أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-9-2016
1526
التاريخ: 22-6-2017
1455
التاريخ: 25-9-2016
1250
التاريخ: 2023-12-19
995
|
[على طالب العلم] أن يترك العِشرة مع من يشغله عن مطلوبه، فإنّ تركها من أهمّ ما ينبغي لطالب العلم، وأعظم آفات العِشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب العرض والدين إذا كانت لغير أهل. والذي ينبغي لطالب الحوزة العلمية أن لا يخالط إلاّ لمن يفيده أو يستفيد منه، أي يغدو إمّا عالماً ربّانياً، أو متعلّماً على سبيل النجاة، ولا يكن الثالث همجٌ رعاع، وإن احتاج إلى صاحب وصديق وزميل فليختر الصاحب الصالح(1)، الديّن التقي الذكي الورع، الذي يعين على اُمور دينه ودنياه وآخرته، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبّره. فيستفيد من خلقه ملكة صالحة، فإنّ المرء يكسب من قرينه أخلاقه وملكاته، وإن لم يتّفق مثل هذا العبد الصالح، فإنّ الوحدة خيرٌ له من قرين السوء، وإنّ الصبر على الوحدة في مثل هذه المواقف من قوّة العقل، وقطعيّة الجاهل تعدل صلة العاقل.
وقد حثّ علماء الأخلاق على ترك العشرة المانعة من تحصيل العلم، بل لا بدّ لمن آثر الله على من سواه من العزلة في ابتدائه توحّشاً من غير الله، ومن الخلوة في انتهائه اُنساً بالله، وقد ورد في الخبر الشريف عن الإمام العسكري (عليه السلام): «من استأنس بالله استوحش من الناس» (2).
والسيّد الإمام الخميني في كتابه «الجهاد الأكبر» يرى أنّه من الحريّ لطالب العلم أن يبقى في الحوزة في مقام تهذيب نفسه ولو كان يستلزم ذلك خمسون سنة، ثمّ بعد ذلك يخرج إلى المجتمع، حتّى لا يتلوّث قبل تكميل نفسه بأوساخ المجتمع، ولا يتغيّر بأهوائهم والأجواء التي يخلقونها، بل يكون هو صاحب التصميم والقرار وهو الذي يلوّن المجتمع بصبغة الله، لا أنّه يتلوّن بألوانه وينجرف مع سيله، حتّى يفقد دينه ـ والعياذ بالله ـ وروايات العزلة على نحوين، كما في كتاب «المحاسن والمساوئ»، منها تذمّ العزلة، ومنها تمدح، والجمع بينها، كما هو واضح أنّ التي تحثّ على الاتّصال مع الناس لهدايتهم على أنّ هدف الأنبياء ذلك، والعلماء ورثة الأنبياء، إنّما ناضرة إلى من أكمل نفسه وهذّبها، ووهبه الله قدرة إمامة الناس وسوقهم وهدايتهم إلى وادي السعادة والهناء، وأمّا طالب العلم في بداية مسيرته العلميّة والاجتماعيّة، فإنّه بحاجة ماسّة إلى العزلة الممدوحة، التي يستتبعها العلم والتقوى وجهاد النفس ورجاحة العقل وكمال الأدب. اُنظر إلى مدح الله أصحاب الكهف في قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} (3).
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (4).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):" العزلة عبادة ".
قال الله عزّ وجلّ: "إنّ من أغبط أوليائي عندي رجلا خفيف الحال ذا خطر أحسن عبادة ربّه في الغيب، وكان غامضاً بين الناس، جعل رزقه كفافاً فصبر عليه، مات فقلّ تراثه وقلّ بواكيه ".
"إنّ أغبط أولياء الله عبدٌ مؤمنٌ خفيف الحال ذو حظٍّ من الصلاة أحسن عبادة ربّه وأطاعه في السرّ، وكان غامضاً في الناس لا يُشار إليه بالأصابع ".
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
"العزلة أفضل شيم الأكياس ".
"في اعتزال أبناء الدنيا جماع الصلاح ".
" الوصلة بالله في الانقطاع عن الناس ".
" من انفرد عن الناس أنس بالله سبحانه ".
"لا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس ".
