أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-07-2015
2188
التاريخ: 11-10-2014
1564
التاريخ: 26-04-2015
1647
التاريخ: 4-1-2016
8877
|
يعود ذلك إلى طبيعة لغة العرب ، حيث إنّها ذات أوضاع ضيّقة النطاق ، لا تفي بإفادة المفاهيم الراقية والمتّسعة سعة الآفاق ، فجاءت التعابير القرآنية ـ في مثل هذه المعاني ـ مستعاراً فيها ، وبضرب من التشبيه والتمثيل ، ليأخذ القاصر بظاهر التعبير ، وربّما يتغافل عن واقع المراد.
على أنّ هناك لمّة وافرة من متشابهات عرض لها التشابه فيما بعد ، وعلى أثر تزاحم الجدل العقائدي بين أرباب المذاهب الكلاميّة في القرنين الثاني والثالث ، في حين أنّها كانت ناصعة جليّة المفاد من ذي قبل.
فمثلاً قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم : 42] جار وفق أساليب العرب في التكنية عن شدّة الأمر وأخذ الجدّ فيه ، بالتشمير عن الساق ، قال قائلهم :
وقامت الحرب بنا على ساق (1)
يريد : شدّة سعارها وحدّة أوارها ، كما قال ابن عبّاس في تفسير الآية : «هي كناية عن كرب وشدّة وهول المطّلع في ذلك اليوم العصيب» (2). وهكذا فسّرها قتادة
والنخعي ، وغيرهما من أصحاب القول في التفسير. قال قتادة : «هي كناية عن الشدّة» ، وقال إبراهيم النخعي : «أي : عن أمر عظيم»(3).
قال الإمام الزركشي : «وأصل هذا : أنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة ، ويجدّ فيه ، شمّر عن ساقه ، فاستعيرت الساق في موضع الشدّة» (4).
وقال العلاّمة الزمخشري : «الكشف عن الساق والإبداء عن الخِدام (5) ، مَثَلٌ في شدّة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة ، وتشمير المخدّرات عن سوقهنّ في الهَرَب ، وإبداء خدامهنّ عند ذلك ، قال حاتم :
أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عَضّها *** وإن شمّرت عن ساقها الحربُ شمّرا
وقال ابن الرقيّات :
تُذهل الشيخ عن بنيه وتبدي *** عن خِدامِ العقيلة العذراءِ
قال : فمعنى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق) في معنى : يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم ، ولا كشف ثمّ ولا ساق ، كما تقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثمّ ولا غُلّ ، وإنّما هو مثل في البخل.
قال : وأمّا من شبّه (6) فلضيق عَطَنه (7) ، وقلّة نظره في علم البيان (8).
قال : والذي غرّه منه حديث ابن مسعود : «يكشف الرحمان عن ساقه ، فأمّا
المؤمنون فيخرّون سجّداً ، وأمّا المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً طبقاً ، كأنّ فيها السفافيد...»(9).
وقال معترضاً على غفلتهم عن أساليب اللغة : ثمّ كان من حقّ الساق ـ لو اُريد بها ساق الرحمان ـ أن تُعرّف; لأنّها ساق مخصوصة معهودة عندهم (10).
وهكذا قال الثعلبي : «(يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق) أي : عن أمر شديد فظيع ، وهذا من باب الاستعارة ، تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى جدّ وجهد ، ومعاناة ومقاساة للشدّة : شمّر عن ساقه ، فاستعير الساق في موضع الشدة.
قال دُرَيد بن الصمّة يرثي رجلاً :
كميش الإزار خارج نصف ساقه *** صبور على الجلاء طلاّع أنجد
ويقال للأمر إذا اشتدّ وتفاقم ، وظهر وزالت عماه : كشف عن ساقه ، وهذا جائز في اللغة وإن لم يكن للأمر ساق. وهو كما يقال : أسفر وجه الأمر ، واستقام صدر الرأي. قال الشاعر يصف حرباً :
كشفت لهم عن ساقها *** وبدا من الشرّ الصراح
وقال آخر :
قد كشفت عن ساقها فشدّوا *** وجدّت الحرب بكم فجدّوا
وأيضاً قول الشاعر :
عجبت من نفسي ومن إشفاقها *** ومن طراد الطير عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها *** حمراء تبري اللحم عن عراقها
قال : ونحو ذلك قال أهل التأويل ، فعن سعيد بن جبير : (يُكْشَفُ عَن سَاق) عن شُدّة الأمر. وعن ابن عبّاس : هي أشدّ ساعة في يوم القيامة (11).
