرادة الله ، وإن إرادة الله تحيا وتموت وتذهب وتأكل وتشرب وتنكح وتلذ وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك فيبرأ منها ويعاديها ، وهذا حدها . قال سليمان : إنها كالسمع والبصر والعلم .
قال الرضا عليه السلام : قد رجعت إلى هذا ثانية فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع ؟
قال سليمان : لا . قال الرضا عليه السلام : فكيف نفيتموه ؟ قلتم لم يرد ، ومرةً قلتم أراد ؟ ! وليست بمفعول له . قال سليمان : إنما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم .
قال الرضا عليه السلام : ليس ذلك سواء ، لأن نفي المعلوم ليس بنفي العلم ، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون ، لأن الشئ إذا لم يرد لم تكن إرادة فقد يكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم بمنزلة البصر ، فقد يكون الإنسان بصيراً وإن لم يكن المبصر ، ويكون العلم ثابتاً وإن يكن المعلوم . قال سليمان : إنها مصنوعة .
قال عليه السلام : فهي محدثة ليست كالسمع والبصر لأن السمع والبصر ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة . قال سليمان : إنها صفة من صفاته لم تزل .
قال عليه السلام : فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل ، لأن صفته لم تزل ؟ !
قال سليمان : لا ، لأنه لم يفعلها .
قال الرضا عليه السلام : يا خراساني ما أكثر غلطك ! أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء ؟ قال سليمان : لا . قال : فإذا لم تكن بإرادته ولا مشيئته ولا أمره ولا بالمباشرة ، فكيف يكون ذلك ؟ تعالى الله عن ذلك ! فلم يحر جواباً .
ثم قال الرضا عليه السلام : ألا تخبرني عن قول الله عز وجل : وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا ( سورة الإسراء : 16 ) يعني بذلك أنه يحدث إرادة ؟ قال له : نعم .
قال عليه السلام : فإذا حدث إرادة كان قولك إن الإرادة هي هو أو شئ منه باطلاً ، لأنه لا يكون أن يحدث نفسه ولا يتغير عن حاله ، تعالى الله عن ذلك .
قال سليمان : إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة . قال : فما عنى به ؟ قال : عنى فعل الشئ . قال الرضا عليه السلام : ويلك كم تردد في هذه المسالة ؟ وقد أخبرتك أن الإرادة محدثة لأن فعل الشئ محدث ؟ ! قال : فليس لها معنى .
قال الرضا عليه السلام : قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالإرادة بما لا معنى له ، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم إن الله عز وجل لم يزل مريداً .
قال سليمان : إنما عنيت أنها فعل من الله تعالى لم يزل .
قال عليه السلام : ألم تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولاً وقديماً وحديثاً في حالة واحدة ؟
فلم يحر جواباً !
قال الرضا عليه السلام : لا بأس أتمم مسألتك . قال سليمان : قلت إن الإرادة صفة من صفاته .
قال : كم تردد أنها صفه من صفاته فصفته محدثة أو لم تزل ؟ قال سليمان : محدثة .
قال الرضا عليه السلام : الله أكبر ! فالإرادة محدثة وإن كانت صفة من صفاته ، لم تزل ؟ !
فلم يردَّ شيئاً ! !
قال الرضا عليه السلام : إن ما لم يزل لا يكون مفعولاً .
قال سليمان : ليس الأشياء إرادة ، ولم يرد شيئاً .
قال الرضا عليه السلام : وسوست يا سليمان ، فقد فعل وخلق ما لم يزل خلقه وفعله ، وهذه صفة من لا يدري ما فعل ! تعالى الله عن ذلك !
قال سليمان : يا سيدي فقد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم .
قال المأمون : ويلك يا سليمان ! كم هذا الغلط والترداد اقطع وخذ في غيره ، إذ لست تقوى على غير هذا الرد .
قال الرضا عليه السلام : دعه يا أمير المؤمنين لا تقطع عليه مسألته فيجعلها حجة ، تكلم يا سليمان . قال : قد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم .
قال الرضا عليه السلام : لا بأس ، أخبرني عن معنى هذه ، أمعنى واحد أم معان مختلفة ؟
قال سليمان : معنى واحد . قال الرضا عليه السلام : فمعنى الإرادات كلها معنى واحد ؟
قال سليمان : نعم . قال الرضا عليه السلام : فإن كان معناها معنى واحداً كانت إرادة القيام إرادة القعود وإراده الحياة إرادة الموت ، إذا كانت إرادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضاً ولم يخالف بعضها بعضاً ، وكانت شيئاً واحداً ؟ ! قال سليمان : إن معناها مختلف .