" ملازمة الخلوة دأب الصلحاء ".
" سلامة الدين في اعتزال الناس ".
" من اعتزل الناس سلم من شرّهم ".
"مداومة الوحدة أسلم من خلطة الناس ".
كان لقمان (عليه السلام) يطيل الجلوس وحده، وكان يمرّ به مولاه فيقول: يا لقمان، إنّك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك. فيقول لقمان: "إنّ طول الوحدة أفهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنّة".
من حديث الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن حكم، قال (عليه السلام): "الصبر على الوحدة علامة على قوّة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة ومعزّه من غير عشيرة ".
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل، فإنّ عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسد ولا ترائي ولا تتصنّع ولا تداهن ".
كان شخص يبكي عند قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إنّ اليسير من الرياء شرك، وإنّ الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى ".
يقول الإمام العسكري (عليه السلام): "الوحشة من الناس على قدر الفطنة بهم ".
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "خالط الناس تخبرهم، ومتى تخبرهم تقلّهم ".
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "من عرف الله توحّد، من عرف الناس تفرّد ".
ولمّـا سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن علّة اعتزاله؟ قال: "فسد الزمان وتغيّر الإخوان، فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد" (5).
ولنا روايات كثيرة تمدح العزلة بشرطها، كما أنّ العرفاء حثّوا طلاّب السير والسلوك في بداية أمرهم على ذلك. فقيل: ما اختار الخلوة على الصحبة فينبغي أن يكون خالياً عن جميع الأذكار إلاّ ذكره، وعن جميع الإرادات إلاّ أمره، وعن جميع مطالبات النفس إلاّ حكمه.
الوحدة جليس الصدّيقين وأنيس الصادقين، ليكن خدنك الخلوة وطعامك الجوع وحديثك المناجاة، فإمّا أن تموت وإمّا أن تصل.
وكان بعض العارفين يصيح: الإفلاس الإفلاس! فقيل: وما الإفلاس؟ قال: الاستئناس بالناس.
ودخل تلميذ على شيخه وكان وحيداً في داره، فقال: أما تستوحش في هذه الدار وحيداً؟ فقال: ما كنت أظنّ أنّ أحداً استوحش مع الله، وقال آخر في الجواب: لمّـا دخلت صرت وحيداً، فإنّي كنت مشغولا ومستأنساً بربيّ.
ارضَ بالله صاحباً وذرِ الناس جانباً، كفى بالله محبّاً وبالقرآن مؤنساً وبالموت واعظاً.
صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة، وفرّ من الناس فرارك من الأسد، واتّخذ الله مؤنساً.
قال بعض الحكماء: إنّما يستوحش الإنسان بالوحدة لخلاء ذاته وعدم الفضيلة من نفسه، فيتكثّر حينئذٍ بملاقاة الناس ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم، فإذا كانت ذاته فاضلة ونفسه كاملة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة، ويتفرّغ لاستخراج العلم والحكمة.
وفي بعض الآثار: وجدنا خير الدنيا والآخرة في الخلوة والقلّة، وشرّهما في الكثرة والخلطة.
وفي بعضها: إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة آنسه بالوحدة، وأغناه بالقناعة، وبصّره عيوب نفسه، ومن اُعطي ذلك اُعطي خير الدارين.
ومن فوائد العزلة: السلامة من الآفات، وترك النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها، ومنع النفس من التطلّع إليها ومنافسة الناس عليها. قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (6).
وإنّها خالعة عنك ذلّ الإحسان، وقاطعة رقّ الأطماع، ومفيدة عزّ الناس عن الناس، ومن آثر العزلة حصل العزّ له، ومعاشرة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار.
العزلة تستر الفاقة، وتكفّ جلباب التجمّل، إنّها معينةٌ لمن أراد نظراً في علم، أو إثارة لدفين رأي، واستنباطاً لحكمة؛ لأنّ شيئاً منها لا يتمّ إلاّ مع خلاء الذرع وفراغ القلب، ومخالطة الناس ملغاة ومشغلة.
وقال بعض الحكماء: من الطيور من جعل راحته في اعتزال العمران، وآثر المواضع النائية عن الناس، فليتشبّه به من أراد النظر في كتب الحكمة.