وبعد ، فلا إشكال في وجه الآية حسب سياقتها الذاتيّة وفق أساليب العرب الدارجة ، فليتدبّر.
وكذا قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة : 22 ، 23] ، استند إليها أبو الحسن الأشعري لجواز رؤيته تعالى في الآخرة ، قال : «يعني : رائية» ، واستدلّ بأنّ «النظر إذا ذكر مع الوجه ، فمعناه : نظر العينين اللتين في الوجه ، ولا يصحّ أن يراد نظر : الانتظار والتوقّع ، كما زعمه أهل الاعتزال ، إذ نظر الانتظار لا يُقرن بإلى...»(12).
ولشناعة هذا الرأي ، حاول الأُستاذ الشيخ محمّد عبده تأويله بإرادة كمال المعرفة بالذات (13). ولكنّها محاولة من غير جدوى بعد صراحة كلام الأشعري في الرؤية بالبصر ، وعنون مقاله : بإثبات رؤية الله بالأبصار ، لا بالبصائر.
والذي يبطل قوله هو أنّ ما استدلّ به لا يتوافق مع اللغة ، فهناك في الشعر العربي الجاهلي ما يناقض حجّته ، قال الشاعر :
وجوه يوم بكر ناظرات *** إلى الرحمان تنتظر الفلاحا (14)
فجاء النظر مذكوراً مع الوجه ومقروناً بإلى ، مراداً به الانتظار والتوقّع.
وذكر جار الله الزمخشري : «أنّ جارية سرويّة كانت تستجدي بمكّة وقت الظهر ، حين غلق الناس أبوابهم ، وأووا إلى مقائلهم ، تقول : عُيَينتي نُوَيظرة إلى الله وإليكم ، تتوقّع فضل ما عندهم» (15).
وهنا مناوشات ومناقشات سوف نتعرّض لها إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] أخذه أهل الظاهر دليلاً على تحيّزه تعالى ، مستوياً على عرشه ، متدلّياً برجليه! وينزل في الليالي المتبرّكة إلى سماء الدنيا ، فيقول : هل من مستغفر؟ هل من منيب؟(16)
وقد ذهب عنهم أنّ التعبير بالعرش في هكذا مجالات ، يُراد به عرش التدبير ، كناية عن القدرة والاستيلاء التامّ ، وهكذا : التعبير بالكرسي (17) كناية عن استقرار ملكه تعالى ، وليس المراد سرير الملك وأريكته المعهودة ، والاستعارة في ذلك جارية عند العرب في الخُطَب والشعر.
قال الأخطل وهو يمدح بشراً أخا عبدالملك بن مروان حينما استولى على إمرة العراقَيْن :
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق (18)
وجاء الاستواء بمعنى : استقامة الأمر أيضاً ، كما في قول طرمّاح بن حكيم :
طال على رسم مَهدَد أَبَدُه *** وعفا واستوى به بَلَدُه (19)
وقوله : مَهدَد ، الميم أصليّة ، والدال الثانية ملحقة ، وإلاّ لكانت تدغم ، وهو فَعلَل. قال سيبويه : «الميم من نفس الكلمة ، ولو كانت زائدة لأدغمت ، مثل مَفَرّ ومَرَدّ. فثبت أنّ الدال ملحقة ، والملحق لا يُدغم» (لسان العرب 13 : 411). وعليه فمَهدَد مأخوذ من مَهَد مَهداً ، بمعنى : تهيّأ. فمعنى مَهدَد أبدهُ : مُمهّد أبديّته. وقوله : عفا ، عَفتِ الأرض : غطّاها النبات. واستوى به البَلَد : أي استقام أمره فيه.