قال عليه السلام : فأخبرني عن المريد أهو الإرادة أو غيرها ؟ قال سليمان : بل هو الإرادة .
قال الرضا عليه السلام : فالمريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة ؟ ! قال : يا سيدي ليس الإرادة المريد . قال عليه السلام : فالإرادة محدثة وإلا فمعه غيره ؟ إفهم وزد في مسألتك .
قال سليمان : فإنها اسم من أسمائه . قال الرضا عليه السلام : هل سمى نفسه بذلك ؟
قال سليمان : لا لم يسم به نفسه بذلك .
قال الرضا عليه السلام : فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه .
قال : قد وصف نفسه بأنه مريد .
قال الرضا عليه السلام : ليس صفته نفسه ، إنه مريد إخبار عن أنه أراد ، ولا إخبار عن أن الإرادة اسم من أسمائه . قال سليمان : لأن إرادته علمه .
قال الرضا عليه السلام : يا جاهل ! فإذا علم الشئ فقد أراده ؟ ! قال سليمان : أجل .
فقال : فإذا لم يرده لم يعلمه ؟ ! قال سليمان : أجل . قال : من أين قلت ذاك ؟ وما الدليل على أن إرادته علمه ؟ وقد يعلم ما لا يريده أبداً ، وذلك قوله عز وجل : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( سورة الإسراء : 86 ) ، فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبداً !
قال سليمان : لأنه قد فرغ من الأمر ، فليس يزيد فيه شيئاً . قال الرضا عليه السلام : هذا قول اليهود فكيف قال تعالى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ؟ قال سليمان : إنما عنى بذلك أنه قادر عليه . قال : أفيعد ما لا يفي به ؟ ! فكيف قال : يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ( سورة فاطر : 1 ) وقال عز وجل : يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( سورة الرعد : 39 ) وقد فرغ من الأمر ؟ !
فلم يحر جواباً !
قال الرضا عليه السلام : يا سليمان هل يعلم أن إنساناً يكون ولا يريد أن يخلق إنسانا أبداً وأن إنساناً يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم ؟ قال سليمان : نعم .
قال الرضا عليه السلام : فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون ، أو يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون ؟ قال : يعلم أنهما يكونان جميعاً .
قال الرضا عليه السلام : إذاً يعلم أن إنساناً حي ميت قائم قاعد عمي بصير ، في حالة واحدة ، وهذا هو المحال ! قال : جعلت فداك فإنه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر .
قال : لا بأس فأيهما يكون ؟ الذي أراد أن يكون أو الذي لم يرد أن يكون ؟
قال سليمان : الذي أراد أن يكون .
فضحك الرضا عليه السلام والمأمون وأصحاب المقالات .
قال الرضا عليه السلام : غلطت وتركت قولك : إنه يعلم أن إنساناً يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم ، وإنه يخلق خلقاً وإنه لا يريد أن يخلقهم ! وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون ، فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون .
قال سليمان : فإنما قولي إن الإرادة ليست هو ولا غيره .
قال الرضا عليه السلام : يا جاهل ! إذا قلت ليست هو فقد جعلتها غيره ، وإذا قلت ليست هي غيره فقد جعلتها هو ! قال سليمان : فهو يعلم كيف يصنع الشئ ؟ قال عليه السلام : نعم . قال سليمان : فإن ذلك إثبات للشئ . قال الرضا عليه السلام : أحلت ، لأن الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن ، ويحسن الخياطة وإن لم يخط ويحسن صنعة الشئ وان لم يصنعه أبداً .
ثم قال عليه السلام له : يا سليمان هل تعلم أنه واحد لا شئ معه ؟ قال : نعم .
قال الرضا عليه السلام فيكون ذلك إثباتا للشئ . قال سليمان : ليس يعلم أنه واحد لا شئ معه .
قال الرضا عليه السلام : أفتعلم أنت ذاك ؟ ! قال : نعم .
قال : فأنت يا سليمان إذاً أعلم منه ! ! قال سليمان : المسألة محال .
قال : محال عندك أنه واحد لا شئ معه ، وأنه سميع بصير حكيم قادر . قال : نعم . قال : فكيف أخبر عز وجل أنه واحد حي سميع بصير حكيم قادر عليم خبير وهو لا يعلم ذلك ؟ ! وهذا رد ما قاله وتكذيبه ، تعالى الله عن ذلك .
ثم قال له الرضا عليه السلام : فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو ؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشئ قبل أن يصنعه ، فإنما هو متحير تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . قال سليمان : فإن الإرادة القدرة .
قال الرضا عليه السلام : وهو عز وجل يقدر على ما لا يريده أبداً ، ولا بد من ذلك لأنه قال تبارك وتعالى : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( سورة الإسراء : 86 ) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته .
فانقطع سليمان ! !
فقال المأمون عند ذلك : يا سليمان هذا أعلم هاشمي . ثم تفرق القوم .
قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : كان المأمون يجلب على الرضا عليه السلام من متكلمي الفرق والأهواء المضلة كل من سمع به حرصاً على انقطاع الرضا عليه السلام عن الحجة مع واحد منهم ، وذلك حسداً منه له ولمنزلته من العلم ، فكان لا يكلمه أحد إلا أقر له بالفضل والتزم الحجة له عليه ، لأن الله تعالى ذكره يأبى إلا أن يعلي كلمته ويتم نوره وينصر حجته ، وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه فقال : إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ( سورة غافر : 51 ) يعني بالذين آمنوا الأئمة الهداة وأتباعهم العارفين بهم والآخذين عنهم بنصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا ، وكذلك يفعل بهم في الآخرة ، وإن الله عز وجل لا يخلف الميعاد ) . انتهى .
أقول : وقد ألف عدد من العلماء شروحاً لحديث الإمام الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي ، وكذلك حديثه مع عمران الصابي . وقد أوردها صاحب الذريعة إلى تصانيف الشيعة رحمه الله ، كما في ج 1 ص 88 قال رحمه الله : ( إثبات حدوث الإرادة وإبطال أزليتها ) وأنها من صفات الفعل لا من صفات الذات ، للمولى خليل بن محمد زمان القزويني ، فرغ منه في سنة 1148 ، أثبت فيه مدعاه بالبراهين العقلية ، وشرح فيه حديث عمران الصابي ، وحديث سليمان المروزي . وفيه تحقيقات لا توجد في غيره ، وهو كتاب مبسوط رأيت نسخته عند الفاضل السيد محمد ناصر الحسيني الطهراني بطهران . أوله : رب هب لي سمعاً يسمع آياتك . . ) .
والظاهر أن سليمان المروزي الذي ناظره الإمام الرضا عليه السلام غير سليمان بن حفص المروزي الشيعي الموثق ، الذي يروي عنه ابن قولويه رحمه الله في كامل الزيارات كما في ص 380 ، والكليني رحمه الله في الكافي كما في : 3 / 326 و : 3 / 283 ، والصدوق رحمه الله في العيون كما في : 1 / 290 ، والفقيه كما في : 3 / 310 ، وقال في طريقه إليه : 4 / 458 : وما كان فيه عن سليمان بن حفص المروزي فقد رويته عن أبي رضي الله عنه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن سليمان بن حفص المروزي ) . انتهى .
وقد جعله السيد الخوئي رحمه الله نفس سليمان بن حفص ، قال في معجم رجال الحديث : 9 / 254 : ( 5438 - سليمان بن حفص = سليمان المروزي . المروزي . . . ونقل كلام الصدوق عن سليمان بن حفص الشيعي ، قال : ( لقي سليمان بن حفص موسى بن جعفر والرضا صلى الله عليه وآله جميعاً ولا أدري هذا الخبر عن أيهما هو ؟ ! ) . انتهى .
وهو أيضاً غير سليمان بن جعفر المروزي ، وسليمان بن داوود المروزي ، وهما شيعيان من أصحاب الكاظم والرضا والهادي عليهم السلام .
وقد رجح النمازي رحمه الله في مستدركاته : 4 / 146 ، أن يكون سليمان المروزي هذا هو الذي روى عنه البخاري والنسائي ، وهو ترجيح قوي ، فقد قال ابن ماكولا الكلبايكاني في إكمال الكمال : 4 / 458 : ( سلمويه : جماعة أشهرهم أبو صالح سليمان بن صالح المروزي صاحب ابن المبارك ، وسليمان بن صدقة التميمي ، وسلمة بن نجم البخاري النحوي )
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء : 9 / 433 : ( 161 - سلمويه ( خ ، س ) الحافظ المعمر ، أبو صالح ، سليمان بن صالح الليثي ، مولاهم المروزي ، صاحب ابن المبارك . عنه : ابن راهويه ، وأحمد بن شبويه وعدة . يقال : عاش مئة سنة ) . انتهى .
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب : 4 / 174 : إن عمره جاوز المئة وتوفي قبل سنة 210 . انتهى . ومواصفاته تقبل الانطباق على صاحب المناظرة .
أما عمران الصابي ، فلم أجد له إلا ترجمات مقتضبة لم تذكر اسم أبيه . وقد عرف بلقب ( الصابي ) جماعة ، أقدم من وجدت منهم حنين بن إسحاق العبادي الصابي الطبيب المشهور ، توفي سنة 260 ، ويحتمل أن تكون له علاقة بعمران الصابي .