وقال بعض الأخيار: لا يتمكّن أحد من الخلوة إلاّ بالتمسّك بكتاب الله، والمتمسّكون بكتاب الله هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر الله، الذاكرون الله بالله، عاشوا بذكر الله وماتوا بذكر الله، ولقوا الله بذكر الله.
وقيل لبعض العبّاد، ما أصبرك على الوحدة! فقال: ما أنا وحدي، أنا جليس الله جلّ وعزّ! إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه، وإذا أردت أن اُناجيه صلّيت.
وكان بعضهم يلزم الدفاتر والمقابر، فقيل له في ذلك، فقال: لم أرَ أسلم من وحدة، ولا صاحباً أوعظ من قبر، ولا جليساً أمنع من دفتر.
كان بعض العارفين يقول: مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة. وكان يقول: من أراد أن يسلم له دينه ويستريح بدنه وقلبه، فليعتزل الناس ويستوحش من الأغنياء وليجانب السلطان كما يجانب الرجل السباع الضارية والهوام العادية.
وعن بعض الحكماء حين قيل له: لماذا رفضت الناس؟ فقال: لم أرَ إلاّ عدوّاً يداجيني بعداوته، وصديقاً يعدّ عليّ معايبي في أيام صداقته.
وطالب العلم إنّما يستأنس بكتبه، وإنّ الكتب بساتين العلماء.
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي
وفيها شفاء للذي أنا كاتم
كأنّي سقيمٌ قد اُصيب فؤاده
وهنّ حواليَّ الرقا والتمائم
وقال بعض العرفاء: العزلة في الحقيقة اعتزال الخصال المذمومة، لا الانقطاع عن الإخوان والتنائي عن الأوطان، فلهذا قيل للعارف: (كائن بائن) أي كائن مع الخلق، بائن عنهم بالسرّ، كما ورد في الأثر: (كن مع الناس، ولا تكن معهم)، أي: كن معهم بالأجساد، ولا تكن بالأرواح، فإنّ المؤمن تعلّقت روحه بالملأ الأعلى، فإنّه يستأنس بالله ويطمئنّ قلبه بذكر الله سبحانه.
والعقلاء إنّما يختارون العزلة لفوائدها الجمّة، ولقلّة إخوان الصفا وخُلاّن الوفاء، وقد علموا أنّ المعاشرة مع الأبرار الصالحين والأخيار المتّقين، أفضل من الوحدة والانفراد والعزلة، ومن يترك الأخيار اختياراً ابتلي بالأشرار اضطراراً، فإن لم نجد من يتحلّى بالعقل، ولم يتجمّل بالعلم والفضل والأدب، لزمنا زوايا البيوت والمدارس، وتوكّلنا على الحيّ الذي لا يموت (7)، ونعمل بما قاله الإمام الكاظم (عليه السلام): "قطيعة الجاهل تعدل صلّة العاقل ".
هذا وكبار علمائنا الأعلام في وصاياهم لأولادهم وتلامذتهم، كانوا يحثّونهم على اختيار العزلة، عند فساد الزمان.
ومن وصايا سيّدنا الاُستاذ السيّد النجفي المرعشي (قدس سره): وبتقليل المعاشرة، فإنّ المعاشرة والدخول في نوادي الناس في هذه الأعصار محظور مخطور، قلّما يرى ناد يخلو عن البهت والغيبة في حقّ المؤمنين والإزراء بهم، وتضييع حقوقهم واُخوّتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لقد تعرّضت لمواصفات الصديق وواجبات الصداقة في كتاب « معالم الصديق والصداقة في رحاب أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) »، فراجع.
(2) لقد ذكرت مقامات عديدة تلزم مقام الاُنس بالله في رسالة « مقام الاُنس بالله » شرحاً وبياناً لهذه الرواية الشريفة، وهي مطبوعة، فراجع.
(3) الكهف: 16.
(4) مريم: 48 ـ 49.
(5) ميزان الحكمة، كلمة « العزلة » 3: 1964، الطبعة الجديدة.
(6) طه: 131.
(7) آداب النفس: 41 ـ 63.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|