وفسّره ثعلب ، فقال : «استوى به بَلَده صار كلّه حَدَباً ، أي : محدودباً خاضعاً لحكمه».
تلك نماذج ثلاثة تبيّن فيها تعمّل الشَغَب ، وارتكاب التكلّف في تشويه وجه الآية اللائح ، والتغطية لأمر كان من الوضوح بمكان.
هذا ما حدث بشأن كثير من الآيات ، كانت محكمة البيان في حينها ، وأمست بفعل أهل الشغب متشابهة بعد حين ، ولكنّ الله يحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
___________________________
1 . تمامه : اصـبـــر عـنـــاقِ إنّــه شـــــرّ بـاق
قـــد سـنّ لـي قـومـك ضـربَ الـعنـاق وقـامــت الـحــرب بنـا عـلـى ســــاق
المستدرك للحاكم 2 : 499.
2 . راجع : الكشف والبيان للثعلبي 10 : 18 ، تفسير ابن أبي حاتم 10 : 3366 ، تفسير البغوي 5 : 139.
3 . راجع : المصادر السابقة.
4 . البرهان للزركشي 2 : 84.
5 . خِدام : جمع خَدَمة ، وهي الخلخال ، كرقاب ورَقَبة.
6 . يريد بهم أصحاب القول بالتشبيه ممّن أخذوا بظاهر التعبير ، فأثبتوا لله الجوارح ، تعالى الله عن ذلك.
7 . العطن : مبرك الإبل ومربض الغنم حول الماء ، يتضايق عليها عند الورود.
8 . إذ لم يعرف مواضع الاستعارة في الكلام البديع.
9 . سفافيد : جمع سفّود ، وهي حديدة يشوى بها اللحم.
10 . الكشّاف 4 : 593 ـ 594. وحديث ابن مسعود هذا رواه الحاكم في مستدركه 4 : 496 ـ 498 في كتاب الملاحم ، وابن أبي حاتم في التفسير 10 : 3366 ـ 18957 ، وغيرهما ، إمّا بتفصيل أو باختصار. وهو حديث لا يصحّ عن مثل ابن مسعود الصحابي الجليل ، كما لم يأت في شيء من الروايات ، رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله). والراجح في النظر أنّه من تلفيقات أصحاب القول بالتشبيه ، ونسبوه إلى ابن مسعود تبريراً لموقفهم. وقد صّح قول الإمام أحمد : «ثلاث لا أصل لها...» وعدّ منها أحاديث الملاحم والفتن (الإتقان 4 : 180) ، ومن أغربها هذا الحديث الذي لم يستجز الحاكم إيراده في كتاب التفسير ، وأورده في كتاب الملاحم . إنّ المراجع للحديث يجد آثار الوضع والاختلاق فيه بيّنة ، فيه من المخاريق ما يثير العجب.
11 . الكشف والبيان للثعلبي 10 : 18 ـ 19.
12 . الإبانة عن أُصول الديانة للأشعري : 25 ـ 26 باب : إثبات رؤيته تعالى بالأبصار في الآخرة.
13 . تفسير المنار 11 : 128 فما بعد.
14 . انظر : التمهيد 3 : 97.
15 . الكشّاف 4 : 622 ، أساس البلاغة 2 : 456.
16 . راجع : كتاب التوحيد والصفات لابن خزيمة : 110 ، والإبانة للأشعري : 69.
17 . كآية الكرسي التي في سورة البقرة ( 2 ) : 255.
18 . ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 9 : 7.
19 . ذكره الطبري في جامع البيان 1 : 150. قال ابن منظور : هذا البيت مختلف الوزن ، فالمصراع الأوّل من المسرَّح والثاني من الخفيف. وجاء في التعليقة : أي : بحسب ظاهره ، وإلاّ فهو من الخفيف المخزوم بحرفين أوّل المصراح ، وهما «طا» وحينئذ فلا يكون مختلفاً. (لسان العرب 14 : 415).
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|