ومنهم ثابت بن قرة الصابي الفلكي توفي سنة 288 ، وكان مقرباً عند الخليفة المعتضد ، ونقل كتباً عن اليونانية ، وألف في إثبات عقيدة الصابئة بحياة الأفلاك ، ورد عليه متكلم الشيعة في وقته الحسن بن موسى النوبختي وألف كتباً في رد الفلاسفة ، منها كتاب الرد على ثابت بن قرة . ( رجال النجاشي ص 63 ) . ومنهم أبو إسحاق الصابي إبراهيم بن هلال الأديب ، الذي رثاه الشريف الرضي رحمه الله ، وقد توفي هذا الصابي سنة 283 .
[5] وردت هذه الكرامة للإمام الكاظم عليه السلام مع الرشيد ، وللإمام الهادي عليه السلام مع المتوكل أيضاً . ويلاحظ الباحث أن الحجة على الخلفاء العباسيين تامة كاملة ، فهم من السفاح والمنصور إلى المتوكل والمعتز ، كانوا يعرفون مقام الأئمة عليهم السلام معرفة جيدة ، وأنهم محدثون من ربهم ، وأن عندهم علم جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله ! لكنهم بسبب خوفهم الوهمي على ملكهم ، قاموا باضطهادهم وسجنهم وقتلهم ، حتى قال الشاعر :
والله ما فعلت أميةُ فيهمُ * معشارَ ما فعلتْ بنو العباس !
وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2 / 90 : ( حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار وسعد بن عبد الله جميعاً ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي بن يقطين ، عن أخيه الحسين ، عن أبيه علي بن يقطين قال : استدعى الرشيد رجلاً يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر صلى الله عليه وآله ويقطعه ويخجله في المسجد ، فانتُدب رجلٌ معزِّم فلما أحضرت المائدة عمل ناموساً على الخبز فكان كلما رام أبو الحسن عليه السلام تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه ! واستفز من هارون الفرح والضحك لذلك ! فلم يلبث أبو الحسن عليه السلام أن رفع رأسه إلى أسد مصور على بعض الستور فقال له : يا أسد خذ عدو الله ! قال : فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع فافترست ذلك المعزم ! فخرَّ هارون وندماؤه على وجوههم مغشياً عليهم ، فطارت عقولهم خوفاً من هول ما رأوه ! فلما أفاقوا من ذلك قال هارون لأبي الحسن عليه السلام : سألتك بحقي عليك لما سألت الصورة أن ترد الرجل . فقال : إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم فإن هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل ! فكان ذلك أعمل الأشياء في آفاته نفسه ) . انتهى .
وفي الخرائج والجرائح : 1 / 400 : ( ومنها ما روى أبو القاسم بن أبي القاسم البغدادي عن زرافة صاحب المتوكل أنه قال : وقع رجل مشعبذ من ناحية الهند إلى المتوكل يلعب لعب الحقة ، ولم ير مثله ، وكان المتوكل لعاباً ، فأراد أن يُخجل علي بن محمد بن الرضا فقال لذلك الرجل : إن أنت أخجلته أعطيتك ألف دينار زكية . قال : تقدم بأن يخبز رقاق خفاف واجعلها على المائدة ، وأقعدني إلى جنبه . ففعل وأحضر علي بن محمد عليه السلام للطعام وجعلت له مسورة عن يساره كان عليها صورة أسد وجلس اللاعب إلى جانب المسورة ، فمد علي بن محمد يده إلى رقاقة فطيرها ذلك الرجل في الهواء ، ومد يده إلى أخرى فطيرها ، فتضاحك الجميع . فضرب علي بن محمد عليه السلام يده إلى تلك الصورة التي في المسورة ، وقال : خذه ! فوثبت تلك الصورة من المسورة فابتلعت الرجل ، وعادت في المسورة كما كانت ! فتحير الجميع ونهض علي بن محمد عليه السلام فقال له المتوكل : سألتك إلا جلست ورددته . فقال : والله لا يرى بعدها ، أتسلط أعداء الله على أولياء الله ؟ ! وخرج من عنده ، فلم ير الرجل بعد ) !
ورواه ابن شهرآشوب في المناقب : 3 / 417 ، وقال بعده : قال السوسي :
من صاحب الرشيد والإيوانِ * والسبع والساحر والرغفانِ
إذ طيَّر الخبز على الخوان * وخلف هارون وسادتانِ
وفيهما للسبع تمثالان * فقال قول الحنق الحردانِ
يا سبع خذ ذا الكفر والطغيان * زمجر السبع على المكانِ
وافترس الساحر ذا البهتان * وافتقد السبع عن العيانِ
معجزة للعالم الرباني * الصادق اللهجة واللسانِ
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|